المضادات الحيوية والأطفال: كيف نختار العلاج الآمن والفعال؟

الأربعاء 31 تموز 2024
طفلة تخضع للعلاج باستخدام المضادات الحيوية في إحدى المستشفيات. أ ف ب.

تُعتبر المضادات الحيوية أحد أعظم الاكتشافات التي ساهمت في إنقاذ ملايين الأرواح. منذ اكتشاف البنسلين في أوائل القرن العشرين أصبح للمضادات الحيوية دور حاسم في مكافحة العدوى البكتيرية والحفاظ على الصحة العامة. ومع ذلك، أدى الاستخدام غير الصحيح والمتزايد للمضادات الحيوية إلى ظهور مشكلة خطيرة تهدد الصحة العامة في كل العالم: مقاومة المضادات الحيوية.

تشير دراسة أجريت على أمهات وآباء في الأردن إلى انتشار كبير لممارسات العلاج الذاتي للأطفال باستخدام المضادات الحيوية، وتربط الدراسة الانتشار الكبير لاستخدام المضدات الحيوية دون دواع طبية بالافتقار إلى المعرفة الكافية لدى الوالدين حول استخدام المضادات الحيوية، حيث لم يكن لدى غالبيتهم المعرفة بأن المضادات الحيوية مخصصة فقط للعدوى البكتيرية على سبيل المثال. وفي دراسة أخرى بحثت أنماط صرف واستهلاك المضادات الحيوية عند الأطفال في الأردن، خلصت إلى ارتفاع معدلات استخدام المضادات الحيوية بين أطباء الأطفال في العيادات الخارجية، ما اعتبرته الدراسة عاملًا مهمًا في إساءة استخدام المضادات الحيوية وزيادة مقاومتها للأدوية.

للحديث عن أساسيات استخدام المضادات الحيوية، وأهمية استخدامها بشكل مسؤول تحديدًا عند علاج الأطفال، وأفضل الممارسات لتجنب تطوير مقاومة البكتيريا لهذه الأدوية الحيوية، واستخدام المضادات الحيوية بفعالية وأمان لضمان استفادة الأجيال القادمة منها، قابلنا الأستاذ الدكتور في الصيدلة السريرية وعميد البحث العلمي في جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية، طارق مقطش.

حصل مقطش على درجة البكالوريوس في الصيدلة من الجامعة الأردنية، ودرجة الدكتوراه في الصيدلة السريرية من المملكة المتحدة. وتركز أبحاثه على الاستخدام الآمن والسليم للأدوية في الأطفال، ومن ضمنها المضادات الحيوية.

حبر: ما هي المضادات الحيوية؟ وما هي الأمراض التي توصف لها عمومًا، خصوصًا عند الأطفال؟

طارق مقطش: بدايةً يجب أن نعلم أن الأمراض المعدية في المملكة الحيوانية كثيرة، منها الفطري والفيروسي والأمراض التي تنتج عن وحيدات الخلايا مثل الأميبا وغيرها. وهناك الأمراض ذات المنشأ البكتيري، مثل التهاب البول أو التهاب الرئة، وهذه تحديدًا هي الأمراض التي نحتاج المضادات الحيوية للتخلص منها، فالمضادات الحيوية مركبات كيميائية تستخدم لقتل البكتيريا، حيث تقوم بشكل أساسي بتدمير جدار خلية البكتيريا مما يساعد الجسم على التخلص منها ويمنع تكوّن الممالك البكتيرية، وبدأ استخدامها بعد اكتشاف ألكسندر فليمنغ، أستاذ علم الجراثيم في مستشفى سانت ماري في لندن، البنسلين عام 1928. وبالتالي المضادات الحيوية موجهة للأمراض ذات المنشأ البكتيري فقط.

عمومًا، الأمراض عند الأطفال في مجملها مكتسبة من المجتمع كنتيجة لذهابهم إلى الحضانة والروضة والمدرسة، ومن ثم نقلها إلى المنزل. ومعظم هذه الأمراض فيروسية، مثل الزكام والإنفلونزا وغيرها. ونتيجةً لما نعايشه من تقلبات الطقس نجد غالبية الأطفال يعانون من الكحة، وهذا لا يستدعي إعطاء مضادات حيوية لهم. ولكن يُصاب الأطفال أيضًا -بنسبة أقل- بأمراض ذات منشأ بكتيري، مثل التهاب البول -خصوصًا عند الفتيات تحت خمس سنوات- والتهابات الأذن -وعادة تشيع لدى الذكور- وهذه هي الأمراض التي تحتاج مضادات حيوية.

ما هو الاستهلاك الرشيد للمضادات الحيوية؟ متى تكون ضرورية ومتى تنتفي الحاجة لاستخدامها؟

يقصد بالاستهلاك الرشيد للدواء صرف الدواء فقط في حال وجود مؤشرات واضحة لحاجته، وفي عالم الصيدلة يوجد مفهوم يسمى الرعاية الصيدلانية، حيث تركز عند إعطاء الدواء أن يكون مناسبًا للحالة التي يوصف لها، وأن يكون الأكثر فاعلية لعلاج الحالة، وكذلك الأكثر أمانًا، والأكثر اقتصادًا، بمعنى مقارنة سعر الدواء مع فعاليته.

في ما يتعلق بالمضادات الحيوية، فهي ضرورية في حال ثبوت وجود مرض بكتيري واضح، ويكون ذلك من خلال إجراء مسحة أو إرسال عينة للمختبر. ولكن أحيانًا تظهر أعراض حادة جدًا على الأطفال مثل ارتفاع شديد في درجات الحرارة، ومعاملات التهاب مرتفعة جدًا، وفي هذه الحالة يمكن البدء بالعلاج التجريبي باستخدام المضادات الحيوية[1] ويقصد به البدء بالعلاج مباشرة قبل صدور نتيجة المختبر تجنبًا لفترة الانتظار. وهناك حالة أخرى نضطر فيها لاستخدام المضادات الحيوية هي الخوف من حدوث التهاب بكتيري ثانوي (التهاب بسبب عدوى أخرى). على سبيل المثال عند حدوث التهاب فيروسي (نوبة ربو مثلًا) سيتسبب ذلك بوجود بيئة مناسبة لنمو البكتيريا مثل حدوث قروح في المجرى التنفسي بسبب السعال الشديد.

معظم الأمراض التي تصيب الأطفال فيروسية لا تحتاج مضادات حيوية، وتنتهي أعراضها خلال ثلاثة إلى سبعة أيام، باستثناء التهابات البول المؤكدة من خلال فحص مخبري، والتهابات الأذنين والتهابات الحلق المؤكدة من خلال فحص مخبري.

ما أريد قوله إن هذه الحالات التي نلجأ فيها للمضادات الحيوية دون فحوصات تثبت الحاجة لها هي استثناء له شروطه الخاصة، وتحت إشراف الطبيب وتوصيته وليس بقرار شخصي مثل الذهاب للصيدلية وطلب مضاد حيوي معين دون وصفة.

المضادات الحيوية لا تعطى للأطفال في أعراض الزُّكام والأمراض المكتسبة مجتمعيًا[2] التي عادة ما يصاب بها الأطفال من المدرسة. هذه الأمراض عادة لا يعاني فيها الطفل من ارتفاع في درجات الحرارة، ولكن تظهر أعراض أخرى مثل الكحة ولا تستدعي مضاد حيوي.

إلى جانب خلل صرف المضادات الحيوية دون الحاجة إليها، هناك خلل آخر في حساب جرعات المضادات الحيوية المطلوبة للطفل. عندما نحسب جرعة المضاد الحيوي للطفل تكون الجرعة دائمًا 1 مليلتر لكل كيلوغرام من وزن الطفل، بالتالي فإن الاستخدام المنتشر والمعتمد مجتمعيًا  وهو استخدام خاطئ، بإعطاء خمسة ملليليترات للطفل مكررة ثلاث مرات أو مرتين في اليوم -بغض النظر عن وزنه- يؤدي إلى إعطاء بعض الأطفال جرعة مفرطة، أو إعطاء بعضهم الآخر كمية أقل من جرعة الدواء العلاجية، بالتالي لا يمكن للدواء قتل البكتيريا.

ما أسباب زيادة صرف واستهلاك المضادات الحيوية للمرضى الأطفال في الأردن؟

يعد ضغط الأهل من أبرز أسباب زيادة صرف واستهلاك المضادات الحيوية. الأهل حتى لو كانت لديهم خلفية طبية وعلمية قد يصرون على صرف المضادات الحيوية لأطفالهم، من باب عدم التقصير أو التأخر في العلاج، ونسمع من بعض الأهالي مخاوف من نوع «ما بدي الفيروس ينزل على الرئة». منطلقين في إصرارهم على المضادات الحيوية من شعورهم أنه يسرّع علاج أطفالهم، ويضغطون على مقدم الرعاية الصحية لإعطاء المضاد الحيوي ويرضخ الأخير لهم في كثير من الحالات.

المشكلة الثانية برأيي هي انتشار عيادات الطوارئ نتيجة ازدحام سوق الأطباء بالخريجين الذين يعملون في هذا القطاع بانتظار الإقامة أو فرصة العمل الحقيقية، بالتالي هؤلاء الأطباء غير المتخصصين بالأطفال أو بالأمراض المعدية كثيرًا ما يلجأون إلى وصف المضادات الحيوية بإعطاء الجرعة الأولى منها كحقنة في العيادة، ثم إكمال العلاج على شكل أقراص. يحب الناس هذه العيادات لانخفاض أسعار خدماتها والعلاجات السريعة التي يحصلون عليها فيها، حيث لا يطلب الأطباء فيها تحاليل مخبرية أو صور تشخيصية، ويصفون المضادات الحيوية دون مقاومة، من منطلق أن الناس معتادة على هذا النوع من الخدمة في هذا المكان، فيتقيد الطبيب بالممارسات الشائعة بوصف المضادات الحيوية، مع أنني أعتقد أننا بدأنا نلمس لدى الناس وعيًا عامًا يمكن الاستثمار فيه.

المؤسسة العامة للغذاء والدواء تعمل حاليًا بشكل حثيث على التحكم في صرف المضادات الحيوية وترصيدها[3] وترشيد استهلاكها، والأدوية المرصدة هي الأدوية التي لا يمكن وصفها دون وجود وصفة طبية عليها علامات أمنية تمنع نسخها أو تزويرها. ترشيد استخدام المضادات الحيوية ليس في مصلحة بعض الشركات ومستودعات الأدوية والصيدليات التي تحصل أرباحًا من ارتفاع صرفها. ولربما نواجه معارضة من قبل بعض الصيدليات وشركات ومستودعات الأدوية في حال محاولة ترشيد استخدام المضادات الحيوية في صيدليات المجتمع.

ما المشكلة في الإفراط في استهلاك المضادات الحيوية وتحديدًا عند الأطفال؟ ما الآثار السلبية التي يمكن أن يتركها ذلك على المدى القريب والبعيد؟

المشكلة ذات شقين، شقها الأول أن البكتيريا نفسها قادرة على تطوير نفسها وإفراز مواد تمنع المضاد الحيوي أن يستهدفها، ما يطور مقاومة تجاه المضادات الحيوية. على سبيل المثال، مضادات حيوية مثل البنسلين والأموكسيسيلين لا تعمل بكفاءة في الأردن نتيجة الإفراط في استخدامها، فطورت البكتيريا نفسها بحيث تقاومها. وشقها الثاني إعطاء المضادات الحيوية دون سبب طبي، ما يدمر البكتيريا الطبيعية النافعة الموجودة في الجسم، وهو ما يدفعها للتطور دفاعًا عن نفسها، فتقاوم هي الأخرى المضادات الحيوية.

المشكلة أن مقاومة المضادات الحيوية ستنتج في النهاية أنواعًا من البكتيريا تقاوم كل المضادات الحيوية المتوفرة، وما نخشاه هو الوصول إلى مرحلة نجرب فيها لعلاج الطفل الذي يحتاج مضادًا حيويًا أربعة أو خمسة خيارات من المضادات الحيوية دون أن يعمل أي منها، أو نلجأ لاستخدام أكثر من مضاد حيوي معًا، كما أن بعض المضادات الحيوية لا يتوفر منها دواء فموي، ما سيجعل الطفل محتاجًا لدخول المستشفى عندما يمرض، وهذا خطير جدًا ومستهلك للنظام الصحي.

تحدثت أكثر من مرة عن مشكلة مقاومة المضادات الحيوية، فما هي بشكل مفصّل، وأين وصلنا اليوم عالميًا في إدارة استخدام المضادات الحيوية؟

في مقاومة المضادات الحيوية لا تعود البكتيريا تستجيب للمضاد الحيوي، أو لا يعود للمضاد الحيوي القدرة على قتل البكتيريا. وحسب منظمة الصحة العالمية تحدث مقاومة المضادات الحيوية عندما تُغيّر البكتيريا نفسَها استجابة لاستعمال المضادات الحيوية.

نحن في الأردن ننادي منذ وقت طويل بالاستخدام الرشيد للمضادات الحيوية وبناء برامج الإشراف على مضادات الميكروبات (Antimicrobial stewardship)، وفي قطاع المستشفيات -الجامعية منها تحديدًا- أنجزنا الكثير في هذا الملف، ولكن الأمر متأخر في قطاع الرعاية الصحية الأولية، وهو القطاع المسيطر في الأردن، من مراكز صحية وعيادات وصيدليات.
أطلقت المؤسسة العامة للغذاء والدواء استراتيجية العمل الوطنية لاحتواء مقاومة المضادات الحيوية في عام 2022، ولدينا الخطة الوطنية التي أطلقها المركز الوطني لمكافحة الأوبئة والأمراض السارية في العام نفسه، وتهدف الخطتان إلى التأكيد على عدم وجود صرف عشوائي لاستخدام المضادات الحيوية وتقليل مقاومة المضادات الحيوية، وذلك من خلال الاستخدام الرشيد لها.

وهناك اهتمام أيضًا بسلامة الغذاء وخلوه من المضادات الحيوية، إذ تشكل متبقيات المضادات الحيوية في اللحوم والدجاج مصدرًا آخر لاستهلاكنا المضادات الحيوية.

ما الذي يمكن فعله لترشيد صرف واستهلاك المضادات الحيوية؟ وما المسؤولية التي تقع على الأفراد من مرضى وعاملين صحيين؟ وما مسؤولية الدول والجهات التنظيمية؟

لا بد من وضع خطط وأطر علاجية واضحة، وخصوصًا للمضادات الحيوية، ملزمة لنقابة الصيادلة ونقابة الأطباء والصيدليات. كما لا يمكن السماح ببيع المضادات الحيوية بشكل مباشر للمستهلكين دون وصفة طبية، يجب أن تكون وصفات المضادات الحيوية مرصدة بطريقة ما لنستطيع ضبط استهلاكها.

والأهم هو التوعية، وتوعية الأهل تحديدًا، هذا سيخفف الضغط على مقدمي الرعاية الصحية. لا بد من توعية الأهل بالحالات التي عليهم الانتظار فيها وعدم إعطاء أطفالهم المضادات الحيوية، ولا بد من توعيتهم أيضًا بعدم إرسال أطفالهم المرضى إلى المدارس حمايةً للأطفال الآخرين، طبعًا في كثير من الحالات لا يمكن فيها لوم الأهل وحدهم، فهم غالبًا يعملون وظروفهم لا تسمح، لكن المسؤولية المجتمعية مهمة.

أما فيما يتعلق بالعاملين في القطاع الصحي، فلا بد من انخراطهم في برامج الإشراف على مضادات الميكروبات التي يكتسبون من خلالها المعرفة حول استخدام المضادات الحيوية، وحول التعقيم من البكتيريا والميكروبات، لأن المستشفيات مرتع للبكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، يمكن أن نجدها في المغاسل وفي أجهزة التكييف، وبالتالي فإن أسس تعقيم اليدين وتنظيف المرافق في المستشفيات، خصوصًا في المستشفيات المكتظة، تضمن عدم نمو البكتيريا المقاومة.

وهناك مسألة مهمة نحن -مع الأسف- نفشل فيها حتى اليوم، وهي بناء فريق طبي متكامل. ليس لدينا فريق متكامل، كل يعمل بمفرده، من الطبيب إلى المريض إلى الممرض إلى الصيدلاني وأخصائي التغذية. لو عمل الجميع معًا لصارت هناك إمكانية لتقديم الإرشاد الكافي للممارسة الصحيحة في الأمراض المعدية في المستشفيات.

وفي النهاية لا بد من العمل ضمن المظلات الدولية التي تبذل الجهود في سبيل مكافحة مقاومة المضادات الحيوية. هذه مشكلة عالمية ولا يمكننا حلها إلا معًا.

في النهاية ما التوصيات التي تقدمها للأهالي بشأن استخدام المضادات الحيوية لأطفالهم بشكل مسؤول؟

أريد التأكيد مجددًا على أن معظم الأمراض التي تصيب الأطفال فيروسية لا تحتاج مضادات حيوية، وتنتهي أعراضها خلال ثلاثة إلى سبعة أيام، باستثناء التهابات البول المؤكدة من خلال فحص مخبري، والتهابات الأذنين والتهابات الحلق المؤكدة من خلال فحص مخبري. بالتالي لا بد أن نكون صبورين ونقدم لأطفالنا الرعاية اللازمة من تخفيض الحرارة وشرب السوائل وإزالة الأعراض، وألا نلجأ إلى المضادات الحيوية دون وجود فحص مخبري يثبت الحاجة لذلك، أو دون وجود رأي طبي يرجح بدء العلاج التجريبي الذي تحدثنا عنه سابقًا.

كما من المهم الالتزام بجدول المطاعيم الوطني، لدينا في الأردن نظام مطاعيم واضح وشامل ومجاني ومن الأفضل في العالم، والالتزام بالمطاعيم الوطنية يقلل من تعرض أطفالنا للأمراض الفيروسية.


هذا التقرير جزء من زمالة حبر للصحافة الصحية، الممتدة من أيلول 2023 حتى آب 2024، وفيها تنخرط سبع زميلات من خلفيات معرفية متنوعة في إنتاج تقارير صحفية بقوالب مختلفة حول قضايا صحية تتقاطع مع الأسئلة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.

  • الهوامش

    [1] Empiric antimicrobial therapy.

    [2] Community-acquired

    [3] Controlled drugs

Leave a Reply

Your email address will not be published.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية