بعد ثماني سنوات من العمل كمندوب مبيعات في محل مجوهرات، ترك عصام* وظيفته إثر خلاف مع صاحب العمل، والتحق بوظيفة جديدة في محل آخر يمارس النشاط التجاري ذاته، ليجد نفسه في مواجهة مطالبة قانونية لدفع 50 ألف دينار، هي قيمة الشرط الجزائي في عقد عمله السابق، الذي يمنعه من العمل في وظيفة مماثلة لمدة 10 سنوات.
عندما غادر عصام عمله في محل المجوهرات لم يكن في نيته خرق الشرط الجزائي، لكنّ قلة فرص العمل والأوضاع الاقتصادية الصعبة لم تترك له «منفذًا آخر». يقول: «أنا هاي الشغلة الوحيدة اللي بعرف أشتغلها، هاي شغلتي، التصليح صيانة فضة ذهب وبيع هذه السلعة شغلة ثانية ما بعرف، ما كنت أنوي أشتغل بشغلة بنفس الشغل لما تركت من عنده بس ما في منفذ اضطريت أشتغل فيها».
وبسبب هذه المطالبة القانونية أمضى عصام أكثر من عام في إجراءات التقاضي، لكن لحسن حظه صدر قرار المحكمة باعتبار الشرط الجزائي مبالغًا فيه، ولا يتساوى مع الضرر. وألزمته المحكمة بدفع مبلغ 2372 دينار أردني، فقط، كتعويض عن باقي مدة عقد العمل محدد المدة، بموجب المادة 26 من قانون العمل.
عصام ليس حالة منفردة، إذ تخالف العديد من الشركات الأردنية الدستور وقانون العمل، بإجبار موظفيها على توقيع عقود تمنعهم بعد الاستقالة من العمل لدى جهات منافسة لأجل طويل، في انتهاك واضح لحقوق العمال، يجري في ظل رقابة ضعيفة من وزارة العمل، وتضارب في القوانين، ونقص في التشريعات الملائمة.
النقاش القانوني حول «شرط عدم المنافسة»
المحامي فيصل السرحان، الذي تولى قضية عصام، استند في دفاعه على المادة الرابعة من قانون العمل الأردني والتي تبطل مفعول أي شرط في العقد يتنازل فيها العامل عن حقوقه، والمادة 819 من القانون المدني التي تعتبر أي شرط مبالغ فيه بهدف إبقاء العامل لدى صاحب العمل غير صحيح.
يقول السرحان إن الشرط الجزائي المذكور في عقد عصام باطل قانونيًا رغم توقيع العامل عليه بإرادته. ويؤكد أن لا مكان للإرادة في وجود نصّ القانون، لأن العمال يقبلون بمثل هذه الشروط تحت ضغط الحاجة للعمل.
شرط عدم المنافسة في عقد عصام:
«اتفق الطرفان على أن يلتزم الفريق الثاني في حال ترك العمل و/أو فسخ عقد العمل و/أو لأي سبب آخر ترك بموجبه العمل لدى الفريق الأول بعدم العمل لدى أي مؤسسة و/أو شركة و/أو محل لصياغة وبيع وشراء الذهب والمجوهرات والإكسسوارات في محافظة المفرق تحت أي مسمى وظيفي لمدة 10 سنوات من تاريخ قيام الفريق الثاني بترك العمل و/أو فسخ عقد العمل و/أو لأي سبب آخر ترك بموجبه العمل لدى الفريق الأول، وخلاف ذلك يلتزم الفريق الثاني بدفع غرامة مالية قدرها 50 ألف دينار أردني للفريق الأول كشرط جزائي، ويبقى هذا الشرط نافذًا حتى وإن انتهى عقد العمل لأي سبب و/أو بالاستقالة و/أو بانتهاء مدة العمل، ولا ينتهي بموجب الشرط الجزائي إلا بموجب اتفاق خطي مستقل عن العقد المبرم بين الطرفين».
في ظل أزمة بطالة تقترب من سقف 20% من القوى القادرة على العمل، وفق أرقام دائرة الإحصاءات العامة، فإن القبول بالشروط المجحفة مقابل فرصة عمل جيدة أمر لا خيار فيه. لذلك قبل رامي* شرطًا جزائيًا في عقده مع شركة توزيع هواتف خلوية بمبلغ 10 آلاف دينار أردني، حيث كان يعمل موزعًا للهواتف النقالة على المحلات. يقول: «فرصة العمل في ظل الأوضاع الراهنة كانت تساوي قبول هذا البند».
عقد رامي يمنعه من العمل لدى شركات منافسة لمدة سنتين من تاريخ انتهائه، ما جعله يتردد بالفعل في قبول عرض عمل جيد لصالح شركة منافسة، فبدأ رحلة استفسارات بين عدة جهات للتأكد من قانونية الشرط في عقده، أوصلته إلى مديرية العمل في محافظة الكرك، حيث يقيم، باعتبارها الجهة الرسمية المعنية في متابعة الأمور العمالية، وهناك أيضًا لم يعثر على إجابة شافية. يقول: «احتاروا في سؤالي، يمكن قعدوا ساعتين على الكمبيوتر بدوروا، بالآخر استشاروا مكتب العاصمة، الجواب طلع معهم ما بنعرف للأسف الشديد».
«شرط عدم المنافسة» والمادة 818 من القانون المدني
يستخدم رب العمل «شرط عدم المنافسة» في العقد استنادًا إلى المادة 818 من القانون المدني الذي جاء ليحمي رب العمل من إفشاء أسراره للمنافسين، ويُقبل إذا كان مقيدًا بالزمان والمكان وطبيعة العمل، في حين أن قانون العمل يخلو تمامًا من أي مادة يتم من خلالها تنظيم شرط عدم المنافسة في عقد العمل.
حمادة أبو نجمة، أمين عام وزارة العمل سابقا ورئيس «مركز بيت العمال للدراسات»، يؤكد أن غالبية العقود التي تستخدم هذا الشرط تخالف القانون، إذ إن هناك فهمًا خاطئًا لأهمية «شرط عدم المنافسة» وقانونية تطبيقه. ويشير أبو نجمة إلى أن استخدام «الشرط» بالشكل الحالي يؤدي فقط إلى منع العامل من الانتقال إلى عمل آخر، لا لحماية مصالح صاحب العمل و حماية أسراره.
المادة 818 من القانون المدني:
«إذا كان العامل يقوم بعمل يسمح له بالإطلاع على أسرار العمل ومعرفة عملاء المنشأة، جاز للطرفين أن يتفقا على ألا يجوز للعامل أن ينافس صاحب العمل أو يشترك في عمل ينافسه بعد انتهاء العقد»
رفضت شركات تستخدم هذا الشرط في عقودها، وقد تحدثنا إلى موظفي بعضها، التجاوب معنا، لكن أحد المحامين الذين يعملون لدى شركة اتصالات، رفض ذكر اسمه، وهو متخصص برفع قضايا للشركات تتعلق بهذا الشرط، تحدث إلينا ولخّص المسألة كلها على النحو الآتي: «العقد شريعة المتعاقدين وهو شرط غير جبري، والمحاكم هي صاحبة الاختصاص في أي دعوى يقيمها صاحب العمل على العامل بخصوص شرط عدم المنافسة، بينما لا صلاحية لوزارة العمل في البتّ في هذا الموضوع».
كل النزاعات التي تقوم بين العامل و صاحب العمل خاصةً بعد انتهاء خدمة العامل لديه، هي من اختصاص القضاء، ولا يملك مفتش العمل ولا أي جهاز في وزارة العمل التدخل في حل النزاع.
ويقر أبو نجمة أنه في ظلّ طبيعة النصوص القانونية في قانون العمل الحالي لا تملك الحكومة، ووزارة العمل بالتحديد، التدخل في أي نزاع من اختصاص القضاء، وهذا يعني أن كل النزاعات التي تقوم بين العامل و صاحب العمل خاصةً بعد انتهاء خدمة العامل لديه، هي من اختصاص القضاء، ولا يملك مفتش العمل ولا أي جهاز في وزارة العمل التدخل في حل النزاع.
وبحسب أبو نجمة ومحامين آخرين، لكي يكون «شرط عدم المنافسة» صحيحًا وقانونيًا يجب أن تكون طبيعة عمل الموظف تقتضي الاطلاع على أسرار العمل، و أن يكون إفشاء هذه الأسرار يشكل ضررًا لصاحب العمل إذا عرفها منافس، وأن يكون الشرط محددًا بالزمان، بحيث يتم تحديد المدة الزمنية شرط عدم المنافسة ولا يكون الزمن مطلقًا. بالإضافة إلى أن يكون الشرط محددًا بالمكان، بحيث يتم تحديد المكان الذي يحظر على العامل العمل فيه، ولا تكون مساحة جغرافية واسعة، وأن يتم تحديد طبيعة العمل التي يحظر على العامل العمل فيها بحيث إذا انتقل العامل إلى شركة منافسة بمسمى مختلف عن المذكور في الشرط لا يعتبر ذلك مخالفة لشرط عدم المنافسة.
التقاضي في حال الإخلال بعقود تضم «شرط عدم المنافسة»
لا تمتلك وزارة العمل إحصائية بعدد مخالفات «شرط عدم المنافسة»، فقد أدرجته ضمن مخالفات «عدم الامتثال» في إطار العقود والموارد البشرية، التي بلغت 494 مخالفة، وبلغت المخالفات التي لم تصنف وضمت لبند «أخرى» 3132 مخالفة. وكانت وزارة العمل باشرت، لغايات إعداد تقريرها السنوي لعام 2019، بعملية تصنيف المخالفات لتحديد مخالفات عدم امتثال أصحاب العمل للمتطلبات القانونية لشرط عدم المنافسة، وفق ماهو منصوص عليه في قانون العمل والقانون المدني، إلا أن التقرير لم يصدر حتى الآن نظرًا لتعطيل الدوائر الرسمية بسبب جائحة كورونا.
من جهتنا فقد وثق هذا التحقيق 20 مخالفة قانونية لـ«شرط عدم المنافسة»، تعامل القضاء معها ونظرت أمام المحاكم الأردنية خلال الأعوام 2009- 2019. الدعاوى هذه رفعتها شركات للمطالبة بقيمة «شرط عدم المنافسة» من موظفيها الذين تركوا العمل لتأسيس مشروعهم الخاص أو انتقلوا لشركات منافسة.
وحكمت المحكمة لصالح الموظف في 15 من هذه القضايا الـ20. وفي جميع هذه الحالات لم يتوفر الشرط المتعلق بنوع العمل، ولم يتوفر شرط الاطلاع على الأسرار في 13 منها، بينما لم يتوفر شرط تحديد المكان في 9 منها، وتحديد الزمان في اثنتين.
وبمقارنة إجراءات التقاضي في العشرين قضية المرصودة نجد تفاوتًا واضحًا في تقدير قانونية «شرط عدم المنافسة» من قبل محاكم الدرجة الأولى (البداية)، ومحاكم الدرجة الثانية (الاستئناف). حيث ظهر في بعض القضايا أن محكمة الدرجة الاولى اعتمدت الشرط في العقد، ثم ردت محكمة الاستئناف الحكم واعتبرت الشرط مخالفًا للمادة 818 من القانون المدني، وحرمانًا من العمل واعتداءً على حرية العمل التي كفلها الدستور.
يظهر ملف قضية لسيدة في شركة توظيف توقيعها على شرط يلزمها بعدم العمل لدى شركة توظيف أخرى خلال سنة من تاريخ تركها للعمل لأي سبب، وبخلاف ذلك تلتزم بدفع خمسة آلاف دينار أردني كشرط جزائي. وبمتابعة إجراءات التقاضي تبيّن أن محكمة البداية اعتبرت الشرط الوارد في العقد صحيح وأصدرت قرارها بإلزام الموظفة بقيمة الشرط الجزائي. وعندما وصلت القضية إلى محكمة الاستئناف، قررت المحكمة فسخ الحكم وإعادة المحاكمة من جديد، بسبب أن محكمة البداية لم تناقش طبيعة عمل الموظفة في الشركة، ولم تثبت الضرر الواقع على الشركة.
أعيدت المحاكمة من جديد وأثبتت المحكمة أن طبيعة عمل الموظفة في الشركة الجديدة تختلف عن طبيعة عملها السابق، كما لم يثبت للمحكمة وقوع أي ضرر أو تسريب أسرار؛ فأصدرت المحكمة قرارًا جديدًا يتضمن ردّ الدعوى وعدم قبولها، والحكم لصالح الموظفة.
تعلق المحامية والناشطة الحقوقية هالة عاهد على هذه الحالة بالإشارة إلى أن النصوص القانونية عامة وغير محددة، فالمهن لا تخضع جميعها لشرط عدم المنافسة. وتلفت إلى أن هذا البند (الشرط) يثير الكثير من التساؤلات بسبب تعارض النصوص القانونية بشأنه، وتضارب المصالح أيضًا، وبسبب غياب الموازنة في العلاقة بين صاحب العمل والعامل؛ فالقانون المدني أعلى من مصلحة صاحب العمل على حساب العامل، في حين أن المادة الرابعة من قانون العمل نصت على عدم قانونية الشروط الواردة في عقد العمل التي تنتقص من حقّ العامل.
يؤيدها في ذلك محمد أبو بكر، عميد كلية الحقوق في جامعة الزيتونة، ملقيًا باللوم على المشرّع الأردني، الذي لم يعالج في قانون العمل حتى الآن شرط عدم المنافسة، ولم يعالج الأسباب الموجبة لوضع هذه الشروط، التي يعتبرها باطلة لأنها تتنافى مع مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والدستور الأردني ومع نص المادة الرابعة من قانون العمل.
ما هو دور وزارة العمل؟
وزارة العمل مناط بها تقديم استشارات قانونية للأفراد والمؤسسات، وإجراء تقييم دوري لمدى انسجام سياسات وتشريعات العمل مع احتياجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومعايير العمل الدولية والعربية. وتقف الوزارة عاجزة حتى الآن عن حل هذه الإشكاليات، ولا يعرف موظفوها كيف يمكنهم تقديم إجابة شافية لمن يلجأ إليها بهذا الخصوص. «في ظل القوانين الحالية لا يمكن الاتفاق على نص للشرط يحقق التوازن بين مصلحة العامل ومصلحة صاحب العمل إلا في حالة واحدة تكون على شكل تعهد بكتمان أسرار العمل فقط لا غير، وليس شرطًا يدخل بتقيد حرية العامل بالعمل».
ردّ الوزارة الرسمي على تساؤلاتنا كان أن «للعامل ثلاثة خيارات في التظلم؛ أولها الشكوى لنقابته المنتسب إليها والتي ليس لها سلطة قانونية، أو من خلال مديرية التفتيش بوزارة العمل، التي تجبر ربّ العمل على تعديل البند إذا اتضح أنه مخالف، أو اللجوء للمحاكم».
يرى المحامي طارق الحويطي، خبير التعويضات المادية والمعنوية والمحكم والمفاوض الدولي، أنه «في ظل القوانين الحالية لا يمكن الاتفاق على نص للشرط يحقق التوازن بين مصلحة العامل ومصلحة صاحب العمل إلا في حالة واحدة تكون على شكل تعهد بكتمان أسرار العمل فقط لا غير، وليس شرطًا يدخل بتقيد حرية العامل بالعمل».
كما يعتقد المحامي أيمن أبو شرخ أن شرط عدم المنافسة، والمتعلق حصرًا بمنع الموظف من العمل لدى صاحب عمل آخر يتعاطى ذات المهنة، هو شرط باطل دستوريًا، كون الدستور الاردني قد أعطى العامل حرية العمل، واعتبرت المحاكم الأردنية ومن ضمنها محكمة التمييز، في العديد من القرارات، أن الشرط الوارد في عقد العمل حول عدم المنافسة هو قيد استثناء ورد على المادة (23) من الدستور، والذي هو القانون الأعلى مرتبة، حيث كفلت هذه المادة حقّ العمل للجميع. إلا إذا كان العمل الذي مارسه العامل قد أفشى من خلاله أسرار صاحب العمل القديم، وقام باستجلاب زبائنه لمصلحته.
ليس مستغربًا إذن أن تستمر الشركات بوضع بند «عدم المنافسة» -الذي أقره القانون- في عقود موظفيها بطريقة غير قانونية؛ حيث تغيّب عنه التفاصيل المحددة لطبيعة العمل، والأسرار التي يخشى تسريبها، أو الفترة الزمنية الملزمة للعامل، أو الأماكن التي لا يسمح له بالعمل فيها. كل ذلك يضع الموظف الذي يقبل بالتوقيع على عقد يتضمن هذا البند أمام خيارين صعبين؛ فإما يجد نفسه مطالبًا قضائيًا بدفع قيمة شرط جزائي تتعدى قيمة راتبه الهزيل أضعافًا مضاعفة إذا ترك وظيفته، أو يقبل الاستمرار في عمله قسرًا.
* أسماء مستعارة بناءً على طلب أصحابها.
أنتجت شبكة أريج للصحافة الاستقصائية هذا التقرير وينشر بالتنسيق معها.