كان منزلها يبدو كأنه إقليم حرّ وسرّي مقتطع من حكاية أسطورية. لعلّ هذا كل ما في الأمر: كان زمن الانتفاضة زمن المعجزات الخفيّة وزمن الاكتشافات الطازجة. لطالما زارتني، على مدار السنوات، أحلام تدور في فناء البيت، ومحيطه الأوسع، في سعيي للوصول إلى البيت. البيت الذي لم يتمكن عقلي من تخيل وجوده قبل لحظة ما، ثم صار مركزًا للكون بعدها، وبدا لو أنه قد حطّت فجأةً من السماء واحة من الحجارة والعشب والشجر والألفة. لو أخبرتكم أن البيت والأرض المحيطة به قد نزلا إلى حارتي في القدس من السماء ذات ليلة؛ تمددت الأرض ببطء أثناء العملية، سنتيمترات قليلة في كل اتجاه، أثناء نوم الناس، ضاقت الدروب والشوارع قليلًا، في كوكب الأرض بأسره، لكي تفسح مجالًا لاحتواء الهديّة النازلة من فوق، لما صدقتموني. لذلك سأحاول أن أكون واقعيًا: اكتشفت منزلًا أرضيًا يقع خلف بنايات حجرية كلها مكوّنة من طابقين، توصل إليه درب ملتوية توحي للمرة الأولى لمن تطرق قدماه أول الدرب، بأنها لا تفضي إلى مكان. كان محيط المنزل دغلة عذراء، لم يكتشفها أولاد المدرسة بعد، فلم يحوّلوها إلى ساحة معارك.
يقع «منزل الحجّة» ذو الطابق الواحد، الذي تتسلق حجارته تشكيلات صفراء وسوداء من طحالب الكلس الدقيقة، وسط تلك الحاكورة تمامًا، محاطًا بالأعشاب الطويلة، وأزهار الخردل الصفراء، ونرجس جبلي فوّاح الرائحة في مواضع صعود الصخر من التربة، وسنابل لنباتات تشبه القمح، تطوّرت عن الشعير، فارغة من الحبوب، باسقة الطول، إذا ما مالت الشمس إلى الغروب صار لونها فتّانًا، تهزها الريح وسيقان الفتية الذاهبين إلى الانتفاضة.
كيف نبت المنزل في ذهني فجأة؟
لديك في الذهن دائمًا، تصوّر ما عن جغرافيا المكان، تصوّر يستند إلى تخيّلك للحيز. بالارتكاز على هذا التصوّر للحيّز يصير بإمكانك تخيّل الحارة كلّها، وإن لم تدخل بعض أزقتها. وهو تصوّر قد أفاد كثيرًا أثناء المطاردات، حين كان جنود حرس الحدود يلاحقوننا، ونحن نقفز من فوق سلسلة حجارة إثر أخرى، ونتعثر بشجيرة ميرمية وحبل غسيل، هاربين من صليات الرصاص المطّاطي. كنا ندخل الحارات وفي أذهاننا ما يشبه جهاز «جي بي إس» أوليّ لطريق الهروب. ومنافذ «الكبسيّات».[1] كانت هذه الخريطة الافتراضية التي في الذهن، تفيدنا أيضًا في اختيار مواقع إخفاء «الجهاز».[2]
كنتُ إسلاميًّا في المرة الأولى التي وصلت فيها إلى منزل الحجّة، وقد كنّا نخطط لمظاهرة مشتركة مع رفاق لجان المقاومة الشعبية، ميليشيا الأشبال التابعة للجبهة الشعبية. كنّا إسلاميْين اثنين في الحارة كلّها، وأظنّ أن مجد، ألمع أشبال الشعبيّة في المنطقة، وأكثرهم صدامية، كان يفكر في استقطابي أنا والأخ المجاهد، تيسير، وهذا ما دفعه إلى اقتراح قيامنا بالتحضير لمظاهرة مشتركة بين السواعد الرامية ولجان المقاومة الشعبية، قبالة دكانة أبو خليل.
– أين سنخفي الجهاز؟ أين سنتلثّم؟
– عند دار الحجة.
بتوجّس يشبه توجّس فاسكو دي جاما وهو يبحر في المحيط، أسير خلف رفيقي الشعبية، وعلى أوّل الدرب، انكشف الدرب. يسير محمد ومجد أمامنا وهما يقوداننا نحو المساحة الآسرة الخفيّة. ما يشبه الدغل خلف حارة فتيحة، إلى اليمين سور إسمنتي لدار أبو حبسة، إلى اليسار منازل أخرى، انعطاف إلى اليسار، فتحة في سلسلة حجرية تفضي إلى فسحة غرائبية: بيت تحيط به الأعشاب وبضعة أشجار مزروعة، بيت يبدو مهجورًا، لكنّه نظيف أيضًا (يبدو الأمر من نظافة النوافذ، وعدم تسلّق النباتات لحجارة المنزل). هذا هو «بيت الحجّة»!
خرجت الحجّة وسلّمتنا ثلاثة أعلام فلسطينية، مكتملة البهاء، كان ذلك في ربيع ما، قبيل يوم الأرض. وهكذا، رفرفت الأعلام الثلاثة على أضلاع المثلّث الذي يمثله المركز اللوائي للشرطة.
فجأة، اتّسع الحيّز المحشور في جمجمتي وجمجمة تيسير ليضاف إلى قلب الخريطة بيت السيّدة التي تلف رأسها بقطعة من الشاش الأبيض، تظهر من تحتها جديلة حمراء محنّاة، تشي ببياض شعر السيدة التي كانت تراقبنا من خلف درفة النافذة ونحن نبدّل ملابسنا.
تلثّمنا، ارتدينا أكياس قمامتنا كيفما اتفق، مررنا من أمام «دار فتيحة»، صعدنا حتى صرنا قدّام دار جابر، أغلقنا الشارع بعربات القمامة، وذهبنا إلى مظاهرة باتجاه مقر الشرطة، وهي مظاهرة لم تنته باشتباك، إذ أقنعنا صفير غامض آت من نافذة بيت عالٍ بأن جيب حرس الحدود آت من نزلة العبّاسي، أي من خلفنا، فركضنا لا نلوي على شيء.
لا أذكر إن كانت قنابل الغاز قد لحقت بنا في ذلك اليوم. أذكر أنني شعرت بالعار لأن المظاهرة لم تنته بمواجهة (كنت قد صلّيت، وأنا أؤمّ تيسير، في ذلك اليوم، ركعتين طلبًا للشهادة). هربنا نحو حي السويح، مرورًا بدار عابدين، ننهب الأسفلت نهبًا، ونتعثّر، بأقنعتنا المضحكة التي ابتلّت باللعاب، وصارت خانقة، فصرنا نمسك بأصابعنا أطرافها ونرفع بعضها لكي يدخل الهواء إلى الرئتين المخنوقتين بفعل المجهود العضلي، والخوف، وجفاف الريق. نحن نتراكض والناس يتطلّعون علينا من الحواكير. دفعني رعبي للذهاب إلى الحاكورة الغرائبية، التي دلّني عليها الرفيق مجد ذلك العصر، حاكورة الحجّة، حتى حلّ المساء، وحلّ الجيش عن الحارة.
أذكر أن الحجّة قد رأتني مرعوبًا، وقد أدخلتني إلى المنزل، وصبّت لي الشاي، لم تتحدث كثيرًا، أطلقت دعوة بصوت خافت على اليهود، كانت تتنفس بصعوبة من التوتر، وبيد جافة ومرتعشة أشارت إلي بالجلوس على كرسي فوقه وسادة مطرزة بالصوف، كانت هنالك مدفأة كهربائية، وتلفاز مشوّش الصوت قليلًا، يبثّ برنامجًا أردنيًا ما. كانت تخرج إلى أول الدرب، لتستطلع الطريق، ثم تعود وتقول لي بما يشبه الهمس: الله يحميك. كانت مرارة الميرمية في الشاي قد سرت خدرًا في معدتي الجائعة، وحين انتهى كل شيء، وأنهيت كوب الشاي وأنا أقاوم لمنع نفسي من لحس السكر غير الذائب في قعر الكوب البلّوري المضلع، خرجتُ وأنا أفكّر في اختلاق عذر يبرر، أمام أبي، سبب تأخري حتى اللحظة، في حارة مليئة بالجنود.
لاحقًا، في جولاتي الطويلة في الحارة، الجولات الفردية التي كانت تتم دون هدف، كنت أفيء إلى تلك الحاكورة كما لو كانت غابة لوكسلي المحررة التي اختفى فيها روبن هود وعصابته، لا أتوقف، بل أمرّ بها مرورًا عابرًا، قاطعًا الحاكورة من مدخل السلسلة الحجرية إلى منفذ مقابل، يؤدي إلى الحارة التي فيها منزل أقارب لي، وأتنفّس الصعداء في ذلك المقطع. كانت الحاجّة حين أمر بها تنظر من خلف درفة النافذة، أو توقف سقايتها للشجرات، وتضع يديها على خصرها، منتظرة خروجي من حاكورتها، التي حفرت أقدام السواعد الرامية، والقوات الضاربة، ولجان المقاومة الشعبية، وكتائب عمر القاسم، بين حشائشها الطويلة الخضراء دربًا بيضاء ضيّقة على تراب كلسيّ، من تحت أغصان شجرة لوز تصعد إلى أعلى من يمين الدرب، ثم تسقط أغصانها بطريقة غريبة على هيئة مقوّسة نحو الجهة الأخرى، صانعة قوس نصر وهميّ يمرّ من تحته أشبال الانتفاضة، قوس مصنوع من أوراق شديدة الينعان.
ذات مرّة، قررنا العمل مع «النمر المقنّع»، وهو اسم واحدة من تشكيلات فتح، كانت قبل شهر تعمل تحت اسم «القوات الضاربة»، وقبل أسبوع باسم «القيادة العامة للقوات الضاربة»، وتلك اللحظة باسم يراد له محاكاة تسميات النسر الأحمر، والفهد الأسود الرائجة. وحين أخذني طارق، مسؤول النمر المقنّع، إلى هناك (كنت وقتها قد صرت شيوعيًا)، استلم من الحجّة ثلاثة أعلام فلسطينية، كان قد طلب منها أن تخيطها من أجل الثورة.
لا، لا، سأحكي عن هذا المشهد:
قال لي طارق: انتظر هنا قليلًا. وقفت بجانب شجرة اللوز، نادى على الحاجّة، فخرجت من منزلها لتستطلع، ثم عادت وناولته كيسًا أسود، أخرج طارق منه ثلاثة أعلام فلسطينية، مطويّة كما لو كانت قمصان عريس، مخيّطة باحتراف، أو على الأقل: باحتراف مقارنة بأسلوبنا نحن في خياطة الأعلام (كنّا نثني قطعة الساتان عشر طيّات قصيرة، ثم ندخل الإبرة فيها، لتخرج أحيانًا فتدخل تحت أظافرنا، ونكتم الصرخة، أو كنّا، لنتلافى الإصابة، ندقّ قاع الإبرة، المرفوعة نحو الأعلى، عبر طيّات القماش، بحجر صلب، وحين يكتمل العلم نكتشف سوأة أفعالنا).
الحاجّة خرجت، وسلّمتنا ثلاثة أعلام فلسطينية، مكتملة البهاء، كان ذلك في ربيع ما، قبيل يوم الأرض. وهكذا، رفرفت الأعلام الثلاثة على أضلاع المثلّث الذي يمثله المركز اللوائي للشرطة. قبالة حوش عديلة، على سلك الكهرباء، بالضبط أمام منزل مدير مدرستنا (على أمل أن يخرجه عناصر حرس الحدود في الليل، ويطلبوا منه اختراع طريقة لإنزال العلم)، وعلى زاوية الدرج المتفرّع من شارع العيزرية الرئيسي، في نقطة عمياء لكنها تقع بالضبط أمام علم إسرائيل المرفوع فوقنا كلّنا، رغمًا عنا.
من أين أتت الحاجّة؟ ما هو اسمها؟ كيف حطّ منزلها هكذا في قلب الحارة وقلب الأسرار وقلب الانتفاضة؟ كيف كانت شجراتها والأرض المحيطة محل إجماع وطني، ومركز قيادة ميداني؟ كيف اتّسع منزلها لكل الرايات، وكل أكياس القمامة التي تحتوي أجسادًا ترغب في أن يُكتب نعيها على الحيطان؟ لماذا لم نتقاتل على لوزها؟ لماذا كانت تعيش وحدها كما لو كانت ساحرة من حكاية عجيبة؟ ولماذا ظل منزلها في وعيي، محلًّا يفيض بالدفء والأمان؟ وهل يذكر مجد، في سجنه الآن، أنه قد كتب اسمه على علم فلسطين وعلّقه على عمود الكهرباء اللصيق بمدخل بيته، وحين حققوا معه حول الأمر، قال لهم أن مجد اختصار لعبارة «منظمة الجبهة الديمقراطية» لا علاقة له به، وخرج ساخرًا منهم؟ على السور كانت الحروف الحمراء تقول «عاش الثامن من آذار». وأظنّ أنني آنذاك قد فهمت مغزى هذا كلّه: لقد كان الشعار احتفاء بالحاجّة التي لا أعرف اسمها حتى اليوم، ولا أظن أن مجد أو طارق كانا يعرفانها باسم سوى «الحجّة».
تركت حارتي منذ زمن بعيد. ومنذ ذلك الوقت نَمَت في الحارة بنايات هائلة وآيلة للهدم في أية لحظة (لا بفعل الجاذبية الأرضية، ولكن بفعل الأوامر الإدارية العبرية الصادرة عمّن يحكمون القدس)، يتدلى من حوافّها أطفال كثر يتقنون الشتيمة والعراك وحماية المسجد الأقصى بالشتيمة والعراك، بنايات تحدث في جنباتها مقاتلات رهيبة بين العائلات. تحوّلت القدس التي أعرفها إلى مخيّم لاجئين كبير ورمادي تتوسطه قبة مذهّبة. أشجار اللوز راحت، وظلّت المقاتلات بين أولاد المدارس في الأماكن التي كانت تنمو فيها أشجار اللوز. لعلها طاقات المكان، لا اشتهاء حموضة اللوز المزغّب، وشجّات الرؤوس بفعل الحجارة الطائرة، هي سبب كل هذا الدم.
منذ ذلك الزمن، تكاثرت البنايات، وتآكل حجم الحواكير المتبقية من أنياب الأسمنت التي صارت تتكاثر، بفعل تكاثر الخلق واحتياجهم إلى حيطان يدقّون عليها مسامير لتعليق كل شيء؛ الثوم والبامية المجففة في المطابخ، صورة الأقصى ولينا النابلسي والطفل الباكي في الصالون، برواز يحتوي على تطريز «ما شاء الله» ومراييل المدارس الخضراء في غرف النوم. كانت المنازل الأسمنتية المقامة على عجل، وخيوط الماء المصوبن الوسخ الناضح من شطف بلاطها، والشبابيك التي تخرج من فتحاتها نشرات الأخبار وأغانٍ مصرية مسجلة على شرائط، وأوساخ بلاستيكية وزجاجية ملقاة كيفما اتفق بين الأعشاب، وتنك صدئ كان يحتوي، قبل حول واحد، زيت زيتون وسمن؛ كانت هذه المكعبات الرمادية ذات الطوابق التي تتصاعد بدءًا من لحظة الانتفاضة، إلى ما فوق الطوابق الثلاثة، تلتهم قطعة إثر قطعة، الحواكير المزروعة دائمًا بدالية عنب، وشجرة ليمون حامضة، وشجرتي لوز أو ثلاثة، تثمر في كل ربيع حموضة خضراء، وتتسبب في معارك بالحجارة بين أصحاب البيوت وأولاد المدرسة الإعدادية.
حين كنت إسلاميًا، كنت أضحك، بالطبع، من «عيد العمّال» و«يوم الاستقلال» و«يوم المرأة». لكنني لا أظن أن مكان الشعار الذي كتبه مجد، قريبًا من مدخل بيت الحاجّة، فوق دار «عُلما»، كان عبثيًا.
على السور كانت الحروف الحمراء تقول «عاش الثامن من آذار». وأظنّ أنني آنذاك قد فهمت مغزى هذا كلّه: لقد كان الشعار احتفاء بالحاجّة التي لا أعرف اسمها حتى اليوم، ولا أظن أن مجد أو طارق كانا يعرفانها باسم سوى «الحجّة». حصل هذا قبل أن تنتشر شعارات «صوتك ليس عورة». كانت الحاجة قد تجرّدت، بوصفها حاجّة، من كل التوصيفات الجندرية، رغم أن جديلتها حمراء أو برتقالية، وتخفيها بإهمال خلف قطعة شاش أبيض. أكاد أجزم أن عمارة قد حلّت محل منزلها، أو أن المنزل والعشب وشجرة اللوز والحاجة قد هبطا فعلًا من مكان خفي في السماء، لكي تخاط لنا الأعلام، ونختبئ من شرور العالم ونحن نشرب الميرمية، ولكي نواصل الحلم وسط هذا القبح كله، ثم عادت إلى موقعها بعد أن جاء زمن الجَزْر. وأن أعلام فلسطين، منذ رحلت الحاجة عن هذا العالم وحلّ أوسلو فيه، صارت تميل إلى الانفتاق بسرعة.
-
الهوامش
[1] اسم الغارات الخاطفة على دوريات حرس الحدود، وعلى الشوارع الرئيسية حيث تكثر سيارات المستوطنين، وهي غارات لا تستوجب لثامًا أو هتافات، بل لحظة من الشجاعة تقف فيها قبالة الجندي أو المستوطن في السيارة المسرعة، فتقذف سيارته بما تحمله ممّا تيسر، ثم تفرّ هاربًا قبل أن تسمع صوت المكابح الذي يبدو وكأنه صرخة آتية من الجحيم.
[2] الجهاز، اسم ساخر مستمد من «جهاز العروس»، ويُعنى به في الانتفاضة الأولى: كل ما يلزم الولد لكي يصير سوبرمان أو عضوًا في ميليشيا: كوفية أو قناع، علم فلسطين، مقلاع، كنزة سوداء، أكياس قمامة كبيرة سوداء تُثقب من الأعلى بحجم الرأس، ويصار إلى ثقب جانبيها لنفاذ الأذرع، ليصير لدى السوبرمان الهارب من عصا الأستاذ وأعين الجيران الفضوليين، بذلة سوبر، حقيقية، يواجه بها «إسرائيل» بأسرها.