«حتى إشعار آخر يحظر عليكم الانتقال جنوبًا إلى خط القرى التالية ومحيطها: شبعا، الهبارية، مرجعيون، أرنون، يحمر، القنطرة، شقرا، برعشيت، ياطر، المنصوري… ». هكذا حذّر العدو الإسرائيلي، بعد وقف إطلاق النار، أهل الجنوب من العودة لأكثر من ستّين قرية، مهددًا أن كل من ينتقل جنوب هذا الخط «سيعرّض نفسه للخطر».
هذا التهديد تكرّر خلال الشهر الأول منذ بدء تنفيذ قرار وقف إطلاق النار في لبنان، في 27 تشرين الثاني الماضي، وتكررت معه الخروقات الإسرائيلية للاتفاق، خصوصًا على الشريط الحدودي حيث تستمر عمليات القصف والتفجير وتجريف الأراضي. ومع ذلك، شهد الجنوب اللبناني حركة عودة واسعة لعشرات الآلاف ممّن نزحوا من بيوتهم وقراهم إثر الغارات الإسرائيلية.
من بين هؤلاء العائدين أهالي قرية شقرا التي يتجاوز عدد شهدائها 70 شهيدًا، حيث حزموا الأمتعة واتجهوا جنوبًا ليبدأوا البحث عن جثامين أبنائهم.
من قرية شقرا التي تبعد عشرة كيلومترات عن الحدود مع شمال فلسطين المحتلة، 30 تشرين الثاني 2024.
تعرف قرية معركة، التي تقع عشرة كيلومترات إلى الشرق من مدينة صور في جنوب لبنان، بـ«أم القرى»، إذ اشتهرت نساؤها بمقاومتهن للجيش الإسرائيلي في الثمانينات بسكب الزيت المغلي على جنوده لدى اقتحامهم بيوتهن. 29 تشرين الثاني 2024.
لم تترك الحاجّة هدى قرية معركة إلا قبل يوم واحد من وقف إطلاق النار. كانت من القلائل الذين لازموا القرية أثناء العدوان، وكانت تتجوّل يوميًا وتزور الجيران الذين ظلّوا مثلها. «أصعب يوم كان لمّا إجت الضربة بالساحة، لأن كلهن ما إلن ذنب اللي راحوا»، تقول. قرية المعركة، 29 تشرين الثاني 2024.
شهدت مدينة صور الساحلية غارات عنيفة أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير خلّفت دمارًا واسعًا في العديد من المباني السكنية والمراكز التجارية في قلب المدينة.
من أمام سوق تجاري في قرية معروب، إحدى قرى قضاء صور، يبلغ عدد سكّانها نحو 3600 نسمة.
قرية الصوانة إحدى بلدات جبل عامل التي تقع على خط المواجهة مما عرّضها للقصف والتدمير مرارًا من العدو الصهيوني.
إلى الجنوب من الصوانة تقع مجدل سلم التي تعرف بحاضرة الإمام الحسين. في بداية كل سنة هجرية، وبالتزامن مع ذكرى عاشوراء يقوم الأهالي بمسرحية في ساحة القرية تجسد حادثة كربلاء. بعد وقف إطلاق النار وعودة الجنوبيين إلى قراهم، اجتمع أهالي القرية في نفس المكان لتشييع 26 شهيدًا من أصل 72 استشهدوا من القرية في العدوان الأخير. لم يتبقَ من ممثلي المسرحية سوى اثنين.
التشييع في مجدل سلم 6 كانون الأول 2024.
يجلس أهالي القرية في الساحة، أو على عتبات منازلهم، يتبادلون أطراف الحديث. يقول الحاج محمد مزنر إن منظر الدمار الذي رأوه عند العودة يفوق كل ما تصوّروه.
«مش ضروري إذا كان البلد مدمّر أو في شهداء يعني بكون مهزوم. فيتنام تدمرت كلها وانهزمت أمريكا»، يقول الحاج مزنر، «نحن عنا دمار، وعنا شهداء، بس عالأقل نحن بنفسيتنا منتصرين. عنا شعور انتصار لأن صمدنا، عدونا ما قدر يفوت بالبر ولا متر».
بالقرب منه يجلس الحاج كمال، أبو علي، الذي لا يزال نازحًا بعد تضرر منزله، حاله كما الكثير من أهل القرية. «ما كناش نتصور إنه يكون هالقد حجم الخسائر، بس كان العدو كتير مجرم وسفاح». يقول الحاج أن هذه الحرب كانت مختلفة عن باقي الحروب، «طبيعة الإجرام وطبيعة الأسلحة اللي استخدموها كانت أقوى».
أما الحاجة التي كانت تأمل أن لا يحين وقت بيتها، فكانت دموعها المنهمرة أبلغ من ما يمكن لها أن تقوله. وقفت مطولًا أمام ما تبقى من منزلها، أنقذت ما تيسر من اغراضها وذكرياتها، وغادرت قريتها مرة أخرى.
تعرّضت مدينة النبطية، التي تعد عصبًا اقتصاديًا للجنوب وأهم مدن منطقة جبل عامل، لأكثر من 300 غارة إسرائيلية، ودمّر سوقها الأثري الذي يعود تاريخه لأكثر من 500 عامًا والذي يرتبط بذاكرة كل سكّان القرى المحيطة.
إحدى الغارات استهدفت مبنى بلدية النبطية واتحاد بلدية، واستشهد فيها رئيس البلدية وأربعة أعضاء آخرين، من بينهم صادق إسماعيل، الذي عادت زوجته دانيا هاشم إلى بيتها في المدينة بعد قرابة شهرين من النزوح. تصف دانيا فترة النزوح وتقول إنها كانت تشاهد فيديوهات لشارع حسن كامل الصباح حيث توجد محلّات زوجها حتى تألف مشهد الدمار. «ما كان بدي أوصل وشوف المحلات وأبكي أو أنهار»، تقول دانيا. «كان همي الناس فقط، السوق هو التجار والموظفين، المهم هني ما ينكسروا، الحجر بيرجع يتعمر، دايمًا بتخيل إذا صادق هون شو كان حيعمل؟».
لم تشعر دانيا، ابنة قرية الناقورة، بالانتماء إلى النبطية مثلما شعرت بعد عودتها إليها بعد وقف إطلاق النار. «أنا كنت جاية هكلانة هم، بس كان في همة عالية وتعاون، خلتنا بعد كم يوم ننام في بيوتنا. كان في فرن عنا بالحارة، على مدى يومين كان عم يوزع مناقيش عن روح الشهداء. هالتفاصيل كانت تخليني حس إنه نحن بألف خير، وصرت أنتمي للنبطية».
رغم وقف إطلاق النار وبدء أبناء الجنوب بالانتشار في قراهم لإصلاح ما يمكن إصلاحه وإعادة بناء ما تضرر، تبقى الحرب مستمرة لأهالي القرى الحدودية، الذين نزحوا مع بدء جبهة الإسناد من الجنوب. كانوا أول من أجبر على الرحيل وآخر من تمكن من العودة.
من هذه القرى التي ما يزال الكثير من أهلها نازحين، بلدة الخيام التي تقع على بعد خمسة كيلومترات عن الحدود في منطقة مرتفعة. تعرّضت الخيام لقصف عنيف وتوغّل برّي أديا إلى دمار هائل، وتواصلت الغارات الإسرائيلية عليها حتى بعد قرار وقف إطلاق النار، وما يزال أهلها النازحون يعدّون الدقائق بانتظار العودة إليها ليكتشفوا ما إذا بقيت بيوتهم أو دمّرت وينتشلوا شهداءهم من تحت الأنقاض.
من هؤلاء الحاجة زينب التي نزحت من الخيام إلى بيروت، وما زالت لم تستطع العودة لقريتها بعد. لم تكن أول مرة تُهجر فيها من قريتها التي ولدت فيها، إذ نزحت عنها عام 1979 وبقيت في بيروت حتى تحرير الجنوب عام 2000. تستذكر الحاجة يوم التحرير قائلة «ما كنا مصدقين إنه طالعين عالخيام. ما بتتخيلي، مع إنك بتشوفي الخراب، بس ارتحتِ نفسيًا إنك صرتِ حرة. وفعلًا بعد التحرير عشنا حياة حلوة».
تعلقت الحاجة زينب بكل ما في الخيام بعد عودتها، ببيتها الذي استغرق بناؤه ست سنوات، بالأشجار التي زرعتها، بقبر ابنها الذي توفي في كندا وعاد ليدفن في الخيام. «لما قالولي إنه راحت الخيام، راحت روحي.. هيدي بلدك، ضيعتك، حياتك، ما بتلاقي أحلى منها»، تقول واصفة ارتباطها بالقرية التي تنتظر فرصة العودة إليها. «حتى لو عالردم بدنا نروح.. معقول واحد يتخلى عن روحه؟ ما معقول».
الغروب في قرية الخيام.