نُشر هذا المقال بالإنجليزية في مجلة النيويوركر في 6 نيسان 2020.
ظهر ما يشار له عادةً بالجائحة الأولى في مدينة الفَرَما، بالقرب مما يعرف اليوم ببورسعيد شمال شرقيّ مصر، عام 541. ووفقًا للمؤرخ بروكوبيوس الذي عاصرها، فقد انتشر «الوباء» إلى الإسكندرية غربًا، وإلى فلسطين شرقًا، ثم استمر في الانتشار. برأي بروكوبيوس، فقد بدت الجائحة كما لو كانت تنتشر بشكل واعٍ، «كما لو أنها خشيت ألّا تأتي على أطراف الأرض جميعها».
أول أعراض الوباء كانت الحمى. لكنّها وفق مشاهدات بروكوبيوس كانت خفيفة جدًا لدرجة «أنها لم تنذر بأي خطر». لكن بعد عدة أيام، تطورت لدى المصابين الأعراض الكلاسيكية للطاعون الدُمَّلي؛ مثل التوَّرمات أو الدُمَّل في الفخذ وتحت الإبطين. كانت المعاناة رهيبة حينئذ. بعض المصابين دخلوا في غيبوبة، آخرون دخلوا في حالة هذيان حادة، وكثيرون تقيؤوا دمًا. كان القائمون على رعاية المرضى «في حالة إجهاد دائم»، يدوّن بروكوبيوس «لهذا السبب أشفق الجميع عليهم بما لا يقل عن إشفاقهم على المصابين ذاتهم». لم يستطع أحد التنبؤ بمن سيهلك ومن سينجو.
في أوائل عام 542، ضرب الطاعون مدينة القسطنطينية. كانت المدينة حينئذ عاصمة الإمبراطورية البيزنطية التي كان يحكمها الإمبراطور جستنيان. اعتبَرت دراسة حديثة جستنيان «أحد أعظم قادة الدول على مر التاريخ». وصف مؤرخ آخر بدايات فترة حكمه -التي امتدت لأربعين عامًا- بأنها «فترة مليئة بالإنجازات، لا مثيل لها في تاريخ الرومان». في الأعوام الخمسة عشر التي سبقت وصول الوباء إلى العاصمة، ثبَّت جستنيان القانون الروماني، وعقد صلحًا مع الفرس، وأصلح الإدارة المالية للإمبراطورية البيزنطية وبنى آيا صوفيا.
مع استعار الطاعون، وقع على عاتق جستنيان، كما يقول بروكوبيوس، أن «يخصص مبلغًا للكارثة». دفع الإمبراطور نفقات دفن جثث المتروكين والمعدمين، ومع ذلك، كان من المستحيل مجاراة الطاعون، فقد كانت حصيلة الموتى كبيرة. (اعتقد بروكوبيوس أن الحصيلة فاقت عشرة آلاف وفاة في اليوم الواحد، لكن لا أحد يستطيع التأكد من دقة هذا الرقم). كتب يوحنا الأفسسي، وهو مؤرخ آخر معاصر لجستنيان: «لم يخرج أحد من المنزل إلا ومعه بطاقة تعرِّف باسمه»، تحسبًا من الإصابة المفاجئة. في نهاية المطاف، كُدّست الجثث في تحصينات على طرف المدينة.
أتى الطاعون على القوي والضعيف، حتى أن الإمبراطور جستنيان أصيب به، لكنه نجا ضمن القلة المحظوظة. إلا أن حكمه لم يشفى بعد ذلك أبدًا. في السنوات السابقة لعام 542، استطاع جنرالات الإمبراطور استعادة معظم الجزء الغربي من الإمبراطورية البيزنطية من القوط، والفنداليين والبرابرة الآخرين. لكن بعد عام 542 عانى الإمبراطور في توظيف الجنود الجدد ودفع مستحقاتهم، كما بدأت الأقاليم التي احتَّلها جنرالاته بالثورة عليه. وصل الطاعون إلى مدينة روما سنة 543، وشق طريقه إلى بريطانيا بحلول سنة 544. انتشر الطاعون مرة أخرى في القسطنطينية سنة 558، ومرة ثالثة سنة 573، ومجددًا بعد ذلك سنة 586.
تمامًا كما للمايكروبات طرق عديدة لإصابة جسم الإنسان بالعدوى، فإن للجوائح طرق أيضًا للتلاعب بالنظام السياسي.
لم تخمد نار الطاعون الجستنياني كما بات يعرف، حتى عام 750 وبحلول هذا الوقت، كان النظام العالمي قد تغير. فقد ظهر الإسلام كديانة جديدة قوية، وحَكَم أتباعها أراضٍ ضمَّت مساحةً كبيرةً مما كان يخضع لإمبراطورية جستنيان، بالإضافة إلى الجزيرة العربية. في هذه الأثناء، باتت معظم أوروبا الغربية بيد الإفرنج. انحسر عدد سكان روما لما يقارب 30,000 ألف نسمة، أي ما يعادل عدد سكان بلدة مامارونك في ولاية نيويورك اليوم. هل كان للوباء يدٌ في ذلك؟ إذا سلمنا بذلك، فالتاريخ إذا لا يكتبه الرجال فقط، بل المايكروبات أيضًا.
تمامًا كما للمايكروبات طرق عديدة لإصابة جسم الإنسان بالعدوى، فإن للجوائح طرق أيضًا للتلاعب بالنظام السياسي. قد تطول الجوائح أو تقصر، أو تعاود الانتشار مثل الطاعون الجستنياني. وكثيرًا ما تصاحب الجوائح الحروب، أحيانًا في صالح الظالم، وأخرى في صالح المظلوم. قد تتوطن الجائحة، أي تصبح مزمنة باقية، لتعود وتصبح جائحة مرة أخرى عندما تنتقل إلى أرض جديدة أو عندما تتغير الظروف.
تحت هذه الفئة ينطوي مرض الجدري، الذي سمي «الوحش الأرقط»، والذي قتل ما يزيد عن مليار شخص قبل أن يُجتث في منتصف القرن العشرين. لا يُعرف على وجه التحديد من أين ظهر المرض. يعتقد أن الفيروس -الذي ينتمي إلى الجنس الذي يضم كل من جدري البقر، جدري الجمال وجدري القرود- بدأ بإصابة الناس عندما شرعوا بتدجين الحيوانات. وُجِدت آثار للجدري في المومياءات المصرية، بما فيها مومياء رمسيس الخامس الذي مات عام 1157 قبل الميلاد. يبدو أن الرومان التقطوا الجدري قرب ما يعرف اليوم ببغداد، عندما ذهبوا لمحاربة أعدائهم البارثيين سنة 162. وثّق الطبيب الروماني جالينيوس أن الذين أصيبوا بهذا المرض الجديد عانوا من طفح جلدي «متقرح في معظم الحالات وجاف تمامًا» (يشار للوباء أحيانًا بطاعون جالينيوس). ويرجح أن يكون ماركوس أوريليوس، الإمبراطور الأخير ضمن من سُمّوا «بالأبطارة الخمسة الصالحين» والذي مات عام 180، من ضحايا الجدري.
بحلول القرن الخامس عشر، كما كتب جوشوا لوميس في كتاب «الأوبئة: أثر الجراثيم وسطوتها على البشرية»، تحول الجدري إلى مرض «متوطن» في أوروبا وآسيا، بمعنى أن معظم الناس تعرضوا له في وقت ما من حياتهم. بالمحصلة، وصل معدّل الوفيات إلى 30%، لكن المعدّل كان أعلى بين الأطفال، أكثر من 90% في بعض المناطق. يكتب لوميس، بروفيسور الأحياء في جامعة إيست سترودسبورغ، أن الخطر كان كبيرًا لدرجة أصبح شائعًا تأجيل الأهل تسمية الطفل إلى أن يتعافى من الجدري». اكتسب الناجون مناعة دائمة، إلا أن كثيرًا منهم أصيب بالعمى أو بندوب مريعة.
هذه الديناميكية عنت أن يشهد كلّ جيل تقريبًا تفشيًا واسع النطاق للجدري، حيث ارتفع ببطء عدد الأشخاص الذين تمكنوا من تجنب الإصابة بالعدوى خلال طفولتهم. هذا عنى أيضًا، كما رصد لوميس بتعالٍ، أن الأوروبيين تمتعوا بأفضلية كبيرة خلال «بدئهم اكتشافهم أراضي بعيدة وتفاعلهم مع السكان الأصليين».
ألفرد كروسبي الذي صاغ مصطلح «التبادل الكولومبي»، صاغ أيضًا مصطلح «وباء الأرض البكر»، الذي عُرِّف بالوباء الذي يضرب «الشعوبَ التي لم تصلها الأمراض من قبل، وبالتالي فهم عاجزون مناعيًا تقريبًا». بدأ أول «وباءِ أرضٍ بكر» في الأمريكيتين، أو على حد تعبير كروسبي «وباء العالم الجديد»، في أواخر 1518. في ذلك العام، حَمَل شخصٌ افتُرض أنه من إسبانيا الجدري إلى هيسبانيولا [الجزيرة الكاريبية التي تتشاطرها اليوم هاييتي والدومينيكان]. كان هذا بعد أن حطّ كولومبوس على الجزيرة بربع قرن، وبعد أن قضي على أكثر السكان التاينو الأصليين، فأجهز الوحش الأرقط على من تبقى منهم. كتب راهبان في بدايات عام 1519 إلى ملك إسبانيا تشارلز الأول أن ثلث سكان الجزيرة أصيبوا بالمرض: «لقد منَّ الله على هؤلاء الهنود بالجدري، دون توقف». من هيسبانيولا، انتشر الجدري إلى بورتوريكو. وفي غضون عامين، وصل إلى تينوتشتيتلان عاصمة الأزتيك، ما يعرف اليوم بمكسيكو سيتي؛ الأمر الذي ساعد هيرنان كورتيز في احتلال العاصمة سنة 1521. كتب كاهن: «في أماكن كثيرة حصل أن أصيبت عائلات بأكملها ومات جميع أفرادها، وحيث كان من المستحيل دفن هذه الأعداد الكبيرة من الموتى، أهيلت المنازل عليهم». ويبدو أن الجدري وصل إلى إمبراطورية الإنكا قبل وصول الإسبان، وانتقلت العدوى من مستوطنة إلى أخرى بسرعة عجز الغزاة أنفسهم عن مجاراتها.
من الصعب التنبؤ بعدد الأشخاص الذين قضوا في أول جائحة في العالم الجديد، لأن السجلات مشكوك بأمرها ولأن الأوروبيين أحضروا معهم الكثير من الأمراض الجديدة كالحصبة والتيفوئيد والخُناق. بالمحصلة، ربما قتلت المايكروبات المستوردة عشرات الملايين من الأشخاص. «عقب اكتشاف أمريكا، حدثت أكبر كارثة ديموغرافية في تاريخ العالم»، يكتب ويليام دينيفان البروفيسور الفخري في جامعة ويسكونسن ماديسون. غيرت هذه الكارثة وجه التاريخ ليس فقط في أوروبا والأمريكيتين، بل أيضًا في أفريقيا، فمع نقص الأيدي العاملة، تزايد تحول الإسبان إلى تجارة الرقيق.
تأتي كلمة «quarantine» (الحجر الصحي) من الكلمة الإيطالية «quaranta»، وتعني أربعين.* يشرح فرانك سنودن في كتاب «الأوبئة والمجتمع: من الموت الأسود إلى الحاضر» أن ممارسة الحجْر نشأت قبل أن يَعرف الناس ما الذي كانوا يحاولون احتواءه واختيرت مدة الأربعين يومًا لأسباب روحانية لا طبية، «في العهد القديم والعهد الجديد، هناك الكثير من الإشارات إلى العدد أربعين في سياق التطهير: طوفان نوح لأربعين يومًا وليلة من في سفر التكوين، تيه بني إسرائيل أربعين سنة في البرية… وأيام الصوم الأربعين».
جاء أول حجر صحي رسمي في إطار مواجهة الموت الأسود بين عامي 1347 و1371، الذي قضى على ثلث أوروبا تقريبًا، وفتح الطريق أمام ما عرف بـ«جائحة الطاعون الثانية». تماما كالأولى، فقد حصدت الثانية أرواحًا كثيرة؛ صار الطاعون يتفشى وينحسر، ثم يتفشى مرة أخرى.
خلال إحدى موجات انتشاره في القرن الخامس عشر، أقام الفينيسيون عنابر عزل (lazarettos) في الجزر البعيدة، حيث أجبروا السفن القادمة على أن ترسو. اعتقد الفينيسيون أنهم بتهوية السفن سيبددون الأبخرة المسببة للطاعون. رغم أن الجانب النظري كان غير دقيق، فقد تحققت النتائج المرجوة، إذ كانت مدة أربعين يومًا كافية للطاعون ليقتل الجرذان والبحارة المصابين. يصف سنودن، الأستاذ الفخري في جامعة ييل، هذه التدابير بأنها أحد الأشكال الأولى لـ« مأسسة الصحة العامة»، ويجادل بأنها ساعدت في شرعنة «تنامي السلطة» بين يدي الدولة الحديثة.
هناك جدل واسع حول سبب خمود الجائحة الثانية؛ إذ حدث آخر تفشٍ كبير في أوروبا في مرسيليا عام 1720. لكن سواء أكانت الجهود المبذولة للسيطرة فعالة أم لا، فإنها كثيرًا ما أثارت «التهرب والمقاومة وأعمال الشغب»، حسب تعبير سنودن. اصطدمت تدابير الصحة العامة بالدين والتقاليد، كما لا زالت تصطدم حتى يومنا هذا. دفع خوف الناس من إبعادهم عن أحبائهم عائلات كثيرة إلى إخفاء الحالات التي لديها. وفي الحقيقة، لم يكن الموكلون بتطبيق القوانين معنيين حقًا بحماية العامة.
خذ الكوليرا مثالاً. على قائمة الأمراض المخيفة، قد تأتي الكوليرا في المرتبة الثالثة بعد الطاعون والجدري. تحدث الكوليرا بسبب بكتيريا على شكل فاصلة عرفت بضمة الكوليرا، وكانت محصورة على مر التاريخ البشري في منطقة دلتا الغانج. ثم انطلقت في ثمانينات القرن الماضي على متن البواخر ومع الحملات الاستعمارية تعيث في الأرض فسادًا. اندلعت أول جائحة كوليرا في عام 1817 قرب كالكوتا. ثم انتقلت عن طريق البر إلى ما يعرف اليوم بتايلند، وعن طريق البحر إلى عُمان، حيث حملت إلى زنجبار. بدأت جائحة الكوليرا الثانية عام 1829 مرة أخرى في الهند، وشقت طريقها من خلال روسيا إلى أوروبا، ثم إلى الولايات المتحدة.
على النقيض من الطاعون والجدري، اللذان لم يتأثرا بالفوارق الطبقية، فإن الكوليرا التي تنتقل بالطعام والماء الملوث كانت من نصيب العشوائيات العمرانية. عندما ضربت الجائحة الثانية روسيا، فرض القيصر الروسي نيكولاس الأول حجرًا صحيًا صارمًا. قد تكون هذه الإجراءات أبطأت تفشي الجائحة، إلا أنها لم تفعل شيئًا لمساعدة المصابين. ما زاد الطين بلة وفق لوميس، أن مسؤولي الصحة جمعوا مرضى الكوليرا مع هؤلاء الذين يعانون من أمراض أخرى. وشاع أن الأطباء كانوا يحاولون قتل المرضى عمدًا. في ربيع عام 1831، اندلعت أعمال شغب في سانت بطرسبرغ، وأورد أحد المحتجين العائدين أن طبيبًا «تلقى حجرين في عنقه، من المؤكد أنه لن ينسانا لفترة طويلة». في الربيع التالي، اندلع شغب الكوليرا في ليفربول. مرة أخرى كان الأطباء هم الهدف الرئيسي. إذ اتُهموا بتسميم ضحايا الكوليرا ليتحولوا إلى اللون الأزرق. (سمي الكوليرا بالموت الأزرق لأن مرضى الكوليرا قد يصابون بالجفاف الشديد ليتحول لون بشرتهم إلى الأزرق). اندلعت أعمال شغب مشابهة في أبردين وغلاسكو ودبلن.
في عام 1883، أثناء جائحة الكوليرا الخامسة، حدد الطبيب الألماني روبرت كوخ سبب المرض عن طريق عزل بكتيريا ضمة الكوليرا. وفي العام التالي ضربت الكوليرا نابولي، فأرسلت سلطات المدينة مفتشين لمصادرة المحاصيل المشكوك بتلوثها. وأرسلت فِرَق التعقيم، التي جائت إلى المباني السكنية شاهرة أسلحتها. كان سكان نابولي يشككون في المفتشين وفِرَق التعقيم، وهو أمرٌ يمكن تفهمه. استجاب السكان بحس عال من الفكاهة، وإن لم يكن بالضرورة فهمًا دقيقًا للوبائيات. جاء المحتجون إلى مجلس المدينة يحملون سلالاً من التين والبطيخ مفرط النضج، ثم باشروا كما يدون سنودن «باستهلاك الفاكهة المحرمة بكميات كبيرة على وقع تصفيق المشاهدين ومراهنتهم على من سيأكل أكثر».
إن الجوائح بطبيعتها مثيرة للشقاق. فالجار الذي قد تلجأ إليه طلبًا للمساعدة في ظروف أخرى يصبح مصدرًا محتملًا للعدوى، والطقوس اليومية تتحول إلى فرص لانتقال العدوى، وتصبح السلطات التي تفرض حجرًا صحيًا وكيلةً للقمع.
بعد مرور ثمانية أعوام، ومع احتدام جائحة الكوليرا الخامسة، اندلعت أعنف أعمال شغب فيما يعرف اليوم بمدينة دونيتسك في أوكرانيا. نُهبت محال كثيرة، وأُحرقت المنازل والمتاجر. استجابت السلطات في سان بطرسبرغ إلى العنف بقمع العمال المتهمين بتشجيع «الفوضى». ووفقًا لما ذكره لوميس، فقد أدى هذا القمع إلى المزيد من الاضطرابات المدنية، التي بدورها دفعت إلى المزيد من القمع، وبهذه الحلقة المفرغة ساهمت الكوليرا في «تمهيد الطريق» أمام الثورة الروسية.
بدأت جائحة الكوليرا السابعة عام 1961 على جزيرة سولاوسي الأندونيسية. انتشرت خلال العقد التالي إلى الهند، الاتحاد السوفيتي وعدة دول أفريقية. لم يتفشَّ الوباء لمدة ربع قرن بعد ذلك، ليعود ويضرب البيرو عام 1991، حاصدًا حياة 3500 شخص، وفي تفشٍ آخر فيما يعرف اليوم بجمهورية الكونغو الديمقراطية عام 1994، زُعم أنه حصد حياة 12 ألفًا.
وفق معظم المصادر، فإن جائحة الكوليرا السابعة لا زالت مستمرة إلى اليوم. في أكتوبر 2010، تفشت الكوليرا في ريف هايتي، وانتقلت بسرعة إلى العاصمة بورت-أو-برنس ومدن أخرى رئيسية. حدث هذا بعد مرور تسعة شهور على ضرب زلزال مدمر بقوة 7 درجات البلاد. بدأت حينها شائعات مفادها أن تفشي الوباء مصدره قاعدة للأمم المتحدة تستضيف قوات لحفظ السلام من نيبال. اندلعت أعمال شغب في مدينة كاب هايتيان، قُتل شخصين على الأقل، وعلّقت الطائرات التي كانت تحمل المساعدات إلى البلد. أنكرت الأمم المتحدة أن جنودها جلبوا الكوليرا إلى هاييتي لسنوات، إلا أنها عادت واعترفت أخيرًا أن الشائعات كانت صحيحة. منذ انتشار وباء الكوليرا، أصيب ثمانمائة ألف هايتيًا، مات منهم حوالي عشرة آلاف.
إن الجوائح بطبيعتها مثيرة للشقاق. فالجار الذي قد تلجأ إليه طلبًا للمساعدة في ظروف أخرى يصبح مصدرًا محتملًا للعدوى، والطقوس اليومية تتحول إلى فرص لانتقال العدوى، وتصبح السلطات التي تفرض حجرًا صحيًا وكيلةً للقمع. مرارًا وتكرارًا على مرّ التاريخ ألقى الناس اللوم على الغرباء بتفشي الجوائح. (في حالات مثل قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام، كانوا على حق). يستذكر سنودن قصة ما حدث ليهود ستراسبورغ في الطاعون الأسود. قرر المسؤولون الحكوميون أنهم سبب الوباء، وقيل أنهم سمموا الآبار، خيروهم بين الموت وتغيير دينهم، فغير نصفهم دينه. في الرابع عشر من شباط عام 1349 «جُمع النصف الآخر، أخذوا إلى مقبرة اليهود، وأحرقوا أحياءً». أصدر البابا كليمنت السادس مرسومًا بابويًا يشير إلى أن اليهود يموتون من الطاعون أيضًا، وأنه لا يعقل أن يُسمِّموا أنفسهم، لكن يبدو أن هذا لم يحدث فارقًا. عام 1349، أُبيدت مجتمعات يهودية في فرانكفورت، ماينز وكولونيا عن بكرة أبيها. للهرب من هذا العنف، هاجرت موجات من اليهود إلى بولندا وروسيا، ليغيروا بذلك ديموغرافيا أوروبا إلى الأبد.
كلما وقعت كارثة، كما هو الحال الآن، يغرينا النظر إلى الماضي بحثًا عن الإرشاد حول ما يجب أو لا يجب فعله. لقد مرّ حوالي ألف وخمسمئة عام على طاعون جستنيان، وبإضافة الطاعون، الجدري، الكوليرا، الأنفلونزا، شلل الأطفال، الحصبة، الملاريا والتيفوس، سيكون لدينا عدد وبائي من الأوبئة لنجيل الفكر فيها.
ورغم هذه الحصيلة من التجارب، والأنماط التي تشترك فيها هذه الأوبئة والجوائح، يبقى هناك كثيرٌ من الاختلافات المربكة. خلال أعمال الشغب المرتبطة بتفشي الكوليرا، لم يلُم الناس الغرباء، بل صنّاع القرار، إذ تم استهداف الأطباء والمسؤولين الحكوميين. ساعد الجدري الأسبان في التغلب على إمبراطوريتي الأزتك والإنكا، لكن أوبئةً أخرى ساعدت على هزيمة القوى الاستعمارية. خلال الثورة الهايتية، على سبيل المثال، حاول نابليون استعادة المستعمرة الفرنسية عام 1802 بحوالي خمسين ألف رجل. فقضى الكثير من جنوده من الحمى الصفراء، وبعد عام، تخلى عن المحاولة وقرر أيضًا بيع إقليم لويزيانا للأمريكيين.
أضف إلى ذلك أن أرقام وحسابات تفشي الأوبئة تتباين بشكل كبير من حالة إلى أخرى. البروفيسور آدم كوتشارسكي من كلية لندن لعلم الصحة والطب الاستوائي، ومؤلف كتاب «قواعد العدوى»، يشير إلى أن هذا التباين يعتمد على عوامل مثل طريقة العدوى، وطول الفترة الزمنية التي يكون فيها الشخص معديًا، والشبكات الاجتماعية التي يتغلغل فيها كل مرض، «هناك قول شائع في مجال عملي مفاده: إذا شهدت جائحة واحدة، فما شهدت إلا جائحة واحدة». من بين النتائج القليلة حول كوفيد-19 التي يمكن التنبؤ بها بثقة عند هذه النقطة، هو أن هذه الجائحة ستكون موضوع دراسات تاريخية كثيرة.
* ملاحظة من المترجم: معلومة أن أصل الكلمة يأتي من «كورانتا» التي تعني أربعين في الإيطالية، وأنهم اختاروا أربعين يومًا لأسباب إنجيلية قد لا تكون دقيقة. إذ تشير مصادر أخرى إلى أن الإيطاليين أخذوها عن ابن سينا الذي اقترح الحجر الصحي وسماه «الأربعينية». تواصلت مع كاتبة المقال ومؤلف الكتاب فرانك سنودن لأستوضحهما، دون أن أتلقى ردًا بعد.