مع ظهور المدوّنات وانتشار «مدونات الأمهات» عالميًا بداية القرن الحادي والعشرين شهد عالم التسويق تحوّلًا جذريًا، إذ بدأ الأشخاص العاديون بالتأثير على أعداد كبيرة من المتابعين عن طريق مشاركة التجارب الشخصية وتقديم توصيات للمنتجات. وبدأت العلامات التجارية في استكشاف هذه الظاهرة والاستفادة منها من خلال التعاون مع المدوِّنات باعتبارهنّ مسوِّقات مؤثّرات.
ابتداءً من العام 2004 مكّنت منصات مثل فيسبوك شريحة أوسع من الناس من بناء قاعدة جماهيرية كبيرة. ومع إطلاق إنستغرام (2010) وسناب شات (2011) حدثت ثورة كبرى في ظاهرة «تسويق المؤثرين» عبر توفير منصات مرئية أكثر جاذبية يقضي عليها المتابعون وقتًا أكثر. ومع إدراك المؤثرين لأهمية القوة التسويقية التي يمتلكونها في تحقيق الأرباح للعلامات التجارية التي يعلنون عنها؛ وجدوا أنفسهم أمام فرص نجاح كبير في حال استفادوا من هذه القوة في تحقيق أرباح أكبر لأنفسهم، عبر تأسيس أعمالهم الخاصة بهم وتسويق منتجاتها.
في الأردن، كانت بداية عصر الإعلانات المدفوعة للمؤثرين، بحسب مؤثرين ومتابعين قابلتهم، مع زين كرزون. ثم تطوّر المشهد، وسار المؤثرون والمؤثرات في طريق تسويق منتجاتهم الخاصة، ومن بينهم هبة المجالي ورغد المحارب؛ المتخصصتين بالمحتوى التجميلي، حيث بدأت هبة التسويق لمنتجات العناية بالبشرة من خلال مجموعات فيسبوك في 2011. أما رغد فأطلقت أول منتج لها في 2015 مستفيدةً من شهرتها عبر سناب شات. يشبه هذا النوع من الأعمال تجربة المؤثرة العراقية الأمريكية هدى بيوتي التي بدأت مؤثرة ومن ثم توسعت واحترفت إنتاج الرموش الصناعية عام 2013، وجذبت عددًا جيدًا من الزبائن من متابعيها على وسائل التواصل الاجتماعي وكان بينهنّ الأخوات كارداشيان.
مؤخرًا امتلأ السوق الأردني بالعلامات التجارية الخاصة بالمؤثرين وتعدّت الظاهرة التسويق الإلكتروني إلى افتتاح المتاجر والمطاعم وصالونات التجميل والحلاقة ومحلات الأزياء، وصولًا إلى الشركات التسويقية واستديوهات التصوير. وصار شائعًا أن يُسارِع المؤثر لافتتاح عمله الخاص، خصوصًا وهو في ذروة شهرته.
يشير فراس العتيبي، الشريك المؤسس لشركة «خرابيش»، إلى أن عمل المؤثرين في الشرق الأوسط له قيمة سوقية كبيرة؛ وهذا يتضح من تقاضي بعضهم حوالي ثلاثة آلاف دولار من أجل منشور أو قصة واحدة. ولا يتوقف تأثيرهم عند إقناع المستهلك المحتمل بالشراء، وإنما يتجاوزه لخلق حاجة عنده لتجربة المنتج أو التجربة التي يروّجون لها.

رغم أن المحتوى الذي تنتجه صبا شمعة لم يكن ذا صلة بالطعام، إلّا أنها وبسبب شغفها به قرّرت افتتاح مطعم. تصوير مؤمن ملكاوي.
لماذا يندفع المؤثرون نحو تأسيس الأعمال؟
رغم أن الترويج للعلامات التجارية الخارجية وحده يحمل ربحًا سريعًا بالنسبة للمؤثرين، إلا أن للمشاهير دوافع متعددة تأخذهم نحو تأسيس أعمالهم الخاصة رغم مخاطرها العالية. يشير العتيبي إلى أن المؤثرين يعلمون جيدًا أن دورة حياتهم كمؤثرين قصيرة نسبيًا وتعتمد كثيرًا على مدى اجتهادهم في تطوير المحتوى الخاص بهم. ومع المنافسة الشديدة في هذا السوق وظهور أجيال جديدة من المؤثرين بشكل مستمرّ، يقول العتيبي إنه من الأفضل بالنسبة لهم الاعتماد على مصادر دخل أخرى غير الإعلانات.
سبب آخر يدفع المؤثرين نحو بدء أعمالهم الخاصة، وهو أن خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي دائمة التبدل، وهي حاليًا لا تُوصل منشورات المشاهير إلّا لحوالي 15% من جمهورهم، على خلاف ما كانت تفعله في السابق، وهذا يعني أن فقاعة مواقع التواصل الاجتماعي قد تنفجر في أي لحظة، بحسب خبير التسويق الإلكتروني خالد الصباغ.
هذا ما توضحه أيضًا المؤثرة الأردنية آلاء أبو فارس (28 عامًا)، إذ تشير صاحبة المليون متابع عبر إنستغرام، إلى أنّها دائمة التفكير باللحظة التي سيتوقف فيها إنستغرام عن العمل، أو احتمالات تهكير حسابها وفقدانه إلى الأبد، «كل إشي وارد». كما كانت جائحة كورونا عاملًا أساسيًا بزيادة تفكيرها بحدوث أمور غير متوقعة والتفكير بجدية بإنشاء مشروعها الخاص.
بدأت آلاء صناعة المحتوى عبر فيسبوك في 2018 ثم عبر إنستغرام. وقتها كانت طالبةً جامعية تدرس أنظمة المعلومات الحاسوبية، ولكنها كانت شغوفة في التصوير، ولذا تخصصت في إنتاج فيديوهات لأفكار ونصائح أثناء التصوير. وكانت تعمل بالفعل في تصوير الخرّيجات ولكنها لم تتوقع أن تصبح مشهورة. في أثناء جائحة كورونا، بدأت مشاركة لحظاتٍ من حياتها الشخصية عبر الإنترنت، فتضاعف عدد متابعيها في تلك الفترة بشكل كبير، ليصل إلى 500 ألف متابع.
فكرت آلاء بعد الجائحة في تحقيق الاستقلال المالي من أجل التوسّع في عملها. أدركت أن لديها قاعدة جماهيرية كبيرة ومتفاعلة على منصات التواصل الاجتماعي، وأنها بحاجة للاستفادة من هذا التأثير لإنشاء مشروعها الخاص. فقررت تأسيس استديو خاص بها يحتوي على عدة كابينات (بوثات) لتلائم المناسبات المتعددة، ولكنها واجهت صعوبات في اختيار المكان والموظفين، وطالت فترة تسجيل الشركة الخاصة بها. بعد عامين من توفير رأس المال والتخطيط والتنفيذ، بدأ مشروعها بالعمل في 2023، وحصلت على كثير من الزبائن بسبب السوشال ميديا، بعد أن أشركت متابعيها في كل العملية وصولًا لافتتاحها المشروع، ما أضاف مشاعر أكبر بانتماء المتابعين للمشروع.
نجاح عدد من المؤثرين الأوائل في تأسيس الأعمال والترويج لها بقوة، تسبب بانتشار عدوى تأسيس المؤثرين للأعمال، وبات من السهل اليوم في السوق الأردنية ملاحظة انتشار محالهم التجارية وشركاتهم.
كيف يختار المؤثرون أعمالهم؟
اختارت آلاء ألا تبحث عن مستثمر لتمويل المشروع رغم أن تأسيس الاستديو كان مكلفًا، لكنها أرادت أن تدير مشروعها وحدها، وقد تمكنت بالفعل من تحقيق هذا، ووفّرت رأس مال للمشروع من عملها خلال فترة التخطيط له.
بات من الشائع الآن بين المؤثرين استقطاب المستثمرين، إذ يُنظر إلى أسماء المؤثرين كعلامات تجارية جذابة يُستثمر فيها. ويحصل أن يُروّج المؤثر لمشروعه ويتبين لاحقًا أن المشروع بتنفيذ وإدارة جهات أخرى، وبطبيعة الحال يتلقى المؤثر نسبة من الأرباح، ويساهم هو بما يُدعى «رأس مال المؤثر» أي القاعدة الجماهيرية التي تتابعه وتتفاعل معه عبر الإنترنت في اللحظة الراهنة، والتي تحمل بالضرورة قيمتها السوقية، وتقع مسؤولية ضمان الخدمة الجيدة لها على الشريك. وهذا يُفسّر دخول بعض المؤثرين في مجالات أعمالٍ من غير اختصاصاتهم.
كما توجد حالات أخرى لمؤثرين يدخلون شركاء إداريين في مشروعهم الخاص. عندما بدأ كل من لورنس المنسي، المؤثر الذي عُرف بإنتاج المحتوى الكوميدي، وشريكه نهاد الاستيك تأسيس شركة التسويق الخاصة بهم، حصلوا على شراكة مع أحد المستثمرين، وأُطلقت الشركة في 2021. لاحقًا انسحب المستثمر وبقيت الشركة بإدارة لورنس.
عمل نهاد ولورنس قبل تأسيس الشركة في صناعة المحتوى الشبيه بالبرامج التلفزيونية ولكن لليوتيوب، كما أن نهاد أدار سابقًا حسابات لمؤثرين صاعدين، ولذا كانت عنده خبرة طويلة في هذا المجال. ومن هنا جاءت فكرة تأسيس شركة تسويق، إذ برأيهما، لِمَ لا توضع هذه الأعمال المتفرقة في مكانٍ واحد أكثر تنظيمًا؟ فخططا للمشروع وساعدتهما شهرتهما في كسب ثقة مستثمرٍ وجذْبِ عدد كبير من الزبائن من الأفراد والشركات.
ورغم أن الطريق لم تكن ممهدة أمامهما بحسب نهاد، ومع ارتكاب بعض الأخطاء ووقوع بعض الإشكاليات، إلا أنه يوضّح أن أي مشروع ينطوي على مخاطر مرتفعة، مع ضخٍّ كبير ومستمر للأموال مصاحب لاحتماليات ربحٍ ضئيلة في البدايات. إلا أنهما لا زالا راغبين بتطوير المشروع ليصلا إلى احتمال توسيعه عربيًا.
لتحديد طبيعة الشركة التي سيؤسسونها استعان بعض المؤثرين بشركات إدارة أعمال قادرة على دراسة السوق ومعرفة احتياجاته وحجم المنافسة فيه. وفي المقابل قرّر آخرون المضي مع شغفهم وتأسيس أعمال في مجالات لديهم اهتمام سابق بها. هذا ما حصل مع صبا شمعة التي افتتحت مؤخرًا مطعمها الخاص بعد أن حصلت على عدد من الكورسات في الطبخ رغم أن المحتوى الذي كانت تقدمه في السابق والذي جعل منها مؤثرة لم يكن متخصصًا بالطبخ وإنما بالتحديات عبر يوتيوب ولكنها كانت شغوفة بالطبخ في السابق وأظهرت هذا الشغف في محتواها لاحقًا.
مسار آخر مضت به بانا عليان، وهو أنها أسست عملًا في المجال الذي أصبحت مشهورة فيه، إذ اشتهرت من خلال تقديم فيديوهات قصيرة تعليمية (توتريـال) لكيفية وضع الماكياج، قبل أن تفتتح صالون تجميل، وفي الوقت نفسه تَدرُس هذا التخصص في معاهد تجميل.
بعض المشاهير لم تكن لديهم أية صلّة بالأعمال التجارية التي قاموا بتأسيسها. ينطبق هذا على محمد نور (مكس)، إذ افتتح متجرًا للملابس رغم أنه لم يسبق له العمل في هذا المجال، ولم يكن يصنع محتوى متعلقًا بالأزياء، بل بدأت شهرته من خلال بث مباشر للعبه لألعاب الفيديو على الإنترنت. قد يكون هذا الاختيار لتأسيس عمل الأكثر تحفظًا وأقل جاذبية بالنسبة لجمهور مكس، الذي لربما كان سيتفاعل معه أكثر لو افتتح مركزًا للألعاب الإلكترونية.
لكن على العموم تُبرِز اختيارات عدد لا بأس به من المؤثرين فهمًا جيدًا للمشهد التسويقي، إذ يعملون على إضفاء شخصياتهم على المنتجات أو الخدمات التي يقدمونها. فمثلًا استفاد عمر زوربا من الشخصية التي خلقها عبر السوشال ميديا، القائمة على صناعة المحتوى المضحك والساخر. وعبر توظيف هذه الشخصية يضفي زوربا تجربة مختلفة على مرتادي الكافيه الخاص به، بوضع صوره وأبرز مقولاته على الجدار وعلى الأكواب الكرتونية التي تُقدَم للزبائن. الأكواب الكرتونية بحد ذاتها كانت اختيارًا يشبه زوربا، فهي توحي باختصار بأن الكافيه يحاكي تجربة ارتياد الشارع كفضاء مفتوح خصيصًا لشباب، هؤلاء الذين يحصلون على قهوتهم من الأكشاك بأكواب كرتون ويقضون سهراتهم على الأرصفة. كل هذه الإغراءات للانخراط بشخصية مشهورة مشجعة بالفعل لارتياد المكان، على الأقل من أجل التجربة.


صبغ عمر زوربا المقهى الذي افتتحه بشخصيته التي عرفها المتابعون على الإنترنت، فجاء المقهى مشابهًا له. تصوير مؤمن ملكاوي.
هل «قوة التسويق» كافية لإنجاح أعمال الإنفلونسرز؟
تشير نظرية التفاعل الاجتماعي في التسويق إلى أن المتابعين يطوّرون روابط عاطفية مع المؤثرين الذين يتابعونهم، تحديدًا مع تعرّفهم على تفاصيل حميمية عن حياتهم، وهو ما يقود لزيادة الثقة بهم وتشكيل نوع من الولاء ناحيتهم. ونتيجة لذلك يصبح المستهلكون أكثر ميلًا إلى تبني نمط الحياة الخاص بالمؤثرين وشراء المنتجات التي يوصون بها. بل إن هذا التعاطف والولاء قد يصل إلى حد إنقاذ بعض المشاريع. يشير نهاد الاستيك إلى تجربة حصلت معه في السابق، إذ كان إعلان واحد من إحدى صديقاته المؤثرات كفيلًا بإنقاذ عمله من الإفلاس.
مع تأسيس المؤثرين لأعمالهم الخاصة، يصبح اهتمام الجمهور بهذه السلع والخدمات أكبر، حيث إن احتمالات شراء المتابعين للمنتج الخاص بمؤثر يعرفونه أعلى من احتمال شرائهم من علامة تجارية (براند) آخرى يعلن لها المؤثر، يقول الصباغ. إذ ينظر المتابعون للمؤثرين على أنهم حقيقيون ويمكن التواصل معهم. تقول ليلى،* إحدى الزبونات الدائمات لمنتجات إحدى المشاهير، إنها تفضل الشراء من المنتجات الخاصة بهذه المؤثرة بسبب إحساسها بإمكانية التواصل معها رغم أسعارها المرتفعة، دون أن تستثنيَ مسألة الجودة بالطبع. وسبق أن عوّضتها هذه المؤثرة بسخاء عندما كتبت لها تعليقًا حول منتج طلبته منها ووصلها لكنه لم يكن كما أرادت. تقول ليلى إن المؤثرات يخفن على سمعتهن كثيرًا لذلك تثق بهن.
تتفق آلاء مع أن وجود قاعدة جماهيرية ساهم بتمكينها من تأسيس مشروعها، ثم جذْب الزبائن والتعريف به. وتقول إنها لو لم تكن مؤثرة لاستغرقها تأسيس المشروع وقتًا أطول. إلا أنها تؤكد أن «قوة التسويق» وحدها لن تتمكن من إنجاح الأعمال وضمان استمرارها، إذ أن للزبائن وجهة نظر صارمة في حال شعروا بالخذلان من الخدمة المقدمة أو بتدني نوعية المنتجات المقدمة إليهم، تحديدًا وأن أسعار المؤثرين غالبًا ما تكون مرتفعة عن السوق بسبب الشهرة التي يكتسبها المنتج بمجرد ارتباطه باسمائهم.
يشير العتيبي إلى أن معظم المنتجات التي يطلقها المؤثرون، عالميًا، تتعرض للفشل وذلك لأن الكثير منهم يدخلون عالمًا لا يعرفون عنه شيئًا، وبرأيه فإن العامل الرئيس في استمرار المنتج من عدمه هو الجودة.
أمّا الصباغ فيعزو فشل بعض المشاريع إلى افتقار المؤثرين للصبر والالتزام الكافيين لبناء تلك المشاريع والتعامل مع إشكاليات السوق، خاصة وأنهم يتحصلون على ربح سريع خلال ذروة تأثيرهم. هذا رغم التزامهم بالنشر على الإنترنت وصنع المحتوى الخاص بهم والمحافظة على العلاقة مع مئات الآلاف من المتابعين إلّا أن مسألة التعامل مع إشكاليات السوق أمرٌ مختلف.
رغم أن معظمهم لم ينحدروا من عائلات ثرية، ولم يحظ بعضهم بفرص تعليمية أو عملية فارقة، لكنهم تمكنوا من أن يكونوا ملاحظين في السوق التي يعملون فيها، من خلال الاستفادة من الثورة التي جعلت من المحتوى الترفيهي على الإنترنت ذا قيمة سوقية عالية، فأسسوا لمشاريع نجح بعضها في أن يكون علامة مميزة. ومع ذلك يتفق الخبراء أن هذه المعادلة وحدها لن تكون كافية لنجاح أو استمرار هذه الأعمال، وأن عليهم تطوير أنفسهم لضمان نجاح أعمالهم.