في تمام التاسعة صباحًا، بدأت أسطوانة الحصّادة الآلية بحصاد القمح في أرض عمر الروسان في أم قيس. كانت الحرارة قد ارتفعت بما يكفي لتنشّف الندى عن السنابل، وصار أسهل على الآلة قصّها. وراء المقود كان السائق السوري محمد حسن، يطلّ برأسه خارج كابينة القيادة، يراقب بحذر حركة الأسطوانة في السنابل، وينسّق مع بكر الفحيلي الذي كان يسير أمام الآلة، ليزيح الحجارة عن طريقها. وفي مؤخرة الآلية، التي كانت تقصّ السنابل، وترسلها إلى درّاسة داخلية، تفصل حبوب القمح عن التبن، كان المصريان مينا غطّاس ورُسُل داوود يقفان أمام مزرابيْن يستقبلان التبن في أكياس بلاستيكية، يربطانها ويلقيانها في الأرض. وفي الأثناء تتجمّع حبوب القمح في مخزن داخل الحصادة، ليُنزلها، بعد انتهاء الحصاد، مزراب على شادر.
كان عمر قد سبق الجميع إلى المكان، وجلب معه إفطار العمال، والأكياس التي سيعبئون القمح فيها. قال مشيرًا إلى بكر إن عائلة الشاب تمتلك أغنامًا تقيم معها في خيمة قريبة من المكان. وبعد انتهاء الحصاد، سيتضمّنون الأرض المحصودة لترعى الأغنام بقايا القش الذي تركته الحصادة خلفها. استعان عمر ببكر، لأن حجرًا يدخل في مقصات الآلة يمكن أن يعطّلها لأيّام، وهذه ذروة الموسم، والمزارعون يقفون على الدور للحصول على حصّادة.
تقع القطعة التي بدأ حصادها في «الطّبَقْ»، على مسافة خمسة كيلومترات تقريبًا عن مركز بلدة أم قيس. وهي جزء من 150 دونمًا تقريبًا، زرعها عمر هذا العام في أماكن متفرقة في البلدة. يمتلك منها 27 دونمًا، هي نصيبه مما تم فرزه من الـ300 دونم الذي تركها والده المتوفى عام 1992 لأبنائه الأربعة عشر. وقد واصل عمر البالغ من العمر 58 عامًا، الزراعة إلى جانب وظيفته في الجيش، الذي تقاعد منه عام 2001، وإلى جانب وظيفته الحالية التي التحق بها عام 2005 في معبر وادي الأردن.
عمر الروسان في أرضه والحصادة الآلية تعمل وراءه. تصوير محمد زكريا.
قِسم من الأرض التي استأجرها عمر هذه السنة، تعود ملكيتها لأخوته. ودفع أجرتها 25 دينارًا للدونم الواحد. لكنه يلفت أن الأجرة تتفاوت بحسب طبيعة الأرض، ومنسوب الأمطار الذي قد يختلف ضمن مساحة لا تزيد عن بضعة كيلومترات. ففي بعض الأراضي في المنطقة، قد تصل الأجرة إلى 60 دينارًا للدونم. ويعوّض فرقُ الإنتاج فرق السعر. العام الماضي، أنتج الدونم في جزء من الأرض التي زرعها 450 كيلو قمح، في حين أنتج الدونم في موقع آخر 390 كيلو فقط. مع ملاحظة أن الإنتاج يرتبط أيضًا بنوع البذار، ومقدار العناية بالزرع من تسميد ورش. هذه السنة، زُرع نصف الأرض المستأجرة بالقمح، والبقية بالحمّص والسمسم. إذ يجب على مزارع القمح تنويع محاصيله، حتى «يداور»، وهذا يعني أنه يجب أن يغير مكان زراعة كل نوع كل سنة، لأن زراعة المحصول نفسه في المكان نفسه يتعب التربة ويقلل الإنتاج.
بعد تعبئة القمح في الأكياس، ستأتي سيارات لشحنها إلى لجنة استلام الحبوب في صوامع الرمثا، حيث يقول عمر إن وزارة الصناعة والتجارة القمح ستشتري القمح لهذه السنة بـ370 دينارًا للطن، وهذا أقل بخمسين دينارًا عن السنة الماضية. إنه تخفيض للسعر يقول إنه فاجأ المزارعين، الذين منّوا أنفسهم بربح جيد، لأن موسم الأمطار جاء استثنائيًا هذا العام، بعد مواسم جفاف متتالية.
من اليمين: الروسان والعمّال محمد حسن ومينا غطاس ورسل داوود وبكر الفحيلي، يتناولون الإفطار في الحقل، والحصادة الآلية تفرغ التبن على شادر. تصوير محمد زكريا.
الحكومة طرف رئيسي في سوق القمح المحلي، وهي تشتريه من المزارعين وتبيعهم إياه من خلال مؤسساتها ضمن مسارين؛ الأول هو قمح «البذار»، وهذا يأتي في أصناف محسّنة، عمل على تطويرها المركز الوطني للبحوث الزراعية التابع لوزارة الزراعة، ويزوّد بها المؤسسة التعاونية الأردنية، التي تتعاقد مع المزارعين الراغبين بتكثيره. وفي موسم الحصاد تشتري منهم محاصيلهم. ثم تعيد بيعها للمزارعين الآخرين الراغبين في بذار محسّن.
المسار الثاني هو القمح «المواني»، المخصص للطحن والاستخدام في الصناعات الغذائية المختلفة. وهذا يبيعه المزارعون لـ«الصوامع»، كما فعل عمر.
وتشتري الحكومة قمح «البذار» من المزارعين وتبيعه بسعر أعلى من «المواني». العام الماضي اشترت طن «البذار» من المزارعين المتعاقدين معها بـ500 دينار. واشترت «المواني» بـ420 دينارًا. لكنها هذه السنة خفّضت السعر للصنفين بما مقداره 50 دينارًا. وهي بذلك تكون قد اشترت محاصيل هذه السنة بأسعار العام 2015.[1]
وأسعار شراء وبيع القمح المحلي أعلى من الأسعار العالمية. وفق منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، بلغ السعر العالمي لطن القمح خلال شهر أيّار الماضي 223 دولارًا أميركيًا أي 158 دينارًا تقريبًا.
شوالات الحبوب في المؤسسة التعاونية وتظهر خلفها صوامع الرمثا. تصوير محمد زكريا.
مزارعو القمح يشترون الخبز من السوق
كانت الأراضي التي امتلكها والد عمر، تُزرع بمختلف أنواع المحاصيل، التي كان على رأسها القمح والشعير. وإلى عهد قريب من وفاة الرجل المولود العام 1898، وتوفي أوائل التسعينيات في الرابعة والتسعين من عمره، كانت الزراعة تتم بالآليات القديمة؛ الدواب، والأيدي العاملة التي كان من ضمنها أفراد العائلة ذكورًا وإناثًا. ويتذكر عمر، عندما كانت والدته وشقيقاته الكبريات يأتين في الموسم، ويُقِمن شهريْ الحصاد في عريشة في الحقول. وكان يساعد والده طوال السنة، عمال، لم يكونوا يتلقون أجرتهم نقودًا، بل نصيبًا من المحاصيل المختلفة. فقد كان زمن «اللي بزرع بوكل، واللي ما بزرع ما بوكل. واللي ما عنده أرض بروح بشتغل عند اللي عنده أرض».
الآن يقول عمر إنه وشقيق له يشاركه في الزراعة، استمرّا في مسيرة الزراعة ضمن مساحات واسعة نسبيًا. بعض من أخوته يزرع على نطاق ضيق بضع دونمات، في حين بِيع جزء من الأرض. وهو نفسه يبحث عن مشترٍ لجزء من أرضه التي يُقدّر سعر الدونم منها بـ10 آلاف دينار، كي يبني بيتًا في مدينة إربد ليكون أبناؤه قريبين من جامعاتهم. إذ يدرس ابنه الأكبر الهندسة الميكانيكية، وستلحقه أخته التي تقدم التوجيهي هذا العام. في حين ما زال الثلاثة الآخرون في المدرسة. ويجيب عمر بشكل قاطع ردّا على سؤالٍ عن علاقتهم بالزراعة «ولا إشي.. ولا إشي».
قصة انحسار زراعة القمح في أراضي عائلة عمر الروسان، هي جزء من قصة انحسار زراعة القمح في الأردن. لقد هبطت مساحة الأراضي المزروعة قمحًا من 512 ألف دونم تقريبًا عام 1995 إلى 138 ألف دونم تقريبًا عام 2018، وهبط الإنتاج من 58 ألف طن تقريبًا عام 1995 إلى 16 ألف طن عام 2018 وهبطت نسبة الاكتفاء الذاتي من 15.3% عام 2002 إلى 1.4% عام 2018.[2]
وللمفارقة، فإن الاكتفاء الذاتي قد لا يتحقق حتى لمنتجي القمح أنفسهم. إذ لا يحتفظ عمر ولو بكيلو واحد من القمح الذي ينتجه. فهو يشتري الخبز والطحين الأبيض من السوق، قائلا إن هذا أكثر راحة.
لكن المهندس الزراعي محمد الطويق، يشرح أن «ظاهرة» عدم احتفاظ منتجي القمح في الأردن بمونة منه لا يقتصر فقط على عدم الرغبة في تجشم عناء العجن والخبز في المنزل، علاوة على مشقة تخزينه طوال العام، والحفاظ عليه من التسوس. هناك أيضًا حقيقة أن معظم القمح المنتج أردنيًا هو من النوع القاسي الذي لا يستجيب طحينه بسهولة لعملية العجن، ويوصف قوام عجينه شعبيًا بأنه «مالو حيل»، كما أن رغيفه يجف بسرعة بعد الخبز. إنه قمح ممتاز ونسبة البروتينات فيه أعلى من القمح «الطري» الذي تستورده الحكومة من الخارج. لكن «القاسي» يقول الطويق، مثالي لصناعة المعكرونة والبسكويت، وليس مرغوبًا لنوعية الخبز الذي بات هو النوع المستهلك في الأردن.
الروسان يعرض حفنة من قمحه المحصود. تصوير محمد زكريا.
ويفسر الطويق الذي عمل في عدة مؤسسات حكومية في قطاع الزراعة ، منها سبع سنوات في المؤسسة التعاونية الأردنية، وما زال بعد تقاعده العام 2015، يعمل في الزراعة، إن انتشار زراعة النوع القاسي في الأردن، يعود إلى أنه مناسب للزراعة البعلية في منطقة بات منسوب أمطارها منخفضًا. في حين أن القمح الطري يحتاج إلى كميات أمطار عالية نسبيًا، أو قد يزرع على الري، حيث تزرع بالفعل مساحات قليلة منه في الأغوار.
مثل عمر، تقول جميلة[3] إن عائلتها، رغم زراعتها القمح، تعتمد على «خبز السوق»، لكنها تحتفظ في العادة، بنصف شوال من القمح الذي تزرعه وزوجها في الأرض التي يستأجرونها حيث يقيمون في إحدى قرى مادبا،[4] تطحنه وتخلطه بـ«طحين السوق»، وتستخدمه لخبز الشراك، أو «في الضيقة»، كما حدث عندما انقطع الخبز أول أيام الحظر بسبب «كورونا».
تستأجر عائلة جميلة تقريبا 50 دونمًا في أماكن متفرقة وتزرعها بالقمح والشعير. وهذا يؤمّن مورد رزق إضافي إلى جانب راتب زوجها التقاعدي من الجيش، وريع قطيع صغير من الأغنام، بدأ زوجها العمل فيه بعد تقاعده.
قابلناها قبل السابعة صباحًا، وكانت قد جاءت مع 20 رأسًا من الماعز إلى حقلها المكون من 20 دونمًا زرعته عائلتها بالشعير. قالت إنها تأتي كل صباح لبضع ساعات لتحصد ما تقدر عليه. ويأتي أبناؤها لاحقًا ليكملوا العمل. هذه الأرض تقول ملك لقريب لهم يعمل ويسكن في مادبا، وليس له علاقة بالزراعة «زي ما تقولي مدني. إله بيت هناك، ويعطينا ياها بدل ما تظل بور». وهم في المقابل يدفعون له خمسين دينارًا سنويًا لكامل القطعة، إضافة إلى كمية من السمن والجميد الذي تصنعه بنفسها.
كان ما يقارب ربع الحقل قد حُصد، وكانت جميلة تحاول جاهدة إبقاء العنزات في الجزء المحصود لكي يأكلن بقايا القش على الأرض، لكنهن ظللن يواصلن الذهاب بعناد إلى الجزء غير المحصود حيث السنابل. وعندما كانت تطردهن كن يراوغنها، ويتجهن إلى البيوت المقامة على حد الحقل، ويبدأن في التهام أغصان الشجر المتدلي من أسوارها. هكذا أمضت جميلة الوقت في مطاردة العنزات، بالعصا للقريبات، وبرمي الحصى والصياح على البعيدات. ثم توقفت وهي تلهث قائلة إنها «حياة كثير صعبة».
جميلة ترعى الحلال وتقف أمام الجزء غير المحصود من الأرض لإبعاد الحلال عنه. تصوير محمد زكريا.
هي حياةٌ تقول جميلة إنها اتخذت مسارًا لا تريده، وأيضًا لم تتوقعه، رغم أنها نشأت في بيت اعتمد كليًا على زراعة القمح والشعير، والحلال، لكن هذا كان في زمن عندما كان «الشتا كثير والناس مستفيدين». تقول جميلة إن أرضهم كانت «تطلّع شاحنات قمح». وعن والدتها تقول إنها في كل موسم «كانت تبيع سطول سمن وشوالات جميد (…) أمي من تعبها عمّرت لأخواني في مادبا وجوّزتهم». لكن مع تتالي مواسم الجفاف، وارتفاع أسعار الأعلاف، بدأ أهلها ينسحبون من هذه الحياة، وكانت العائلة في الأثناء تستثمر في تعليم الأبناء والبنات. وفي أواخر التسعينيات، اكتمل التحول، حيث باع والدها ما تبقى من حلاله. واستقرت العائلة في مدينة مادبا. وكان أخوتها قد التحقوا بوظائفهم الحكومية، التي اعتقدت أنها ستكون مسارها هي أيضًا. بعد أن تخرجت عام 1992 من كلية مجتمع في تخصص دراسات اجتماعية، وقدمت طلبًا لديوان الخدمة المدنية كي تعين معلمة. لكن وزارة التربية لم تعد تعين خريجي كليات المجتمع في تخصصها. بعد بضع سنوات من زواجها، تقاعد زوجها، ولم يكن الراتب التقاعدي ليكون كافيًا لتدبير معيشة العائلة، وتدريس الأبناء في الجامعات. وكان الحل الوحيد هو البدء بمشروعيْ الزراعة والحلال. واستطاعوا بالفعل تدريس الابن الأكبر في الجامعة «من ورا السمن والمريس» الذي تعلمت صناعته بنفسها، لأن والدتها المتوفاة كانت «تبلش لحالها» ولم يخطر لها أن تعدّ بناتها لحياتها. وهذا ما تفعله هي نفسها مع أبنائها، حيث وجهتهم إلى الدراسة الجامعية. «يتوظفوا أحسنلهم».
تكوّم جميلة ما تحصده أولًا بأول في «بيدر»، وعندما يكتمل الحصاد ستأتي درّاسة لتفصل الحب عن القش. تقول إنهم استعانوا العام الماضي وللمرة الأولى بحصّادة آلية ولكنهم لن يكرروا ذلك. لأن الحصادات الآلية بكل أنواعها، تترك جزءًا كبيرًا من السيقان خلفها، في حين أن الحصاد باليدين يتم عن طريق اقتلاع السنابل من الأرض، وهذا يعني أنه عند الدراسة ستتجمّع كمية أكبر من القش التي يبيعها المزارع في ما بعد، أو يخزنها لإطعام حلاله إذا كان لديه.
الحصادة التي استخدمتها عائلتها أقل حداثة من تلك التي استخدمها عمر. لقد دفع عمر للحصّادة 17 دينارًا على الدونم، لأنها من النوع الذي ينجز كل المراحل، ففي نهاية يوم الحصاد يستلم محصوله من القمح والتبن جاهزًا في أكياس. في حين أن الحصادة التي استخدمتها عائلة جميلة، ودفعت لها 4 دنانير عن الدونم، تفصل القمح عن القش. ويكون على المزارع بعدها أن يتعامل مع القش.
لكن المشكلة مع الحصاد باليدين، تقول جميلة، هي أن اليد العاملة يجب أن تكون عائلية حتى تكون هناك جدوى اقتصادية. في حالتهم يتعاون أفراد العائلة بالفعل على الحصاد، لكنهم يضطرون أحيانًا للاستعانة بعمال للمساعدة، يتقاضى الواحد منهم 15 يومية، مقابل 8 ساعات عمل. وفي العادة يتمكن الشخص من حصاد دونم يوميًا.
حقل في مليح قرب مادبا. تصوير محمد زكريا.
في السنوات الأخيرة ركزت عائلة جميلة على زراعة الشعير، لأن زراعته أقل مغامرة، فهو يتحمل العطش أكثر من القمح، كما أن أسعار بذاره أقل من القمح، وبذلك فإن الخسارة في حال فشل المحصول أقل. إذ يحدث كثيرًا أن «تيجي سنين تعبانة» ولا ينجح المحصول، وهنا تقول جميلة «بنوكّله للحلال». أما إذا نجح فإنهم يبيعونه بذارًا للمزارعين في المنطقة.
يلفت عمر إلى أن هناك سعرين للبذار؛ «سعر الحكومة» وهو للبذار المستلم من المؤسسة التعاونية، وآخر للمتداول بين التجار في السوق. لقد باعت «المؤسسة» بذار القمح العام الماضي، بـ500 دينار للطن، في حين أنه اشتراه من تجار السوق بـ365 دينارًا للطن.
وهو أمر يبرره المسؤولون المعنيون، بأن البذار الحكومي من أصناف محسّنة، خضعت لسنوات طويلة من البحوث، وأجريت لها علاوة على ذلك عمليات غربلة وتعقيم.
المهندس الزراعي أحمد البطاينة، مدير محطة مرو الزراعية في إربد، التابعة للمركز الوطني للبحوث الزراعية، يقول إن الدور الأساسي الذي تنهض به المحطات في ما يتعلق بزراعة القمح، هو نقل الممارسات الزراعية الحديثة للمزارعين، وتطوير أصناف القمح المتداولة، بما يرفع إنتاجيتها، ويحسّن قدرتها على مقاومة الجفاف والأمراض. هذا هو محور مشروع تربية القمح الوطني، الذي بدأ العام 1960، وينفذ بالتعاون مع مؤسسات دولية مثل (CIMMYT)، و(ICARDA). وهي مؤسسات تتولى التكثير والتهجين، ويتم تطبيق الأبحاث داخل المحطات الزراعية لـ«المركز الوطني» والموزعة على مناطق المملكة، ومن بينها محطة مرو، التي تبلغ مساحتها ألف دونم، وتختص ببحوث القمح. والفكرة الأساسية، يقول بطاينة، هي محاولة دمج ميزات الأصناف المختلفة في صنف واحد، فهناك أصناف تتميز بقدرتها العالية على تحمل الجفاف، لكن إنتاجيتها متدنية نسبيًا، في حين أن هناك أصناف قد تصل إنتاجيتها إلى 500 كيلو في الدونم الواحد، لكن قدرتها على تحمل الجفاف أقل. تستغرق البحوث واعتماد أصناف جديدة سنوات طويلة. السنة الماضية، مثلًا، يقول البطاينة اعتُمدت ثلاثة أصناف جديدة من القمح، وثلاثة أخرى من الشعير، في حين أن آخر اعتماد لأصناف جديدة كان العام 2004.
الأصناف المعتمدة، يقول البطاينة، تُسلّم إلى المؤسسة التعاونية التي تتعاقد مع المزارعين الراغبين في إنتاجه بكميات تجارية في حقولهم، ليباع بعدها للمزارعين الآخرين.
في المؤسسة التعاونية، كان المهندس يحيى بني خلف، رئيس لجنة استلام الحبوب في المؤسسة، يشرف على عمليات استلام محاصيل البذار من المزارعين المتعاقدين. تتم العملية يقول بني خلف، بفحص عينات من المحصول، للتثبت من أنه حقق الشروط المطلوبة وهي هنا، درجة النقاوة الوراثية. وتشتري المؤسسة فقط المحاصيل المطابقة للمواصفات المطلوبة، وبالسعر الذي يكون قد أُعلن بداية موسم استلام الحبوب، وهو لهذه السنة 450 دينارًا. ويقول إن المؤسسة بعد شراء القمح، تقوم بغربلته، للتخلص من الشوائب، ثم بتعقيمه للتخلص من الإصابات والفطريات. وهما عمليتان تكلفان، بحسبه، المؤسسة 70 دينارًا للطن الواحد تتحمله هي، إذ تعيد بيعه بذارًا للمزارعين بالسعر الذي تمّ اشتُرِي به من المتعاقدين.
شوالات الحبوب في المؤسسة التعاونية الأردنية. تصوير محمد زكريا.
أمّا «العينات الراسبة»، أي المحاصيل المرفوضة، فيقول بني خلف إن أصحابها، يحملونها إلى الصوامع لبيعها كـ«قمح مواني».
هناك ثلاث لجان لاستلام الحبوب في المملكة؛ لجنة الشمال، في الرمثا، والوسط في الجويدة، عمان، والجنوب في الربة، الكرك. ويتوجه المزارعون إلى الصوامع التي تقع فيها مناطقهم، كما يقول فتحي بشابشة، رئيس لجنة استلام الحبوب في الشمال، والتي تستقبل المحاصيل من إربد والمفرق وعجلون وجرش والأغوار.
يشرح بشابشة الذي يعمل مديرًا للصناعة والتجارة في محافظة المفرق، وانتدب هذا العام للإشراف على استلام الحبوب في صوامع الشمال، أن الاستلام يبدأ بأخذ عينات من المحاصيل، وفحصها. أولًا لتحديد نسبة الضمور وهذا منتشر في مواسم الجفاف عندما تنمو الحبوب رفيعة جدًا، ولا يستفاد منها. والفحص الثاني هو لنسب الشوائب من أتربة وحصى وبذور أعشاب أخرى والإصابات الحشرية والفطرية. المحاصيل التي لا تتجاوز النسب المقبولة وهي 10% للضمور، و7% للشوائب وغيرها، تُقبل وتُدرّج بحسب جودتها.
الأسعار التي تعلنها الحكومة للشراء سنويًا، يقول بشابشة، تُمثّل السقف، حيث أنها أسعار شراء المحاصيل الأعلى على سلم التدريج، في حين أن المحاصيل الأقل جودة تُشترى بأسعار أقل من تلك المعلنة. هذه السنة يقول إن أسعار شراء القمح تراوحت بين 370 – 350 دينارًا، وأسعار الشعير بين 320 – 300 دينار للطن.
مهندس في صوامع الرمثا يكتب نتيجة فحص عينة من الحبوب، وعينات أخرى تنتظر الفحص، وقائمة الأسعار لكل مستوى من الجودة. تصوير محمد زكريا.
ويلفت بشابشة إلى أن شراء أي محصول من القمح المواني مشروط بأن يكون مرفقًا بـ«شهادة منشأ»، وهي شهادة تصدرها وزارة الزراعة قبل الحصاد، عندما يخرج مهندس مختص إلى الأرض المطلوب استصدار شهادة منشأ لمحصولها، ويقدر الكمية التي من المتوقع أن تنتجها. ولا تستقبل الصوامع أي كمية زيادة عن المسجل في الشهادة، إلا ضمن هامش منطقي.
هذا الإجراء، هدفه بحسبه، إثبات أن الحبوب مصدرها الأردن، والتأكد بالتالي من أن الأسعار «التشجيعية» التي يتم شراء الحبوب بها، تذهب إلى المزارع المحلي. فبحسب بشابشة الذي ينتدب للسنة الخامسة عشرة رئيسًا للجنة استلام حبوب، من الممارسات المنتشرة محاولة تجار بيع الصوامع محاصيل قمح وشعير، مستوردة بالتحديد من سوريا ولبنان، على أنها منتج أردني.
البيع للحكومة: بين تعقيد الإجراءات والتحايل عليها
في «مليح» في محافظة مادبا، يشير المهندس الزراعي والناشط العمالي محمد السنيد إلى تجمعات الإسمنت المقامة على الحقول، ويقول إن مساحة البلدة الأصلية والتي ما زالت معروفة باسم «مليح القرية» أقل بكثير من امتداداتها العمرانية التي قامت كلها على الأراضي الزراعية، وجميعها حديثة نسبيًا. «هذا العمار كله من الثمانينات وجاي. قبل الثمانينات كان مكانه قمح وشعير». لقد دُمّرت الحقول، يقول السنيد، وتركت الصحراء التي لا تبعد عن المنطقة أكثر من 20 كم.
السنيد الذي يعمل مديرًا لمحطة زراعية، هو أيضًا مثال على تفتت الملكية. كان لجد والده 1000 دونم تقريبًا في ذيبان ومليح، وصله منها كأحد أبناء الجيل الرابع، دونمان. يستأجر السنيد كل سنة أرضًا ليزرعها بالقمح والشعير، لكنه مثل كثيرين، أجبرته مواسم الجفاف المتتالية على التركيز على زراعة الشعير. حيث زرع هذه السنة 30 دونمًا. ثم مع تفجر أزمة كورونا، قرر بشكل مفاجئ أن يتضمن قطعة أرض أمام منزله، مساحتها 18 دونمًا، لابن عمه، كان الأخير زرعها قمحًا. يقول السنيد «كورونا خوّفتنا». فقد شاهد أزمة الخبز، ومع عدم تيقنه مما سيحدث في المستقبل، تضمن الأرض مقابل ثلث المحصول، وينوي الاحتفاظ بجزء منه بذارًا للسنة القادمة.
السنيد في أرضه. تصوير محمد زكريا.
فجر اليوم المقرر لحصاد القمح، تجمّع أمام منزله حوالي عشرة من أشقائه وأقربائه، جاؤوا ليساعدوه في الحصاد. إنهم «العونة»، وهو تقليد يقول إنه ما زال منتشرًا في المنطقة بين صغار المزارعين، ويتم عن طريق الحصاد اليدوي من دون مناجل. وهي طريقة كما ذكرت جميلة سابقًا، تُهيّء أقصى استفادة من المحصول، وهذا مهم جدًا، يقول السنيد، لصغار المزارعين الذين لا يستفيدون كثيرًا من الأسعار التي تشتري بها الحكومة القمح والشعير، ذلك أن هناك العديد من الصعوبات المرافقة لإجراءات البيع هذه تجبرهم على البيع لوسطاء، يتولون هم توريد المحاصيل للصوامع وتحقيق أرباح من دون جهد حقيقي. أول هذه الصعوبات، هو حصر استلام المحاصيل بثلاث لجان فقط في كل المملكة، وهذا يجعل من عملية النقل للمزارعين البعيدين عن مواقع هذه اللجان مكلفة جدًا. الأمر الآخر هو التأخر في صرف المستحقات المالية، والذي قد يمتد في بعض الأحيان إلى شهرين، في حين أن التجار يدفعون مباشرة للمحصول وهو على أرضه، وهذا أمر مهم جدًا بالنسبة لمزارعين مكبلين بالكثير من الالتزامات. الأمر الثالث يقول السنيد يتعلق بتعقيدات استصدار شهادات المنشأ، وكل الإجراءات الورقية التي تشترطها الإجراءات الحكومية. فالشهادة يجب أن تكون مرفقة بسند تسجيل أرض حديث، وفي حال لم يكن طالب شهادة المنشأ شريكًا في الأرض، فإن عليه أن يحضر عقد استئجار موثق في المحكمة. كل هذه «تعقيدات» يقول السنيد بالنسبة لمزارعين تقوم علاقاتهم التعاقدية على الشفوية، سواء كانت العلاقة بين مستأجر وصاحب أرض، أو بين الشركاء الذين يتفقون على ان تكون المنفعة من الأرض «على الدور».
يضاف إلى الصعوبات السابقة، إجراء يقول مسؤول مختص في وزارة الزراعة، إنه عُدّل هذه السنة. المسؤول الذي طلب عدم ذكر اسمه لأنه غير مخوّل بالتصريح، لفت إلى أنه كان على جميع الشركاء في الأرض الحضور لإتمام المعاملة. وفي مناطق كثيرة في المملكة حيث مساحات شاسعة ما زالت أرضًا مشاع، وقد يشترك في قطعة الأرض الواحدة أكثر من 100 شخص، فإن هذا كان صعبًا جدًا. هذه السنة، يقول المسؤول إن طالب الشهادة إذا كان شريكاً في الأردن، فإنه يكتفى بأن يتعهد أمام مدير الزراعة بأن يحافظ على حقوق بقية الشركاء.
أقارب السنيد يقدمون العونة له أثناء الحصاد، وغمور القمح تتوزع في أحد الحقول قرب مادبا. تصوير محمد زكريا.
إذن فقد سُهّلت الإجراءات في حالة أن يكون طالب الشهادة مشتركًا في ملكية الأرض، وهذه ليست حال الكثير من المزارعين ممن لا يملكون الأراضي التي يزرعونها، وهم بذلك تحت رحمة مالك الأرض، كما يقول محمد حامد، الذي يتضمن أرضا مساحتها 20 دونما في منطقة تقع بين مادبا وسحاب، ويبيع المحصول في العادة للتجار بسعر 280 دينارًا لطن القمح، و220 لطن الشعير.
اقرأ/ي أيضا:
يقول حامد إن قلة من أصحاب الأراضي يقبلون إعطاء المستأجر سند التسجيل، على الأقل ليس لـ«المتضمّنين العاديين الصغار اللي زي حالاتنا الطفرانين»، ولا شيء في الحقيقة يجبرهم على ذلك. «ما بعطيك، وما بضمّنك ياها [الأرض] إذا رجعت عليه مرة ثانية»، يقول حامد. خلال المقابلات مع مزارعين في مختلف المناطق، قال العديد منهم إن الكثير من أصحاب الأراضي يستخرجون شهادات منشأ ويبيعونها لتجار الحبوب. وأكد هؤلاء أن «تجارة» شهادات المنشأ، هي جزء من تجارة القمح والشعير في السوق المحلي كل موسم. فواقع أن الشهادة لا تصدر إلا بسند تسجيل أرض حديث، وعقد إيجار موثق في المحكمة لمن ليس شريكًا في الأرض، يصعّب عملية البيع للصوامع على التجار. إذ يتحتم على التاجر الذي اشترى، على سبيل المثال، محاصيل العشرات من صغار المزارعين، أن يحصل على سندات الأراضي التي استأجرها هؤلاء من أصحابها، وأن يوثق معهم عقود إيجار رسمية. لهذا يلجأ البعض إلى استصدار شهادات منشأ بطرق ملتوية، يبيعونها بدورهم لهؤلاء التجار. وتأكيدًا على ذلك، أعلن المدعي العام الأسبوع الماضي توقيف 15 شخصًا، من بينهم مهندس زراعي في مديرية البادية الشمالية، بتهمة تزوير شهادات منشأ.
يقيم حامد مع زوجته وأبنائه الثمانية في عريشة نصبوها في الأرض التي استأجروها أساسًا لتربية قطيع صغير من الأغنام، لصالح أحد التجار، حيث يتقاسم الطرفان الأرباح والخسائر. وزراعة القمح والشعير هو نشاط جانبي، يقوم به الاثنان على هامش ذلك.
تقول زوجته أم أحمد إنهم موجودون في هذا المكان من 11 سنة. لقد تزوج الاثنان من 19 سنة، أمضيا منها سنة واحدة فقط في بيت من الإسمنت، و18 عامًا في البر. ففي السنة التي أمضياها في «بيت العيلة»، كان حامد يعمل على سيارته الديانا، ولم يكن العمل جيدًا. «اللي كان يجيبه كنّا نوكله»، تقول أم أحمد. لهذا قررا بعد سنة أن يبدآ مشروع تربية الأغنام. وشجعهما السكن في البر على البدء بزراعة القمح والشعير الذي يبيعان جزءًا منه، ويحتفظان بجزء من الشعير للحلال. وبالنسبة للقمح، فقد كانا الوحيدين من بين من قابلناهم، ممن يخزّنون مونة العائلة من القمح الذي يزرعونه. إذ تقول أم أحمد إنها تستخدمه لخبز «الصاج» الذي لا تأكل العائلة غيره، كما أنها تصنع منه الجريش.
محمد حامد، وعدد من رؤوس الحلال التي تربيها أسرته وفي الخلفية بيوت بلاستيكية، وطفلاه أمام العريشة التي يسكنونها. تصوير يزن ملحم.
قبل أن يأتيا إلى هنا، كانا في موقع آخر، تركاه عندما رفع مالك الأرض سعر الاستئجار من 20 دينار إلى 40. الآن هما يدفعان 40 دينار للدونم سنويًا، لكن هذه المنطقة تستحق هذا المبلغ، تقول أم أحمد. ذلك أن هناك عوامل أخرى تحدد الأجرة غير طبيعة الأرض ومنسوب الأمطار، هو قربها من الخدمات وهو ما يحققه موقعهما على الشارع الرئيسي، فهو قريب من مدارس الأبناء في سحاب. وعندما وصلنا، كان حامد يستعد لإيصال ابنه الاكبر، إلى المركز الذي يتلقى فيه دروسا استعدادًا لامتحانات التوجيهي التي كانت ستبدأ خلال أيام وقتها.
عامل آخر يرفع الأجرة تقول أم أحمد، هو الأمان، فالمواقع الداخلية البعيدة عن العمار هدف للصوص الحلال. في حين أنها هنا، تقول أم أحمد إنها تشعر بالأمان عندما يغادر الجميع، وتبقى وحيدة مع الصغار والحلال، إذ يقع خلف عريشة العائلة عدد كبير من البيوت البلاستيكية الضخمة التابعة لمزرعة فراولة، والتي لا تنقطع حركة عمالها.
رغم قرب العريشة من الخدمات، إلى أنهما لم يحصلا على الكهرباء إلا هذه السنة. عندما دخل ابنهما التوجيهي، طلبت أم أحمد من مالك مزرعة الفراولة عندما تصادف مجيئه مرة أن يسمح لهم بمد سلك كهرباء إلى الخيمة. لقد كان كل الهدف من الخروج إلى البر، والانخراط في تربية الحلال والزراعة، تقول أم أحمد، هو أن تجد وزوجها ما يمولان به الدراسة الجامعية للأولاد عندما يحين الوقت، الدراسة التي تقول إنها ستوفر لهم ولأبنائهم غير هذه الحياة. لهذا عندما رأت مالك المزرعة «رحتله عالشارع ووريّته رقم الجلوس. وقلت يا خوي، عشان الولد يدرس بالليل».
-
الهوامش
[1] تقرير وزارة الزراعة السنوي للعام 2018.
[2] الأرقام من دائرة الإحصاءات العامة.
[3] اسم مستعار بناء على طلب صاحبته.
[4] لم يذكر اسم القرية حفاظا على الخصوصية.