«أن يهاجمك جسدك»: عن العيش مع مرض التصلب اللويحي

الخميس 06 شباط 2025
المصدر: الأتلانتيك.

قبل أشهر، شعرت ليلى* (30 عامًا) بخدر وتنميل في الظهر والبطن، امتدّ لاحقًا إلى يديها وقدميها ثم إلى بقية جسمها. في البداية، بحثت عن الأعراض في أحد المواقع الطبية الإلكترونية الذي رشّح لها طبيبًا لمراجعته، كما أوصى بإجراء فحص فيتامين B12 الذي قد يسبب نقصه أعراضًا شبيهة أحيانًا. بعد الفحص تبيّن أن الفيتامين ضمن المستوى الطبيعي، فراجعت طبيب دماغ وأعصاب، لكنه استبعد إصابتها بأمراض الدماغ، وتوقع إصابتها بالديسك، فحوّلها إلى طبيب عظام.

بدوره، وبعد إجراء الفحوصات، استبعد طبيب العظام إصابتها بالديسك، ثم سألها: «لما تنزلي راسك بتحسي بكهرباء بتمشي في النخاع الشوكي؟»، وإن كانت قد أحسّت بأعراض الخدر والتنميل من قبل. كانت ليلى قد شعرت بذلك بالفعل، لكن قبل ثلاث سنوات حين أصيبت بخلع في الكتف وعزت أعراض الخدر إليه. فأعاد توجيهها إلى طبيب أعصاب آخر، والذي بدوره أجرى لها صورة رنين مغناطيسي ليظهر وجود نقاط بيضاء في الدماغ والنخاع الشوكي، ما يشير إلى وجود مرض مناعي ما.

ولأن بعض الأمراض المناعية تتشابه في أعراضها، فقد واصلت ليلى إجراء الفحوصات، لتتفاجأ بالنهاية بإصابتها بمرض التصلب اللويحي المتعدد (Multiple Sclerosis)، وقد استغرق تشخيصها به وقتًا طويلًا لعدم وجود فحص مخصص للكشف عنه، إنما يجري ذلك عبر فحوصات متتالية، بحيث يستبعد كل واحد منها مرضًا مناعيًا مشابهًا في الأعراض. وبعد استشارة أطباء آخرين للتأكد من دقة التشخيص، توجهت ليلى بناء على توصية طبيبها إلى مركز التصلب اللويحي في مستشفى البشير لتلقي العلاج.

ما هو مرض التصلب اللويحي المتعدد وما أعراضه؟

التصلب اللويحي المتعدد هو مرض مزمن تتفاوت أعراضه وتختلف شدتها بين المصابين به، ويمكن أن يصيب الأشخاص في مختلف الأعمار، ولكنه عادة ما يظهر بين سني 20 إلى 40 عامًا، والنساء أكثر عرضة للإصابة به بنحو مرتين إلى ثلاث مرات من الرجال، وتحدث فيه نوبات أو هجمات تؤثر على حركة المصابين وحياتهم العملية والاجتماعية.

تشير إحصاءات منظمة الصحة العالمية إلى وجود 1.8 مليون مصاب حول العالم، أما محليًا فلا توجد إحصائية دقيقة، لكن الدكتور وائل عناب، مدير مركز التصلب اللويحي الأردني في مستشفى البشير، يقدر عدد المصابين بالمرض في المملكة بنحو خمسة آلاف.

والتصلب اللويحي المتعدد هو أحد أمراض المناعة الذاتية التي يهاجم فيها الجسمُ نفسَه عن طريق الخطأ، حيث يهاجم الجهازُ المناعي الجهازَ العصبي المركزي بما في ذلك الدماغ والحبل الشوكي والأعصاب البصرية. وبالتحديد، تهاجم أجهزة المناعة مادة «الميالين»؛ وهي مزيج من البروتين والدهون تغلف الألياف العصبية وتحميها، ما يؤدي إلى تكون نسيجٍ يسمى التصلب، وعند حدوث هذا التلف تتعطل عملية تدفق المعلومات والرسائل العصبية داخل الدماغ نفسه، وبين الدماغ وأعضاء الجسم كذلك، ما يؤدي إلى ظهور أعراض تتفاوت مدة استمرارها من مريض لآخر باختلاف المنطقة المصابة من الجهاز العصبي.

عمومًا، يمكن تقسيم أعراض التصلب المتعدد إلى ثلاثة مستويات هي: أعراض المستوى الأول التي تأتي كنتيجة لتدمير المرض لمادة «الميالين» ما يتسبب بأعراض الضعف العام، والخدر والرعشة، وتضرر البصر، وفقدان التوازن، ومشاكل في المثانة والأمعاء، علمًا بأن تأثير تضرر مادة «الميالين» قد يصل إلى حد الشلل في بعض الحالات.

أما أعراض المستوى الثاني فهي مضاعفات للأعراض الأولية، حيث يمكن أن تؤدي محدودية الحركة إلى حدوث تقرّحات، وقد تؤدي قلة الحركة بسبب الضعف وصعوبة البلع إلى زيادة خطر الإصابة بالالتهاب الرئوي. وقد تسبب مشاكل المثانة التهابات متكررة في المسالك البولية، كما قد يؤدي الخمول على المدى المتوسط والبعيد إلى الضعف العام، واختلال التوازن العضلي، وانخفاض كثافة العظام، ومشاكل في التنفس.

ونتيجة لأعراض المستوى الأول والثاني، تحدث تبعات وأعراض من مستوى ثالث؛ مثل المشاكل الاجتماعية والمهنية والنفسية، بما في ذلك القلق والاكتئاب، وقد يفقد المصاب سبل العيش جراء فقدان القدرة أحيانًا على المشي أو قيادة السيارات. كما أن الإجهاد الناتج عن التعامل مع مرض مزمن قد يؤدي إلى تعطل العلاقات الاجتماعية، وقد يعاني بعض المصابين من مشاكل في التفكير والإدراك والانتباه والذاكرة وضعف الحكم.

ورغم تطور أجهزة الفحص والتشخيص عمومًا، وتزايد الدراسات حول مرض التصلب اللويحي في الآونة الأخيرة، إلا أنه لا يوجد حتى اليوم آلية محددة لتشخيص المرض، كما أن أعراضه السريرية ونتائج الفحوصات التصويرية قد تتشابه مع أمراض أخرى. وقد أفادت بعض التقارير الصادرة عن مراكز التصلب اللويحي المتخصصة أن 30% من الحالات المصابة بالتصلب اللويحي عالميًا قد تم تشخيصها بشكل خاطئ بأمراض مثل الصداع النصفي، وأمراض الأوعية الدموية الدماغية، وألم العضلات الليفية، والعديد من الأمراض الالتهابية والمعدية والأيضية غير الشائعة.

ومن غير المعروف بشكل دقيق أسباب التصلب اللويحي المتعدد. وبحسب بعض الأبحاث فإن المرض يحدث عندما يتعرض الأشخاص الذين لديهم مزيج معين من الجينات لبعض المحفزات الخارجية، إذ وجدت بعض الدراسات أن 25% من أسباب الاصابة بالمرض وراثية، و75% منها لها علاقة بالبيئة المحيطة والعادات اليومية مثل قلة التعرض لأشعة الشمس ونقص فيتامين دال، وغيرها. كما توصلت دراسات حديثة إلى وجود رابط بين مرض التصلب اللويحي والعدوى الفيروسية مثل الإصابة بفيروس «إبشتاين-بار».

«اختلفت حياتي»: كيف يؤثر التصلب اللويحي على حياة المريض؟  

حتى الآن لا يوجد علاج شافٍ من مرض التصلب اللويحي المتعدد، لكن يحصل المريض على أدوية تساعد على تقصير مدة النوبات أو الهجمات، وتقليل عددها والتخفيف من حدّتها، وإبطاء تطور المرض والتخفيف من النوبات المستقبلية. وفي بعض الأحيان قد يحتاج المرضى إلى علاجٍ طبيعي أو استخدام أجهزة المشي أو ممارسة تمارين رياضية، تحديدًا تمارين الإطالة وتقوية العضلات، لمساعدتهم على التعامل مع مشكلات المشي وضعف الساق المصاحبة للمرض.   

أجرت ليلى فحوصات لتحديد الأدوية الأنسب لحالتها، وعند حدوث النوبة تتوجه إلى مركز التصلب اللويحي في مستشفى البشير للعلاج، فتخضع هناك لرقابة طبية لمدة ست ساعات لتجنب الأعراض الجانبية المحتملة للأدوية أو التخفيف منها، كما يجب عليها الاستمرار بعمل فحوصات دورية للكبد والكلى بسبب تأثير الأدوية على وظائفها ما قد يؤدي إلى ظهور أعراض جانبية منها الصفار وآلام البطن.

شعرت ليلى بتحسن في حالتها بعد أول مرة حصلت فيه على الأدوية: «ظل في ألم، بس صار يخف شوي شوي». لكن هذه الحال لم تطل لأكثر من يومين، عندما أصابتها نوبة قلق أدت إلى عودة الألم مجددًا: «كأني ما أخذت الإبر، كل جسمي رجع تخدر مرة وحدة». لتعرف لاحقًا، بعد جولات من البحث والقراءة، أن القلق والتوتر من الأسباب التي تثير الهجمات، ومثلهما قلة النوم والتدخين وغيرها: «هيني بحاول شوي شوي أتقبل الموضوع نفسيًا وأعرف وأفهم عنه أكثر».

بخلاف ليلى التي شُخصت بالمرض حديثًا، فإن إبراهيم* (32 عامًا) شُخص بالمرض عام 2020، وذلك بعد رحلة امتدت أربع سنوات عانى خلالها من أعراض المرض وهجماته، حيث بدأ بمراجعة الأطباء عام 2016 على إثر ازدواجية الرؤية وفقدان التوازن: «كنت أوقع على الأرض، الناس ما تعرف ليش» يقول إبراهيم، مضيفًا بكلماتٍ ثقيلة بالكاد يمكن تمييز حروفها إن المرض تسبب بخسارة وظيفته: «صار العجز عندي مية بالمية».

إلى جانب الوظيفة، كان إبراهيم يعمل نجارًا، وهي المهنة التي تعذر عليه العودة إليها بسبب حاجتها للتركيز والمجهود البدني، فحاول البحث عن وظيفة أخرى دون جدوى: «ما في حدا مستعد يشغلك عنده، الكل بشوفك عبء عليه»، ليضطر أمام هذا الواقع للاستدانة من الأهل والأقارب، وهو الذي يعيل أسرته المكوّنة من زوجته وثلاثة أطفال، أكبرهم عمره سبع سنوات: «مقضيها قرضة ودين».

ولا تتوقف معاناة إبراهيم على صحته الجسدية المتدهورة، إنما يضاف إليها معاناة نفسية متفاقمة بسبب شعوره بالعجز وعدم القدرة على أداء مهامه والتزاماته الحياتية: «شفقة الناس تقتل. بقولوا كيف كان وكيف صار. اختلفت حياتي 180 درجة».

وقد انعكست هذه الظروف على حياة إبراهيم الاجتماعية وقدرته علي الالتزام بواجباته تجاه عائلته وأصدقائه، جراء صعوبة الحركة أولًا، ثم بسبب حاجته المتكررة لاستخدام دورة المياه بسبب المثانة العصبية، لذلك لا يستطيع إبراهيم تناول أي من المشروبات، خصوصًا التي تحتوي الكافيين مثل القهوة والشاي: «ما أشرب غير المي. الناس تتغلب فيك ما تدري شو تضيفك»، يقول إبراهيم.

صحيح أن العلاج منع تطور المرض وتفاقمه، لكن معاناته مع الأعراض لا تتوقف، إذ يعاني نوبات الرعاش وفقدان التوازن والإرهاق الشديد حتى في الأيام العادية الخالية من الهجمات: «أمشي 100 متر وأقعد»، وحتى قدرته على التحدث تضررت كثيرًا جرّاء تضرر أعصاب الوجه: «وصلت لمرحلة إذا أسولف أتعب». وفي أيام الشتاء والبرد يتزايد شعوره بالتعب والإرهاق حتى يصير عاجزًا عن الوقوف على رجليه. وليس الحال أفضل في أيام الصيف، إذ تؤثر الحرارة على نظره فتصعب عليه رؤية الأشياء البعيدة ما لم يستخدم النظارة ويجلس في غرفة مكيفة.

يضاف إلى ذلك، مشقة الحصول على العلاج، حيث يسكن إبراهيم في محافظة جرش، ويضطر عند حاجته إلى الرعاية الصحية أو عند صرف الدواء شهريًا لمراجعة المدينة الطبية في عمّان، وهو مشوار مُتعب له بالنظر إلى حالته الصحية، مشيرًا إلى أن بعض الصيادلة يتفهمون حالته أحيانًا ويصرفون له الدواء لمدة شهرين.

يُذكر أن تكلفة علاج المريض الواحد تتراوح بين سبعة إلى 10 آلاف دينار سنويًا، ويُعفى الأردنيون المصابون بالمرض من تكاليف العلاج، فيما تتواجد العيادات الخاصة بالتصلب اللويحي في مستشفى البشير والمدينة الطبية فقط. لكن ما يحتاجه المرضى من دعم يتجاوز تكاليف الأدوية، وفي هذا الصدد تشدد إيمان سلامة، مديرة جمعية التصلب اللويحي المتعدد على أهمية الدعم التثقيفي والتوعوي للمرضى، معتبرة ذلك ركنًا أساسيًا في العلاج سيما في بداية التشخيص وما يسببه من صدمة للمريض وعائلته: «بحيث نعطيهم آلية التعامل والمواجهة للمرض والوصول بأسرع وقت للتكيف»، تقول سلامة. وبدورها توفر الجمعية جلسات مجانية للدعم النفسي والمعنوي، وتوفر بعض الأدوات التي قد يحتاجها المرضى مثل العكازات والكراسي المتحركة.

وترى سلامة أنه يتوجب مراعاة الظروف الخاصة لمرضى التصلب اللويحي، مقترحةً تخفيض ساعات العمل للمصابين، وإلزام أصحاب العمل بالإبقاء على المرضى في وظائفهم، «أغلبهم بروحوا من الشغل بس يتشخصوا بالمرض» ما يتسبب بضغوط اجتماعية ونفسية تضاعف معاناتهم كما تقول. داعية إلى منح المرضى إعفاءات على السيارات واستقدام عاملات المنازل نظرًا لمحدودية قدرة بعضهم على الحركة، فضلًا عن حاجتهم للحصول على بطاقات مرضية من الأمن العام تجنبًا للمساءلة القانونية: «مرضانا بكون عندهم ترنح وعدم توازن بالمشي فبتعرضوا للمساءلة أحيانًا».

من جانبه يعتبر عناب، مدير مركز التصلب اللويحي الأردني في البشير، أن السر في السيطرة على المرض يكمن في المتابعة الطبية والالتزام بالأدوية، محذرًا من مغبة ما أسماه «الاستشارات البينيّة»؛ أي الاستشارات التي يتبادلها المرضى فيما بينهم بما في ذلك ترك الأدوية أو تغييرها ما يشكل خطرًا عليهم، أو ترك بعض المرضى أدويتهم والاكتفاء بالزيوت والوصفات الشعبية ما يفاقم حالة المرضى أحيانًا. 

الآن يحاول كل من ليلى وإبراهيم التعايش مع المرض والالتزام بالأدوية الموصوفة لهم، باذلين جهدًا شخصيًا للتعرف أكثر على المرض، ومتابعة أحدث الدراسات والأبحاث المنشورة حوله، والتعلم عن العادات اليومية والغذائية التي قد تحفز الهجمات، فيما هم دومًا بانتظار موعد الهجمة القادمة، آملين أن يتوصل العلم إلى دواء يخلصهم من معاناتهم مع المرض بشكل نهائي.


* أسماء مستعارة حفاظًا على خصوصية أصحابها.

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية