عن الحق في الموت بسلام: الجدل حول قرار عدم الإنعاش

الأحد 26 أيار 2024
تصميم محمد شحادة.

في نهاية 2015، شُخّصَ والدي (74 عامًا) بالتهاب الكبد المناعي. على مدار ثلاث سنوات، أُعطِيَ أدوية تخفيض المناعة، وعانى من الهزال وفقدان الوزن واضطرابات في الأكل والشرب، وأصيب باختلالات في وظائف الكبد وزلال الجسم، ما جعله يعاني بشكل دوري من تورمات وانتفاخات في الأطراف السفلية نتيجة احتباس سوائل الجسم، ليدخل إلى أحد المستشفيات الخاصة في عمّان عدة مرات بسبب الغيبوبة الكبدية واليرقان. يضاف إلى ذلك إصابته السابقة بداء السكري ومرض الانسداد الرئوي المزمن بسبب التدخين في سن مبكرة.

بحلول أيلول عام 2018، أصيب والدي بالتهاب الحلق الفيروسي، وظهرت عليه أعراض الزكام الخفيفة، ثم تفاقمت الأعراض بدءًا من ارتفاع الحرارة ثم التعب الشديد، وصولًا إلى ضعف الحركة واختلال التوازن، ليدخل إلى المستشفى ويتبين أن لديه التهابًا رئويًا حادًا مع تسمم في الدم. كان مستوى الأكسجين في الدم منخفضًا، وتنفسه سطحيًا وسريعًا، وضغطه هابطًا، وحرارته مرتفعة، ونبضه ضعيفًا وسريعًا. خلال بضعة ساعات، نُقل من قسم الطوارئ إلى قسم العناية الحثيثة، ليمكث فيه خمسة أيام، ثم يفارق الحياة.

خلال تلك الأيام الخمسة، عاينت عن كثب تدهور حالته الصحية. فقد وضع بدايةً على قناع التنفس الخارجي، وأعطي مضادات حيوية لمعالجة الالتهاب الرئوي والتسمم في الدم. ومع استمرار هبوط نسبة الأكسجين، وضع على جهاز التنفس ذي الضغط الإيجابي المستمر، حتى تم تخديره بصورة كاملة وإدخال أنبوب التنفس من الفم إلى الرئتين، ليوضع على جهاز التنفس الاصطناعي مع فجر اليوم الثالث. بقي والدي على تلك الحال حتى صباح اليوم الأخير من حياته. حينها، أخبرنا الأطباء أنه يعاني من فشل في وظائف القلب والرئتين والكبد والكلى.

قبل وفاته ببضعة أشهر، وبعد خروجه من المستشفى بسبب الغيبوبة الكبدية، طرحت على أحد أفراد أسرتي خيار عدم الإنعاش القلبي الرئوي في حال تدهور حالته الصحية، إذ لم أكن أطيق رؤية والدي يكابد آلام الاحتضار والموت عند اقتراب أجله، كما خبِر الوهن والضعف والعذاب بجسد متألم في حياته جراء علله وأمراضه. كان مجرد طرح الفكرة على الأهل بمثابة اعتراف بقرب الموت وحتمية الفناء، ولا شك أن الإنكار كان سيد الموقف، إذ بدا لهم هذا النقاش مبكرًا ولا يجب تداوله، ولم يحسم آنذاك.

بعد أن أخبرنا الأطباء عن فشل وظائف الأعضاء الحيوية في صباح اليوم الأخير من حياته، عاودت طرح فكرة عدم الإنعاش على أسرتي، لقناعتي بأن حالته الصحية لا يمكن أن تتحسن، وأن أمامه ساعات معدودة حتى يفارق الحياة. استجمعت قواي وجمعت أفراد العائلة في استراحة مرافقي المرضى المجانبة لقسم العناية الحثيثة حيث يمكث، وطرحت عليهم فكرة عدم جدوى الإنعاش القلبي الرئوي في حالة توقف القلب، وأبلغتهم أنني لا أريد تعريض أبي لأي ضغط خارجي على الصدر ولا للصدمات الكهربائية، حيث كان لا يزال موضوعًا على الأدوية التي ترفع الضغط والنبض وموصولًا على جهاز التنفس الاصطناعي.

تباينت وجهات نظر أسرتي بين مؤيد لأن يمضي والدي بسلام بشكل طبيعي والتسليم بأن الموت والحياة بيد الله، وبين معارض للقرار بحجة أن عدم الإنعاش بمثابة تقصير وعدم أخذ بالأسباب ببذل الجهد لإنقاذ المريض، وأن على الأطباء أن يفعلوا ما بوسعهم حتى النهاية، وأن عدم الإنعاش هو تدخل في إرادة الله. كان الله حاضرًا في صلب النقاش دومًا، وكان تأويل إرادته موضع اجتهاد، فالموقف مشحون بالعواطف والمشاعر المتناقضة في ظل عدم قدرتنا على فعل شيء. فمن جهة، نعلم أن والدي لن يعيش أكثر من بضع ساعات، ومن جهة أخرى نرغب بوجوده حيًا حتى ولو لم يتفاعل معنا. لكن في النهاية، تغلب رأيي بأن إجراء الإنعاش لن يعيده للحياة، وأن في ذلك أنانية وقسوة ستزيد من معاناته وتفاقم من ألمنا في نفس الوقت.

بعد أن تجاوزت أسرتي مرحلة الإنكار، طرحت فكرة عدم الإنعاش على الطبيب المناوب في قسم العناية الحثيثة، الذي وافقني بأن الضغط الخارجي على الصدر والصدمات الكهربائية لن تفيد والدي في حال توقف عضلة القلب التام.

وقعت مع أفراد أسرتي على نموذج قرار عدم الإنعاش، وكان مقسمًا لشقين: الأول يتعلق بالإنعاش القلبي من حيث استخدام الأدوية التي ترفع الضغط والنبض، واستخدام الضغط الخارجي على الصدر والصدمات الكهربائية في حال اختلال نظمية القلب. والثاني يتعلق بالإنعاش الرئوي الذي يتطلب إدخال أنبوب التنفس الاصطناعي في حالة توقف الرئة لديه. لكن والدي كان موضوعًا بالفعل على جهاز التنفس الاصطناعي، لذلك اقتصر قرار عدم الإنعاش على عدم إنعاش القلب في حال توقفه.

في ظهيرة ذلك اليوم، انخفضت نبضات قلب والدي تدريجيًا، ليتم رفع نبضه بزيادة أو تعديل جرعات رافعات النبض والضغط. أبديتُ غضبي من هذا الإجراء رغم توقيعنا على قرار عدم الإنعاش. احتدت لهجة الطبيب الذي ناقشته مسبقًا حول عدم جدوى الإنعاش، وأخبرني أنه لن يستخدم الصدمات الخارجية ولا الضغط الخارجي على الصدر، إلا أنه أبدى تشككًا غير مفهوم تجاه رغبتنا بعدم استخدام الأدوية. بقي والدي على حالته تلك، حتى فارق الحياة مساءً.

قبل تشخيص والدي بالتهاب الكبد المناعي، كنتُ أعمل في مركز الحسين للسرطان ممرضةً في قسم الطوارئ، وهو المكان الأنسب لاختبار الحياة والموت. شاهدت العديد من مرضى السرطان الميؤوس من شفائهم، وبعضهم أدرج على قرار عدم الإنعاش إما بطلب من المريض نفسه أو بعد مناقشة الأطباء للقرار مع المريض أو مع ذويه. شغلتني إشكالية النزاع حول قرار عدم الإنعاش منذ وفاة والدي، سواء في الحالات التي كان يستشيرني فيها الأقارب، أو عند تناول القرار مع الأصدقاء والمقربين، خصوصًا من لديه قريب أو صديق أو حبيب مريض ميؤوس من شفائه. فاتخاذ قرار عدم الإنعاش في غاية التعقيد والصعوبة لأهل المريض وأحبائه، حيث تختلط المشاعر في مواجهة حقيقة الموت والفناء واختبار آلام الفقد والانفصال. فالقرار بمثابة اعتراف بهشاشة الحياة وتسليم بحتمية الفراق والفقد وإقرار بعجزنا عن إنقاذ أحبائنا من مصيرهم المحتوم.

تتباين وجهات النظر وردود الأفعال في مختلف دول العالم إزاء قرار عدم الإنعاش على أسس ثقافية أو دينية أو فلسفية، وليس الأردن استثناءً في هذا المجال. فهناك من يرى أن من حق المريض أن يموت بسلام ودون ألم، وهي وجهة نظر أغلب الأطباء الذين تمت مقابلتهم لغرض إعداد هذا التقرير. فمعظم من يعمل في القطاع الطبي يتبنى لنفسه أو لأحد أقاربه تنفيذ قرار عدم الإنعاش إن كان مصابًا بمرض عضال لا يرجى شفائه، فالكادر الطبي على دراية أفضل بمقدار الآلام والعذابات التي ستواجه المريض نتيجة الإنعاش القلبي الرئوي في الحالات الميؤوس من شفائها. وهناك من يرى في قرار عدم الإنعاش تدخّلًا في الموت، وإشارة إلى أن الأطباء أو الكادر الطبي لم يفعلوا ما بوسعهم لإنقاذ المرضى. وتنطوي وجهة النظر هذه على أبعاد ثقافية ودينية بأن الموت والحياة بيد الله وعلى الطبيب أن يأخذ بالأسباب ويبذل ما بوسعه لإنقاذ المريض حتى الرمق الأخير.

لكن رغم أن كثيرًا من الناس واجهوا قرار عدم الإنعاش القلبي الرئوي في حالات قريبة منهم أو سمعوا بها من آخرين، ورغم أن قرار عدم الإنعاش القلبي من القرارات الطبية المعروفة جيدًا في مجال الطب، إلا أن القرار لم ينل حظه من النقاش في الأردن في المجال العام، إذ اقتصر التداول والنقاش على نخبة ضيقة من الأطباء المختصين، وبقي مجهولًا نسبيًا لدى معظم الناس.

ما هو قرار عدم الإنعاش القلبي الرئوي وكيف تطور؟

يشير مصطلح قرار عدم الإنعاش (Do Not Resuscitate: DNR) إلى عدم تطبيق الإنعاش القلبي الرئوي للمرضى الميؤوس من شفائهم والسماح لعملية الموت الطبيعي أن تأخذ مجراها دون تدخل طبي يعيقها. والمرضى الميؤوس من شفائهم هم الذين أصبح تطورهم المرضي لا رجعة فيه بعد استنفاذ كافة وسائل وآليات العلاج، ووصل تطورهم المرضي مرحلة تتجاوز القدرة المعرفية الطبية والتقنية على وقفه، وأصبح موتهم محتومًا.[1]

الإنعاش القلبي الرئوي (Cardiopulmonary Resuscitation: CPR) هو إجراء طارئ أولي لدعم الحياة، في حالة السكتة القلبية الرئوية.[2] ويشمل مجموعة من الإجراءات اللازمة لتزويد الجسم بالأكسجين والحفاظ على تدفق الدم لجميع أجزاء الجسم، من خلال الضغط الخارجي على الصدر ونفخ الهواء عن طريق الفم داخل الرئتين، ويستطيع أي شخص تدرب على الإسعافات الأولية أن يقوم بها.[3] أما في حالة السكتة القلبية الرئوية داخل المستشفيات، فيتم إجراء إنعاش قلبي رئوي متقدم. فبالإضافة إلى نفخ الهواء داخل الرئتين عن طريق مضخة الأكسجين اليدوية، والضغط الخارجي على الصدر، قد تستخدم الصدمات الكهربائية من جهاز مزيل الرجفان الخارجي لإعادة ضبط نظمية القلب في حال اختلالها، وتستخدم الأدوية التي ترفع من ضغط ونبض المريض، ويتم إدخال أنبوب التنفس من الفم إلى الرئتين ليوصل مع جهاز التنفس الاصطناعي بعد تخدير المريض بشكل كامل وبعد عودة النبض للمريض.

تعتمد الكوادر الطبية في مستشفيات الأردن على بروتوكول جمعية القلب الأمريكية في عملية الإنعاش القلبي الرئوي. ويحدد الإنعاش القلبي الرئوي الأولي والمتقدم بجولات تعاد كل دقيقتين كاملتين، بعد التحقق من نبض المريض. وتختلف كل جولة بحسب وضع المريض الصحي من حيث اختلال نظمية القلب وعلاماته الحيوية الأخرى كالتنفس وضغط الدم.

بدأ استخدام تقنية الإنعاش القلبي الرئوي في الغرب منتصف خمسينيات القرن الماضي، وخاصة للمرضى الذين توقف قلبهم بعد تخديرهم.[4] قبل ذلك، كان الأطباء يعالجون من يصاب بمرض عضال وهو على سريره في المنزل، وكانت وظيفة المستشفيات الإشراف بالدرجة الأولى. ولكن الصورة تغيرت بشكل كبير بعد الحرب العالمية الثانية، مع ظهور وتطور المضادات الحيوية التي عالجت الأمراض المعدية، بالإضافة إلى اكتشاف أدوية ضغط الدم ومعالجة الاختلالات الهرمونية، وحدوث قفزات نوعية من جراحة القلب والتنفس الاصطناعي وزراعة الأعضاء. فأصبح الأطباء آنذاك أبطالًا وتحولت المستشفيات من رمز للمرض واليأس إلى مكان يوفر العلاج وينقذ الحياة.[5]

لكن رغم أهمية الإنعاش القلبي الرئوي لإنقاذ من توقف قلبه، إلا أنه يمكن أن يؤدي لإطالة أمد معاناة بعض المرضى ومصيرهم المحتوم.

بدأ استخدام تقنية الإنعاش القلبي الرئوي في الغرب منتصف خمسينيات القرن الماضي، ورغم أهميته لإنقاذ من توقف قلبه، إلا أنه يمكن أن يؤدي لإطالة أمد معاناة بعض المرضى ومصيرهم المحتوم.

في شباط عام 1968، نشر الطبيب ويليام سانت كلير سايمرز تقريرًا في المجلة الطبية البريطانية بعنوان «عدم السماح بالموت»،[6] عن حالة طبية لمريض في عمر الثامنة والستين، وهو طبيب أيضًا، انقطع عن ممارسة الطب قبل خمسة أعوام بسبب احتشاء في عضلة القلب حدّ من قدرته على ممارسة حياته الطبيعية. جاء هذا المريض إلى المستشفى بآلام شديدة في المعدة، واعتُبرت هذه الآلام ذات علاقة باحتشاء عضلة القلب السابق. لكن مع إجراء الفحوصات التشخيصية والإشعاعية والنسيجية اللازمة، شُخّص بالسرطان الغدّي الأولي الخبيث، وكان السرطان قد انتشر إلى العقد اللمفاوية البطنية والكبد، مع وجود بقع سرطانية ثانوية على الفقرات الصدرية والقَطَنية السفلية. وأزيلت المعدة كإجراء تلطيفي لمنع اختراق السرطان للتجويف الصفاقي.[7]

أُخطر المريض بحالته، وبقي على مسكنات الألم الأفيونية. وفي اليوم العاشر لإزالة المعدة، تعرض لجلطة رئوية كبيرة أزالها الطاقم الطبي. وعندما تعافى منها، عبّر عن امتنانه العظيم للطاقم الطبي على نواياهم الطيبة ومهاراتهم العالية، ولكنه طالبهم عند تعرضه في المرة القادمة لأي انهيار في وظيفة القلب بألا يتخذوا أي خطوات لإطالة حياته، لأنه لا يستطيع تحمل الألم الناجم عن السرطان أكثر من ذلك، وترك للطاقم الطبي ملاحظة بذلك في ملفه الطبي. بعد أسبوعين من إزالة الجلطة الرئوية، تعرض لاحتشاء حاد في عضلة القلب أدى إلى توقفه. في تلك الليلة، توقف قلبه أربع مرات، وتم إنعاشه من قبل فريق الطوارئ في المستشفى في كل مرة. تعافى جسده ليصمد لثلاثة أسابيع أخرى ولكنه أصبح فاقدًا للوعي، بالإضافة لتعرضه لتشنجات عصبية في كل جسده، تخللتها نوبات من التقيؤ القاذف. زُود المريض بالمغذيات والمحاليل الوريدية اللازمة ونُقل الدم إليه للحفاظ على معادن وسوائل الجسم، وزُود أيضًا بالمضادات البكتيرية والفطرية لمعالجة التهاب الرئتين الناتج عن فتح منطقة الرغامى لتسهيل عملية التنفس. في اليوم الأخير قبل وفاته، حُضّر لوضعه على جهاز التنفس الاصطناعي بسبب فشل مركز التنفس لديه، ولكنه فارق الحياة بسبب التوقف التام لعضلة القلب.

بعدما ظهرت هذه الحالة، وغيرها من الحالات التي تم توثيقها،[8] بدأ الطاقم الطبي في عدد من مستشفيات الولايات المتحدة، في بداية سبعينيات القرن الماضي، يبدي تشككًا حول عملية الإنعاش نفسها، لاعتقادهم بأن الإنعاش القلبي الرئوي لن يكون مجديًا في إنقاذ جميع المرضى، وأصبح من بينهم من يرفض الإنعاش الكامل للمرضى الميؤوس من شفائهم، أو يدفع لاقتصار جولات إنعاشهم على مرة واحدة أو اثنتين. وظهرت كذلك جدالات أخلاقية وقانونية حول استخدام التطورات التكنولوجية من أجل إنقاذ المرضى، وكذلك مَن يتحمل مسؤولية اتخاذ هذا القرار. وبدأ النقاش حول آلية تنفيذ قرار عدم الإنعاش ومناقشته إما مع المريض نفسه أو مع الأوصياء عليه، والتوقيع على ما يسمى بالموافقة المستنيرة لعدم الإنعاش القلبي الرئوي في حالة توقف القلب. وفي عام 1974، اقترحت جمعية الطب الأمريكية إدراج قرار عدم الإنعاش رسميًا في ملفات المرضى.[9]

قرار عدم الإنعاش في الأردن

لا توجد قرارات واضحة من قبل وزارة الصحة الأردنية تسمح بتطبيق قرار عدم الإنعاش في مستشفيات وزارة الصحة أو تمنعه، كما لا يوجد تنظيم قانوني واضح لهذه المسألة. لكن رغم ذلك، يطبق مركز الحسين للسرطان وبعض المستشفيات الخاصة قرار عدم الإنعاش للمرضى الميؤوس من شفائهم، وفقًا لبروتوكلاتهم الخاصة.

لا يوجد تأريخ محدد لبدء استخدام هذا القرار، سواء في مركز الحسين للسرطان أو في مستشفيات الأردن بشكل عام. ولكن الأطباء في الأردن في نهاية السبعينيات من القرن الماضي كانوا يستخدمون مصطلحات أخرى لوصف حالة المرضى الميؤوس من شفائهم، مثل «السماح بالموت الطبيعي» أو «دعه يموت بسلام»، كما يقول المستشار الأول في الطب الشرعي ورئيس لجنة الأخلاقيات الطبية في نقابة الأطباء، الدكتور مؤمن الحديدي، الذي عمل طبيب امتياز في ذلك الوقت.

يشير مدير مركز الحسين للسرطان، الدكتور عاصم منصور، إلى أن قرار عدم الإنعاش كان مطبقًا في بلادنا بشكل أو بآخر قبل ظهور المصطلح في عالم الطب، فالعناية بالمرضى الميؤوس من شفائهم وكبار السن الذين ألمّ بهم المرض كانت تتم في المنزل، حيث كان الموت الطبيعي يحصل. ولذلك يفضل منصور استخدام مصطلح «السماح بالموت الطبيعي» عوضًا عن مصطلح «عدم الإنعاش».

في مركز الحسين للسرطان، يُعتمد قرار عدم الإنعاش، وبغض النظر عن عمر المريض، بعد إقرار طبيب وبتأييد من طبيب آخر أو اثنين. حيث تناقش الحالة الطبية إما مع المريض نفسه قبل تدهور حالته الصحية أو مع المفوض على علاجه، بحسب منصور، بعدها يتم التوقيع على قرار عدم تطبيق الإنعاش القلبي الرئوي في حالة توقف القلب والرئتين، ووضعه في ملف المريض الطبي المحوسب ويظهر كعلامة واضحة للكادر الطبي في كل مرة يتفقد ملف المريض.

لا توجد قرارات واضحة لوزارة الصحة الأردنية تسمح بتطبيق قرار عدم الإنعاش في مستشفيات الوزارة أو تمنعه، كما لا يوجد تنظيم قانوني واضح لهذه المسألة. لكن رغم ذلك يطبقه مركز الحسين للسرطان وبعض المستشفيات الخاصة

تُعتمد معايير طبية معينة لتحديد ما إذا وصل المريض، وخاصة مرضى السرطان، لمرحلة يمكن فيها تطبيق قرار عدم الإنعاش. وتشمل هذه المعايير أعراض وعلامات واضحة في وضع المريض الصحي قد تبدأ بالظهور منذ بداية تشخيص المرض أو بعد استنفاذ الطرق والآليات العلاجية. ويمكن أن تشمل الأعراض فقدان الحركة، واختلال القدرة الذهنية والتعب الشديد، والآلام المبرحة، المصحوبة بانهيار تدريجي أو مفاجئ في العلامات الحيوية، كالنبض والتنفس وضغط الدم وحرارة الجسم، نتيجة اعتلال وظائف الجسم الرئيسية، في جهاز الدوران والجهاز التنفسي والجهاز العصبي، حيث يصبح عندها إجراء الإنعاش القلبي الرئوي في حالة توقف القلب بمثابة إطالة لأمد المعاناة، وفي كثير من الأحيان تزيد من الألم ولا تخففه.[10]

يؤكد الحديدي أن إجراء الإنعاش القلبي الرئوي لهؤلاء المرضى يزيد من معاناتهم، فالضغط الخارجي على الصدر لبدء الإنعاش القلبي الرئوي قد يكسر أضلاع الصدر. وإدخال أنبوب التنفس من الفم داخل الرئتين قد يزيد من معاناة المريض ولا يريحه وقد يؤدي إلى الاختناق لديه. ولذلك، يتم تخفيف الألم عن طريق إعطائه مسكنات الألم على اختلاف أنواعها وبحسب توفرها في المنشأة الطبية. وفي حالة هبوط معدل التنفس، يوضع المريض على قناع التنفس الخارجي للتخفيف من حدة الاختناق. ويتم الحد من أية إجراءات اختراقية[11] لجسم المريض حتى لا تطيل معاناته، إلا إذا كان الهدف منها التخفيف من المعاناة.

تشير أحد الدراسات المراجِعة إلى أن معدلات نجاة المرضى من الإنعاش القلبي لمن تزيد أعمارهم عن الثمانين، ومرضى السرطان المنتشر ومرضى فشل وظائف الأعضاء الحيوية هي أقل من 10%.[12] عدا عن أن الإنعاش القلبي لهؤلاء المرضى يزيد من مراضتهم، بما يشمل دخولهم لوحدة العناية الحثيثة لفترات أطول، واحتمالية كسر في الأضلاع الصدرية، بالإضافة إلى إصابتهم بخلل إدراكي دائم أو مؤقت.

لا يتعلق تطبيق قرار عدم الإنعاش بالمرضى الميؤوس من شفائهم من السرطان فحسب، بل هناك العديد من الأمراض التي تؤدي إلى اعتلالات دائمة في وظائف الجسم لا رجعة فيها، كالتطور المرضي للأمراض المزمنة كالضغط والسكري، وأمراض جهاز الدوران والجهاز التنفسي والجهاز العصبي وأمراض المناعة الذاتية وأمراض الالتهابات المتقدمة وفشل الأعضاء الحيوية وغيرها.

يشدد الدكتور عمر شامية، رئيس قسم العناية التلطيفية في مركز الحسين للسرطان، إلى جانب منصور، على حق المريض بعرض نقاش عدم الإنعاش عليه قبل تدهور حالته الصحية، ومن ثم إشراك ونقاش وموافقة جميع ذوي المريض من الدرجة الأولى في القرابة، في حالة فقدان المريض للوعي. ويتفقان على ضرورة عدم إخفاء المعلومات الطبية عن المريض، ومن ضمنها قرار عدم الإنعاش من عدمه، وعلى تدّرج عملية إعطاء المعلومات بما يحفظ كرامة ووضع المريض الصحي، وبما يراعي وضعه التعليمي والثقافي.

يرفض شامية ما يمارسه بعض ذوي المرضى بإخفاء التطور المرضي عنهم بحجة حمايتهم، ويحيل هذه الممارسات إلى عدم وجود قانون يحمي خصوصية المريض وحقه باتخاذ قراراته العلاجية بنفسه دون تدخل أطراف أخرى. حيث يعلم جميع ذوي المرضى المعلومات الطبية عن مريضهم من الكادر الطبي، الذي قد يخفي المعلومات الطبية عن المريض إما حرجًا من المرضى، أو لعدم إلمامه بالإجراءات التي يجب القيام بها والتي يجب تجنبها، أو بطلب من ذوي المرضى، أو لعدم وجود المهارات اللازمة لإيصال المعلومة للمرضى. فيتخذ جميع ذوي المرضى القرارات الطبية نيابة عن المريض في حال فقدانه الوعي. وفي حالة عدم إجماعهم على قرار عدم الإنعاش، يتم تطبيق الإنعاش القلبي الرئوي على المريض على الرغم من عدم جدواه في المراحل المتقدمة والميؤوس من شفائها. من جهة أخرى، وبحسب شامية، لا يوجد في الأردن ما يسمى بقانون الوصاية الطبية التي تحدد للمريض من يتخذ القرارات نيابة عنه في حالة فقدانه الوعي وأصبح لا يستطيع أن يتخذ القرارات بنفسه.

يقول الحديدي إن المرضى قد يختارون بأنفسهم من يفوض على علاجهم، وليس بالضرورة أن يكون من الدرجة الأولى في القرابة، ففي بعض الأحيان قد يحال اتخاذ القرار عن المرضى إلى ذويهم من الدرجة الثانية أو الثالثة. ولكن في معظم الحالات في الأردن، فإن من يتخذ القرارات الطبية عن المرضى في حال التدهور الصحي للمريض، هم الرجال من الدرجة الأولى في القرابة.

من جهة أخرى، يؤكد شامية أنه يحق للمريض أو المفوض عنه تغيير رأيه في أي لحظة، حتى لو وافق على القرار في البداية، باعتبار قرار عدم الإنعاش قرارًا طبيًا كأي قرار أو إجراء طبي آخر يحق للمرضى أو ذويهم قبوله أو رفضه.

التسليم بقرار عدم الإنعاش

في كثير من الحالات، يتأثر قرار عدم الإنعاش من عدمه بوضوح الحالة المرضية للمريض لديه ولدى ذويه، ومدى فهمهم لتدهور حالته، ومدى صراحة الأطباء في نقلها.

في أواخر عام 2021، بدأت أعراض التعب والهزال تظهر على زين[13] (18 عامًا). وفي منتصف نيسان عام 2022، بدأ يشعر بآلام في عظام الرجلين وعظام الصدر، وظهرت عليه أعراض الالتهاب الرئوي. تأخر تشخيص زين بعد محاولات عدة لمعرفة سبب عدم تحسن صحته لمدة شهرين، حتى شُخّص بسرطان الدم الحاد (Acute Lymphocytic Leukemia) في حزيران من العام نفسه في مركز الحسين للسرطان. شرح طبيب الأطفال المعالج لوالد زين خطة العلاج التي قد تستغرق ستة أشهر، وأخبره أن احتمالات الشفاء والوفاة متساوية في أية مرحلة من مراحل الخطة العلاجية. وافق والد زين على خطة العلاج، بالتوقيع باعتباره المفوض على علاج ابنه.

تلقى زين خمس جرعات من العلاج الكيماوي على مدار أربعة أشهر، انخفضت نسبة السرطان خلالها لأقل من 1% وتحسنت صحته كثيرًا، واحتفل هو وعائلته بهذا التحسن. تم تحضيره بعدها لإجراء زراعة لنخاع العظم بعد تطابق شبه تام للخلايا الجذعية مع والدته. قبل إجراء الزراعة، أعطي زين الجرعة السادسة من العلاج الكيماوي لكي يقضى على آخر نسبة تبقت من الخلايا السرطانية حتى يتمكن الأطباء من إجراء زراعة النخاع دون وجود أي احتمالية لوجود السرطان. لكن بعد الجرعة الأخيرة، عاودت الخلايا السرطانية الظهور بنسبة 84%، وتدهورت حالته الصحية كثيرًا بعدها. مكث زين في المستشفى لمدة شهر ونصف بعد تلقيه الجرعة الأخيرة من العلاج الكيماوي، ليتوفى بعدها في بداية كانون الأول عام 2022.

في كثير من الحالات، يتأثر قرار عدم الإنعاش من عدمه بوضوح الحالة المرضية للمريض لديه ولدى ذويه، ومدى فهمهم لتدهور حالته، ومدى صراحة الأطباء في نقلها.

عانى زين بعد الجرعة الأخيرة من العلاج الكيماوي من انخفاض حاد في الصفائح الدموية وكريات الدم الحمراء التي تطلبت نقل الدم والصفائح الدموية له بشكل دوري حتى لا يحدث النزيف، ومن عودة الآلام المبرحة في عظام ومفاصل الجسم وخاصة عظام الركبة، بالإضافة إلى تجمع السوائل في الصدر والأطراف السفلية والعلوية. وقبل وفاته بأسبوعين، عانى من أوجاع وآلام في المعدة لم يعرف سببها إلا قبل يومين من وفاته.

حينها، استيقظ زين صباحًا ليتمشى في ممر القسم، ثم عاد إلى غرفته، ودخل الحمام. نادى أخاه وأخبره أنه يشعر بالدوار. فتح شقيقه باب الحمام والتقط زين ووضعه على الفراش، وبدأ زين بالصراخ بحدة من شدة ألم المعدة، وبعدها بدأت التشنجات العصبية في جسده. أصرّ شقيقه على معرفة سبب الألم المبرح الذي تضاعف لأخيه، ليتبين وجود جرثومة المعدة الحلزونية، حيث أعطي مسكنات الألم والمضادات الحيوية اللازمة للتخفيف من ألمه بالإضافة إلى مضادات التشنج.

في اليوم نفسه، أُبلغ شقيقه بأن حالة زين تسوء وقد تخرج عن السيطرة، وطرح الأطباء عليه وضعه على قرار عدم الإنعاش: «حكولنا إنت شايف كيف حالته.. وعرضوا علينا عدم الإنعاش وإنه من حقكم ترفضوا، بس إنه هذا عذاب إله». أخبر شقيق زين أهله أن الأطباء خيّروه بين أن ينقل زين إلى غرفة العناية الحثيثة، مع إخبارهم بأن إجراء الإنعاش القلبي الرئوي ووضعه على الأجهزة ستزيد من عذاباته، أو بين وضعه على قرار عدم الإنعاش، ليكون أمام أعين الأهل حيث سيعطى مسكنات الألم التي ستجعل الألم في أدنى حد، ولكنه لن يستطيع التجاوب معهم.

سلّم الأهل لقرار عدم الإنعاش ليبقى زين على مسكنات الألم، رغبة منهم في ألا يعاني أكثر. يقول والد زين: «قلتلهم هيك أحسن.. إذا ما في خيار ثالث ويكون قدامنا مع المخدر، يضل عنا أحسن». أما شقيقه فيصف صعوبة القرار عليه، إذ كان يراوح ما بين التكذيب والتصديق بأن زين في المراحل الأخيرة في مرضه، خاصة أنه رآه يتحدث ويتحرك قبل يومين. ولكنه أدرك بعد التشنج الأخير وآلام المعدة الحادة أن جسد شقيقه ينهار: «إحنا مآمنين بقضاء الله وقدره، وما بدنا إيّاه يتعذب ولا يعيش على الأجهزة.. اللي بحب حدا ما بقبلّه الأذيّة». فضّل والد زين وشقيقه عدم إخبار والدته بما قاله الأطباء عن قرار عدم الإنعاش، خشية تأثرها بهذا القرار الصعب. بقي زين بعدها لمدة يوم كامل على مسكنات الألم في حالة من انعدام الوعي حتى وفاته في فجر اليوم الذي يليه.

ترتبط مناقشة الأطباء لقرار عدم الإنعاش بمناقشة التطور المرضي للمريض وذويه، وبحق المرضى وذويهم بمعرفة التفاصيل الصحية والطبية للمرض، فيما يسمى بالأدبيات الطبية والأخلاقية وخاصة في المراحل المتقدمة من المرض بـ«نقل الأخبار الطبية السيئة». كانت الإشكالية التي تحدث عنها أهل زين في أن هنالك تصريحات غير واضحة من الأطباء حول الوضع الصحي والتطور المرضي لزين قبل وضعه على قرار عدم الإنعاش.

لم يفهم أهل زين مسار التدهور السريع لحالة ابنهم بعد الجرعة الأخيرة من العلاج الكيماوي، إذ أُبلغوا بعد أسبوعين من الجرعة الأخيرة باستنفاذ كافة السبل العلاجية للشفاء، وأن أمام ابنهم أسبوع أو شهر أو في بعض الأحيان ستة أشهر، وسئلوا إذا ما أرادوا إرساله للعلاج خارج الأردن. كانت صدمتهم كبيرة. يقول والد زين إن الطبيب المعالج قال له: «لازم تشوفوله دكتور من برا.. إذا بتقدر تسفرّه، لأنه ما ضل عنا علاج إله». أما شقيقه فيقول «اختلف وضعه بشكل مو طبيعي، ليش اختلف؟.. ليش بيرجع [المرض] أقوى من قبل؟». لم يجدوا إجابات شافية. كانت تفسيرات الأطباء لما يحصل من تدهور لجسد زين عصية على الفهم بالنسبة لأهله، ولا تتم إلا بلغة المصطلحات الطبية التي لا يفهمها معظم الناس، وباللغة الإنجليزية.

يتحدث الدكتور مؤمن الحديدي عن حق المريض والمفوضين على علاجه بمعرفة تشخيص المرض والتطور المرضي، وأن نقاش التطور المرضي مع المريض وذويه يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الاختلاف الثقافي والتعليمي والاجتماعي لكل حالة. ولكنه يحيل عدم البت في إخبار المرضى والمفوضين على علاجهم عن اقتراب الموت لاختلافات ثقافية في نقل الأخبار الطبية السيئة. فلا يحبذ العديد من المرضى في الأردن بحسب الحديدي أن يقال لهم إن أجلهم يقترب، لأنهم يعرفون ذلك جيدًا ولأن الناس تؤمن بأن الموت والحياة بيد الله، ولكن يقال لهم بحسبه إن مرضهم صعب ولن تتاح لهم فرصة العيش أكثر.

يشير الحديدي في حديثه إلى المادة 19 من الدستور الطبي لنقابة الأطباء، التي تنص على أنه «يمكن إخفاء خطورة المرض عن المريض، ولا يجوز البوح له بالترجيح المميت إلا بكل حيطة وحذر، ولكن يجب أن يحاط الأهل علمًا في حالة إخفاء الأمر على المريض».

يشدد منصور على حق المريض بمعرفة تطوره المرضي وأن المرض لا ينتقص من أهليته، ولكنه يؤكد على ضرورة تقديم المعلومات بالطريقة التي تحفظ كرامة ونفسية المريض، متفقًا مع الحديدي في أنه لا يفضل البوح بالترجيح بحتمية الموت للمريض أو المفوض على علاجه، لأن التطور المرضي قد يختلف من شخص إلى آخر.

تعقيدات تطبيق القرار

يفتح الالتباس القانوني بشأن قرار عدم الإنعاش الباب لتعقيدات مهولة في تطبيقه، وهو ما حدث في حالة نهى[14] (65 عامًا) التي بقيت لمدة شهرين في قسم العناية الحثيثة في مستشفى البشير. فرغم إصرار ابنها جواد[15] على تطبيق قرار عدم الإنعاش عليها، في ظل التدهور الصحي الذي عاينه على جسدها في غضون فترة قصيرة، إلا أن الكادر الطبي لم يلتزم بالقرار وكانت مبرراته غير مقنعة لجواد.

عَلِمَ جواد بوجود قرار عدم الإنعاش قبل ثلاث سنوات، حين توفيت والدة زوجته بسرطان الكبد عام 2021 في بريطانيا. يعبر جواد عن استغرابه عندما سمع لأول مرة بمثل هكذا قرار: «أول مرة سمعت بالـDNR [فكرت] إنه ليش ما بدكمش تنعشوا؟… أكيد ردة الفعل الطبيعية لأي بني آدم أنه لأ، أكيد اعمل أي إشي عشان تحافظ على حياته». لكن بعد حديثه مطولًا مع زوجته وأهلها، وقراءته الموسعة حول هذا القرار واقتناعه بالأذى الذي قد يصيب المريض في المراحل النهائية من حياته، بدأ يفكر في خيار لجوئه هو وإخوته لهكذا قرار إذا ما حصل أي تدهور صحي على حالة والدتهم.

يتحدث جواد عن الفكرة الرومانسية حول الإنعاش القلبي الرئوي التي تصدّر في الأفلام وفي الإعلام السائد، من أن الإنعاش عمل بطولي وينقذ المرضى، وقد يكون هذا صحيحًا، «بس على حساب شو وبأي وضع بينقذ؟». تؤكد بعض الدراسات هذا الاستنتاج،[16] فالانتشار الواسع لحملات الإسعافات الأولية والإنعاش القلبي الرئوي، التي تؤكد على أهمية التدخل الحاسم للناس العاديين في عملية إنقاذ المرضى، لا تتحدث كثيرًا عن احتمالات حدوث الضرر، عدا عن تصوير الإنعاش القلبي الرئوي في وسائل الإعلام، خاصة الأمريكية، باعتباره تدخلًا منقذًا للحياة دومًا، مبالغةً في تقدير نجاعته على أرض الواقع.

في بداية أيار من العام الماضي تعثرت نهى، وكُسِرَ عظم حوضها، ولكنها كانت تستطيع التحرك بواسطة جهاز المشي (الووكر). حتى منتصف الشهر نفسه، كانت زياراتها للمستشفى لأسباب صحية عادية غير مهددة للحياة، كالتهاب في المسالك البولية وانتفاخ في قدمها اليسرى. ومع تكرار الزيارات للمستشفى وتطور وضعها الصحي ليشمل صعوبة في التنفس نتيجة تجمع السوائل المحيطة بالرئة اليسرى (Pleural Effusion)، أعطيت نهى مدرات البول، وأخبرهم طبيب التنفسية بضرورة وجود مولد الأكسجين في المنزل.

في ظل زيادة الزيارات المتكررة إلى المستشفيات، بدأ جواد بالتفكير بعدم الإنعاش. «هون كانت أول مرة بفكر بالـDNR. ما في إشي مهدد للحياة بس بنفوت وبنطلع وبنرجع على إشي جديد. بلشت أفكر بلكي في تدهور قادم؟ إذا صار في تدهور إيش بدنا نعمل؟». كان جواد يخشى انعدام قدرة والدته على الكلام في حال أجري لها إنعاش قلبي رئوي وانقطع الأكسجين عن الدماغ لفترات طويلة، وهو ما قد يفاقم مرض الفصام (Schizophrenia) الذي شخصت به قبل أكثر من 40 عامًا، والذي أصبح مزمنًا مع تقدمها في العمر. كان مرعوبًا من أن تبقى والدته حبيسة أفكارها دون أن يقدر أحد على مساعدتها وطمأنتها، أو معرفة ما يجول بخاطرها من هلوسات وأوهام نتيجة المرض، إذا ما تم إنعاشها. ناقش جواد وقتها فكرة عدم الإنعاش مع أخيه وأخته المغتربين، اللذين استغربا من طرح الفكرة وتسائلا عنها كثيرًا، ولم يتم البتّ في النقاش حينها.

في منتصف حزيران الماضي، دخلت نهى غرفة العناية الحثيثة بسبب انخفاض حاد في مستوى الأكسجين في الدم، بسبب الالتهاب الرئوي الحاد والتسمم في الدم. وُضعت على جهاز التنفس الاصطناعي لمدة يومين ثم أُخرِج، ثم أعيدت عليه مرتين أخريين، حتى تم فتح منطقة الرغامى ووضعها على الجهاز مرة أخيرة. بقيت نهى في غرفة العناية الحثيثة لمدة شهر كامل، وحصل ما كان جواد خائفًا منه بفقدان قدرتها على الكلام بسبب فتح منطقة الرغامى. وبعد رؤية ومعاينة التدهور الصحي على والدته، طرح جواد فكرة عدم الإنعاش على أخته وأخيه مرة أخرى، اللذين وافقاه الرأي في حال تدهورت صحة والدتهم لنقطة لا رجعة منها.

وفي منتصف تموز الماضي، دخلت نهى بصدمة تسممية للمرة الثالثة خلال مكوثها في المستشفى. أخبر الطبيب المعالج جواد بأن الأمور غير مطمئنة، وأن خروج والدته من ثلاث صدمات تسممية بالدم، بالإضافة لعدم تحسن الالتهاب الرئوي، لا يبشر بخير. وقتها، طلب جواد من الطبيب المعالج أن توضع والدته على قرار عدم الإنعاش، ووافقه الطبيب مؤكدًا أن ذلك هو الأمر الصحيح. حاول جواد في اليوم نفسه أن يوقع على نموذج عدم الإنعاش، بعد مناقشة القرار مع الأطباء المناوبين حينها، لكنهم أبلغوه بأنه لا يوجد في مستشفى البشير نموذج لعدم الإنعاش، وأن عليه أن يعود في اليوم الذي يليه. بعد مغادرة جواد للمستشفى، توقف قلب نهى، وأجري لها الإنعاش القلبي.

بعد معرفة جواد بما جرى، أصرّ على توقيع نموذج عدم الإنعاش القلبي. وبعد مفاوضات مع الطبيب المعالج وبعض الإداريين في المستشفى، وقع جواد، باعتباره المفوض على العلاج، على نموذج «رفض تلقي العلاج»، لعدم وجود نموذج رسمي لعدم الإنعاش في مستشفى البشير، ومع توقيع شهود آخرين من الكادر الطبي. كان يُفترض أن يحسم الأمر هنا، لكن ما حصل كان مغايرًا.

«أنا هون شفت العَجَب العُجاب حرفيًا»، يقول جواد. فمنذ منتصف تموز وحتى وفاة نهى في منتصف آب، كانت وظيفة جواد اليومية هي تذكير الكادر الطبي والتمريضي بأنه والدته على قرار عدم الإنعاش. كانت تعقيدات تطبيق القرار من قبل الأطباء غير مبررة وغير مقنعة بالنسبة لجواد. إذ كانت تبريراتهم تتمحور حول أسباب قانونية، لعدم وجود نموذج عدم الإنعاش وعدم الاعتراف بنموذج رفض تلقي العلاج الذي وقعه، بالإضافة إلى عدم تحملهم المسؤولية القانونية لعدم الإنعاش القلبي الرئوي في حال عدم تواجد جواد في غرفة العناية الحثيثة إذا ما توقف قلب والدته. كما عزا بعضهم رفضهم لأسباب دينية، من أن الموت والحياة بيد الله وأن بقائها في هكذا حال له حكمة ربانية وأنه تكفير عن ذنوبها السابقة. هذا عدا عن استغرابهم من إصرار جواد الدائم على وضع والدته تحت قرار عدم الإنعاش.

في كل مرة حاول جواد فيها نقاش الكادر الطبي، كان شعوره بالبؤس والأسى يتفاقم. فجلّ ما أراد معرفته هو السبب الذي يمنع تطبيق قرار عدم الإنعاش في مستشفى البشير بينما يتم تطبيقه في مركز الحسين للسرطان، بالإضافة إلى رغبته في أن يتم نقاشه من قبل الكادر الطبي في التطور المرضي لوالدته من الناحية الطبية، وليس في المبررات الدينية للإنعاش. كان جواد يعلم أنّ الإنعاش القلبي سيطيل من معاناتها وأنه لن تكون لتطبيقه فائدة ترجى خاصة بعد مرورها بثلاث صدمات تسممية، وفي ظل احتمالية كبيرة لفشل الأعضاء الحيوية. ومن جهة أخرى، لم يعلم كيف يمكن أن يقنع الكادر الطبي بأن ما يفعله هو من باب المحبة، لا الأنانية. «كنت ألاقي حالي مضطر أبرر لكادر طبي إني بحب أمي.. كنت أضطر أشرح لهم إني تارك مرتي وابني وشغلي برا سنة وشهرين عشانها».

يتحدث شامية عن الاختلاف في قناعات واجتهادات الكادر الطبي حول قرار عدم الإنعاش، فليس جميع الأطباء على نفس الخبرة الطبية في تقدير التطور المرضي، وليسوا جميعًا على وعي بماهية الإجراءات الطبية التي يجب أن تنفذ والإجراءات التي يجب ألا تنفذ، ومنها قرار عدم الإنعاش للمرضى الميؤوس من شفائهم. ومن ناحية أخرى، يحق للأطباء أن يرفضوا قرار عدم الإنعاش، لأن القرار غير مغطى قانونيًا في قانون المسؤولية الطبية، وبالتالي لا يقع على الأطباء أي مسؤولية قانونية لرفضهم عدم الإنعاش، بينما تقع عليهم مسؤولية أخلاقية، بحسبه. ويركز شامية على إشكالية عامة في المؤسسات الصحية، وهي عدم وجود توافق مؤسسي إداري وطبي حول ما يسمى برعاية نهاية الحياة والعناية التلطيفية، ومن ضمنها قرار عدم الإنعاش القلبي الرئوي للحالات الميؤوس من شفائها.

يؤكد الدكتور وليد الحلبي، مدير قسم الباطنية في مستشفى البشير، عدم وجود أقسام محددة للعناية التلطيفية في البشير، فجميع الأقسام الطبية في المستشفى تقوم بالعملية العلاجية والرعائية على حد سواء، لعدم وجود مخصصات مالية لرعاية نهاية الحياة، بحسبه. بالتالي، تتداخل الإجراءات العلاجية والرعائية مع بعضها البعض في الحالات الميؤوس من شفائها. قبل أسبوعين من وفاة نهى، أخبرت إحدى الطبيبات جواد أنه في ظل التدهور الصحي لوالدته، فإن ما يقوم به الأطباء في هذه المرحلة هو العناية التلطيفية فحسب. كان هذا ما رغب جواد بسماعه منذ الإنعاش القلبي الذي حصل لها قبلها بأسابيع، وجل ما رغب به أن تموت بلا معاناة أو ألم، بتخفيف الأعراض وليس تطبيق إجراءات طبية قد تزيد من معاناتها.

قبل يوم من وفاة والدته، شعر جواد أنها ستفارق الحياة، ولذلك بقي معها هو وأخوته بعد انتهاء موعد الزيارة بساعتين في مستشفى البشير. أكّد جواد للكادر التمريضي قبل نهاية موعد الزيارة أن والدته على قرار عدم الإنعاش نظرًا لحالتها الواضحة في ذلك اليوم، وطمأنوه بأنهم موافقون على ذلك. وفي صباح اليوم التالي، أُبلغ عبر الهاتف بأن والدته قد توفيت، وعَلِم بعدها أنه أجري لها الإنعاش القلبي لخمسة جولات عن طريق الضغط الخارجي على الصدر.

جدل الدين والأخلاق والقانون

يثير قرار عدم الإنعاش الكثير من الجدل حول الجوانب الدينية والقانونية، ويفسح المجال للنقاش بشأن أهداف ووظائف الطب الأخلاقية.

يمكن ملاحظة هيمنة النقاشات الدينية على قرار عدم الإنعاش من خلال تصريحات عائلات المرضى والأطباء. فمعظم أهالي وأقارب المريض يتمسكون بالإيمان بأن الحياة والموت بيد الله، سواء تجلى ذلك بالتسليم بصواب قرار عدم الإنعاش، كما حدث في حالة أهل زين، أو بالاعتراض عليه. فقد جادل أحد أفراد أسرتي بأنه يجب على الطبيب أن يفعل ما بوسعه كي ينقذ المرضى، لأن الموت والحياة بيد الله وليس من شأن الطبيب أن يقرر متى يجب أن يوقف الإنعاش. وبالمثل، نرى التزام بعض الأطباء بالتفسير الديني لعدم تطبيق القرار، كما حصل في حالة نهى والدة جواد.

يقر شامية بأن الأخلاقيات الطبية في الأردن مرتبطة في جزء كبير منها بالمرجعية الدينية (سواء كانت إسلامية أو مسيحية)، وهو ما يظهر من خلال وجود فتاوى رسمية بهذا الخصوص. فقد أصدرت دائرة الإفتاء في الأردن فتويين، الأولى تتحدث عن حكم ترك الإنعاش القلبي للمريض في حالة توقف القلب، والثانية في حكم عدم وضع أجهزة الإنعاش على المريض الذي لا يرجى شفائه. وفي كلا الفتويين، أكدت دائرة الإفتاء أن «لا مانع شرعي» من عدم إجراء الإنعاش القلبي للمرضى الميؤوس من شفائهم أو عدم وضعهم أجهزة الإنعاش، «إذا تأكد وتيقن الفريق الطبي المعالج أنه لا يوجد أية فائدة ترجى للمريض من ذلك، شريطة أن يؤيد ذلك تقرير من فريق طبي لا يقل عن ثلاثة أطباء، مختصين، عدول، ثقات».

من الناحية القانونية، لا يوجد قانون يشرعن قرار عدم الإنعاش، لكن لا يوجد ما يمنعه في الوقت نفسه. هذا ما يدفع أطباء مثل منصور للدعوة إلى إدراج قرار عدم الإنعاش القلبي الرئوي للمرضى الميؤوس من شفائهم ضمن قانون المسؤولية الطبية، كما أوصى في ندوة عُقدت في مركز الحسين للسرطان، في عام 2020. رغم ذلك، يرى منصور أن عدم الإنعاش لا يعد تدخلًا إيجابيًا في الموت، بمعنى أنه ليس هناك رفع للأجهزة عن المريض، ولا يوجد تدخل بإنهاء للحياة، فالمسألة هي عدم التدخل الطبي من البداية كي لا تزيد من معاناة المرضى.

إن قرار عدم الإنعاش من أصعب القرارات العقلانية والعاطفية التي يمكن للإنسان أن يواجهها. فمشاهدة من تحب وهو يحتضر على فراش الموت أمر بالغ القسوة، ومن أكثر اللحظات الوجودية إرباكًا، ومن أشد تجارب الحياة إيلامًا للنفس.

من الجدير بالذكر أن ثمة تفريق طبي وقانوني بين قرار عدم الإنعاش القلبي الرئوي وما يسمى «القتل الرحيم» (Euthanasia). إذ تنص الفقرة (أ) من المادة 16 من قانون المسؤولية الطبية على أنه «لا يجوز إنهاء حياة متلقي الخدمة أيًا كان السبب ولو كان بناء على طلبه أو طلب وليّه أو الوصي عليه».[17] فإنهاء الحياة هنا يحيل إلى الفعل الإيجابي، كأن يساهم الطبيب في إعطاء دواء للمريض بهدف قتله بناء على طلب المريض، وهو فعل مجرّم في الأردن ويندرج تحت بند القتل العمد وفق المادة 328 من قانون العقوبات، كما يقول المحامي معتز عوّاد، وهو مجرم أو غير مقنن في معظم دول العالم. بينما يندرج قرار عدم الإنعاش في مرجعيات الطب الأخلاقية والقانونية تحت ما يسمى «الموت الرحيم السلبي»،[18] أي السماح للمريض أن يموت بشكل طبيعي دون تدخل طبي يعيقه، إلا بما يحتاجه المريض في نهاية حياته من عناية طبية تتعلق بالتروية والتغذية والعناية بنظافته الشخصية وحمايته من العدوى وتخفيف الألم إلى حدوده الدنيا.

يعزو الحديدي عدم إدراج قرار عدم الإنعاش في قانون المسؤولية الطبية إلى خوف المشرع من أن يفهم الناس القرار على أنه ذريعة للتقصير في إنقاذ المرضى. ولذلك، يصرّ الحديدي على أن قرار عدم الإنعاش هو قرار طبي يناقش مع المريض أو المفوض على علاجه، مؤكدًا أن هدف القرار هو وقف المعاناة أثناء منازعة الموت، لا إنهاء الحياة.

يلتبس تطبيق قرار عدم الإنعاش في مستشفيات وزارة الصحة الأردنية بسبب عدم وجود موافقة واضحة وصريحة من الوزارة عليه من جهة، وبسبب عدم تغطيته في قانون المسؤولية الطبية من جهة أخرى،  بحسب الحلبي، وهو ما أكده عدد من الممرضين والممرضات في أقسام العناية الحثيثة والطوارئ ممن رصدت آرائهم في مستشفيات البشير، والسلط الحكومي، والجامعة الأردنية. ففي الحالات الميؤوس من شفائها، قد يخبر الأطباء ذوي المرضى لأنه لا يوجد فائدة مرجوة من عملية الإنعاش القلبي الرئوي، وقد يطبق قرار عدم الإنعاش بناء على طلب الأهل. لكن في بعض الحالات، يطلب ذوو المرضى للإنعاش القلبي الرئوي لمرضاهم الميؤوس من شفائهم، ظنًا منهم أن الإنعاش سينقذ مرضاهم.

نتيجة لهذا اللبس في التعليمات، يقول الدكتور أسامة المصو، مدير قسم الطوارئ في مستشفى البشير، إن الأطباء في قسمه، في بعض الحالات الميؤوس من شفائها أو في حالة من أدخل المستشفى وقلبه متوقف لأكثر من 40 دقيقة، يطبقون ما يسمى بالإنعاش القلبي الرئوي الاجتماعي (Social CPR)، حيث يتم إجراء الإنعاش القلبي الرئوي لجولة أو جولتين فقط أمام أهل المريض، للتخفيف من وطأة الصدمة عليهم ولإظهار أن الكادر الطبي يسعى جاهدًا لإنقاذ المريض، مراعاةً لمشاعر الأهل لا أكثر.

أما بخصوص تطبيق قرار عدم الإنعاش في المستشفيات الخاصة، فيؤكد رئيس جمعية المستشفيات الخاصة الدكتور نائل المصالحة، أنه رغم عدم وجود نص قانوني حاسم، فإن العديد من المستشفيات الخاصة أخذت بفتوى دائرة الإفتاء، وأنشأت سياسات خاصة بها مبنية على معايير عالمية أو محلية تنظم قرار عدم الإنعاش ورعاية المرضى الميؤوس من شفائهم، وفق طبيعة المستشفى ونطاق الخدمات التي تقدم للمرضى ونوعية الأمراض التي تعالجها. ويشير المصالحة إلى أن وجود سياسة حول قرار عدم الإنعاش من عدمه ليس مشمولًا ضمن معايير مجلس اعتماد المؤسسات الصحية الوطنية (HCAC)، وأنه متروك للمؤسسات الصحية تبعًا للتطورات والتعديلات على القوانين والأنظمة الأردنية ذات العلاقة.

يشير شامية إلى أن المنظومة الطبية في الأردن، وفي العالم عمومًا،[19] تركز على الطب العلاجي وليس على ما يسمى بعناية نهاية الحياة أو العناية التلطيفية. ورغم وجود دراسات وحالات لمرضى أصبح أجلهم محتومًا، إلا أن الأطباء ما زالوا يطبقون على بعضها الإنعاش القلبي الرئوي. هذا ما يفتح النقاش ليس فقط حول وجود قصور في فهم بعض الأطباء للإجراءات الطبية التي يجب أن يبذلوا فيها ما بوسعهم من أجل إنقاذ المريض وعلاجه، وبين ما لا يجب أن يفعلوه بالنظر لمسار التطور المرضي في الحالات الميؤوس من شفائها؛ بل أيضًا حول مدى أخلاقية استخدام التقنيات العلمية الحيوية التي تطيل من أمد الحياة في المراحل المتقدمة من المرض، خاصة بالنظر إلى أن المريض مستجيب سلبي لا إيجابي لعملية اتخاذ القرار الطبي المتعلق بوضعه الصحي، خاصة عندما يصل إلى مرحلة متقدمة من التطور المرضي. ففي نهاية المطاف، حفظ كرامة المرضى واحترام قراراتهم في نهاية حياتهم هو جزء من وظيفة الطب.[20]

إن قرار عدم الإنعاش من أصعب القرارات العقلانية والعاطفية التي يمكن للإنسان أن يواجهها. فمشاهدة من تحب وهو يحتضر على فراش الموت أمر بالغ القسوة، ومن أكثر اللحظات الوجودية إرباكًا، ومن أشد تجارب الحياة إيلامًا للنفس. يروي جواد تجربته المؤلمة والمشاعر التي انتابته إزاء تحمل مسؤولية اتخاذ قرار عدم الإنعاش ومدى صعوبة اتخاذه رغم عدم تطبيقه في حالة والدته. فالمحبة غير المشروطة لمن نحب تجعلنا نبذل أقصى طاقتنا كي يبقوا معنا، ولكن المحبة ذاتها هي التي تساعدنا على اتخاذ القرار الأفضل لهم وتجعلنا نخرج من ذواتنا الأنانية ونقدم ما يصون كرامتهم وينهي آلامهم وعذاباتهم. «هذا الحب هو اللي بخلّي هذا القرار على صعوبته قرار مش بس بتقدر تتعايش معه، بل تكون متصالح معه جدًا.. ألم الفقد لا يمكن وصفه، لكن ألم اللي بتحبهم قدام عيونك أصعب. ألمك إنت بتعيش معاه وبتتجاوزه، بس تخلّي عزيز على قلبك يعاني، معلّق بين الحياة والموت، هذا لؤم».

  • الهوامش

    [1] Orders Not to Resuscitate, Rabkin et al, The New England Journal of Medicine, Aug. 12, 1976, P. 365.

    اعتمدتُ التعريف الذي استخدمه الطبيب رابكين للمرضى الميؤوس من شفائهم على الرغم من صدور هذه الورقة البحثية عام 1976، نظراً لأن هذا التعريف يلبي تعريف الأطباء الذين تمت مقابلتهم لغايات إعداد التقرير للمرضى الميؤوس من شفائهم دون تقديم تعريف من قبلهم.

    [2] هنالك تفريق طبي بين السكتة القلبية الرئوية والموت، فالسكتة القلبية الرئوية هو انقطاع مفاجئ وغير متوقع للدورة الدموية والتنفس التلقائي ويمكن إرجاعه، أما الموت فهو عملية طبيعية ومتوقعة ولا يمكن عكسها نتيجة المسار المرضي أو العمر.

    Do-not-resuscitate orders. History and current status, Ruiz-García et-al, 2016, Medicina Clinica, 147(7):316-320.

    [3] حذرت جمعية القلب الأمريكية من إجراء نفخ الهواء من فم المسعف لفم المريض منعًا لنقل العدوى من المسعف إلى المريض وبالعكس، حيث تستخدم أداة خاصة توضع على الفم في حالات الإسعافات الأولية توضع على فم المريض.

    [4] Do-not-resuscitate order after 25 years, Burns et al, Critical Care Medicine Journal, 2003, Vol. 31, No. 5

    [5] أتول غواندي، لأن الإنسان فانٍ: الطب وما له من قيمة في نهاية المطاف، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2022، ص 86-87.

    [6] Not Allowed to Die, W. St. C. Symmers, British Medical Journal, Correspondence, 17 February 1968, P. 442

    [7] التجويف الصفاقي (Peritoneal Cavity): هو التجويف الذي يحيط أعضاء البطن.

    [8]  Death and Resuscitation, R. M. Emrys – Robert, British Medical Journal, Correspondence, 8 November 1969, P. 364.

    [9] Orders Not to Resuscitate, Rabkin et al, The New England Journal of Medicine, Aug. 12, 1976, P.364.

    [10] ترى جمعية الطب الأمريكية أنه من حق أي شخص أن يقبل أو أن يرفض بأي إجراءات إنعاشية، وأن قرار عدم الإنعاش يلائم أي شخص قد يتعرض لتوقف في القلب أو الرئتين، وبغض النظر عن عمر المريض أو ما إذا كان المريض يعاني من مرض عضال أو لا.

    [11] الإجراءات الاختراقية (Invasive Procedures) هي الإجراءات التي يتم فيها اختراق أي نسيج لجسم الإنسان بهدف العلاج أو التشخيص عن طريق استخدام أدوات حادة.

    [12] Moving from «Do Not Resuscitate» orders to Standardized Resuscitation Plans and Shared-Decision Making in Hospital Inpatients, Dignam et-al, 2021, Gerontology and Geriatric Medicine, Vol 7:1-8, P. 3.

    [13] اسم مستعار بطلب من الأهل حفاظًا على خصوصيته.

    [14] اسم مستعار بطلب من ابنها حفاظًا على خصوصيتها.

    [15] اسم مستعار بطلب من ابن المريضة المتوفاة.

    [16] Moving from «Do Not Resuscitate» orders to Standardized Resuscitation Plans and Shared-Decision Making in Hospital Inpatients, Dignam et-al, 2021, Gerontology and Geriatric Medicine, Vol 7:1-8, P. 3.

    [17] قانون المسؤولية الطبية والصحية، رقم 25 لسنة 2018، العدد 5517، نشر بتاريخ 31/5/2018 في الجريدة الرسمية، على الرابط: https://tinyurl.com/2ksy83mr

    [18] Medical Law and Ethics, Bonnie F. Fregman, Death and Dying, Fourth edition, P. 328-329.

    [19] يشير أتول غواندي بشكل مباشر لهذه الإشكالية في الطب عمومًا في العالم في كتابه «لأن الإنسان فان» وفي مقالاته الطبية الأخرى، إذ يتحدث عن تركيز الطب على عملية العلاج وليس الرعاية في نهاية الحياة على الرغم من أن مستويات المراضة والتقدم في السن زادت في العالم أجمع، بالإضافة لعدم أخذ قرارات المرضى في نهاية الحياة على محمل الجد.

    [20] The Exercise of Autonomy by Older Cancer Patients in Palliative care: The Biotechnoscientific and Biopolitical Paradigms and the Bioethics of Protection, Niemeyer-Guimarães and Roland Schramm, 2017, Palliative Care: Research and Treatment 1–6, P. 2-3. 

Leave a Reply

Your email address will not be published.