أثارت قضية الاعتداء على الطبيبة روان سامي في مستشفى الأمير حمزة الحكومي من قبل مرافق مريض موجة واسعة من السخط في القطاع الطبي، كونها لم تكن الحادثة الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة، بحسب كثيرين، ما لم تُتخذ التدابير لوقف هذه الحوادث قبل أن تصبح ظاهرة مرافقة لسمعة القطاع الصحي في الأردن.
تفاعلت المسألة اجتماعيًا ورسميًا خلال أيام، ولكن يبدو أن هذا التفاعل كان أقرب للتعاطف منه إلى إيجاد حلول عملية وعلمية، وقائية وعلاجية. وسرعان ما تلقفته بعض وسائل الإعلام لتصوره كحرب مفتوحة بين الأطباء والمجتمع. ففي غضون أسابيع، ضجت وسائل الإعلام بعناوين تتعلق باعتداءات على أطباء (آخرها في إربد) وأطباء أسنان وكوادر طبية، وعناوين حول أخطاء طبية وبيانات إعلامية من ذوي مرضى، مقابل بيانات مضادة من إدارة المستشفيات، في ظل سيل هائل من التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي، وكأن العنوان غير المعلن لهذه الحرب الافتراضية «هذه بتلك، وإن عدتم عدنا». فكيف نفهم كل هذا التوتر؟
المريض مرتكز الرعاية الصحية
تشير الدراسات إلى أن أمثل أنظمة الرعاية الصحية هي تلك التي تجعل من المريض المرتكز الأساس في عملية الرعاية الصحية (Patient-Centered Care)، بهذا تكون احتياجات المريض ونتائج حالته الصحية هي البوصلة التي تتوجه إليها العملية العلاجية وتتخذ في صددها القرارات الناظمة للقطاع الصحي، ويصبح المريض مشاركًا فاعلًا في ما يتعلق بحالته الصحية، وهذا يتطلب علاقة إنسانية متميزة بين المريض والكادر الطبي؛ علاقة لا يمكن أن تبنى إذا انعدمت الثقة. إذ ليس مطلوبًا من الأطباء الاهتمام بحالة المريض السريرية فقط، وإنما بحالته العاطفية والنفسية والروحية والاجتماعية وحتى المالية. وكما يتطلب من الطبيب تطوير مهاراته ومنها فن الاستماع للمريض والتواصل معه، فإنه يتطلب من الإدارات الصحية توفير الأجواء والبنى التحتية الملائمة لذلك، ومن المجتمع بمجموعه العام الوقوف عند مسؤوليته في بناء أواصر الثقة بين المريض والكادر الطبي، ومواجهة الأسباب التي تؤدي إلى اتساع فجوة الثقة واقعيًا وافتراضيًا.
في الأردن، هناك الكثير من المنجزات المتعلقة ببناء مؤسسات صحية متميزة في القطاعين العام والخاص، انعكست إيجابًا على العديد من المعايير التي تقيّم جودة القطاع الصحي من مؤسسات عالمية مثل منظمة الصحة العالمية، كمتوسط عمر المواطنين مقارنة مع الدول النامية. وحقق النظام الصحي في الأردن نجاحًا في مجالات عديدة مثل مجانية التطعيم والرعاية الصحية والأولية لجميع المواطنين، وخصوصًا الفئات الأكثر احتياجًا، مثل الأطفال والأمهات والحوامل.
واستطاع القطاع الصحي الأردني رفد الموازنة العامة من خلال السياحة العلاجية، بعد سمعة متميزة حققها في هذا المجال إذ قُدر دخل الأردن من السياحة العلاجية عام 2015 بـ1.3 مليار دولار. لكن هل كفاءة البيئة الصحية الأردنية منسجمة في كل قطاعاتها العامة والخاصة؟ وهل هذه المعطيات دوافع للتطوير أم مبررات توضع في وجه من يطالبون بتحسين الخدمة الصحية؟
تشير الأرقام إلى فجوة آخذة بالاتساع في القطاع الصحي بين وزارة الصحة وكلٍ من المستشفيات الجامعية ومستشفيات الخدمات الطبية الملكية والقطاع الخاص، وعدم انسجام بين حصص وزارة الصحة من الموازنة بشقيها الجاري والرأسمالي مع زيادة أعداد المواطنين المؤمنين صحيًا من الوزارة. فبحسب تقرير حالة البلاد الصادر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي العام الماضي، فقد بلغت موازنة وزارة الصحة 651 مليون دينار لعام 2016، وكانت التقديرات تشير إلى حاجة الوزارة لـ690 مليون دينار لعام 2017، لكن ما أقر في الموازنة كان 581 مليون دينارًا فقط، ثم تم حجز مبلغ سبعة ملايين دينار، لتستقر الموازنة عند حدود 574 مليون دينار. أي أن موازنة وزارة الصحة في عام 2017 انخفضت بنسبة 11% مقارنة بـ2016. وأشار التقرير إلى عوائق أخرى تواجه مستشفيات وزارة الصحة مثل تناقص الكوادر البشرية، خصوصًا أطباء الاختصاص، بالإضافة لهجرة الكوادر للخارج وانتقال بعضهم للعمل في القطاع الخاص.
هذه الأرقام والحقائق تشير إلى ضغط هائل على مستشفيات وزارة الصحة يفوق قدرة الكوادر الطبية فيها على التعامل مع عدد المرضى المتزايد. وبحسب الدكتور هشام الفتياني، مسؤول ملف الاعتداء على الأطباء في نقابة الأطباء من 2016-2019، فإن هذا الضغط من الأسباب الأساسية التي تؤدي إلى الاعتداء على الأطباء. يستدل الفتياني على ذلك بأرقام النقابة التي سجلت أعلى نسب للاعتداء على الأطباء في مستشفيات وزارة الصحة مقارنة بمستشفيات المؤسسات الصحية الأخرى.
أقسام الطوارئ: البيئة الأعلى توترًا
بحسب أرقام نقابة الأطباء، فإن 111 اعتداءً جسديًا سُجل في الفترة بين 2016-2019 (عمر الدورة الماضية لمجلس النقابة). معظم هذه الاعتداءات كانت في وزارة الصحة، وبالتحديد في أقسام الطوارئ، بحسب محامي النقابة الأستاذ يزيد حياصات، مما يستدعي وقفة متأنية لبحث هذه المسألة.
من أبرز المشاكل التي تؤثر على مستوى تقديم الرعاية الصحية وسرعتها نقص الكوادر الطبية وعدم تناسب عددها مع الأعداد المتزايدة للمرضى، مع إلزام جزء من هذه الكوادر بالعمل لساعات طويلة يتجاوز ما يسمح به قانون العمل والعمال. فمثلًا، يتعدى دوام الطبيب المقيم عند مناوبته أكثر من 30 ساعة متواصلة في كثير من المؤسسات الصحية. أضف إلى ذلك الأعداد الكبيرة للمرافقين، وهو ما يسبب إرباكًا ملحوظًا في أقسام الطوارئ.
يجدر التنبه إلى أن أعداد المرضى الهائلة في أقسام الطوارئ لا يعزى إلى ازدياد أعداد المواطنين فقط، إذ إن نسبة كبيرة من المراجعين لأقسام الطوارئ هم من غير ذوي الحالات الطارئة. فبالرجوع إلى أرقام وزارة الصحة لعام 2018، فإن نسبة 43.5% من الحالات التي راجعت أقسام الطوارئ فقط كانت حالات طارئة، مقابل 56.5% من الحالات -أي قرابة المليوني مراجع- هم مرضى يمكن التعامل معهم خارج أقسام الإسعاف والطوارئ وحتى خارج المستشفيات. مع العلم أن وزارة الصحة توفر 659 مركزًا صحيًا أوليًا وشاملًا وفرعيًا يمكن لها في حال وضع خطة تطوير وتنظيم شاملة حل جزء كبير من هذه المعضلة، مع خطة بالمقابل تعالج الأسباب التي تدفع المرضى للتوجه لأقسام الطوارئ في الحالات غير المستعجلة، مثل عدم معرفة المرضى بالمكان الأمثل للتوجه له، أو بحكم أن الطوارئ هي الطريق الأسرع للعلاج، أو بسبب تقديمها للعلاج على مدار الساعة كافة أيام الأسبوع.
هل يمكن استلهام النموذج البريطاني لغرف الطوارئ؟
التفكير في حلول لأزمة أقسام الطوارئ يستدعي دراسة نماذج من دول أخرى. فمثلًا، يعتبر النظام الصحي البريطاني من الأنظمة المتقدمة في المجال الصحي، خصوصًا عند الحديث عن الإنجاز المتحقق بتأمين جميع المواطنين والوافدين إلى المملكة المتحدة صحيًا وبالمجان. عام 2004، تم تطبيق نظام يسمى بقاعدة الأربع ساعات (four-hour rule) في أقسام الطوارئ. يتابع هذا النظام حالة المريض منذ أن يدخل قسم الطوارئ، إذ يتعين على الكوادر الطبية في المستشفى أن تؤمن الوضع الصحي له وتتخذ قرارًا خلال مدة أقصاها أربع ساعات، فإما أن يتم إدخال المريض للمستشفى، أو تحويله في حال عدم توفر الإمكانات للتعامل مع الحالة، أو الانتهاء من علاجه والمغادرة، أو يتم إدخاله إلى وحدة مستقلة وسيطة (Clinical Decision Unit) إن كان هناك فحوصات قيد انتظار نتائجها. وبعد انقضاء الأربع ساعات، تبدأ المستشفى بدفع غرامة يستوفيها النظام الصحي الوطني عن كل تأخير (حوالي 120 جنيه إسترليني عن كل مريض متأخر). الهدف من هذا النظام تسريع تقديم الخدمة الطبية في أقسام الطوارئ وتخفيف العبء عليها، وفي الوقت نفسه تخفيف الازدحام السريري داخل الطوابق في المستشفى (وهي مشكلة كبيرة في بريطانيا بسبب مجانية العلاج). ويتيح هذا النظام معرفة فعالية أداء أقسام الطوارئ وإعادة تقييم أدائها وتعزيز إمكانيتها وكوادرها في حال النقص. ولكن حتى في بريطانيا التي تنفق مبالغ طائلة على نظام الرعاية الصحية، لا زالت مشكلة المرضى المراجعين لأقسام الإسعاف والطوارئ من ذوي الحالات غير الطارئة من المشاكل التي تحظى بقدر كبير من الدراسات لمحاولة التعامل معها.
من المشاكل التي تؤثر على مستوى تقديم الرعاية الصحية نقص الكوادر الطبية وعدم تناسب عددها مع الأعداد المتزايدة للمرضى، مع إلزام جزء من هذه الكوادر بالعمل لساعات طويلة يتجاوز ما يسمح به قانون العمل.
في الأردن، حققت المؤسسات الصحية قفزات جيدة من خلال حوسبة القطاع الصحي مثل نظام حكيم في مستشفيات وزارة الصحة، وهو نظام محوسب تم إطلاقه عام 2009 يهدف إلى إنشاء ملف طبي إلكتروني لكل مواطن وتيسير الوصول إليه من أية منشأة طبية باستخدام الرقم الوطني، عن طريق الربط بين قاعدة بيانات دائرة الأحوال المدنية وقاعدة بيانات النظام الصحي.
كانت هذه خطوة مهمة باتجاه تنظيم مستشفيات وزارة الصحة بالإضافة لفائدتها في علاج المرضى، لكن من الواضح أن أقسام الطوارئ في مستشفيات الوزارة بحاجة إلى خطة تطوير شاملة، متعلقة بزيادة عدد الكوادر الطبية بشكل كبير، بالإضافة لوضع تعليمات جديدة للتعامل مع الحالات غير الطارئة مترافقة مع توعية المرضى بالوجهات التي يجب عليهم قصدها قبل التوجه لأقسام الطوارئ، إضافة إلى تطوير إجراءات الدخول والمحاسبة، وتطبيق نظام محوسب متكامل يشمل جميع مستشفيات وزارة الصحة لإدارة الأسرّة في الطوابق، ووحدات العناية الحثيثة، ويسرع عملية تحديد المستشفيات ذات الأسرة الشاغرة في حال الاحتياج إلى إدخال المريض أو تحويله. كما يمكن ربط هذا النظام بسيارات الإسعاف والدفاع المدني، وفي المستقبل المركز الوطني للأمن وإدارة الأزمات، لتحديد المستشفيات الأقرب إلى الحوادث والتي يمكنها استقبال الحالات الطارئة.
غياب كل ذلك يلقي على الطبيب في كثير من الأحيان عبء مواجهة هذا الخلل البنيوي في «السيستم»، ليُترك وحيدًا أمام مرضى ومرافقين ليس متوقعًا منهم فهم كل هذه التعقيدات في النظام الصحي، ويتحول الكادر الطبي إلى ضحية شأنه شأن متلقي الرعاية الصحية، مع التأكيد على أن محاولة فهم أسباب المشكلة لا تبرر بأي حال الاعتداءات على الكوادر الطبية أثناء عملهم.
كيف نخلق أمنًا صحيًا؟
إحدى النقاط التي أثيرت حول مسؤولية منع هذه الاعتداءات تعلقت بضرورة تأمين مفرزة أمنية في أقسام الطوارئ التي تكثر فيها الاعتداءات. يقول الدكتور علي العبوس، نقيب الأطباء، إنه تم الاتفاق مع وزيري الصحة والداخلية عام 2016 على تأمين ذلك، لكن عُطّل تنفيذ الاتفاق. حيث رأت وزارة الداخلية وقتها أن هذه المفارز يجب أن تصرف مخصصاتها المالية المتعلقة بالسكن والأكل والشرب من وزارة الصحة لا من موازنتها. لكن العبوس يقول إنه أعاد طرح الموضوع مؤخرًا، وتم الاتفاق مع وزير الداخلية على أن يصرف هذا المبلغ من الموازنة العامة.
ويرى العبوس أن تحقيق الأمن الصحي الشامل هو من مصلحة المريض كما هو من مصلحة الطبيب، إذ يؤكد على ضرورة شعور المواطن بالأمن عند مراجعته للمستشفيات، أضف إلى ذلك بعض الحالات القضائية التي لم يعد يأمن فيها المريض على نفسه من أذى يلحق به في المستشفيات في حال عدم تأمينها، وأن الاعتداء على الطبيب سيؤدي إلى تعطيل الرعاية الصحية على مواطنين آخرين لا ذنب لهم بإساءة فئة محدودة. «يعني شوف الخدمات الطبية [العسكرية] نفس المراجعين ونفس الشعب لكن ما في اعتداءات، لأنه بيعد للعشرة قبل ما يعتدي ع الطبيب»، يقول العبوس. فمن بين الـ111 اعتداءً التي حصلت بين 2016 و2019، كان اثنان منها فقط في مستشفيات عسكرية.
من جهة أخرى، كثيرًا ما ساهم الإعلام في هز ثقة الناس بالقطاع الصحي عبر تغطيته لأخبار هذا القطاع. ففي عام 2015، انتشرت قصة عن سيدة ادعت وجود هاتف نقال نسيه الكادر الطبي في جسدها بعدما أجريت لها عملية جراحية. واعتمدت القصة على صورة أشعة سينية لبطن المريضة ظهر فيها هاتف نقال. انتشرت القصة انتشار النار في الهشيم لغرابتها، ليظهر فيما بعد أنها عارية عن الصحة، وتبين أن الصورة لم تكن سوى تقاطع وجود الهاتف في مجال تصوير الأشعة خارج بطن المريضة. أثار الموضوع تندرًا واسعًا من الأطباء على الخبر وطريقة تغطيته التي لا تراعي أدنى معايير المهنية برأيهم، وتضر بسمعة القطاع الصحي.
وسائل الإعلام رأت أنها تنقل الرأي والرأي المقابل والفصل للقضاء، فيما اعتبرت نقابة الأطباء أن هذه الأخبار وأمثالها لا يكفي نفيها للتخلص من أثرها السلبي الذي يدوم، وتزيد من حالة التجييش ضد الأطباء، وتضر بسمعة القطاع الصحي داخل وخارج الأردن. فقد انتقلت هذه القصة المفبركة مثلًا إلى وسائل إعلام في دول خليجية كانت على الدوام من أهم روافد القطاع السياحي العلاجي. وزارة الصحة لم تقرر مقاضاة أي جهة على تداولها لهذه الأخبار، ولكن نقيب الأطباء وقتها أعلن أنه خاطب المستشار القانوني للنقابة لمقاضاة قناة رؤيا ووكالة عمون الإخبارية. سألنا المستشار القانوني للنقابة في الدورة التي تليها، الأستاذ يزيد حياصات، الذي أكد أنه لم يتسلم شيئًا يخص متابعة قضية من هذا النوع، إذ يبدو أن القضية لم ترفع أصلًا.
المتابع لوتيرة الاعتداء على الأطباء يستطيع بسهولة ملاحظة الترابط الزمني بين التجييش الإعلامي وارتفاع وتيرة الاعتداءات على الأطباء. يطرح الفتياني على ذلك مثالًا نشرت الصحف فيه أخبار عن مريض في مستشفى الجامعة الأردنية قالت إنه تعرض لخطأ طبي ولم يثبت ذلك، وخلال أقل من أسبوعين بحسبه تم الاعتداء على طبيبتين في المستشفى نفسها، وفي سياق منفصل عن الحالة الطبية وذويها. قد يكون من الضروري دراسة هذه العلاقة بشكل علمي لتحديد إذا ما كان هناك ارتباط سببي مباشر بين طريقة التغطية الإعلامية وارتفاع نسب الاعتداء على الأطباء.
العبوس بدوره أشار إلى أن مجلس النقابة سيتحرك في مسارين في الأيام المقبلة، الأول باجتماع مع نقابة الصحفيين، والثاني برفع دعاوى قضائية على مجموعة من المواقع الإعلامية التي ساهمت في تشويه سمعة القطاع الطبي حسب رأيه.
من جهة أخرى، فإن هناك بعدًا قانونيًا يعرقل منع الاعتداءات على الأطباء. إذ يشير كل من الفتياني والحياصات إلى أنه في غالبية الحالات التي تم فيها الاعتداء على الأطباء خلال دورة المجلس الماضية، تم إسقاط الحق الشخصي، ليبقى الحق العام المتعلق بالاعتداء على موظف عام أثناء تأديته لمهمته، وعقوبتها بحسب الحياصات الحبس من ستة أشهر إلى سنتين، يتم تخفيفها من القاضي بصلاحياته التقديرية في كثير من الأحيان بعد إسقاط الحق الشخصي إلى ما دون الثلاثة أشهر، ليصار إلى استبدالها بغرامة تبلغ دينارين عن كل يوم حبس.
يطرح الدكتور أسيد الذنيبات، أستاذ القانون في جامعة مؤتة، في اتصال أجريناه معه، حلولًا تشريعية لتجاوز هذه الثغرة القانونية، منها «استثناء الجرائم الواقعة على الكوادر الطبية أثناء عملهم أو بمناسبته من صلاحية القضاء في استبدال الحبس بالغرامة في الحالات التي يتيح القانون فيها ذلك، وأن يُنص على ذلك في تشريع مستقل أو في تعديل لقانون العقوبات أو في تعديل لأي من القوانين الناظمة للعمل الطبي في المملكة، وبهذا يقيد الخاص العام، ويُمنع استبدال الحبس بغرامة مما يشكل عقوبة رادعة للمعتدي».
هل الأطباء معفون من المسؤولية؟
عند مراجعة التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي واستثناء التعليقات المؤيدة للاعتداء، نجد موضوعين أساسيين يتصدران التعليقات بحاجة للتوقف عندهما، وهما طريقة تواصل بعض الأطباء مع المرضى، والأخطاء الطبية.
تتهم كثير من التعليقات قطاعًا من الأطباء بالفوقية والتكبر أثناء التعامل، وأحيانًا عدم اختيار التعابير المناسبة وخصوصًا في الحالات الحرجة. يقول الدكتور إبراهيم بني هاني، عضو لجنة الصحة النيابية وعميد كلية الطب الأسبق في جامعة العلوم والتكنولوجيا، إن تطوير مهارات الأطباء في التواصل يستدعي تدريبًا مستمرًا لهم، وتغيير لغة بعض المساقات في كليات الطب من اللغة الإنجليزية إلى العربية. ففي اجتماع لعمداء كليات الطب العربية عام 2005 في جامعة مؤتة، اتُخذ قرار بضرورة تدريس مساقات «صحة المجتمع»، و«أخلاقيات الطب» و«الطب الشرعي» باللغة العربية، وسمي هذا الاتفاق إعلان مؤتة. ويضيف بني هاني أن في الأردن أطباء متخصصين بما أسماه «Breaking Bad News» (تخفيف وقع الصدمة) والتواصل مع المرضى، ويمكن الاستفادة من مهاراتهم في تدريب غيرهم. وحين سؤاله عن تنفيذ هذه التوصيات أجاب بأنها على الرغم من تطبيقها في بعض الدول العربية، استجابةً لإعلان مؤتة، إلا أنها لم تطبق في الأردن.
لا يبدو تعريب اللغة في هذه المواد وحده الحل النهائي لهذه المسألة، ولكنه قد يكون الخطوة الأولى لتسليط الضوء على أهمية هذه المسائل والتعامل معها من خلال اللغة العربية والبيئة الأردنية منذ بدايات التعلم لدى طالب الطب، وهي مهارات يبقى الطبيب يطورها طيلة مسيرته الطبية ويرتبط قدر كبير من نجاحه الطبي والإنساني بمقدار إحسانها.
يتساءل كثير من المواطنين حول حالات يرون أنها أخطاء طبية يتم التغاضي عنها أو «لفلفتها» بحسب بعضهم، وأن الطبيب هو الخصم والحكم في كثير من الأحيان. توجهنا بالسؤال للدكتور علي شوتر صاحب الخبرة الطويلة كرئيس قسم الطب الشرعي التعليمي لإقليم الشمال، فأجاب بأن «هناك الكثير من الحالات التي بت فيها القضاء كأخطاء طبية نال فيها الطبيب جزاءه، ولكن بالمقابل هناك حالات لا يأخذ فيها المريض أو ذووه في حالة الوفاة حقهم؛ وذلك لأسباب منها: الطعن المتكرر في شهادات الخبرة من الأطراف المتنازعة عند القضاء، مما يطيل إجراءات التقاضي، وهذا يدفع الكثير من المواطنين للتنازل أحيانًا بسبب عدم القدرة المالية على متابعة القضية ودفع أتعاب المحامين، وأحيانًا بسبب طول الوقت».
يرى الدكتور شوتر بأن إقرار قانون المسؤولية الطبية الجديد كقانون مستقل بحد ذاته يعد تقدمًا في التشريع، إذ لم يكن هناك قانون مستقل قبل 2018 لمساءلة الكوادر الطبية، وإنما مواد موجودة في قوانين متفرقة. ومن المسائل التي عالجها القانون، مسألة البطء في الإجراءات. إذ ألزم القانون الجديد لجنة الخبرة بتقديم شهادتها للوزير خلال ثلاثة أشهر كحد أقصى ليصار بعدها للتقاضي، بحسب شوتر. وأكد على أهمية متابعة الحالات الطبية التي يعتقد أصحابها بحصول أخطاء في التعامل معها «وعدم التهاون فيها وتقديم الشكاوى، ولكن بالمقابل عدم الاستعجال بإطلاق الأحكام جزافًا أو التسرع في اللجوء للإعلام، بل التمهل لحين البت من لجان الخبرة التي تعطي رأيها في وقت سريع نسبيًا حسب القانون الجديد، وهذه اللجان متخصصة في تحديد الأخطاء الطبية التي يتحمل الطبيب مسؤوليتها من المضاعفات الطبية واردة الحدوث والمترافقة مع أي إجراء طبي».
لا زلنا نمتلك الفرصة
ختامًا يبدو أن فجوة الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة آخذة بالاتساع، وأن المؤسسات الصحية لم تكن استثناء من هذه الأزمة وإن كانت من أواخر تجلياتها. ومن الواضح أن ردم هذه الفجوة يحتاج جهودًا متكاملة من جميع الجهات المعنية. هناك الكثير من الحلول التي يمكن ويجب المباشرة بالعمل نحوها، مثل زيادة أعداد الكوادر الطبية في القطاع العام، والعمل على تطوير كفاءاتهم وتخفيف العبء على أقسام الطوارئ وتنظيم أكبر فيها، وتفعيل دور الرعاية الصحية الأولية والتوعية الشاملة للمواطن بالوجهة الصحيحة لتلقي العلاج. كل هذا يتطلب ليس فقط زيادة الإنفاق على القطاع الصحي، وإنما أيضًا إعادة توزيع النفقات فيه، والاهتمام بالتعليم الطبي المستمر وتطوير مهارات الأطباء في التواصل مع المواطنين، وإعادة النظر في بيئة العمل للكوادر الطبية ومنها ساعات العمل الطويلة التي يقضيها الأطباء المقيمون، بالإضافة لتعزيز مفهوم الأمن الصحي وتطوير الإجراءات والتشريعات الرادعة للجم ظاهرة الاعتداء على الكوادر الطبية، وتفعيل التشريعات والقوانين التي تحفظ حق المواطن بالحصول على رعاية صحية مثالية، والتركيز على دور الإعلام في الرقابة على كل المنظومة الصحية ابتداء بإقرار الموازنات وحتى تقديم الرعاية الصحية للمواطن.
كل هذه الحلول وغيرها تتطلب دراستها وتطبيق المناسب منها جهودًا مؤسسية شاملة، أبعد ما تكون عن نظام الفزعات الموسمي، لتوفير بيئة آمنة وكريمة للمواطن حال تلقي الرعاية الصحية، وللكوادر الطبية من أطباء وأطباء أسنان وصيادلة وممرضين وفنيين وموظفين. إن لم تتدارك المؤسسات المعنية ذلك فإن ما بناه الأردنيون والأردنيات من مؤسسات صحية عريقة حققت سمعة متقدمة عبر عقود يمكن هدمه في سنوات قليلة. فمن سيعيد ضبط بوصلة الرعاية الصحية؟