غرفة العلاج النفسي كمساحة منفصلة عن الحياة اليومية

الأحد 09 تموز 2023
نامارتا جوزافي. المصدر: الأتلانتيك.

«كانت دائمًا المُعالجة تطلب مني أفكر بالأشياء اللي انحكت في الجلسة أو تعطيني مهام بسيطة أعملها بعد الجلسة، بس الصراحة مش دائمًا كنت افكر بعد الجلسات، بعرفش ليش بس كنت أحس إنه فش وقت أحمل اللي صار بالجلسة معي. يومي كثير ملان ودائمًا بالشغل. لما كنت أدخل ع الغرفة أحس حالي انفصلت عن العالم وإنه معي هاي الساعة اللي انفصل فيها عن كل شي وأحكي عن مشاعري وعن حالي بصوت عالي، قبل ما أرجع للضجيج وسرعة الحياة».
– رلى، اسم مستعار.

أثناء إجراء بحث نوعي بعنوان «إدراكات المُنتفعين لتجربة العلاج النفسي» أجريت 17 مُقابلة مع أشخاص خاضوا تَجرُبة العلاج النفسي في فلسطين، تَحدثوا خلالها عن تَجاربهم. وقد بَرَزت عدة محاور كان أحدها إدراكهم لغرفة العلاج كمساحة وحيز، إذ تَبين أن المشاركين في البحث، مثل رلى، يشعرون بأن غُرفة العلاج مساحة مُنفصلة عن حياتهم اليومية وأن الجلسات التي تَحدُث داخلها لا يُمكن حملها إلى الخارج (الحيز العام). إذ تَحَدث الكثير من المُشاركين في البحث عن إحساسهم بانفصال غُرفة العلاج كمساحة فيزيائية ونفسية عن الواقع والحياة اليومية المُعاشة.

في السياق نفسه، تقول كرمل: «بكون وأنا عند المعالج بديش نهائيًا هاي الساعة تخلص لأنه إذا خلصت رح يكون قدامي أسبوع كامل ما أحكيش فيه عن مشاعري وأفكاري، لإنه فش وقت عندي أعمل هاد الإشي، بين الشغل والدراسة والعيلة والالتزامات».

نُلاحظ من كلام رُلى وكرمل بأنهما تَتعاملان مع غُرفة العلاج كمساحة مُنفصلة عن الحياة اليومية، التي لا تحتمل الحديث عن المشاعر والرغبات بل مكرَّسة للعمل والإنتاجية. ينطبق هذا على ما تحدث عنه كُل من جيل دولوز وفيليكس غاتاري عن معنى العلاج النفسي داخل مَنظومة رأسمالية، وكيف يُمكن للمُعالج النفسي أن يكون محض مُتواطئ مع هذه المنظومة وداعمًا لاستمراريتها، إذ إن النظام الرأسمالي يحركه منطق الربح والإنتاجية والمردودية ويُهمش كل ما من شأنه أن يعيق أو يهدد هذا المنطق، وبهذا يُقصي كل مفاهيم الرغبة والحُب والفن بعيدًا عن الحيز العام، ويهيئ لها غرف العلاج النفسي، وهكذا لا تذكر هذه المفاهيم إلا على أريكة المعالج النفسي. أما الخارج؛ أي المعمل والشارع والمدرسة، فهو مجال للإنتاج والعمل لا للرغبة والإبداع. إذ إن ما يهم الرأسمالي هو آلة الاستغلال، أما ما بقي منك، فلا يريد أن يسمع به.[1]

يقول خليل: «كثير مرات بتخلص الجلسة من هون وبنسى إيش صار فيها من هون، كأنه بعمل مهمة معينة وبرجع لحياتي العادية، مع إنه الجلسة كثير بتريحني بس بتكون راحة لحظية بتكملش معي لثاني يوم». 

إن مُلاحظة خليل قادرة على إعطاء لَمحة عن تَحوُل العلاج النفسي كشيء استهلاكي، ليس بالمعنى المادي وحسب بل كوقت يتم استهلاكه بسُرعة، وكأن جلسات العلاج النفسي بمثابة أوقات مُستَقطعة؛ أحداث وليست سيرورة أو مشروع. ولعل ما يحول بينها وبين أن تكون سيرورة عدم قدرة الأشخاص على التواصل مع دواخلهم في خِضَم عالم سَريع رأسمالي، قادر دائمًا على إعاقة السيرورة وتحويلها الى أحداث مُتفرقة. ويبدو هذا منطقيًا إذا ما ربطناه في تحليل دولوز وغاتاري القائل إن الرأسمالية جعلت عيادات العلاج النفسي المكان الوحيد للحديث عن الرَغبة، إذ إن الرغبة حسبهما مُهددة دائمًا بالاختزال في ظل النظام الرأسمالي الذي لا ينفك عن تعريفها كحاجة يُمكن تلبيتها من خلال الحصول على المُتعة، في حين يعتقدان أنها سيرورة مستدامة التَشَكُل، أو اَلة إنتاج دائمة التدفق لا ترتبط بالفقد ولا تسعى إلى مَلئِه.

ولكن تبقى الإشكالية الأكبر هُنا في موضعة الواقع وموقفنا منه، إذ يتبين من كلام المُنتفعين أن حالة الانفصال عن الواقع تَحدث داخل غُرفة العلاج، وأن الأخيرة هي التي تُحفزها، في حين يَجِب الانتباه جيدًا الى أن غُرفة العلاج بحد ذاتها ليست من تَخلق اغترابًا وانفصالًا عن الواقع، بل إن الواقع برمته أصبح مُغتربًا عنا بفعل الرأسمالية وما تَحمل من سُموم، وما العلاج النفسي في هذه الحالة إلا طرف متورط.

اغتراب طبقي

عَبَر المُشاركون في البحث عن شُعور الانفصال عن غُرفة العلاج على المُستوى الطبقي أيضًا، الذي لمسوه عند إعطائهم توجيهات بهدف تحسين جَودة حياتهم. وفي هذا الصدد تقول يارا: «رُحت عند المُعالج مرة بحكيله عن المَلل اللي بضل حاسسته، ملل أنه الأيام بتعيد بعض وفش أحداث بتصير معي، فش حَركة أو إشي مُسَلي. ووقتها نصحني إنه لازم أدور ع محفزات بسيطة واستمد طاقتي من النِعِم الصغيرة، مثل إنه أراقب غروب الشمس أو أطلع أتمشى. واستغربت من حكيه، حسيته مفكرني عايشة بأوروبا، أو بلاش أوروبا، مفكرني عايشة ع الساحل الفلسطيني، مش فاهم إنه صعب أشوف غروب الشمس من كم العمارات اللي حولي وإنه خيار المشي في منطقة زي كفر عقب غير وارد أبدًا. يعني طَلبه هاد ذكرني إنه حتى هاي النِعَم الصغيرة اللي بحكي عنها مش متوفرة، هاي بتكون نعم صغيرة لما أكون ساكنة بإيرلندا مثلًا بس بالنسبة إلي هاي أحلام غير قابلة للتحقيق».

يشدد العلاج النفسي التحرري على ضرورة فهم المُعالِج النفسي أنه يأتي إلى الغُرفة العلاجية بخَلفية مُحددة مُتأثرة سياسيًا وثقافيًا بالسياق الذي يعيشه، ويجدر به البحث في كيفية تأثير هذه الخلفية على ردود فعله وتدخلاته العلاجية.

في حين يقول خليل: «كان المُعالج يضل ينصحني بالسَفَر، كُل مرة يقلي إنه السفر بفتح اَفاق جديدة وبجدد شغفنا بالحياة وبساعدنا نشوف الأشياء من بعيد، اَخر شي قلتله أنا إذا بدي أسافر فلازم أوقف اَجي عندك، لأنه ماديًا صعب أتعالج نفسيًا وكمان أسافر. وهو ضحك كثير وقتها بس غالبًا كان مفترض إنه لطالما أنا قادر أغطي تكاليف العلاج فمعناها أكيد قادر ماديًا أسافر».

يظهر في كلام كل من يارا وخَليل حِس يسخر من نصائح المُعالج غير المتصلة بالسياق والوضع الطبقي والبيئي الذي يعيشان فيه. ففي حالة يارا، يتبين من حديثها وكأن المُعالج مُغترب عن الواقع وغير قادر على قراءته وبالتالي يُعطيها نصائح لا تتسق مع مكان سَكَنها الجُغرافي الذي يدلل على موقعها الطبقي والاجتماعي. أما خليل فيمكن أن تفهم من كلامه أنه يعتقد أن المعالج النفسي بحد ذاته ينظُر للعلاج النفسي كامتياز طبقي، وأن الشخص الذي يمتلك هذا الامتياز يمكن بالضرورة إعطائه نصيحة السفر، في حين أن خليل لا يقدر أن يسافر، وفي هذا أيضًا إخفاق من قبل المُعالج على قراءة وفهم الواقع الطبقي والاجتماعي والجغرافي للمُنتفعين، مما يَجعل الجلسات التي تحدث داخل غُرفة العلاج ليست فقط انفصالًا عن الواقع، بل أيضًا مادة للسُخرية السوداء من حالة الاغتراب التي يقع فيها المُعالج.

لذلك يشدد العلاج النفسي التحرري على ضرورة فهم السياق الثقافي للمُعالَج وأيضا للمُعالِج، إذ على الأخير أن يعي أنه يأتي إلى الغُرفة العلاجية بخَلفية مُحددة مُتأثرة سياسيًا وثقافيًا بالسياق الذي يعيشه، ويجدر به البحث في كيفية تأثير هذه الخلفية على ردود فعله وتدخلاته العلاجية، التي قد لا تخدم احتياجات المُعالَجـ/ة. لذلك، لا يمكن للمعالِج أن يضع أي افتراضات حول تخطيط هوية المريض، وقد وصف برومبيرج هذا على أنه الحاجة إلى معرفة من هو المريض بدلًا من تصديق أنك تعرف مسبقًا ما يحتاج إليه.

صدمة ما بعد غرفة العلاج

تُشارك يارا تجربتها قائلة «كُل مرة كنت أطلع فيها من غُرفة العلاج أحس بإشي غريب. إنه خلص هلأ رح أطلع أواجه الحياة، وبتخيل إنه الإشي جاي من إنه غرفة العلاج بتوحي إنه إحنا جوا مجتمع باَمن بالحريات وليبرالي وفيهوش ممنوع وحرام أو عيب، بس بمجرد ما أطلع ع الشارع وواحد يسمعني حكي ع لبستي مثلًا بحس إنه أنا كاينة باللالاند، ومرات كُنت أحس إنه لما أطلع من الجلسة أنسى إيش صار جواها، زي هاي الأفكار اللي بتيجي باَخر الليل وبيصير الواحد يفكر فيها بس لما يصحى من النوم بنساها».

هنا تتحدث يارا عن البُعد بين السياق الثقافي الذي نَعيشه والعلاج النفسي الليبرالي القائم على عدم الحُكُم، إذ أحيانًا تصبح هذه المفاهيم الإيجابية التي يتبناها العلاج النفسي بمثابة «وَهم» يذوب عندما نُواجه الواقع بما يحمل من مفاهيم مغايرة. ففي المجتمع الفلسطيني ذي الثقافة الجَمعية لا يُمكن الحديث عن الحُرية الفردية بدون خَلق حالة من التضارب، الأمر الذي قد يؤدي إلى خلق حالة من الصدمة، إذ يُغادر الشخص المساحة الاَمنة والمريحة المُتمثلة في غرفة العلاج ويخرج ليواجه الواقع -الذي يصير أشد وطأة عند مقارنته بما يحصل داخل غرفة العلاج- مما يجعل المعالَج غير قادر على إعطاء مصداقية وقيمة لما يحدث داخل الجلسة، ويتعامل معها كما تحدثت كَرمل على أنها أفكار تأتي وتذهب سريعًا. وهنا تظهر مجددًا الحاجة الماسة للعمل على مستوى المجتمع بما يحمل من سياق ثقافي، إذ إن التغيير لا يُمكن أن يحصل داخل غرفة العلاج فقط.

تحدثت نور عن ذلك قائلة: «داخل الجلسة بتولد عندي أمل بإنه الأشياء رح تصير أحسن وبإنه الأمور رح تمشي تمام، بس بحس إنه إمكانية إحباط هاد الأمل سهلة كثير. ممكن تصير بسرعة بمجرد ما شوفير التكسي يتأخر علي أو بمجرد ما أطلع بالمواصلات العامة وأسمع أحاديث الناس. بحس إنه نفسي أحافظ على الأمل اللي بحسه بس ما بنجح أعمل هيك. والمُشكلة إنه الإحباط هاد بخليني أفكر إنه بديش أرجع ع الجلسة الجاي بس دائمًا برجع لإنه كمان أنا بحاجة لهاي المشاعر اللي هي إيجابية وبتحسسني إنه الأمور قابلة للتحسين والتعديل، حتى لو كانت مش تمامًا حقيقية، وبعرفش إذا المُشكلة إنها مش حقيقية فعلًا ولا المُشكلة بقُدرة البلد على إحباطنا».

أما عميد فقد قال في أثناء حديثه عن إحساسه داخل غُرفة العلاج «في مكانين بنسى فيهن إني موجود بفلسطين -بالأحرى بالضفة- هن وأنا بالعيادة عند المُعالج النفسي وثاني محل هو البار، لأنه بالمكانين هدول وبس بحس إنه فش مجال حدا يُحكُم علي، بالبار لإنه الناس اللي قاعدين فيه زيي، وعند المُعالج لأنه هاد جُزء من أخلاقيات المهنة تبعته، بغير محلات دائمًا رح يكون الشخص قدام مواجهة أحكام الناس ومُواجهة الواقع». بقدر ما يبدو خلق مُقاربة بين غُرفة العلاج والبار أمرًا غريبًا، إلا أنه في إطار الحديث عن المساحات المُتمايزة عن الحالة العامة والحيز العام يبدو مَنطِقيًا، لأن هذه المساحات يُصبح إدراكها كأماكن للهُروب، وهي بالتالي مُتشابهة من حيث اقترانها الكلاسيكي بشُعورٍ وحالة وجدانية ما.

استحضار الواقع أم تغييره؟

من ملاحظات وتأملات المُشاركين في البحث، يمكن الاستدلال أن الحاجة إلى استحضار السياق الثقافي والاجتماعي والطبقي للمُنتفعين إلى غُرفة العلاج ليست الحاجة الوحيدة، بل هُناك حاجة لخُروج غُرفة العلاج إلى الحيز العام، ففي الحالة الأولى، يكون المُعالج واعيًا بالسياق الثقافي والسياسي والطبقي، ويأخذ هذا السياق بعين الاعتبار، الأمر الذي ينسجم مع منطق علم النفس المُجتمعي الذي يؤمن أنه من الجدير معالجة المشكلة حيث تحدث، وأن العمل والبحث مع مجموعة معينة من الأشخاص يحتم على الباحث أن يتواصل مع ثقافة هذه المجموعة ومحاولة فهم خصوصيتها. لذلك فإن علم النفس ضمن هذا التوجه يهدف إلى معرفة كيف يؤثر السياق والأفراد على بعضهم البعض، وتشجيع قدرة الناس على التغيير وليس معرفة أنماط السلوك العالمية التي يتقاسمها الجنس البشري بأكمله، بل دراسة البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها الأفراد بكل ما تحمله من طقوس وعادات ورموز وتاريخ.[2]

أما في الحالةِ الثانية، تذوب الحدود التي تفصل غرفة العلاج عن الخارج -الحيز العام- وهذا يعني أن أمكانية تسرُب العلاجات إلى الخارج واردة، حيث لا يعود العلاج محصورًا داخل مساحة فيزيائية، بل يُصبح ممارسة اجتماعية سياسية تُلقي بظلالها على جميع قضايا المُجتمع. ولتحقيق هذا يجب على المعالج النفسي أن يتسم بالصبر والتواضع والانفتاح لتعلم خبرات ومناظير جديدة، تقوده لدراسة الدوافع والتشكيك في النظريات السائدة، ومن ثم تفكيك الظروف التي تسيء إلى الناس وتجعلهم أشياء أو أتباعًا للاَخرين، والتأكيد على أنهم فاعلون يقررون مصيرهم بأنفسهم، ويستكشف معهم أفضل السبل لوضع حدود للاستبداد والتغيير.[3]

على الحدود الفاصلة أن تذوب بين غرفة العلاج والخارج عن طريق الإسقاط والاندماج، فلا يعود هناك داخل وخارج، بل مساحة مُمتدة يكون فيها العلاج النفسي مُتسقًا مع السياق ليصبح ممارسة يومية غير نُخبوية.

في ورقتها «الشخصي سياسي»، تتحدث كارول هاينيش عن جلسات رفع الوعي النسوي التي كانت تحدث عندما كانت النساء في أميركا الشمالية يُشكلنَ حركة تحررية ردًا على عمليات التعتيم والطمس لمشاكلهن من قبل الأحزاب السياسية، بحجة أنها مشاكل شخصية لا مكان لها في الحيز السياسي العام. إذ كان يتم تسخيف هذه المشاكل عندما تحاول النساء وضعها على أجندة أعمال الأحزاب السياسية المُنخرطات فيها. ولهذا بدأت النساء بتنظيم مجموعات يتم فيها اختيار المواضيع المطروحة ضمن اَلية مُنظمة، إذ تقوم كل منهن بطرح مسألتها على الاجتماع (مثل: ماذا تفضّلين/فَضَّلتِ، بنتًا أو ولدًا؟ أم لا ترغبين بالإنجاب، ولماذا؟ ماذا يحصل لعلاقتِك لو كان زوجك يحصل على أموالٍ أكثر منك؟ أو أقل منك؟). وبعدها يتناوبن في الإجابة على الأسئلة من تجاربهن الشخصية. وفي نهاية الاجتماع يُحاولن تلخيص وتعميم ما تم طرحه وبناء روابط وأطر.

تقول هاينيش إن المجموعات التي شاركت فيها وُصفت بالعلاجية، رافضةً هذا التوصيف، إذ تعتقد أن كلمةُ علاج بعينها مغلوطة لأنها قائمة على افتراض وجود شخص مريض ويجب مُعالجته، وأن فيها إهانة للنساء، إذ تعتقد أن النساء مظلومات، لا مجنونات، وعليه يجب تغيير الظروف الموضوعية، لا التكيف معها، الأمر الذي جعل هذه المجموعات تَتخطى المفهوم العلاجي وتكون شكل من أشكالِ النشاط السياسي. فأحد أهم الأشياء التي تكشفها المُشاركة في مثل هذه المجموعات هي أن المشاكل الشخصية مشاكل سياسية، وعليه فلا حُلول شخصية لها، بل نشاط جماعي. تؤكد هاينيش أن هذا الطرح لا يعني إنكار أنَّ لهذه الجلسات جانب عِلاجي الطابع. لكنها تُفضل تسمية هذا الجانب بـ«العلاج السياسي»، خلافًا للعلاج الشخصي، لأن الأخير يُمكن أن يجعلنا نخلق مساحات نعتبرها اَمنة لكنها موازية للحياة الواقعية، دون تغييرها أو التأثير فيها، وبالتالي نتقوقع داخل هذه المساحات بدلًا من فرض قضايانا على المساحات العامة. لهذا تقترح هاينيش أن الحديث عن الشخصي يجب أن يهدف إلى التنظيم السياسي، لا مجرد خلق فقاعات آمنة غير قادرة على زعزعة النظام.[4]

يُمكن القول في المُحَصِلة إن الفرق بين الحالة الأولى والثانية إنما هو الفَرق بين العلاج على طريقة علم النفس المُجتمعي والعلاج على طريقة علم النفس التَحَرري، الذي يَحمل مُستوى من الانخراط في فِعل تغيير الواقع وليس فهمه وحسب. يمكن هنا استخدام مفاهيم فرويدية في التحليل النفسي لوصف علاقة المُمارسات العلاجية داخل الحيز الخاص مع الخارج أو الحيز العام، المفهوم الأول هو «الإسقاط» حيث يُسقط الشخص دواخله (رغباته، تطلعاته..) إلى الخارج، والثاني «الاندماج» وهو على العكس من الإسقاط، بمعنى أن الشخص يستدخل من الوسط المحيط (الخارج) إلى الداخل. ورُبما على المُعالج النفسي أن يُمارس المفهومين معًا في علاقة ممارساته العلاجية مع الحيز العام.

حتى يتحقق مثل هذا التأثير، على الحدود الفاصلة أن تذوب بين غرفة العلاج والخارج عن طريق الإسقاط والاندماج، فلا يعود هناك داخل وخارج، بل مساحة مُمتدة يكون فيها العلاج النفسي مُتسقًا مع السياق ليصبح ممارسة يومية غير نُخبوية، ولا يعود الحيز العام والحيز الخاص المُتجلي في غُرفة العلاج، عوالم منفصلة تتأُثر ببعضها البعض، بل أجزاءً من حيز واحد مُتداخل.

  • الهوامش

    [1] Deleuze, G., & Guattari, F. (1977). Capitalism and schizophrenia (Vol. 1). New York City: Viking Press.

    [2] Martín-Baró, I. (1994). Writings for a Liberation Psychology. Harvard University Press.

    [3] Prilleltensky, I., & Nelson, G. (1997). Community Psychology: Reclaiming Social Justice.

    [4] Hanisch, C. (1969). The personal is political.

Leave a Reply

Your email address will not be published.