«ما رح أعطيكي إجازة أمومة، ولا شهر قبل الولادة»، بهذه الكلمات ردّت المديرة على صديقتي رانيا* (32 عامًا) بعدما تقدمت بطلب إجازة من العمل قبل موعد الولادة.
لطالما كانت رانيا معروفة بجدّيتها واجتهادها في العمل، وبذل جهدها بكل حماس لمساعدة ودعم زملائها في العمل حتى خارج أوقات الدوام الرسمي، ولم يكن قد مضى الكثير من الوقت حتى لاحظت إدارتها جهودها، فتقدمت بسرعة في المراتب الوظيفية حتى صارت مسؤولة قسم الموارد البشرية في شركة عالمية تعمل في الخدمات اللوجستية.
لم تكن الحاجة المالية دافعها للعمل، إنما رغبتها بتحقيق ذاتها. لكن الأمور تغيرت مع جائحة كورونا، إذ تأثر الوضع المالي لزوجها الذي يعمل في التجارة الحرة، وصار عملها أمرًا ضروريًا لتسديد الأقساط البنكية لقرض شراء منزلهم. مع أوائل أشهر الجائحة، وبعد ثماني سنوات من العمل وخمسٍ من الزواج، اكتشفت رانيا أنها حامل بطفلها الثاني بعدما فقدت سابقًا جنينها الأول، وقد شعرت حينها بسعادة غامرة وحماس شديد لهذا الحمل.
في البداية، واصلت رانيا أداء مهامها في العمل بكفاءة، لكن مع تقدم الحمل ووصولها إلى الشهر الثامن، بدأت الأمور تتعقد، إذ أصبحت حركتها بطيئة ومتعبة، وصار يصعب عليها الذهاب إلى العمل وتحمل الجهد الذهني والجسدي الكبير. استشارت الطبيب فنصحها بضرورة أخذ إجازة حتى موعد الولادة حفاظًا على صحتها وصحة جنينها، وهو ما أقدمت عليه، فطلبت إجازة غير مدفوعة الأجر شارحةً لمديرتها الوضع الحساس الذي تمر به، لكن ردّ المديرة جاء على غير ما هو متوقع.
عبرت المديرة عن غضبها قائلة: «ما رح أعطيكي إجازة أمومة، ولا شهر قبل الولادة، وإذا مش عاجبك استقيلي». هكذا وجدت رانيا نفسها أمام خيارين صعبين: أن تضع حياة طفلها وصحته في خطر، أو الاستمرار في العمل حفاظًا على وظيفتها. اختارت بلا تردد الخيار الأول، وقدمت استقالتها فورًا، مع شعورٍ بالاستياء مما حصل: «ما كان في تقدير لأي شيء عملته، لمجرد إني طلبت شهر إجازة زيادة وبدون راتب (..) ولولا أن وضع زوجي المادي اتحسن وكان عنا بعض الاستثمارات، لكنّا الآن في مشكلة كبيرة»، تقول رانيا.
يُذكر أن قانون العمل الأردني يشير إلى حق المرأة العاملة في الحصول على إجازة أمومة[1] بأجر كامل لمدة 10 أسابيع قبل الوضع وبعده، ستة منها على الأقل تكون بعد الوضع. كما يمنحها القانون بعد انتهاء إجازة الأمومة وعودتها إلى العمل حق الحصول على ساعة واحدة في اليوم لإرضاع مولودها الجديد[2] مدفوعة الأجر لمدة سنة كاملة.
رغم ذلك، فإن الحالة الاجتماعية للمرأة العاملة قد تحدّد، بشكل كبير أحيانًا، فرص قبولها في وظائف القطاع الخاص. يقول أحد المدراء في شركة خاصة تعمل في الاستيراد التصدير –فضّل عدم ذكر اسمه– إنهم لا يفضلون تعيين امرأة حامل أو تخطط لحمل قريب «عشان ما حتعرف توازن بين الشغلتين، وحتحتاج كتير إجازات وأوقات راحة وهذا الشي ما بناسبنا»، مضيفًا أنهم يسألون أحيانًا النساء المتزوجات «عم تفكري بالحمل قريبا؟»، وقد يُطلب منهن شفويًا تأجيل الحمل لفترات معينة من أجل للحفاظ على الوظيفة، أو حتى الحصول عليها، وإن حدث وحملت فإنها «تاخذ إجازة الأمومة وكامل حقوقها، ولكن يتم تأخير أي ترقية أو زيادات».
الحالة الاجتماعية للمرأة العاملة قد تحدّد، بشكل كبير أحيانًا، فرص قبولها في وظائف القطاع الخاص. وبالتالي تخفي بعض النساء حملهن عن أرباب العمل في سبيل الحفاظ على وظائفهن أو الحصول على وظيفة جديدة.
في مثل هذه الظروف، تخفي بعض النساء حملهن عن أرباب العمل في سبيل الحفاظ على وظائفهن أو الحصول على وظيفة جديدة. ومنهن من تؤجل حلمها في الأمومة حتى تتمكن من تحقيق أهدافها المهنية والشخصية في توفير دخل مالي لنفسها ودعم مالي لأسرتها. من بين هؤلاء راما* (29 عامًا) التي تعمل في مجال التسويق والإعلانات، والمتزوجة منذ نحو ثلاث سنوات. وكانت قد اتفقت مع زوجها على تأجيل الحمل خمس سنواتٍ على الأقل من أجل تحقيق هدفها في الوصول إلى المنصب الذي تسعى إليه في عملها. ورغم ضغوطات عائلة زوجها وحثّهم إياهما على الإنجاب، إلا أنها تصر على التأجيل خشية فقدان وظيفتها أو تأخير التطور في مسارها المهني، قائلة: «أنا وحدة من الكتار اللي بأجلوا حلم أو خطوة الأمومة بسبب مستقبلنا المهني، لإنه بعرف مثلًا إنه مديري ما رح يرحب بفكرة وجود طفل، وحيبطل يعطيني مسؤوليات أكبر، هذا إذا ما استغنى عني بعد فترة».
وبحسب دراسة أعدها المجلس الأعلى للسكان عام 2023 حول انسحاب المرأة من سوق العمل، أفادت عينة الدراسة أن حوالي 39% من النساء المتزوجات قد استخدمن إحدى وسائل منع أو تجنب أو تأخير الحمل قبل انسحابهن من العمل. علمًا بأن مشاركة المرأة في القوى العاملة في الأردن تعدّ من الأدنى في العالم، حيث احتل الأردن عام 2021 المرتبة 149 من بين 153 دولة، وقد بلغت نسبة البطالة بين الإناث خلال الربع الأول من العام الحالي حوالي 35% بارتفاع قدره أربع درجات مئوية عن الربع الأول من العام 2023، في تناقضٍ مع معدلات التخرج الجامعي حيث تمثل النساء 53% من مجموع خريجي وخريجات الجامعات.
في بعض الأحيان قد تُسأل المرأة أثناء مقابلات العمل عن نيتها بالحمل، وقد يطلب منها التعهد شفويًا بعدم الحمل خلال فترة مقبلة، وقد تكون معرضة للرفض في حال تبين أنها حامل، وهو ما حصل مع آلاء* (29 عامًا)، وهي معلمة لغة عربية لطالما كانت شغوفة بالتعليم، وسبق أن راكمت خبرة حتى خلال دراستها الجامعية إذ كانت تقدم دروسًا خصوصية لأبناء الجيران والأقارب لمساعدة عائلتها ذات الدخل المحدود في تسديد تكاليف دراستها.
تخرجت آلاء وتزوجت، ثم عملت في مدرسة خاصة لسنتين، قبل أن يحصل زوجها على فرصة عمل في دولة عربية أخرى، فاستقالت وانتقلت معه، لكن الحظ لم يحالف زوجها هناك، وسرعان ما عادا إلى الأردن، لتكتشف آلاء أنها حامل، ما زاد من حجم الضغوطات: «أول ما عرفت إني حامل بكيت، لأنني كنت خايفة نجيب هذا الطفل وما نعرف نصرف عليه بعد ما زوجي خسر شغله وأنا كنت تاركه شغلي».
هكذا، بدأت آلاء رحلة البحث عن عمل، وبعد عدة محاولات مع مدارس خاصة في عمّان، جاءها رد إيجابي من مدرسة واحدة فقط، طالبين منها تقديم امتحان. «كنت كتير مبسوطة إنه أخيرًا رح ألاقي شغل، ورحت قدمت الامتحان ونجحت فيه. لما طلبوني للمقابلة، سألوني إذا أنا حامل أو لا، وكنت صريحة وقلت لهم حامل بشهري الثالث». لكن الفرحة لم تدم طويلًا إذ تفاجأت آلاء باتصال من المدرسة يخبرها بالرفض، وعندما أصرت على معرفة السبب، جاء الرد: «سياسة المدرسة مانعين توظيف أي معلمة حامل عشان حتاخذ إجازات كتير خلال السنة الدراسية، بس إذا رجعتي قدمتي بعد الولادة وانتهاء فترة الرضاعة أكيد بناخذك».
تقول المنسقة العامة لحملة «قم مع المعلم» مها أبو ملوح بأن هذه الظاهرة تزداد من قرابة عشرة أعوام، وأن الكثير من المعلمات في مختلف المحافظات كن يعانين منها بصمت، وهذا فضلًا عن الانتهاكات العمالية الأخرى المتعلقة بالأجور والخصومات والفجوة في الرواتب بين المعلمين والمعلمات، وغيرها. مضيفة بأنهم استقبلوا ما يزيد على 700 شكوى من المعلمات خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2023 يتصدرها موضوع الحمل وإنهاء العقود، ما يشير إلى حجم التحديات التي تواجه المعلمات في القطاع الخاص.
يُذكر أن دراسة صادرة عام 2023 عن منظمة تمكين للمساعدة القانونية حول واقع الحماية الاجتماعية للنساء في الأردن خلُصت إلى أن نظرة القطاع الخاص للأدوار النمطية للنساء وفرضياته حول أولويات النساء تجاه المسؤوليات الأسرية يقع على حساب التزامهن بمتطلبات العمل، ما أثر على شكل الفرص المتوفرة للنساء في القطاع الخاص، وأدى إلى محدودية فرصهن بدرجات مختلفة حسب طبيعة عمل كل قطاع، كما أثر على التقدم الوظيفي للنساء العاملات.
في كل الأحوال، لم تستسلم آلاء لواقع الحال، إنما استجمعت قواها وبدأت بإعطاء الدروس الخصوصية للطلاب الذين يعانون من ضعف في مادة اللغة العربية. ولم تكتفِ بذلك، بل تواصلت مع معلمات أخريات مررن بالتجربة نفسها، داعية إياهن للاشتراك في إنشاء معهد تعليمي لطلاب المدارس، وهي تعتقد بأن هذا الحل الأنسب من ناحية الدخل والوقت من جهة، وكذلك لناحية توفير بيئة عمل داعمة ومرنة تتفهم احتياجاتها كأم ومعلمة: «نحن نتطلع لإنشاء معهد يقدم تعليمًا مميزًا ويدعم النساء في تحقيق توازن بين حياتهن المهنية والشخصية».
أما رانيا، فسعت بعد الإنجاب للحصول على فرصة عمل أخرى، ورغم الصعوبات التي واجهتها إلا أنها حازت وظيفة في شركة خاصة وفرت لها دعمًا مناسبًا خلال فترة رعاية طفلها، لتواصل رانيا بذلك مسيرتها المهنية، متفائلةً حيال وجود بيئة عمل داعمة للأمهات العاملات.
-
الهوامش
* أسماء مستعارة حفاظًا على الخصوصية.
[1] المادة 70 من قانون العمل الأردني.
[2] المادة 71 من قانون العمل الأردني.