لا جدال حول أن حملة مقاطعة منتجات الشركات الأوروبية والأمريكية المتهمة بدعم «إسرائيل»، والتي تلت بدء العدوان على غزة، حققت هذه المرة نجاحًا غير مسبوق في الأسواق الأردنية، من حيث شموليتها واستمرارها طيلة فترة العدوان المتواصل حتى الآن.
بالتوازي مع حملات المقاطعة، انتشرت حملات تدعو إلى اعتماد بدائل لتلك السلع، وفي هذا السياق انتشرت على وجه التحديد دعوات لاعتماد البديل من «صنع محلي» إذا توفر.
من حيث الشكل، لوحظ في الأسواق عمومًا إضافة وسيلة ترويج فرعية وجديدة للبيع عنوانها: «هذا منتج محلي الصنع»، وهو ما يُعد ظاهرة تسويقية جديدة، ذلك أنه كان من الدارج الإشارة إلى كون السلعة «مستوردة» وخاصة إذا كانت أوروبية أو أمريكية، كعنصر ترغيب للزبائن. لكن مع انتشار المقاطعة بادرت أسواق ومتاجر كبيرة إلى وضع إشارات مكتوبة ومتكررة بشكل بارز قرب أرفف السلع المحلية، كما أعادت ترتيب أولويات خزائن العرض بحيث أعطت موقعًا متقدمًا نسبيًا لبعض السلع المحلية، وشمل هذا السلع من منتجات الدول التي اعتبرت صديقة أو على الأقل غير داعمة للعدو.
أكد كل من سألناه من العاملين في المتاجر على ملاحظة حصول تغيير في سلوك المشترين، إذ أصبح تفقُّد بلد الصنع ضروريًا، ويعمد كثير من الزبائن إلى الاستعانة بهواتفهم النقالة للتأكد إن كانت سلعة ما موجودة ضمن قوائم السلع المقاطعة، وذلك بعد أن بادر نشطاء إلى تعميم تلك القوائم على وسائل التواصل، وشمل السلوك الجديد هذا بشكل خاص جيل الشباب بل والأطفال أيضًا، الذين صاروا ينبهون آباءهم أو أمهاتهم إلى ضرورة التأكد قبل الشراء. وفي السياق أعلنت غرفة الصناعة عن تطبيق خاص بالترويج للصناعة المحلية.
من مظاهر حملات المقاطعة في الأسواق الأردنية. تصوير مؤمن ملكاوي.
يرى مشهور عمش، مدير التسويق في إحدى الشركات العاملة في مجال صناعة المنظفات، أن هناك تبدل فعلي إيجابي في موقف المواطن تجاه المنتج المحلي، وهو شامل لمختلف المناطق؛ في العاصمة وخارجها، ووفق تجربته فقد انعكس ذلك بشكل ملحوظ على المبيعات. مع إشارة خاصة إلى أسواق عمان، حيث كان ارتفاع الإقبال ملحوظًا أكثر في مناطق غرب عمان، في المواقع التي كان الجمهور معتادًا فيها على السلع الأجنبية، بحكم توفر المقدرة المالية، بينما في شرق عمان فإن شراء السلع المنتجة محليًا في مجال مواد التنظيف كان منتشرًا نسبيًا قبل المقاطعة.
غير أن مشهور عمش حرص على الإشارة إلى حالة الركود في الأسواق السابقة على العدوان، والتي ازدادت بعده، وعلى ذلك فإن زيادة البيع المشار إليها لا تعني إقبالًا عاليًا بقدر ما تعني نسبة مقارنة فقط. وفي حين يؤكد أن ظاهرة الإقبال على المنتج المحلي بهذا الحجم جديدة وغير مسبوقة، لكنه يتوقع أنها مؤقتة، وأن ديمومتها قد تكون صعبة، لأن المنتج الأجنبي أقوى تسويقيًا ويستطيع أن يكون مرنًا في وسائله، وتساعده إمكاناته المالية العالية على تمويل حملاته الدعائية.
يؤكد أمجد الزبن، وهو صاحب محل كبير نسبيًا متخصص في المنظفات والمستلزمات المنزلية، فاعلية المقاطعة وزيادة الإقبال على المنتج المحلي، ولكنه أيضًا يرجح أن الأمر مؤقت، إلا إذا غيرت المصانع خططها، من حيث تحسين جودة المنتج وشمول البدائل وتطوير سياسات التسويق، لأن البائع كحلقة وصل بين الصانع والمستهلك، له متطلبات لا يوفرها صاحب المصنع المحلي الذي قد لا يتحمل تكاليف تحسين التسويق.
غير أن أمجد لاحظ مبادرة إيجابية فيها قدر من الجرأة، حيث سارع أحد المصانع المحلية لسد فراغ في منتج لم يكن يصنع محليًا، بمعنى أنه لم يكن له بديل، وهو «أقراص» الجلايات الكهربائية، وسارع المصنع إلى تقديم منتجه الجديد بالفعل بعد المقاطعة. وفي المجال ذاته أشار مشهور عميش أن مصنعهم أنجز الاستعداد اللازم لصناعة المادة نفسها. كما لاحظنا أن بعض الأصناف الغذائية التي كانت تقتصر على منتجات شهيرة أجنبية، وقد أصبحت ضمن السلع المقاطعة، سارعت مصانع محلية إلى توفير بديل لعلها تستفيد من الموقف الجديد.
يؤكد سهيل النبهان، المقيم في محافظة إربد، والذي عمل في مجال تسويق المنتجات الغذائية لأكثر من 25 عامًا ولا يزال متابعًا لحالة الأسواق، أن ما يجري ظاهرة جدية وجديدة ومؤثرة وتلفت انتباه التجار، غير أنه يلاحظ غياب مرونة مزودي المنتجات الذين لا يبدون اهتمامًا طويل الأمد، وبعضهم يرى في الأمر مجرد فرصة للبيع الواسع، وتحقيق مكاسب في اللحظة الحالية.
الصناعة المحلية والترويج الصعب
لفهم مستجدات الظاهرة، قد يكون مفيدًا الإشارة إلى أن حملات الترويج للمنتجات محلية الصنع مرت بتجارب سابقة، من خلال حملات مصممة مسبقًا وذات أهداف وطموحات واعية، بمعنى أنها تختلف جوهريًا عن الحملة الحالية التي جاءت بمبادرة «من الأسفل» إن صح التعبير، أي من الأوساط الشعبية والنشطاء المهتمين والزبائن أنفسهم.
لعل أبرز تلك الحملات تمثلت في حملة «صنع في الأردن» والتي انطلقت في حزيران 2013 واستمرت فعالة لنحو سبع سنوات ولا تزال عمليًا قائمة وإن بوتيرة أقل، من خلال موقع إلكتروني خاص بالحملة.
يقول موسى الساكت، مؤسس تلك الحملة، إن نشاطها غطى كافة قطاعات الصناعة المحلية، وإن جهات عديدة داخل وخارج قطاع الصناعة اشتركت في الحملة، مثل وزارة التربية والتعليم وهيئة الإذاعة والتلفزيون ونقابة الصحفيين وأمانة عمان الكبرى وغيرها، كما انتقلت أنشطة الحملة بين المحافظات. واستخدمت الحملة شتى أشكال ووسائل العمل الدعائي والإعلامي. وحققت بحسب الساكت بعض النتائج الترويجية، فهي بالمحصلة حملة إعلامية أسهمت في التعريف بالمنتج الوطني، غير أنه من الصعوبة التعرف على نتائج تتصل بما حققته فعليًا في الأسواق.
الساكت أشار إلى أن مسألة المنتج الوطني مسؤولية ثلاثة أطراف هي المُنتج، والمواطن، والحكومة. وهذه الأطراف ذات أدوار تكاملية. ولفت إلى أن البعد التنموي يتطلب أن تتحقق زيادة في نسبة مدخلات الإنتاج المحلية، فهي بالإجمال لا تزيد عن 30% وهذا خلل ينبغي حله، ولكن هذا يحتاج لتفكير أشمل واستراتيجيات كلية أخرى، لأن الانتقال إلى الصناعات الأولية التي توفر مدخلات إنتاجية هو نشاط اقتصادي من طبيعة أخرى ويحتاج لتدخلات وإجراءات رسمية.
وبحسب دراسة صدرت عام 2020، أي بعد سبع سنوات على انطلاق الحملة، فإن مكانة المنتج المحلي لا تزال متدنية مقارنة بالمنتجات الأوروبية والأمريكية.[1]
من مظاهر حملات المقاطعة في الأسواق الأردنية. تصوير مؤمن ملكاوي.
هل يمكن البناء على هذا التغيير؟
وفق مبادئ العلوم الاقتصادية، هناك محددات للقرار الاقتصادي الرشيد عند الفرد، سواء كان مستهلكا أو مستثمرًا أو مدخرًا، من بينها ما يعرف بحسابات المنفعة والتكلفة، وهي حسابات يجريها الفرد على مدار الوقت، وعلى ذلك بني مفهوم «الخيار العقلاني» الذي يركز على حجم العائد أو المنفعة المتوقعة على المستوى الشخصي.
غير أن اتجاهًا جديدًا نسبيًا بات يتحدث بقوة عن دور العوامل النفسية والاجتماعية وأثر ذلك على القرار، بما قد يكون له أولوية على عناصر رشدية القرار بالطريقة الموصوفة أعلاه. صحيح أن دور العوامل النفسية والاجتماعية معروف مسبقًا ورافق تطور العلوم الاقتصادية، إلا أن الأمر نمى وتطور إلى درجة قيام فرع خاص اسمه «الاقتصاد السلوكي»، أخذ يتنامى منذ العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، ويسعى إلى دمج مداخل علم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا مع علم الاقتصاد بهدف فهم أعمق للظواهر الاقتصادية.
في كتابه «المجتمع والاقتصاد: إطار ومبادئ» يشرح مارك غرانوفيتز كيف أن الفعل أو القرار الاقتصادي عند الفرد أو الجماعة، قد يخضع لمنظومة المعايير الاجتماعية السائدة، فقد يكون للناس تصور ما عن طبيعة هذا الفعل أو كيف يجب أن يكون، وهو تصور قد يلغي أو يتجاوز أو يعدل الفعل الاقتصادي ويباعد بينه وبين مقتضيات فكرة القرار الرشيد.[2]
يؤكد غرانوفيتز أن المعايير الاجتماعية تكون ملزمة بشكل أساسي من خلال تأثيرها في العواطف، فتكون معززة بمشاعر الإحراج والتوتر والشعور بالذنب والعار التي يعاني الشخص احتمال انتهاكها، وقد تشحن أيضًا الشخص الملتزم بمعيار ما بالعواطف الإيجابية. إن المعايير الاجتماعية «تبسط قبضتها على العقل بسبب العواطف القوية التي تستطيع إثارتها».
في عام 2015 أصدر البنك الدولي تقرير التنمية لذلك العام بعنوان «العقل والمجتمع والسلوك» وضع فيه بعض المبادئ السلوكية للفرد والجماعة في الميدان الاقتصادي، وقد بنى أفكاره من خلال بعض التجارب الفعلية في بعض الدول وخاصة في العالم الثالث.
في ظل المقاطعة الشعبية للمنتجات الداعمة للاحتلال، نحن أمام تغيير يسمح بطرح مسألة البناء عليه واستثماره وجعله ممتدًا، فهو سابق لقرار المنتجين والصناعيين، ويمكن أن يكون ضاغطًا باتجاه قرار مناسب ومفيد ومجد اقتصاديًا.
لهذا، صحيح أن الحدث الرئيسي عنوانه «العدوان على غزة»، أو المقاومة في غزة، وهو حدث سياسي كبير عالمي، وصحيح أننا في الأصل أمام ظاهرة التضامن مع غزة والاحتجاج ضد العدو، وأن المقاطعة أحد أدوات هذا الموقف العام، وأن الانحياز للمنتجات «الصديقة» وبصورة رئيسية، للمنتجات المحلية، كان واحدًا من النتائج او الظواهر المرافقة، إلا أن كل هذا مرتبط بشكل كبير بعناصر ذات بعد ثقافي، نفسي واجتماعي على مستوى الفرد والجماعة.
لذلك، أبدى مؤسس حملة «صنع في الأردن» موسى الساكت اعتراضه على تجاوز العوامل السياسية عند أصحاب القرار الاقتصادي في البلد. وأكد أن العامل السياسي ينبغي أن يكون حاضرًا حتى عند النظر إلى المخاطر التي قد تؤثر على النشاط الاقتصادي ونتائجه، وقد أشار مثلًا إلى مسألة التركيز الدارج رسميًا على قطاع السياحة، بينما نحن في منطقة تشهد التوترات بما يقود إلى هشاشة المشاريع والخطط.
من المعروف أن إحداث تغييرات في العوامل النفسية والثقافية العميقة يعد من الأهداف المعقدة، فهي ليست مجرد جهد ترويجي أو إعلامي أو ثقافي أو «توعوي» وفق المفردة الدارجة في البلد. إن المواطن المتسوق، يدخل ببساطة إلى المتجر، ويرى أمامه طيفًا من المنتجات متفاوتة الجودة والسعر والبريق والسمعة، ويعرف قدراته المالية، ويجري حساباته الخاصة، فإذا كانت نتيجة هذه الحسابات «العقلانية» توصله إلى شراء سلعة أجنبية، فما الذي يمكن أن يدفعه إلى شراء سلعة محلية؟ ينسحب هذا المنحى من التفكير إلى طرفي المعادلة الاقتصادية الآخرَين: المستثمر والمدخر، إضافة إلى المستهلك.
لست معنيًا هنا في التوسع في تفسير عوامل أو أسباب الوضعية المتدنية للسلع المحلية. هذا فضلًا عن أن نقاش الصناعة المحلية يتطلب استحضار عناصر أخرى تتعلق بالسياسات الكلية والتمويل وتطوير الخبرات وتحمل تبعات تحسين الجودة، بقدر التوقف عند موقف المستهلك وإمكانية تشكيل انحياز «إيجابي» عنده تجاه المنتج المحلي، حيث يحضر فورًا إلى النقاش العنصر النفسي الفردي والجماعي، المتشكل والمتطور تاريخيًا.
في حالتنا الراهنة، نحن أمام ظاهرة حصول تغير نفسي ثقافي جاء بضغط من أسفل ولم يخطط له أصحاب القرار المستفيدون، بشكل مسبق وقصدي. إن هذا التغير بطريقته التي تحقق بها، يسمح بطرح مسألة البناء عليه واستثماره وجعله ممتدًا، فهو سابق لقرار المنتجين والصناعيين، ويمكن أن يكون ضاغطًا باتجاه قرار مناسب ومفيد ومجد اقتصاديًا. إن الصناعة المحلية أمام إنجاز لم يكلفها أي جهد أو مال أو تفكير. والتغيير تحول إلى ما يشبه المطلب الشعبي الكامن، ولكنه حتى الآن ذاتي غير قادر على الاستمرار وقابل للتوقف أو التراجع، وعلى باقي الأطراف ملاقاته في منتصف الطريق.
كل الأطراف ذات الصلة ينبغي أن تتكامل معًا؛ الحكومة كصاحبة قرار كلي فيما يخص الرسوم والضرائب، والصناعيون أنفسهم، والمشتغلون بالأهداف الوطنية الكبرى السياسية والاقتصادية والثقافية، والمستهلكون. كما ينبغي التوصل إلى معادلة بين مصالح الضدين: التاجر المستورد من جهة والمُصنّع من جهة ثانية. ويبدو أن استحقاقات وتداعيات التضامن مع غزة وضعتنا أمام سؤال تنموي مُلِح.
-
الهوامش
[1] كتاب «صنع في الأردن.. رؤية وطن» بحث وإعداد موسى عوني الساكت. 2020، عمان.
[2] انظر/ي «المجتمع والاقتصاد: إطار ومبادئ» تأليف مارك غرانوفيتز. ترجمة ابتهال الخطيب. الكويت، 2021.