«هذه الإبرة هي الشيء الوحيد اللي بنقدر نعطيه لأبوكِ مشان نأجل موته (..) بدل ما يموت بشهرين، بموت بخمسة»، هكذا وصف الطبيب حالة خالد (55 عامًا) لابنته إيناس، حين أعلمها بإصابته بورم سرطاني بدأ من القولون وانتشر في مختلف أنحاء جسمه، ما يعني أنه في المرحلة الرابعة للسرطان التي تكون عندها فرص التعافي شبه معدومة. وجدت إيناس نفسها في حالة من الصدمة والانهيار، بدأت معها سريعًا رحلة فوضوية من التنقل بين الأطباء. الكثير من عمليات التنظير واقتراحات لعمليات جراحية وعلاجات كيماوية وضعت إيناس في حالة من التخبط، قبل أن تنتهي كل الاستشارات بحقيقة أن كل ما يمكن فعله هو التعايش مع المرض حتى النهاية.
مرّ شهران على التشخيص، بدأ خلالها خالد بأخذ الإبرة شهريًا من أجل إبطاء انتشار الورم ما يمنحه المزيد من الوقت، وأجرى عملية واحدة استغرقت ست ساعات لاستئصال أورام من منطقة القولون والمستقيم، وتغيير اضطراري لمجرى الإخراج ليصبح من فتحة خارجية في الجسم. في تلك الفترة، كان يعاني باستمرار من ألم شديد في منطقة البطن، تقوم العائلة على إثره بطلب الإسعاف ونقله لطوارئ مستشفى البشير، حيث يتُرك للألم حتى يتعب من البكاء والصراخ فينام ثم يعيده أبناؤه للبيت: «لما نحكيلهم سرطان مرحلة رابعة يتركوه، يحكولنا ماله إشي عنا»، تقول إيناس.
تتذكر إيناس تلك الفترة وتصفها بالضياع، إلى أن قدمتها مديرتها، التي توفي والدها قبل سنوات بمرض السرطان، لمفهوم جديد تسمع عنه للمرة الأولى يُسمى «الرعاية التلطيفية». زارت إيناس جمعية مؤسسة الملاذ للرعاية التلطيفية، وهي جمعية غير ربحية تأسست عام 1993، وكانت تقدم خدماتها مجانًا لعدد محدود من المرضى في عمّان آنذاك، فيما تقدم خدماتها اليوم لحوالي 120 حالة سنويًا، وتسعى للتوسع خارج عمّان.
تظهر مشكلة إنكار الموت بشكل بالغ عندما يصاب أحد بمرض عضال غير قابل للعلاج أو حين يكون المريض ميؤوسًا من علاجه، وفي هذا الإنكار تحدٍ لحدودنا البيولوجية.
تُعرّف منظمة الصحة العالمية الرعاية التلطيفية بأنها نهج رعاية شامل يهدف لتحسين جودة حياة المرضى وأسرهم الذين يواجهون مشاكل ترتبط بأمراض مستعصية تهدد حياتهم، وتسعى للوقاية من المعاناة وتخفيفها من خلال التعامل مع الألم وأية مشاكل أخرى جسدية أو نفسية أو روحية. يحتاج 40 مليون شخص حول العالم إلى الرعاية التلطيفية بحسب تقديرات المنظمة، 78% منهم من الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، ويحتل الشرق الأوسط المرتبة الثانية في قلة توفير خدمات الرعاية التلطيفية، ما يعتبر أقل من المتوسط العالمي من حيث توفر المُسكنات ودمج الرعاية التلطيفية في السياسات الصحية الوطنية والتمويل المُخصص لها.
مع أن الموت هو المصير المشترك للبشر جميعًا، ما يزال الحديث عنه لدى غالبية الناس صعبًا جدًا ونوعًا من المحرّمات. تظهر مشكلة إنكار الموت بشكل بالغ عندما يصاب أحد بمرض عضال غير قابل للعلاج أو حين يكون المريض ميؤوسًا من علاجه، وفي هذا الإنكار تحدٍ لحدودنا البيولوجية. في كتابه «لأن الإنسان فانٍ»، يناقش الجراح والكاتب الأمريكي-الهندي أتول غواندي فشل الطب الحديث وعدم جاهزية مقدمي الرعاية الطبية للإجابة عن تساؤلات المرضى المتعلقة بالحياة والموت. يرى غواندي أن الطبيب لا يعرف كيف يتعامل مع الموت حين يكون لا مفر منه، ويجادل أن الطب ينقذ الجسد على حساب الروح، ويهمل رغبات المرضى فيما يتعدى الحفاظ على الحياة، ولا يعطي مساحة للمرضى لاتخاذ قراراتهم أو لتلبية رغباتهم بالطريقة التي يفضلون أن يقضوا آخر أيامهم بها، فيدفعهم لملاحقة إجراءات طبية غير مجدية في كثير من الأحيان لا تحقق لهم سوى المزيد من المعاناة الجسدية والانعزال عمّا يحبّونه، فيما يؤكد على أهمية الحوار الصادق بين الأطباء والمرضى وعائلاتهم بحيث يحقق توازنًا بين الأمل والواقع.
بعد أيام من موافقة إيناس والأسرة على تدخل جمعية الملاذ، قام فريق مكون من طبيب وممرض وأخصائي اجتماعي بزيارة لمنزل خالد في جبل النظيف، وهي الطريقة الاعتيادية التي يبدأ بها عمل الفريق لتقييم الوضع وتحديد أولويات التدخل والحاجة لأي أدوية أو أجهزة طبية. ثم بدأت زيارات دورية بمعدل زيارتين ثابتتين في الأسبوع الواحد، وكانت تزداد في أغلب الأوقات لتصل إلى خمس زيارات تقريبا بحسب حاجة خالد. استمرت تدخلات فريق الرعاية التلطيفية قرابة عام ونصف، معتمدة بشكل أساسي على تسكين الألم الشديد من خلال المورفين، والتغيير المستمر للجرعة حسب الحاجة، والموازنة بين الأدوية المُسكنة وأية أعراض جانبية قد تتسبب بها، كالإمساك أو الاستفراغ أو غيرها، إضافة لدعم نفسي كبير لإيناس وأفراد العائلة لتمكينهم من فهم حالة الوالد وكيفية رعايته وتخفيف ألمه المستمر، ما مكنهم من قضاء وقت نوعي معه.
تشير إيناس لموقف إنساني لا تنساه من فريق الرعاية التلطيفية، حين صادف يوم تخرجها -الذي تصفه باليوم الأهم في حياتها- مع فترة مليئة بالألم لوالدها، سألت إيناس الممرض إن كان والدها سيتمكن من حضور حفل تخرجها، وقالت إنها قد لا تحضر حفل تخرجها إن لم يتمكن والدها من ذلك. دفع هذا الأمر الفريق لإيلاء هذا اليوم اهتمامًا كبيرًا، فلم يكتفِ فقط بالتأكد من فعالية مسكنات الألم وضبط جرعاتها بحذر، بل قام بتخصيص سيارة الجمعية لتحركات العائلة من وإلى حفل التخرج، للتأكد من تخفيف العبء على الأسرة. كما استعد خالد بأفضل صورة ليرى ابنته في ثوب التخرج، متأكدًا من تطبيق تعليمات الطبيب وتوصياته، وقد ارتدى أحلى الملابس ورقص في الطريق على أغاني النجاح التي اختارها له سائق السيارة. رأت إيناس عائلتها في المدرج عند بداية الحفل، ونظرت إلى والدها وهو يجلس بينهم مُبتسمًا: «من فرحتي فيه حسيت كأني ما شفت حدا غيره». بعد الحفل بارك لها والدها تخرجها وأخذ معها عددًا من الصور التذكارية، في آخر حدث هام تمكن من مرافقة العائلة فيه. في هذا اليوم، وللمرة الأولى منذ شهور، غلبت دموع الفرح حزن إيناس العميق. وبعد شهرين، توفي خالد في بيته وبين أفراد عائلته.
بمساعدة من جمعية ملاذ، تمكن والد إيناس من الاحتفال معها بتخرّجها من الجامعة رغم مرضه الشديد.
لا يختلف تطبيق مبادئ الرعاية التلطيفية في الأردن عنه في الدول المتقدمة طبيًا بحسب دراسة نشرت عام 2017، لكن تحديات عديدة تعيق التوسع بانتشاره محليًا رغم حاجة الأردن الشديدة له. حيث يُسجل الأردن حوالي 4,600 حالة سرطان جديدة بين البالغين سنويًا، وتُشخص أكثر من 60% من جميع الحالات في مراحل متأخرة.
في الوقت الحالي، يقدّم مركز الحسين للسرطان خدمات الرعاية التلطيفية بشكل متخصص للمرضى الذين يخضعون للعلاج فيه، حيث تُدمج الرعاية التلطيفية ورعاية المحتضرين في جناح واحد، بحسب غدير برهومة، أخصائية الرعاية التلطيفية المنزلية في مركز الحسين للسرطان. تبدأ رحلة المرضى مع الرعاية التلطيفية في مركز الحسين كخدمات استشارية لمراقبة الأعراض وضبطها عند المرضى أثناء تلقيهم العلاجات المختلفة مثل العلاج الكيميائي أو الإشعاعي، مع الإبقاء عليهم تحت رعاية أخصائيّي السرطان. وحينما يتبقى من عمر المريض ستة أشهر أو أقل بحسب تقديرات الطبيب المختص، يحوّل المرضى بعد موافقتهم لرعاية المحتضرين إما منزليًا أو في المركز بناءً على حاجتهم.
تشير برهومة إلى أن أحد أهم التحديات التي تواجهها الرعاية التلطيفية عالميًا، هو التأخر في تحويل المرضى إلى هذه الرعاية. يُنظر للرعاية التلطيفية في كثير من الأحيان كخيار أخير لا يُؤخذ بعين الاعتبار إلا عندما تصل حالة المريض إلى مرحلة متقدمة لم يعد فيها قادرًا على تلقي العلاج الشفائي. هذا التأخير حسب برهومة لا يحرم المريض فقط من الاستفادة من الرعاية المتخصصة التي تركز على تخفيف الألم وتحسين نوعية الحياة، بل يعكس أيضًا مشكلة أعمق تتعلق بتوجه الأخصائيين نحو السعي المستمر للعلاج، حتى في الحالات التي يكون فيها الشفاء غير ممكن. على الصعيد العالمي، يعكس هذا التأخر تحديًا يتعلق بتغيير العقلية الطبية من السعي الدائم للشفاء إلى التركيز على جودة الحياة في الحالات التي لا يمكن فيها تحقيق الشفاء. فالإحالة المبكرة للرعاية التلطيفية يمكن أن تساعد في تقديم الدعم النفسي والجسدي المناسب، مما يمكن المرضى من العيش بكرامة وراحة خلال مراحلهم الأخيرة.
هذا التأخر في الإحالة من أبرز التحديات التي تواجه انتشار الرعاية التلطيفية في الأردن -بحسب الدراسة سابقة الذكر– بسبب إنكار الأطباء للحاجة لها، إضافة إلى إخفاء الحقيقة أحيانًا عن مرضى السرطان حول عدم إمكانية التعافي، خصوصًا كبار السن منهم. يضاف إلى ذلك الافتقار لسياسة وطنية للرعاية التلطيفية والمنزلية ونقص برامج التعليم والتدريب حولها، ما يجعل أعداد مقدمي الرعاية التلطيفية أقل بكثير من احتياجات السكان.
تساعد الرعاية التلطيفية في الحفاظ على كرامة المريض وجعله صاحب القرار في كيفية قضاء الوقت المتبقي له، وتُقدم له الرعاية التي يحتاجها عوضًا عن العلاج
من التحديات الأخرى -بحسب الدراسة- خوف العائلة وعدم معرفة المرضى وعائلاتهم بطبيعة الرعاية التلطيفية، حيث إن 78.6% من الأردنيين لم يسمعوا بالرعاية التلطيفية من قبل، وتعتبر الكثير من العائلات أن القبول بها يعني فشل العلاج والاستسلام للموت، إضافة للخوف من الإدمان والأعراض الجانبية الأخرى الناتجة عن استعمال مُسكنات الألم الأفيونية كالمورفين، رغم تأكيد منظمة الصحة العالمية على فعاليتها واعتبارها جزءًا أساسيًا من الرعاية التلطيفية وإدارة الألم وتخفيف الأعراض المصاحبة للأمراض المزمنة والسرطانات في مراحلها المتأخرة كضيق التنفس والسعال الجاف.
وبحسب فريق جمعية الملاذ فإن استخدام هذا النوع من المسكنات يتم فقط في حالات الألم الشديد باستخدام أقل جرعة ممكنة للسيطرة على الألم بحيث لا تؤثر على بقاء المريض مستيقظًا، وبحسب تجربة الفريق فإن شرح كيفية عمل هذه المسكنات وطريقة استخدامها مع تفسير العوائق التي يمكن حدوثها عند الامتناع عن تناولها من تعب نفسي وعزلة اجتماعية يجعل العائلة والمريض متفهمين لضرورتها.
لا تقتصر الرعاية التلطيفية على مرضى السرطان فحسب، إنما تشمل مجموعة أوسع من الأمراض المزمنة؛ كأمراض القلب والأوعية الدموية، وأمراض الجهاز التنفسي المزمنة كتليّف الرئة والسل والإيدز والسكري وغيرها، وتكون الرعاية أكثر فعالية عندما تبدأ في مرحلة مبكرة من اكتشاف المرض.
تساعد الرعاية التلطيفية في الحفاظ على كرامة المريض وجعله صاحب القرار في كيفية قضاء الوقت المتبقي له، وتُقدم له الرعاية التي يحتاجها عوضًا عن العلاج. وهذا تمامًا ما احتاجه أبو مجدي (84 عامًا) بعد أن أصيب بالتهاب أعصاب جذع الدماغ، وهو مرض لا علاج له يؤثر على أداء عضلات مسؤولة عن وظائف أساسية. فقدَ أبو مجدي القدرة على تحريك أطرافه، وتدهورت حالته بعد عام واحد ليفقد القدرة على المشي، ووصل شلل الحركة إلى عضلات الوجه واللسان والبلعوم ما أفقده القدرة على الكلام أو مضغ الطعام وبلعه. بحسب الأطباء، اقتصرت خيارات التدخل على بعض الفيتامينات ومُسكنات الألم، ولم يكن أمام أبو مجدي وأسرته من خيار سوى التكيف مع التدهور المتزايد في إمكانيات عضلاته وجهازه العصبي.
ونظرًا لانشغال أبنائها في العمل خارجًا، تولت أم مجدي رعاية زوجها لوحدها بالاستعانة بممرضتين تناوبتا على الإقامة في المنزل، بتكلفة 40 دينارًا في اليوم، إلى أن تعرّفت على جمعية الملاذ، إذ سمحت لها تدخلات الفريق الطبي بالتخلي عن الممرضتين. آنسها فريق الرعاية التلطيفية في وحدتها، وخفف عنها عبئًا نفسيًا وجسديًا كبيرًا، بالأخص لمعاناتها من ديسك مؤلم في فقرات أسفل الظهر منعها من معاونة زوجها جسديًا.
اقرأ/ي أيضا:
بعد أربع سنوات عاشها مع المرض، توفي أبو مجدي، وكان قد تلقى خلال العامين الأخيرين منها الرعاية التلطيفية في المنزل. تتحدث أم مجدي عن ذكرياتها مع الفريق الطبي بامتنان، تتذكر كيف كان الطبيب يهرع إليها بعد منتصف الليل عند اتصالها إثر انخفاض مفاجئ بالأكسجين، وكيف كان المُمرض يغني لأبو مجدي الأغاني التي يحبها وهو يبدل له ملابسه ويغير الأنابيب التي يستعين بها للطعام والإخراج والتنفس. وقد لمست فرقًا كبيرًا في حالته النفسية ومزاجه العام الذي ظهر واضحًا على وجهه من خلال ابتسامة صغيرة يرسمها بصعوبة على وجهه المتعب: «طول عمره هني وبحب الحياة والضحك (..) فريق الرعاية التلطيفية قدر يرجعله شوي من هذه السعادة بآخر سنتين بحياته»، تقول أم مجدي.
عمومًا، يتجنب الناس الحديث عن الموت، إلا أن غدير برهومة تشبهه بالتحضير لسفر طويل. يحب المسافر أن يأخذ فرصته بالاستعداد جيدًا عندما يتسنى له ذلك. مهمة غدير هي تسهيل هذا السفر من خلال تصميم خدمة مُخصصة لكل مريض، تتناسب مع ظرفه الصحي ومعتقداته وتُلبي رغباته وتحقق سعادته، وتتأكد من التفاعل الإيجابي للأسرة قدر المستطاع مع الحدث. تعيش غدير مع المرضى وأسرهم واحدة من أكثر مراحل الحياة حساسية، فترى العائلات في أضعف حالاتها وأصعبها، وتخوض مع مرضاها حوارات غير اعتيادية حول طبيعة الموت واحتمالات ما بعده.
عند إصابتها بسرطان الغدد الليمفاوية، اختارت نوال (77 عامًا) ألا تخضع للعلاج الكيماوي بشكل كامل، فلم ترغب بأن تتألم أو أن يسقط شعرها، طالبةً من الأطباء تجربة أي نوع مختلف من العلاج يسمح لها أن تعيش بجودة حياة أفضل. دافعت نوال عن قرارها أمام الأطباء قائلة إنها سبق وفقدت اثنين من أبنائها للسرطان رغم خضوعهم للكيماوي. احترم المُشرفون على حالتها في مركز الحسين للسرطان رغبتها، فخضعت لعلاج مناعي بشكليه الوريدي والفموي، رافقه جرعات محدودة من العلاج الكيماوي المخفف. واستمر الأطباء طوال فترة علاجها بتكييف الأدوية بناءً على التغير في استجابة جسمها لها، قبل أن تقل استجابتها لأنواع عديدة من الأدوية المتاحة بعد ما يقارب السنتين من التشخيص.
أبلغ الطبيب نوال وابنتها نيكول بأنه سيحوّلها للرعاية التلطيفية المنزلية، وأن الوقت قد حان للتعامل مع الألم وعيش ما تبقى براحة. استقبلت نوال الخبر بهدوء، وتقبلته ابنتها نيكول، مع أمل كبير دفعها للاستمرار بالبحث عن أدوية بديلة وفحوصات خارج المركز. تقول نيكول إن غدير، أخصائية الرعاية التلطيفية، ساعدتها على تشكيل مفهوم جديد للأمل دعمها في رحلتها مع والدتها وساعدها على تخطيها بكل مراحلها.
تتذكر كل من غدير ونيكول اجتماعات دورية كثيرة على طاولة المطبخ التي شهدت حوارات مؤثرة وقرارات حاسمة فيما يتعلق بمرض والدتها، وكانت غدير خلالها تُجهّز نيكول كل فترة لتخطو خطوة واحدة للأمام، فتخبرها مثلًا كيف سيتغير التنفس عند والدتها، ومتى ستبدأ بالنوم تجهيزًا لرحيلها، وتتأكد من رغبة نيكول وقدرتها على استقبال هذا النوع من المعلومات، كونها كانت على دراية بما تعنيه هذه المرحلة من الرعاية التلطيفية نظرًا لتجربتها السابقة مع وفاة شقيقيها.
في دراسة نشرتها المجلة الاسكندنافية للعلاج الوظيفي عام 2016 حول الأمور الأكثر أهمية للمرضى في الرعاية التلطيفية، تحدث غالبية المرضى عن مدى حاجتهم لعيش لحظاتهم الأخيرة بشكل طبيعي، وإحساسهم بحاجة من حولهم لهم، لا أن يكونوا عبئًا عليهم، ففقدان الاستقلالية والأدوار قد يؤدي إلى وفاة اجتماعية قبل الوفاة البيولوجية.
بألم أقل من المتوقع، رحلت والدة نيكول في سريرها بعد ثلاث سنوات من تشخيص المرض. قبل ذلك، وفي الشهر نفسه، تمكنت من مشاركة ابنتها تزيين غرفة الجلوس لاستقبال آخر عيد ميلاد لها، ورحبت -مثل كل عيد- بضيوفها وهي جالسة على كرسيها المفضل. تحدثت مع غدير بأمور روحانية عديدة، حدثتها غدير بدورها عن قصص ناس عاشت تجربة مشابهة لتجربتها، غنوا وصلّوا معًا. وكانت حتى اللحظة الأخيرة بكامل وعيها، كما رغبت تمامًا، دون أي فقدان للإدراك كعرض جانبي لمسكنات الألم. وهو ما يتوافق مع رؤية غدير كأخصائية رعاية تلطيفية: «نحن لا نجلس ننتظر الموت (..) في الحقيقة نحن نعيش بأفضل طريقة ممكنة حتى قدومه».