فجر اليوم الثاني من الحرب، شاهدت مريم الكفارنة (25 عامًا) من شباك منزلها السماء تمطر منشورات «تحذيرية» ألقاها الجيش الإسرائيلي داعيًا الناس للخروج من شمال غزة. وقبل أن تتمكن وأسرتها من إخلاء المنزل بالتزامن مع رسائل نصية وصلت على الهاتف تحدد لهم مسار النزوح ومهلة زمنية تقدّر بعشر دقائق، كان القصف قد بدأ. حملت مريم حقيبة صغيرة فيها الأوراق الثبوتية ومبلغًا لا يتجاوز 50 دولارًا، وتحركت تجاه الباب مع زوجها وابنتيها قبل أن يغيروا ملابسهم: «بنرجع وبنجيب أغراضنا، المهم أطلع ببناتي»، وإن كانت تخشى أن تكون هذه آخر مرة ترى فيها بيتها.
تزوجت مريم من ابن عمها، علي الكفارنة، في الـ19 من عمرها، وعاشا في شقة صغيرة ملأتها ضحكات طفلتيهما شام (خمسة أعوام) ونهاد (ثلاثة أعوام)، في عمارة عمها بمنطقة بيت حانون شمالي القطاع. عندما بدأ «الهجيج» كما تصفه مريم، لم تسنح لها الفرصة للاطمئنان على أهلها وإخوتها الذين يسكنون بالقرب منهم: «منطقتنا قرب الحدود مع مستوطنات غلاف غزة، نرى بأعيننا الجدار العنصري، وفي كل حرب ننقصف». في حروب عامي 2014 و2021 تضررت العمارة التي تسكنها مريم، وعمارة أهلها المجاورة، بشكل بالغ. كانت بعض آثار الدمار ماثلة في العمارتيْن حتى بعد إعادة الإعمار والترميم.
استقلت مريم وزوجها وابنتاهما سيارة أحد الأصدقاء، مع خمسة أشخاص آخرين، إلى شقة أحد الأقارب في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة الذي يبعد عنهم حوالي 10 كيلومترات. لم تملك مريم الوقت لتنسيق نزوحها مع أهلها[1] الذين نزحوا إلى منطقة الفالوجا في مخيم جباليا. سلكت السيارة طريق صلاح الدين الذي حدده جيش الاحتلال باعتباره «ممرًا آمنًا»، حيث سار النازحون بالمئات، بما فيهم النساء الحوامل وكبار السن والأطفال. شاهدت مريم الوجوه المألوفة لأبناء حيّها يسيرون حُفاة بعد أن خرجوا مسرعين لإنقاذ أرواحهم، وبعضهم يصاب بالشظايا المتطايرة ويقع على الأرض دون أن يتمكن أحد من إسعافه: «كنت أسمع صوت القصف، أقول معقول هذا ضَرَب بيتي؟ (..) كل ما طلعنا من شارع تشاهدنا، خوفنا نستشهد بالشارع اللي بعده».
View this post on Instagram
قضت مريم وأسرتها يومًا واحدًا في مخيم الشاطئ قبل أن يُقصف المسجد المحاذي لشقتها، بالتزامن مع تصاعد الهجمات العسكرية على المخيم من الزوارق البحرية الإسرائيلية. فقرروا النزوح لشقة أخرى في حي الشيخ رضوان المجاور لمخيم الشاطئ، حيث ستكون أكثر قربًا من أهلها الذين أقاموا في إحدى مدارس الأونروا في منطقة الفالوجا، ويتسنى لهم أن يتعاونوا في تدبير أمور الطعام والشراب. وصلت مريم وأسرتها حي الشيخ رضوان بعدما مشوا ثلاثة كيلومترات ليقيموا هناك في شقة إلى جانب ثلاث أسر نازحة. في اليوم التالي، وصلت لمريم صور ركام منزلهم يغطي حاجياتهم التي كانوا يريدون العودة لأخذها؛ ملابس شتوية وكتب الطفلات وبقية الأوراق الثبوتية. وبعد يوم آخر، قصف الاحتلال المربع السكني والشقة التي نزحوا إليها.
«طبق عليّ سقف البيت وظليت تحت الركام لمدة نص ساعة لحد ما طلعوني، كنت صاحية بس مش قادرة أتنفس ومش متحملة الوجع»، أصيبت بشكل بالغ في كتفها وتهشمت عظامها ومفاصلها. بعد أن نقلها المنقذون لمستشفى الشفاء، اتصلت مريم بوالدتها قائلة: «أنا الوحيدة اللي عايشة يمّا، الكل استشهد». تمالكت والدة مريم نفسها بصعوبة وسارت مشيًا من الفالوجا إلى مستشفى الشفاء حيث تقاسمت مريم السرير مع مصابة ثانية، فيما يسيطر عليها الإعياء والقلق حيال مصير أسرتها، ويزيد قلقها التهتك الذي أصاب كتفها.
بعد أربع ساعات قضتها مريم في المستشفى، وجثامين الشهداء تصل إليه تباعًا، عرفت مريم أن ابنتيها على قيد الحياة وأنهما جريحتان بإصابات طفيفة، لكنها خسرت زوجها وعمها وابن عمها، وعمها الثاني وابنه وابنته، وابنة وابن خالها وابنته الصغيرة البالغة من العمر ثلاثة شهور. من أصل 76 شخص أقاموا في العمارة المستهدفة، استشهد 67 ونجا تسعة فقط، من بينهم مريم وابنتاها.
أقامت مريم مع أهلها في مستشفى الشفاء ليومين إلى جانب عشرات النازحين والمصابين في الممرات والساحات والغرف والسلالم. ورغم أن الطبيب أخبرها بحاجتها لعملية فورية إثر تضرر الأعصاب والأوتار والأنسجة الدموية، إلا أن التدخل الطبي الوحيد الذي كان متاحًا حينها هو إغلاق كتفها بشكل جزئي بجبيرة. مع تزايد القصف في محيط المستشفى وتوافد المصابين بوتيرة عالية، غادرت مريم المستشفى إلى المدرسة في الفالوجا حيث يقيم أهلها على متن عربة «توك توك»، أمّنها لها أخوها الكبير، عز الدين. تركت مريم خلفها في المستشفى زوجها وعمها وأولاده في ثلاجات الموتى، ولا تعرف حتى اللحظة إن كانوا قد دفنوا بطريقة لائقة أم لا.
كانت هذه المرة الرابعة التي تضطر فيها مريم للنزوح: «في أسبوع واحد، صرت بدون بيت، وأرملة ونازحة، وجريحة. حتى أوراقي الثبوتية راحت، صرت بدون هوية». أقامت مريم مع أهلها في الفالوجا لخمسة أيام في غرفة يعيش فيها أكثر من 25 شخصًا، ويتلقون قليلًا من الطعام والماء من معونات وكالة الأونروا، دون أي شكل من أشكال الرعاية الصحية. تقول مريم إنها احتاجت مساعدة والدتها لأداء مهام أساسية، مثل الوقوف أو الذهاب إلى الحمام.
مع ضرب المنطقة المحيطة بالمدرسة بحزام ناري، قررت الأسرة النزوح مجددًا في الأسبوع الأخير من تشرين الأول، متجهين جنوبًا نحو دير البلح وسط القطاع. في هذه المحطة، تشتت العائلة مجددًا عندما ودعت مريم أختها التي قررت التوجه مع زوجها وبناتها لخان يونس جنوبي القطاع، لأن الغرفة الصفية التي أرادوا النزوح إليها في دير البلح لا تتسع لهم جميعًا. تحرّك البقية من الفالوجا، يحمل كلٌ منه بطانيته ويتعاونون في حمل أطفال العائلة، وسيرًا على الأقدام قطعوا مسافة تزيد عن عشرين كيلومترًا، فيما تعددت وسائل نقل مريم، إذ أمّن عز الدين لها دراجة نارية حتى منتصف الطريق، وأكمل هو بقية المسافة يحملها على ظهره، أو يجرها على قطعة بلاستيكية، أو يستنجد بعربات النازحين التي تجرها الحمير. «أنا ممتنة لعز بحياتي، أخوي المصاب بالسكري هو اللي شالني، كان بعاني يلاقي أنسولين في مراكز الإيواء. ما وصلنا دير البلح إلا وإجريه متورمين وعنده نزيف في شبكية العين».
عايشت مريم وأسرتها مشاهد مروعة في الطريق لدير البلح، اقتسمت والدة مريم مع عائلة أخرى قطعة قماش بيضاء يرفعونها في إشارة لكونهم مدنيين، وقد أحاطت بهم جثامين الشهداء في الشارع وحاصرتهم الشظايا وطائرات الاستطلاع من فوقهم: «شفنا الموت بعيوننا، أبوي عمره 55 سنة ومصاب بالقلب، لما كان يغمى عليه، ما نعرف هو من المرض ولا الخوف ولا المناظر اللي حوالينا»، معتبرة أن أسرتها محظوظة لعدم توقيف أحد أفرادها من قبل جنود الاحتلال الذين كانوا يعتلون الدبابات الإسرائيلية المتوغلة في «الممر الآمن للنزوح» الذي حولته «إسرائيل» لـ«مصيدة قتل» واعتقلت عنده ما بين 400 إلى 500 شخص.[2] «كانوا بندهوا على الناس بشكل عشوائي، إنت وقف إنت امش، واللي بتطلع وراه ممكن يطخوه، ما كان حدا يقدر يتطلع»، تقول والدة مريم.
تدهورت الحالة الصحية لمريم في إحدى مدارس دير البلح، حيث أصيبت بالتهاب وتقرحات شديدة في منطقة الإصابة، وكانت درجة حرارتها ترتفع لساعات وتعاني من آلام لا يمكن احتمالها: «حسيت حالي بلشت أشم ريحة العفن من جروحي». في مدرسة الإيواء، تقول مريم إن الأعباء تفاقمت، فإلى جانب السعي المستمر لإنقاذ أرواحهم والتفكير المستمر بالوجهة القادمة، كانت أسرتها مسؤولة عن تلبية احتياجات أساسية للحصول على الطعام والمياه والعلاج بأي طريقة، وقفت والدتها وإخوتها على الطوابير لساعات من أجل لترين من الماء يتقاسمونها جميعًا، ودفعوا أسعارًا باهظة مقابل معلبات المساعدات، وقطعوا مسافات طويلة تحت القصف من أجل تأمين حبوب مسكّنة لها. «رحلة النزوح عبارة عن عذاب ورعب، اللي بوصل وأهله مستشهدين أو متصاوبين، وفوق هيك الجنوب لا يعني النجاة، الناس بتموت في رفح مية مرة»
«زيدي على كل المعاناة صدمة الخسارة، ما تخيلت إنه رح نوصل الجنوب ناقصين»، تقول مريم التي قضت في دير البلح ثمانين يومًا، راجعت بعدها مستشفى شهداء الأقصى في أول زيارة طبية لها منذ إصابتها. لم يكن لدى الطبيب ما يمكنه تقديمه لها، لكنه أخبرها كيف أثّر التجبير بدون عملية على سلامة الأنسجة، وعن إمكانية تزايد إحساسها بالشلل في ذراعها مع تفاقم الإصابة، وربما حاجتها لبترها بعد تحملها الألم لأشهر. كانت جميع هذه الخيارات بالنسبة لمريم متوقفة على «حصول هدنة أو وقف الحرب»، لكنها أعدّت ملفها الطبي بما تذكرته من بيانات شخصية عن نفسها أملًا في العلاج خارج غزة.
نهاية كانون الأول الماضي، نجحت جهود أخيها الثاني محمد، في تنسيق خروجها إلى قطر حيث خضعت لعملية جراحية معقدة وبنسبة نجاح محتملة 40%، «أخذوا عظم من رجلي اليمين وزرعوه في كتفي، كانت العملية مجازفة بس نجحت، بعرف إيدي هسة موجودة منظر ومش رح تشتغل زي أول، بس هاي مش معاناتي لحالي، هاي معاناة مليونين فلسطيني في غزة». تركت مريم في غزة ابنتيها مع والدها وإخوتها وزوجاتهم الذي انخرطوا في رحلتين جديدتين من النزوح، الأولى نحو رفح حيث أقاموا أسبوعًا واحدًا في مدارس النزوح، ثم مع اشتداد القصف جنوب القطاع واحتمالات توغل قوات الاحتلال بريًا عادوا إلى حيث كانوا في دير البلح.
بعد انفصالها عنهنّ لقرابة شهرين، اجتمعت مريم بابنتيها مطلع آذار الجاري بعد تنسيق سفرهما إلى قطر، وهي ما تزال تخضع للعلاج وتأمل نجاح عملياتها الجراحية القادمة، فيما تعاني للتواصل مع أسرتها التي تكابد يوميًا لتجنب الموت في مراكز الإيواء المتكدسة والخيم البلاستيكية وطوابير المساعدات، «إخواني عايشين على فتات الأكل، في أطفال رضع مش لاقينلهم حليب، وحتى اللي كان معاه شوية مصاري خلصها».
أما عن أقاربها ممن ظلوا في الشمال، فجل ما تعرفه عنهم هو أخبار النعي التي تنشرها الصحافة عمن استشهد منهم جوعًا. تقول مريم إن «رحلة النزوح عبارة عن عذاب ورعب، اللي بوصل وأهله مستشهدين أو متصاوبين، وفوق هيك الجنوب لا يعني النجاة، الناس بتموت في رفح مية مرة».
-
الهوامش