البترا وكورونا: كيف غيّرت الجائحة معالم المدينة؟

المدينة الأثرية في البترا، خالية من السياح بسبب الجائحة. تصوير علي السعدي

البترا وكورونا: كيف غيّرت الجائحة معالم المدينة؟

الأربعاء 24 حزيران 2020

جنوبيّ عمّان، وعلى بعد 240 كيلو مترًا، وضمن إقليم الجنوب الذي يُعدُّ جغرافيًا امتدادًا للصحراء العربيّة وسلسلة جبال الشراه، تقع البترا كأكثر الأماكن الأثرية تفضيلًا من قبل السيّاح الأجانب، وواحدة من أكثر الأماكن الأثرية زيارة من قبل الأردنيين.[1] وحول البترا يتوزّع 12 تجمّعًا سكّانيًا في لواء يحمل اسمها، ويبلغ عدد سكّانه 37620 نسمة، منها تجمعان سكّانيّان، هما الأقرب للمدينة الأثرية يعمل معظم أبنائهما في السياحة، وهما: وادي موسى؛ حيث الفنادق والمطاعم ومحال بيع التحف والمكاتب السياحيّة المرخصة، وقرية أم صيحون؛ حيث العمل في نقل السيّاح على الدواب والبيع على البسطات والدلالة السياحيّة المحليّة غير المرخصة.

بشّرت السنوات الثلاث الماضية بمواسم سياحيّةٍ جيّدةٍ في الأردن إجمالًا، وفي البترا تحديدًا، حيث تعافى قطاع السياحةُ بعد سنوات من الانتكاسة التي شهدها خلال سنوات الربيع العربي. لكن ومع بدء انتشار جائحة كورونا في العالم، وإغلاق الحكومة للمعالم السياحيّة والمطارات لمواجهة تفشيه، انتكس القطاع من جديد، ولم يتعطّل عمل السياحة في البترا وحسب، وإنما توقف كليّا وشلّ حركة الحياة هناك.

بسبب هذا التوقف، اضطرّ العاملون في السياحة من أهل المنطقة، وهم الأكثرية، للتكيّف مع الشكل الجديد للحياة، وخاصة العاملون دون مظلات حماية، فانتقل بعضهم إلى العمل في الرعي والزراعة، وفكّر آخرون بوقف توريث العمل في السياحة لأبنائهم، وهم الذين ورثوا هذه المهن عن آبائهم. أمّا الاستثمارات من مطاعم وفنادق ومحال بيع التحف فهي الأخرى توقفت لأوّل مرة من عشرات السنين، وسُرِّح بعض العمّال فيها، ورجع أصحابها إلى البيوت.

وبعد أكثر من شهرين من التوقف، أعلنت الحكومة عن خطة إنقاذ للقطاع السياحي، في الجنوب بمرحلته الأولى، عبر تشجيع السياحة الداخليّة، لكن آمال العاملين في القطاع هناك غير معقودةٍ على هذا النوع من السياحة.

بداية حزيران، وفي رحلةٍ من يومين، توجهنا للبترا ووادي موسى وأم صيحون لنرصد أثر الجائحة على جانبين؛ حياة العاملين وعائلاتهم، وكيف تأثرّت وتغيّرت حياتهم، بالإضافة إلى مصير الاستثمار في السياحة والعاملين فيه، وأخيرًا كيف يستقبل أبناء المنطقة الأخبار الواردة من عمّان عن دعم القطاع السياحي.

محل لبيع التحف، ومركز الزوار، وبسطات في البترا خالية كلها من الزوار بعد توقف السياحة.

أم صيحون تتكيّف

الظهيرة في أم صيحون، [2] يقف شبابٌ من القرية على جانبي الطريق أمام المحال التجاريّة، وبين الأزقة، حمير وبغال سائبة في الشوارع. وإبل مربوطة إلى أبواب البيوت.

راوغت السيارة التي تقلّنا حمارًا يقف في منتصف الشارع وبصعوبة تجاوزته، ضحك شباب على الموقف. «كل يوم أشوف السيّاح ومن عمري صغير، أوّل مرة ما أشوف سايح»، يقول عامر البدول (37 سنة) الذي يعمل في محل لبيع المرطبات في المدينة الأثرية، وقد ورث المحل عن والده الذي مات في الثمانين من عمره وهو يعمل في المحل.

فهمنا من المجموعة أنَّ هذا الدوابّ كانت تعمل في نقل السيّاح داخل المدينة الأثريّة، وعندما توقفت السياحة سيّبها أصحابها الذين لم يجدوا سبيلًا إلى إطعامها. كانت الدواب تجوب الشوارع وتتجمّع حول مكبات النفايات بحثًا عن شيء تأكله، أمّا الدوابّ الأخرى التي استطاع أصحابها إطعامها فقد حبسوها في زرائب قريبة من القرية بُنيت خصيصًا للاعتناء بها، مع تخوّف من عدم القدرة على الاستمرار في تزويدها بالعلف والتبن، مع تواصل توقف العمل في السياحة وانقطاع الدخول.

منظر عام لأم صيحون، ومجموعة من الشباب في أحد طرقاتها، وحمير مربوطة أمام أحد المباني.

في هذا الوقت من السنة كان زورو يقطع المدينة الأثريّة جيئة وذهابًا من الساعة السابعة صباحًا وحتى الغروب. وزورو بغل عمره 13 سنة، مخصص لنقل السيّاح، جيء به من أقصى الشمال من على الحدود الأردنيّة السوريّة قبل سنتين، مثله مثل بغال أخرى يؤتي بها من إربد وعجلون وأحيانًا من مادبا ويتراوح ثمنها بين ألفٍ وألفي دينار بحسب صحتها وعمرها.

اشترى سالم البدول (22 سنة) البغل زورو قبل سنتين بـ1700 دينار. ومثل بقيّة الدواب العاملة في نقل السيّاح دفع به إلى مروّض ليقوم بتطبيعه وترويضه، وغسله، واشترى له سرجًا مزيّنًا ثم أدخله الخدمة ليعمل على نقل السيّاح، وهي مهنةٌ ورثها سالم الذي ترك الدراسة في الصف الخامس، وأخوته، عن أبيهم.

قبل الكورونا، كان يوم سالم يبدأ بأخذ زورو إلى المدينة الأثرية. ليصلا عند الساعة السابعة، ويبدأ العمل في نقل السياح، «من الخزنة للدير، ومن ليتل بترا للبترا»، في قوافل على الحمير والبغال، تحمل 7-14 سائحًا، «كل واحد على بغله».

يتذكّر سالم أول بغل اشتراه للعمل في نقل السيّاح سنة 2015 وكان عمره حينها 17 سنةٍ؛ إذ سافر مع خالٍ له إلى قرى الشمال الأردني، «في بغال حقهن ألفين، الحمير من 200-1000 دينار أسعارها». وفي الوقت الذي تستخدم فيه البغال في أم صيحون لنقل السياح، تستخدم في الشمال للحراثة، بحسب سالم.

بحسب أرقام إقليم سلطة البترا السياحيّ التنموي يعمل على نقل السياح في البترا 1000 بغل وحمار غير مرخصٍ، إضافة إلى 383 حصانًا وجملًا مرخصةً. ويملك أبناء قرية أم صيحون 105 دابةً منها، تعمل في نقل السيّاح على الدور، كل يومٍ مخصص لمجموعة منها.

تتخوف سلطة الإقليم من أن يفتح عليها العمل على الدواب قضايا مثل سوء معاملة الحيوان وعمالة الأطفال والمحافظة على الموقع ونظافته، كما يقول الدكتور سليمان الفرجات رئيس مجلس المفوضين في السلطة.

مع مجيء أزمة كورونا، حُبس زورو في زريبةٍ للمحافظة عليه كونه الاستثمار الوحيد لسالم، ولذا يحرص على إطعامه والعناية به. يأكل زورو في الشهر ثلاثة شوالات شعير، وثمن الشوال عشرة دنانير، بالإضافة إلى ربطتيّ برسيم.

خلال السنتين الماضيتين وفّر العمل على زورو لسالم مبلغًا جيدًا ليواصل بناء بيته حيث يتجهز للزواج، لكن توقف السياحة جعله بلا عمل يجوب مع شباب القرية الطرقات، «أنا إذا بعطل يومين ثلاثة من وين بدي أصرف وأعيش».

ومثلما ورث كلٌ من سالم وعامر المهنة، كلٌ عن والده، ورث نادر* (35 سنة) وأخوته مهنة العمل على بسطة لبيع التحف الشرقية وصور البترا عن والدهم الذي كان بائعًا جوّالًا للسياح في الستينيات. وهي مهنةٌ يعمل بها أعمامه، ووالد زوجته كذلك.

ترك نادر الدراسة من الصف السادس ليعمل على حمارٍ قبل أن يتركه ويرجع لمهنة عائلته. وهو يعمل في هذه المهنة منذ 15 عامًا، ولا يفكّر في الوقت الراهن بالعودة لمهنة نقل السيّاح على الدواب «كل واحد في شغلته، اشتغلنا على حمير زمان وهي متعبة».

لنادر بيت بناه من العمل في بيع التحف والصور على البسطة، وهو أب لستة أولاد، موزعين بالتساوي ذكورًا وإناثًا.

وفي العادة، أي قبل الكورونا، كان نادر يخرج من بيته في السابعة صباحًا، ولا يعود إلّا مع الغروب، ولا يتوقف عمله حتى في أيّام الجمعة وفي أيّام البرد. ويُحاول خلال عمله أن لا تلحظه أعين المفتشين، إذ تعتبره سلطة الإقليم ومن يعمل مثله على البسطات في البترا مخالفين، وإذا ما قبض عليه يُحوّل للحاكم الإداريّ «ممكن يسجنك، ممكن يكفّلك». ومع توقف السياحة منتصف آذار الماضي، حمل نادر بضاعته التي تبلغ كلفتها 500 دينار وخزّنها في بيته، «هذاك يوم وهذا يوم قاعد».

سالم (أعلى أو يسار) ونادر البدول (أسفل أو يمين) في بيت الأخير في أم صيحون.

لا يتفاءل نادر بعودة السياحة الداخلية، إذ أن معظم بيعه لا يكون إلّا للسياح الأجانب، أمّا الأردنيين، يقول، فهم يعرفون هذه البضائع من عمّان، وهي موجودة في مختلف محال التحف الشرقية في المملكة. ويجلب نادر بضاعته من عمّان حيث تجّار مختصون باستيرادها من الصين، وفي مرات أخرى يأتي التجّار من عمان محملين بهذه البضاعة ويبيعونها للباعة في أم صيحون.

يقول الفرجات إنَّ المنتج السياحي في البترا يعتمد على السياحة التراثية الثقافية مثل زيارة المتحف والاهتمام بتاريخ المنطقة «وهذا مش بالضروري السائح العربي والمحلي يكون بالنسبة إله أولوية، أمّا بالنسبة للسائح الأوروبي فهو الأولوية».

تحاول سلطة الإقليم جذب السياحة الداخليّة من خلال العمل على تقديم العروض الفنيّة والقعدات في المناطق العامّة. «هاي بنشتغل عليها ورح نعمل خبرة جديدة بالبترا». أجلت جائحة كورونا هذا المشروع كما يقول الفرجات للعام المقبل، حيث سيكون هناك خدمات جديدة مثل رحلات الباصات المكشوفة، «هاي السياح العرب بيحبوها».

بالرغم من ذلك لو فتحت السياحة الداخلية أو العربية سيعود نادر للعمل؛ إذ أن ما كان قد ادخره من نقود بدأت تنفد، «إلي كان ماسك ألف دينار صرفهم وقاعد، من وين بده يجيب؟ ما كنّا حاسبين حساب».

وبسبب تقلّب مواسم السياحة، نتيجة الكورونا حاليًا، ونتيجة ما شهدته الدول العربية المجاورة خلال السنوات الماضية، قرّر نادر ألّا يورّث مهنته لأولاده: «ولادي بالمدارس ناوي أخليهم يكمّلوا دراسة، إحنا شقينا».

على بعد عدة كيلومترات من قرية البيضا، وقرب جرف صخري، التقينا مجموعة من الأدلاء المحليين والطباخين وأصحاب الدواب العاملة في نقل السيّاح، وكانوا يشربون شايًا على الحطب. عندما توقفت السياحة، عاد هؤلاء الرجال إلى رعي الدواب، منتظرين عودة السياحة. ومن بينهم أبو عمر (48 سنة)، والذي يعمل عادة كدليل سياحي محلي.

انتقل أبو عمر للعمل مرافقًا المجموعات السياحيّة طباخًا ودليلًا يُطلق عليه الدليل البدوي منذ العام 2002، ويقول إنّه تعلّم هذه المهنة من أصحاب مكاتب السياحة. يفضّل بعض السيّاح أن يكون معهم دليلٌ محلي خبيرٌ بالمنطقة ويطهو لهم المأكولات المحليّة، ويقول أبو عمر أن الفارق بينه وبينه الدليل القادم من عمّان هي أنه «عارف المناطق كلها».

أبو عمر في البيضا ومن خلفه الدواب لرعاة من المنطقة.

يعمل ضمن منطقة سلطة البترا 150 دليلًا موظفًا في مركز الزوّار، بالإضافة إلى وجود 50 دليلًا يعملون على نظام العمل الحر (الفريلانس)، وجميعهم مرخّصون، فيما يبلغ عدد الأدلاء المحليين غير المرخصين أكثر من 100 دليلٍ وفقًا للفرجات. «مش مرخصين بس مطلوبين» يقول أبو عمر.

يقطع أبو عمر المسافات وهو يقود السيّاح؛ يخرج أحيانًا من البترا إلى ضانا، أو من البترا لوادي رم، ومعه كما يقول حقيبته وعبوتا ماء وأكله، «نقعد أسبوع، عشر أيام ما نشوف أهلنا». خلال الرحلة يطبخ أبو عمر للسيّاح ويبني لهم الخيام.

عندما توقفت السياحة بسبب كورونا، توقف أبو عمر، والذي له ثمانية أولاد يعمل واحد منهم في السياحة، عن الدفع للمعلم الخصوصيّ الذي يدرّس ابنتيه في الثانوية، «بالحرام علي دفعات 500 دينار، والله العظيم سحبت عنهم الأستاذ، ما معي فلوس، بدك تدرس بنتي ببلاش؟».

رغم هذا، إلّا أن تأثير الجائحة على أبو عمر كان أقل من تأثيره على المجموعة الجالسة، إذ وفّر قليلًا من النقود، «المثل يقول اخزن قرشك الأبيض ليومك الأسود، وشو بدنا سواد أكثر من هالسواد، شهرين ونص، الناس أكلت هوا».

عمل في السياحة في أم صيحون حتى الآن جيلان من الأهالي، افتتح الجيل الأول العمل بالسياحة بشكله البسيط باعةً جوالين وأصحابَ دواب تنقل السيّاح. وأتى الجيل الثاني الذي لم يكمل تعليمه وطوّر المهنَ التي ورثها، فجاؤوا بالدواب من الشمال وروّضوها، كما ربّوها بهدف التناسل، واستوردوا من عمّان التحف والصور التي يبيعونها على البسطات. ويرفض من قابلناهم من العاملين في السياحة في المنطقة عملَ أولادهم بالسياحة، وزادت قناعتهم بضرورة تنحية الأولاد من الجيل الثالث عن هذه الأعمال بسبب الهزات التي يتعرض له موسم السياحة مع كل اضطراب في الدول المجاورة وبسبب انتكاسة الموسم الأخير التي جاءت بها جائحة كورونا. 

يقول الفرجات «السياحة حرمت الناس من التعليم»، إذ من السهل أن تأتي الأموال من العمل بها ومن السهل صرفها، «في منطقة أم صيحون صار في دخل بس بنفس الوقت صار في تهرّب من المدارس». ويشير الفرجات إلى أن غياب التعليم أدى إلى أن تكون الاستفادة من السياحة تقليدية، تغيب عنها الاستدامة.

يبرر عامر البدول تركه الدراسة وتوجهه للعمل بالسياحة بأن كل ما عرفه خلال حياته هي السياحة ومهنة أبيه بالعمل في محل المرطبات «المحل عمره 80 سنة، عملوهن أبهاتنا بالـ55 وبالـ60».

وادي موسى تنتظر السياحة الخارجية

تركنا أم صيحون وتوجهنا إلى مركز لواء البترا، في وادي موسى،[3] حيث العمل في السياحة يأخذ طابع الاستثمار في الفنادق والمطاعم ومحلات بيع التحف والمكاتب السياحيّة والدلالة السياحيّة المرخصة. المحال مغلقة، ولا شيء يوحي بالحياة.

في أحد الشوارع، وجدنا متجرًا مفتوحًا يبيع التحف والمواد الغذائيّة، أمامه برادات البوظة والمشروبات الغازية يعلوها الغبار. وفي الداخل الأشقاء الثلاثة من عائلة النصرات.

 يقول أحمد، أكبر الأخوة الثلاثة، إن المحلّ مفتوحٌ لمناقشة مصير العمل أكثر منه للبيع. قدّم لنا مشروبًا غازيًا ورفض أن ندفع الثمن، لكنّه نبّهنا لضرورة النظر لتاريخ الانتهاء، إذ مرَّ زمن طويل على وجود البضاعة في الثلاجة.

يوفرّ هذا المحل مصدر الدخل الوحيد لعائلات ستة أخوة متزوجين، بينها عائلة أحمد، بالإضافة إلى والدهم الكبير (80 سنة) وأولاده من زوجته الأخرى وعائلاتهم. على أرفف المتجر عُرضت التحف والمنحوتات المحليّة وزجاج الرمل الملّون، «أنا بسوي رمل، يسموني ملك الرمل بالبترا»، يقول محمَّد، شقيق أحمد، الذي يأتي بالمواد الأولية من الحجر المحلي والرمل من رأس النقب.

قبل افتتاح المحلّ الذي بناه والدهم عام 1989، كان الأخوة الثلاثة يعملون في مهن مختلفة. فمحمد مثلًا، والذي ترك المدرسة بعد الصف السابع، عمل في الحدادة وفي صناعة الأثاث وفي النقش على النحاس، كما عمل في دائرة الآثار مرمّمًا في قلعة الشوبك، كما عمل على إنجاز منحوتات صغيرة، كان يبيعها للسياح في البترا، «نشتغل شوي شوي ونحوّش، أروّح باليوم 100 دينار». بالإضافة إلى ذلك عمل في نحت الرخام وصناعة الخزف والفخار على دولاب صنعه بنفسه، لكنه ترك هذه المهن وصار يشتريها من جمعيات خيرية تدير مشاغل خزف في قرية الطيبة، «الواحد مش لاقي دعم للإشي إللي بسويه. لو فيه دعم الواحد بنجز، لو في دعم بشغّل 100 شخص وخطوط إنتاج. عندي إمكانية أعلّم شباب صغار النحت». يقول محمد إن كل الجهات التي طلب دعمها لفتح مشروعه كانت تطلب كفلاء ورهن، الأمر الذي جعله يترك فكرة المشغل ويعود إلى المتجر مع أخوته أحمد ومحمود، ليديروه على مدار 24 ساعةٍ بالتناوب، ويوزعوا دخلهُ على 14 عائلة هي المستفيدة من المتجر.

قبل جائحة كورونا اتفق الأخوة الثلاثة على تطوير أعمالهم، فاقترضوا من أحد البنوك 400 ألف دينار وأضافوها لمئتي ألف دينار كانوا ادخروها على مدار الـ(33) سنة الماضية، وقرروا بناء فندق فوق المتجر. يقول أحمد «يوم شطّبناه وتمام التمام أجت الأزمة». وهكذا صار الإخوة الثلاثة مدينين بـ(400) ألف دينار. يحتوي الفندق على 36 غرفة ويحتاج إلى 50 ألف دينار تقريبًا حتى يكون جاهزًا لاستقبال الزبائن.

محمود النصرات (أعلى أو يسار) أحد الأخوة الثلاثة في متجرهم بوادي موس، وأحمد النصرات (أسفل أو يمين) في الفندق الذي لم يكتمل تجهيزه.

يعمل أحمد بالسياحة منذ عشر سنوات، ولم يكمل تعليمه، وهو متزوج ولديه ستة أولاد، عمر أكبرهم 11 سنة. يقول إنه لا يستطيع تغيير مهنته إلى أخرى، إذ لا يعرف غيرها «الرزقة محدودة».

يقول الفرجات إنَّ السياحة الأجنبية لها موسمان؛ في الربيع أشهرَ آذار ونيسان وأيّار، وفي الشتاء أشهر أيلول وتشرين أول وتشرين ثاني، و«أعلى شهرين بيكونوا في البترا 10 و4. طبعًا [المواسم] إلها ارتباط بالدول المصدرة للسياحة، بتيجي بأوقات الإجازات والجو المعتدل. السائح العربي بييجي بالصيف لإنه موسم مغتربين بالإضافة إلى رحلات المدارس».

أصدرت الحكومة، في 15 حزيران الحالي، أمري الدفاع رقم 13 و14، واللذيْن يختصان بدعم القطاع السياحي. وأعلنت وزيرة السياحة مجد شويكة إجراءات دعم للقطاع السياحي، كان بينها، تخصيص 25 ألف ليلة مبيت مجانًا لزوار البترا ضمن برنامج أردننا جنّة، وتخفيض ضريبة المبيعات للفنادق السياحيّة والمطاعم من 16-8%، وتخفيض ضريبة الخدمات من 10-5%.

يقول أحمد إن عمّان يمكن أن تستفيد من السياحة الداخليّة والمحليّة، أمّا في وادي موسى فلا شيء فيها يجذب السائح المحلي للبقاء أكثر من يوم واحدٍ. «السياحة الداخلية ما تنفعنا. أغلب الشعب عسكري، وإللي معهم مادة معدودين على الأيدي». وهو ما تؤكّده أرقام سلطة الإقليم؛ فمن بين مليون و135 ألف سائحٍ دخل البترا العام الماضي، كان منهم مليون سائحٌ أجنبيّ.

يقترح محمود أن يكون للبترا صندوق ادخار لمواجهة مثل هذه الانتكاسات، «لو في صندوق إحنا وضعنا مش زي هيك»، ويتابع أن الوضع لو استمر هكذا لسنة، «ما واحد يلقى خبز يوكله».

في مكان آخر في وادي موسى، فندق شعبي صغير من 14 غرفةٍ يُديره عصام المجالي مع شريكٍ له ومعهما عاملان اثنان، سرَّحمها المجالي من العمل بسبب توقف السياحة وعدم قدرته على دفع أجرتهما التي تتراوح ما بين (250-300) دينار شهريًا.

يبلغ عدد الفنادق المصنّفة في البترا وفقًا لأرقام العام 2018: 29 فندقًا، فيها 3622 سريرًا، فيما يبلغ عدد العاملين فيها 1022 عاملًا، ويبلغ عدد الفنادق غير المصنفة 8 فنادق تحوي 224 سريرًا يعمل فيها 26 عاملًا. ويبلغ عدد النزل والموتيلات والمخيمات ثلاثة تحوي 40 سريرًا، ويعمل فيها 7عمّال.[4] 

تضمّن المجالي الفندق قبل أربع سنوات، وهو فندق شعبي مبنيّ منذ عشرين سنة. وفي الفندق مطبخ مشترك، «السوّاح لما ييجي بننزل على المطبخ بحس حاله في بيته» يقول المجالي. واصفًا الحالة قبل كورونا بأنها مستورة، إذ كان الفندق يعمل جيدًا في مواسم السياحة. قبل أن تفرض الحكومة الحظر على الحركة والتنقل شعر المجالي بأن الموسم السياحي لن يكون على ما يرام، حيث توقف السيّاح عن القدوم، كما أخذ بعضهم يلغي حجوزاته، «حسينا قبل ما الأردن تسكّر».

عصام المجالي مع ابنه في مطبخ الفندق الخالي من السيّاح بوادي موسى.

يتضمّن المجالي الفندق مقابل عشرين ألف دينارٍ سنويًا، ويدفع نصف المبلغ مقدمًا عن ستة شهور. «ممكن بيت [إيجار] يسامحك، هان ما في، موقعين عقود». كما يدفع المجالي ترخيصًا سنويًا 400 دينار وبدل كهرباء بين 500-600 دينار، بالإضافة إلى أنه يدفع مقابل اشتراكه الاختياري في الضمان الاجتماعي 150 دينارًا.

قبل عمله في إدارة فندقه الحالي، عمل المجالي موظف أمن في أحد الفنادق لسنوات. لا يرى المجالي في المستقبل القريب حلًا لمشاكل هذا القطاع، إذ يقول إن وضع السياحة في البترا سيبقى منتكسًا مالم يدخل السيّاح الأجانب «لأنه إحنا سياحتنا تختلف عن سياحة عمان وجرش والعقبة، إحنا ما بنتعافي إلا الزوار الأجانب [ييجوا]».

يفكر المجالي بتطوير عمله من خلال التوسع في الترويج للفندق على وسائل التواصل الاجتماعيّ ومن خلال الاتصال بأصدقائه في أوروبا عندما تعود السياحة الأجنبيّة. وعندما سألناه عن مردوده في هذه الفترة وكيف يتدبر أمره كان جوابه «بنتقاسم الصحن أنا وصحابي وشريكي»، فيما يتعاون مع من حوله ويساعدون بعضهم، «إلي معه 100 ليرة بنتقاسمهن مع بعض (..) الطبخة منتقاسمها».

منظر لمنطقة سياحية في وادي موسى.

مع المساء غادرنا وادي موسى، وبالرغم من أن الحكومة قد خففت القيود على التنقل قبل أيام قليلة وسمحت بالتنقل بين المحافظات إلا أن المحال والبقالة أغلقت مبكرًا يومها، صامتةً هذه المرة، دون سيّاحٍ، ودون عاملين في السياحة.

أعلنت الحكومة عن خطة لتعويض قطاع السياحة، لكن هذه التعويضات سيستفيد منها العاملون في القطاعات المنظمة، ولذا لن يستفيد أصحاب البسطات مثل نادر من الملايين الثلاثة التي خصصتها الوزارة «لتمكين محال التحف الشرقيّة المرخصة»، ولن يستفيد سالم وبغله زورو من الـ150 مليون دينار المخصصة كقروض ميسرة لدفع الرواتب، ولن يستفيد الأدلاء السياحيون المحليون مثل أبو عمر من الـ30 مليون المخصصة للمكاتب السياحيّة المرخصّة.

يقول الفرجات إنَّ عدد العاملين في القطاع السياحي من أبناء المنطقة مرتفع جدًا، ومن الصعب الإحاطة بأعدادهم، لأنهم يعملون في القطاع غير المنظم. ويضيف إن ميزة البترا تكمن في أن «معظم العمالة في قطاع الفنادق والمطاعم والمكاتب السياحية من أبناء المجتمع المحلي، فوق 90% من موظفي الفنادق بالبترا من إقليم البترا مقارنة بفنادق البحر الميت والعقبة».

بالنسبة للأخوة النصرات والمجالي، لن يشكّل السياح المحليون الذين سيأتون للبترا فارقًا في تنشيط السياحة لارتفاع أثمان ما يبيعونه، وارتفاع الأثمان مردّه، بحسبهم، تكاليف التراخيص وكثرة العائلات المستفيدة من نشاطهم الاقتصادي، «إنت لمّا تجيب السياحة الداخلية، شو بده يشتري؟ باكيت دخّان؟ على 15 و20 قرش [ربح]؟»، يقول أحمد النصرات.

تقول وزيرة السياحة مجد شويكة إن وضع السياحة الخارجية «يعتمد على الوضع الوبائي في الخارج»، كما تأمل أن يكون بإمكان الأردن استقبال سياح أجانب ابتداءً من آب المقبل، ولذا سيراقب الأهالي الوضع الوبائي في الخارج أكثر من الداخليّ فهو الفيصل بالنسبة لهم فيما يتعلّق بالعودة إلى ما قبل كورونا.

لا يصدّق أهالي التجمعات المحيطة بالبترا ما يحصل اليوم من توقف للسياحة، إذ لم يسبق لهذا الوضع أن حصل من قبل خلال حياتهم، حتى العجوز السبعيني الذي سألناه إن كان قد شهد توقفًا مثل هذا من قبل قال إنه ربما حصل مثله خلال حرب حزيران 1967، لكنه يستدرك قائلًا، لا لم تتوقف السياحة كليًا سنتها، كان في سيّاح.

تم تنفيذ هذا التقرير بدعم من جمعية ناشيونال جيوغرافيك.

  • الهوامش
    * اسم مستعار.
    1) يبلغ عدد زائري البترا تقريبًا ضعف أكثر الأماكن زيارة في الأردن بواقع (829 ألف يليها 481 ألف زائر نيبو) – الكتاب الإحصائي السنوي 2018-دائرة الإحصاءات العامّة ص 203. ارتفع العدد في 2019، وكان من المتوقع أن يرتفع في 2020 قياسًا على أول شهرين من العام قبل أزمة كورونا وفقًا لتقديرات سلطة إقليم البترا.
    2)  العدد المقدر لسكان أم صيحون عام 2019 بلغ 4017 نسمة – دائرة الإحصاءات العامّة.
    3) بحسب دائرة الإحصاءات العامّة، يبلغ عدد سكان وادي موسى 12961 نسمة.
    4) الكتاب الإحصائي السنوي 2018- دائرة الإحصاءات العامّة.

Leave a Reply

Your email address will not be published.