في حزيران الماضي، وفي ظل انتشار وباء كورونا في الأردن والعالم أجمع، أطلق مجموعة من أطباء الامتياز حملة «راتبي حقي» على وسائل التواصل الاجتماعي، للتعريف بقضية مقاعد الإقامة غير مدفوعة الأجر. انطلقت هذه الحملة إثر إعلان أحد المستشفيات الخاصة عن حاجتها لمجموعة من الأطباء المقيمين، وبعد التواصل معهم تبين أن هذه المقاعد لن تكون مدفوعة الأجر، ما أطلق مطالبات إلكترونية تطورت لتصير حملة إلكترونية، سرعان ما لقيت رواجًا واسعًا بين صفوف الأطباء وخصوصًا المستجدين منهم. وعلى الرغم من أن فكرة وجود أطباء مقيمين لا يتقاضون أجرًا ليست جديدة أردنيًا، إلا أن التوسع فيها مؤخرًا وازدياد عدد الأطباء الذين لا يجدون فرصة للاختصاص، ساهم في رفع صوت هؤلاء الأطباء. فأين المشكلة وكيف بدأت ومن أين يمكن أن يبدأ الحل؟
القبولات مقابل المقاعد؛ معادلة مختلة ابتداءً
لم يصاحب التوسع في قبولات كليات الطب في العقد الأخير، توسع مماثل في عدد مقاعد الإقامة المتاحة في المستشفيات التعليمية. وغدت هذه المشكلة مصدرًا للعديد من المشاكل المرتبطة بأجور وواقع الأطباء في النظام الصحي الأردني. فمنذ عام 2006، استُحدثت ثلاث كليات طب في كل من الجامعة الهاشمية واليرموك والبلقاء التطبيقية، وتمت الموافقة على ترخيص ثلاث جامعات طبية خاصة، دون أن يترافق ذلك مع أي توسع في المستشفيات التعليمية. فاقم هذا الوضع من مشكلة الأطباء غير مدفوعي الأجر، سواء من خلال قبول الأطباء بهذا المسار لحاجتهم للاختصاص بأي ثمن، أو استغلال القطاع الصحي بمؤسساته المتنوعة والمتعددة لهذه الحاجة في ظل ازدياد أعداد الأطباء بشكل كبير.
شهد العام 2013 ارتفاعًا في معدلات الثانوية العامة، رافقه توسع استثنائي في أعداد المقبولين في كليات الطب. في العام نفسه، أسست جامعة اليرموك كلية طب جديدة، على أن يبنى أول مستشفى للجامعة بعد تأسيس الكلية الجديدة بثلاث سنوات، حتى يتمكن الفوج الأول من الطلبة من تلقي تدريبهم السريري فيه. يتخرج الطلبة اليوم من الكلية ذاتها وما زالت مخططات المستشفى الموعود حبيسة الأدراج. وينطبق هذا الكلام على جامعة البلقاء التطبيقية التي أنهى الفوج الأول من طلبتها عامهم الخامس. وفي السياق نفسه، لا زالت الجامعة الهاشمية وجامعة مؤتة لا تمتلكان مستشفى جامعيًا، وعقدت بالمقابل اتفاقيات مع جامعات حكومية ومستشفيات الخدمات الطبية الملكية لتدريب الطلبة في مستشفياتهم. قد يكون هذا واحدًا من الحلول العملية المؤقتة، لكنه يحتاج إلى رؤية أشمل تعتمد على تطلعات الكليات نفسها.
مؤخرًا، صرح رئيس الجامعة الهاشمية بأن الجامعة ستضاعف عدد مقاعد كلية الطب في السنوات القادمة. ومن المعلوم أن التوسع في أعداد الطلبة وافتتاح كليات جديدة، أصبح السياسة المفضلة للجامعات الأردنية من أجل زيادة إيراداتها المالية، سواء من الرسوم التي يدفعها الطلبة الأردنيون أو تلك التي يدفعها الطلبة العرب والأجانب.
إنّ من الممكن الاستفادة من هذه الآلية، لكن إن لم تراعى قدرات الكليات الطبية، وسعة برامج التدريب السريري، وقدرة النظام الصحي على استيعاب أعداد الطلبة المتزايدة، فإن النتيجة ستكون عكسية بانخفاض المستوى التعليمي لهذه الكليات وضعف استقطابها للطلبة العرب والأجانب.
في ظل عدم وجود جهة موحدة تشرف على مسألة الإقامة في الأردن، تضع المؤسسات الطبية التعليمية معايير القبول ببرامج الإقامة منفردة. كل مؤسسة لها معاييرها الخاصة بها، سواء من ناحية عدد الطلبة المقبولين وشكل التعاقد معهم؛ مدفوعي الأجر أو غير مدفوعي الأجر، أو حتى دافعين لرسوم سنوية طيلة فترة الاختصاص (قد تصل إلى 10 آلاف دولار يدفعها المقيم سنويًا في بعض المؤسسات لبعض الاختصاصات).
للوقوف على تفاصيل المقاعد السنوية للإقامة، تواصلت مع نقابة الأطباء، والمجلس الصحي العالي، والمرصد الوطني للموارد البشرية الصحية، باعتبارها المؤسسات الطبية التنسيقية ذات العلاقة، وتبين أن لا بيانات سنوية لديها لأعداد مقاعد الإقامة في كل سنة، سواء في البرامج مدفوعة الأجر أو غير مدفوعة الأجر.[1] بالنظر إلى قبولات الطب في العام الماضي فإن لدينا ما يقرب من 4800 طالب طب على مقاعد السنة الأولى في الكليات الطبية في الجامعات الأردنية
يشير الدكتور محمد الكوفحي، العضو السابق في مجلس نقابة الأطباء، ورئيس اختصاص الجراحة العامة في وزارة الصحة حاليًا، إلى أنه وفقًا لدراسة داخلية أعدتها النقابة سابقًا، فقد بلغ عدد مقاعد الإقامة مدفوعة الأجر سنة 2018 حوالي 900 مقعد، وارتفع إلى 1100 مقعد في عام 2019. بالمقابل، تجاوز عدد المؤهلين الجدد لهذه المقاعد 2050 طبيبًا في العام نفسه.[2] وتشير الأعداد الأولية لهذا العام إلى ثبات عدد مقاعد الإقامة مدفوعة الأجر مقارنة بالعام الماضي.[3]
هذه الفجوة بين عدد خريجي كليات الطب ومقاعد الاختصاص آخذة بالتزايد عامًا بعد عام، وبالنظر لقبولات الطب في العام الماضي فإن لدينا ما يقرب من 4800 طالب طب على مقاعد السنة الأولى في الكليات الطبية في الجامعات الأردنية، بحسب الدكتورة منار الشوابكة، مندوبة نقابة الأطباء للمجلس الطبي الأردني في لجنة الامتياز وعضو مجلس نقابة الأطباء سابقًا.[4] وعلى ذلك يمكن تقدير حجم المشكلة التي ستحل على الأردن خلال السنوات السبع القادمة، كل ذلك دون النظر إلى التراخيص الممنوحة لثلاث جامعات خاصة جديدة لتدريس الطب.
سنة الامتياز، بداية العمل بلا أجر
بعد إكمال طالب الطب مرحلة البكالوريوس بواقع ست سنوات، يحصل على شهادته الأولى في الطب والجراحة، ثم تأتي بعدها سنة الامتياز، وهي السنة الأولى لتقبل فكرة عدم تقاضي الطبيب راتًبا لقاء عمله من قبل كثير من المؤسسات الطبية، أو تقاضي مبلغ لا يتجاوز في أفضل ظروفه -إن وجد- الحد الأدنى للأجور في الأردن حسب قانون العمل والعمال.
لم تأخذ قضية الراتب الزهيد جدًا في سنة الامتياز والذي يتراوح من صفر إلى 150 دينارًا، ذلك القسط من الاهتمام، باعتبارها مرحلة انتقالية قصيرة، تسبق مرحلة الإقامة والاختصاص التي من المفترض أن تحقق دخلًا يؤمن مستوى جيدًا ويحقق متطلبات الحياة، لكن هذا ما لا يحصل فعلًا اليوم.
يمكن للطبيب الذي أنهى سنة الامتياز أن يزاول المهنة كطبيب عام دون نيل الاختصاص، لكن نظرًا لتراجع دور الرعاية الصحية الأولية في الأردن ودور الأطباء العامّين، صار ينظر للاختصاص على أنه ضرورةٌ للطبيب.
تمتد مرحلة الإقامة أو الاختصاص أو التدريب السريري من أربع إلى ست سنوات حسب الاختصاص، بشرط النجاح في الامتحان السنوي للانتقال للسنة التي تليها، ليتقدم الطبيب بعد ذلك لامتحان المجلس الطبي الأردني ليصبح في حال نجاحه «اختصاصيًا» حاملًا للبورد الأردني في مجاله، وبذلك يحق له مزاولة الاختصاص داخل الأردن.
هذه المرحلة يحصل فيها الطبيب على التدريب في المستشفى، ويعتبر إتمام هذه السنوات من التدريب شرطًا مسبقًا للتقدم لامتحان الحصول على البورد الأردني، لكنه بالمقابل يقوم في هذه الفترة بدوره كطبيب معالج ومتابع للمرضى، تحت إشراف ومتابعة اختصاصي أو استشاري وفق بروتوكولات محددة.
عمليًا، ومن خلال هذه المعادلة، فإن المقيمين هم عمادٌ أساسي للمستشفيات لا يمكن الاستغناء عنه، وبهذا فهم يستحقون راتًبا نتيجة لهذا العمل ولقاء ساعات المناوبة الطويلة التي تمتد لـ24 ساعة في أحسن الظروف -أردنيًا- وقد تصل أحيانًا إلى 32 ساعة متواصلة.
ازدياد عدد الأطباء فاقم المشكلة، لكنه لم يبدأها
لعله من المفيد التذكير بأن مسألة برامج الإقامة غير مدفوعة الأجر سابقة على وجود هذا الفائض في أعداد الأطباء، وليست وليدة السنوات القليلة الماضية. إذ بدأت قبل أكثر من عقدين في الخدمات الطبية الملكية، حين التحق العديد من الأطباء ببرامج إقامة غير مدفوعة الأجر، أو برامج يدفع الطالب رسومًا مقابل الالتحاق بها بغية تحصيل اختصاص لم يستطع غالبيتهم تحصيله بناءً على الامتحان التنافسي، أو لعدم الرغبة بالالتزام العسكري مع الخدمات الطبية الملكية واختيار المسار المدني. التحقت المستشفيات الجامعية[5] ووزارة الصحة بهذا المسار لاحقًا.
فتح هذا المسار الباب مؤخرًا لاستغلال حاجة الطبيب لتحصيل أي اختصاص متاح للتدريب في نظام صحي يقوم على الاختصاص، ولم يؤسس على فكرة الرعاية الصحية الأولية، التي سبّب تجاهلُها حصرَ خيارات غالبية خريجي الطب ببرامج التخصص. ومن خلال هذا الإقبال على التخصص وزيادة عدد مقاعد الإقامة غير مدفوعة الأجر، تسد المستشفيات حاجتها من الأطباء المقيمين.
إنّ أولوية معظم الأطباء هي تحصيل مقعد إقامة مدفوع الأجر، وفي حال عدم تحصيله بالتنافس، يقرر جزء منهم ممن يملكون القدرة المالية دخول برامج غير مدفوعة الأجر، فيما يفضل آخرون الانتظار والعمل كأطباء عامين في المرحلة الانتقالية، وانتظار الدورة التالية، وهو ما ستزيد صعوبته في قابل الأيام بسبب ارتفاع عدد خريجي الطب بشكل كبير جدًا.
بالنظر إلى الأرقام فإن معظم الأطباء الأردنيين غير مدفوعي الأجر على مقاعد الاختصاص في الأردن اليوم هم في الخدمات الطبية الملكية من كادر الأطباء المدنيين، الذين يدفعون رسومًا سنويًا مقابل الاختصاص ويتراوح عددهم من 100 إلى 150 طبيبًا سنويًا. ويبلغ عدد الأطباء في برامج الإقامة غير مدفوعة الأجر في مستشفى الجامعة الأردنية من 50 إلى 100 طبيب سنويًا ومن 20 إلى 30 طبيبًا سنويًا في مستشفى الأمير حمزة التابع بوزارة الصحة.
في العام الماضي، طرحت وزارة الصحة برنامجًا للإقامة في خمسة تخصصات تعاني الوزارة من نقص فيها. أجرت الوزارة امتحانًا عامًا لأطباء من خارج الوزارة لحجز مقعد إقامة مقابل راتب شهري مقداره 220 دينارًا، دون أي التزام من طرف المقبولين ببرنامج وزارة الصحة بعد حصولهم على الاختصاص. كانت الخطة التي أقرتها مديرية التعليم والتدريب في وزارة الصحة تستهدف ما يزيد عن ألف طبيب، لكن لم يتقدم للامتحان سوى 240 طبيبًا، وذلك لأسباب مرتبطة بتدني الراتب ومحدودية التخصصات المطروحة. وبحسب أحد المشرفين على البرنامج، تم قبول المتقدمين جميعًا، واستنكف منهم قرابة 40 طبيبًا.
يراعي نظام توزيع الإقامات عادةً حاجة الدولة للاختصاصات وقدرة المستشفيات على التدريب والفروقات الفردية بين المتقدمين جنبًا إلى جنب مع طموحاتهم الشخصية.
قد يكون توزيع مقاعد الاختصاص من قبل جهة موحدة هي الطريق الأمثل لضبط أعداد الاختصاصيين في أي دولة ورسم خريطة العلاج الطبي من ناحية عدد الاختصاصيين في كل مجال. لهذا يراعي نظام توزيع الإقامات عادةً حاجة الدولة للاختصاصات وقدرة المستشفيات على التدريب والفروقات الفردية بين المتقدمين جنبًا إلى جنب مع طموحاتهم الشخصية. لذلك، فالمسألة ليست خاضعة تمامًا للعرض والطلب، حتى في أشد الدول اعتناقًا للنظرية الرأسمالية مثل الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تشرف جهة وطنية على مستوى الولايات (National Resident Matching Program) على توزيع خريجي كليات الطب من داخل الولايات المتحدة وخارجها على مقاعد الاختصاص في المستشفيات بناء على عدد المقاعد المتاحة وتحصيل الخريج الأكاديمي ورغباته بما يتماشى مع قدراته.
حتى وقت قريب، شكل دخول دراسة الطب في الأردن جنبًا إلى جنب مع فكرة إكمال الدراسات العليا فرصة أمام متوسطي ومحدودي الدخل وأبنائهم للصعود طبقيًا، بشكل يعزز ديناميات الحراك الاجتماعي الإيجابي. أما الشكل الحالي من إتاحة مقاعد الإقامة لمن يملك المال لكي يكمل الاختصاص وحرمان من لا يملكه، سيعزز معادلة أن الغني يزداد غنى والفقير يزداد فقرًا. قد لا يقتصر هذا على عدد المقاعد غير مدفوعة الأجر الحالية فقط، وإنما قد تتحول المقاعد مدفوعة الأجر شيئًا فشيئًا لمقاعد غير مدفوعة الأجر، في ظل قابلية الأطباء للمنافسة عليها، بسبب حاجتهم الملحة لتحصيل مقعد للإقامة وتزايد عدد الخريجين من كليات الطب. وفق هذا المسار، قد يصل الطبيب إلى عمر الثلاثين وهو لا يتقاضى راتبًا عن عمله، الأمر الذي قد يكون له تبعات على الطبيب والمرضى الذين يتعامل معهم.
مؤخرًا، بدأت مشكلة المقيمين تمتد للاختصاصيين، حيث تتجه مستشفيات خاصة بناء على زيادة حاجتها من الأطباء إلى استحداث برامج تدريبية لاستغلال حاجة الأطباء لفرص إقامة، حيث تُفتح البرامج التدريبية بالاعتماد على ما لدى هذه المستشفيات من استشاريين لترخيص البرنامج من المجلس الطبي الأردني، والاستعاضة بذلك عن توظيف مزيد من الاختصاصيين لتوفير رواتبهم. وبدأ ذلك يخلق مشكلة في التوظيف أمام الاختصاصيين الجدد في هذا المجال، وقد يكون هذا التوجه مفيدًا من حيث توفير فرص للإقامة، لكن على المجلس الطبي أن يمارس دوره في مراقبة كفاءة برامج التدريب في هذه المستشفيات وعدد المقبولين فيها ومعايير اختيارهم، وعلى هذه البرامج ألا تكون غير مدفوعة الأجر، إذ يعكس ذلك أن الدافع خلف هذا المسعى مالي، ولا يعود لأسباب تدريبية أو صحية.
المشكلة الأخرى طويلة الأمد ستكون أيضًا تشوه خارطة توزيع الأطباء على الاختصاصات، نتيجة دخول أعداد كبيرة ممن اختاروا أن يدفعوا مبلغًا ماليًا مقابل فرصة التدريب في اختصاصات معينة، وهذا التكدس يعني وجود اختصاصيين عاطلين عن العمل، وهذه المشكلة بدأت بالظهور فعلًا وهي مرشحة للتفاقم خصوصًا في تخصصات مثل جراحة العيون والجلدية.
مستشفيات جامعية ونظام اختصاص وطني موحد
إن غياب التنسيق بين الجهات التي تقدم الرعاية الصحية ليس معضلة جديدة في الأردن، فعلى الرغم من امتلاكنا مؤسسات طبية مرموقة، إلا أننا لا نملك مظلة جامعة لهذه المؤسسات إلا بصفة التنسيق، كالمجلس الصحي العالي، ولكل هذه المؤسسات مرجعيات إدارية ومالية مستقلة.[6]
الحل الاستراتيجي الذي سيحفظ نوعية التعليم الطبي في هذه المؤسسات وجودة القطاع الصحي لاحقًا، يبدأ بوقف تدفق الأطباء للحصول على مقاعد الإقامة في كل مؤسسة حسب معاييرها وامتحاناتها، وتحديد أعداد المقبولين وتوزيعهم على الاختصاصات وفقُا لمعاييرها الخاصة دون وجود رؤية جامعة على المستوى الوطني. لذا، لا بد من وجود مظلة موحدة مسؤولة عن وضع الخطوط العامة للاختصاصات وأعداد المقبولين فيها ومعايير القبول، أو إسناد هذه المهمة مع قدر معقول من الصلاحيات لإحدى المؤسسات القائمة مثل المجلس الطبي الأردني المسؤول أصلًا عن وضع امتحان البورد لمن ينهون برامج الإقامة في مختلف المؤسسات التعليمية، لذلك من باب أولى أن يكون قادرًا على ضبط من يدخلون ابتداءً لهذه البرامج التعليمية. الحلول الاستراتيجية لضبط جودة القطاع الصحي واستيعاب عدد الأطباء الكبير تتطلب ابتداءً تفعيل الرعاية الصحية الأولية بطريقة علمية وممنهجة، لتقديم الرعاية الصحية للمواطنين في مناطقهم، وتخفيف الضغط على المستشفيات الكبرى
الحلول الاستراتيجية لضبط جودة القطاع الصحي واستيعاب عدد الأطباء الكبير تتطلب ابتداءً تفعيل الرعاية الصحية الأولية بطريقة علمية وممنهجة لتقديم الرعاية الصحية للمواطنين في مناطقهم، وتخفيف الضغط على المستشفيات الكبرى التحويلية من خلال نظام يحفظ الاتصال الفعال بين مراكز الرعاية الصحية الأولية والمستشفيات التحويلية. هذا النظام إن طبق بشكل صحيح سيحقق انخفاضًا كبيرًا في الإنفاق على المؤسسات الطبية من خلال توفير كثير من الفحوصات غير الضرورية ومتابعة الأمراض المزمنة بطريقة أفضل، ما يعود بالنفع على صحة المريض.
فمثلًا، متابعة السكري بشكل دوري من خلال مركز صحي أولي تتم بتكلفة قليلة، وتقلل بشكل كبير من المضاعفات المترتبة على المرض، مثل بتر الأطراف وما يجرّه ذلك من تبعات كبيرة على المريض وكلفة على النظام الصحي، بإجراء هذه العمليات ثم إعادة تأهيل المريض وتركيب الأطراف الصناعية. الكلام نفسه يمكن أن يطبق على مرض الضغط والكثير من الأمراض المزمنة، ومن المعلوم في الصحة العامة أن الاهتمام بالطب الوقائي والإنفاق فيه يوفر أضعافًا مقارنةً بالإنفاق على الطب العلاجي.
لهذا، عمدت دول مثل المملكة المتحدة من خلال نظامها الصحي الوطني (NHS) إلى تفعيل مبدأ الرعاية الصحية الأولية، ورفع أجور الأطباء العاملين في المراكز الصحية الأولية لتصبح قريبة من رواتب الأطباء الاختصاصيين، وبهذا أصبحت مثل هذه الوظائف مناسبة للأطباء سواء في بداية حياتهم بشكل انتقالي، أو في حال الإكمال في مسار الطب العام وطب الأسرة، وهذا المسار على الرغم من زيادة الإنفاق فيه على رواتب الأطباء إلا أنه يوفر مبالغ كبرى كانت تنفق على المستشفيات الكبرى التحويلية.
مثل هذه الحلول الآجلة بحاجة إلى رؤية وطنية بعيدة الأمد وتعاون مختلف الجهات المعنية بالنظام الصحي، ويتوقع مرور سنوات قبل الوصول إليها، لكنّ هذا لا يغني عن حلول عاجلة يمكن أن تخفف المشكلة بشكل سريع وتقلل من التبعات المترتبة على هذا الاختلال بين عدد مقاعد الإقامة وعدد الخريجين من كليات الطب.
من هذه الإجراءات العاجلة إعادة النظر بالتراخيص الممنوحة للجامعات الخاصة لتدريس الطب، وعلى الرغم من صعوبة الشروط المرتبطة بالترخيص، فإن أعداد الطلبة الآن على مقاعد الدراسة قد تجاوز الإشباع[7] بمراحل عديدة. ومن الواضح أن لدينا مشكلة ستنفجر خلال السنوات الخمس القادمة، وليس من الحكمة مفاقمة هذه المشكلة من أجل تحقيق منافع عاجلة. وإن كانت الحكومة جادة في متابعة شروط الترخيص لهذه الجامعات، فعليها أن تبدأ أولًا بالاستفادة من ذات الشروط التي وضعت لهذه الجامعات الخاصة لحل مشكلة الجامعات الحكومية الحالية.
فمثلًا، من الشروط منح التراخيص في هذه الجامعات ألا تتجاوز نسبة الطلبة الأردنيين 40% من عدد الطلبة المقبولين، وهذا شرط يخفف من تراكم الأطباء الأردنيين أمام مقاعد الإقامة المحدودة، لكنه شرط صعب التحقق خصوصًا لكليات ناشئة، لم تنل سمعة ثابتة في المجال التعليمي بعد. وإن كان هذا الشرط قابلًا للتحقق، فمن الأولى أن تتجه له الجامعات الحكومية لتعظيم إيراداتها من الطلبة الأجانب، الذين سيغادرون الأردن بعد تخرجهم دون زيادة الضغط على مقاعد الإقامة وسوق العمل محليًا.
ولقد آن الأوان أيضًا لمساعدة الجامعة الهاشمية وجامعات مؤتة واليرموك والبلقاء على إنشاء مستشفياتها الجامعية أو إجراء اتفاقيات طويلة الأمد لتطوير مستشفيات قائمة، أو تشغيل مستشفيات قائمة لم تشغَّل بعد (مثل مستشفى السلط الحكومي لتشغيله من قبل جامعة البلقاء التطبيقية بالتعاون مع وزارة الصحة). وهذا يتطلب توجيه جزء من المداخيل المالية العالية من طلبة الطب في هذه الجامعات نحو مثل هذه المشاريع الكفيلة بتحسين نوعية التدريب السريري لطلاب كليات الطب في هذه الجامعات، واستقطاب المزيد من الطلبة الأجانب لتحسين تصنيف الجامعات وسمعتها، وفتح أعداد جديدة من برامج الإقامة، بالإضافة لتحسين مستوى الخدمات الطبية للمواطنين وتخفيف الضغط عن المستشفيات الحالية.
يقود هذا للحديث عن عدالة الفرص، إذ لا بد من برنامج وطني موحد لقبول الأطباء في برامج الاختصاص في مختلف المؤسسات الطبية (مع استثناء الأطباء العسكريين في الخدمات الطبية الملكية ومراعاة الاعتبارات الأمنية للأطباء المدنيين فيها). مثل هذا البرنامج الوطني الموحد أصبح ضرورة ملحة لضمان ضبط عدد المقاعد في المؤسسات المختلفة والتحكم في رسم خريطة الاختصاصات، وضمان عدالة التوزيع بين الأطباء على هذه المقاعد. وهذا النظام معمول به في العديد من الدول سواء في الولايات المتحدة (National Resident Matching Program) أو في دول في المنطقة مثل المملكة العربية السعودية (الهيئة السعودية للتخصصات الصحية). وأثبتت مثل هذه البرامج كفاءتها في توزيع الأطباء بالشكل الأمثل خدمة للنظام الصحي، من خلال امتحان موحد يعقد وطنيًا ونظام نقاط تراكمي من خلال نشر الأبحاث والمشاركة في المؤتمرات العلمية والخبرات الطبية المحصلة.
لا يمكن حل هذه المشكلة إلا بإرادة حقيقية عند صناع القرار في المجالين الصحي والاقتصادي، لوضع الخطط استراتيجيًا ومرحليًا ومتابعة تنفيذها بشكل إلزامي، حفاظًا على نظامنا الصحي، وتميز مؤسساتنا التعليمية، وحلًا لمشكلة آخذة بالتفاقم، لها تبعات اجتماعية واقتصادية كبيرة. وهذا يحتاج دعوة أصحاب الخبرة العلمية والإدارية في القطاع الصحي والمساهمة بدراسات رصينة تبنى على معلومات دقيقة، لنبدأ بتخفيف حجم المشكلة مرحليًا، قبل أن ننتقل نحو مساحات متقدمة من الرعاية الصحية والتعليم الطبي مستقبلًا.
تنويه: ورد في نسخة سابقة من المادّة اسم جامعة العلوم التطبيقية بدلًا من جامعة البلقاء التطبيقية، وتم تصويب الخطأ. كما ورد أن تأسيس ثلاث كليات طب جديدة حدث في العقد الأخير، بينما تأسست كلية الطب في الجامعة الهاشمية عام 2006، وتم تصويب الخطأ.
-
الهوامش
[1] لم يُشمل المجلس الطبي الأردني، لأنه ورغم وجود تعليمات تلزم الأطباء المقيمين بالتسجيل في المجلس الطبي الأردني بداية إقامتهم، إلا أن هذا غير مطبق عمليًا ويستعاض عنه بورقة من المؤسسات التعليمية، يقدمها الطبيب المقيم للمجلس الطبي الأردني عند تقديمه للجزء الأول والثاني من امتحان البورد في المجال الطبي الأردني.
[2] هؤلاء هم خريجو الكليات الطبية خارج الأردن ممن أتموا سنة الامتياز ونجحوا في الامتحان الذي يعقده المجلس الطبي الأردني عام 2019، بالإضافة لخريجي 2019 ممن أكملوا سنة الامتياز من الجامعات الأردنية، وهؤلاء ليسوا بحاجة لتقديم امتحان المجلس الطبي الأردني ويدخلون للتنافس مباشرة على مقاعد الإقامة، وكان عددهم حوالي 1835 بالمجموع، إضافة إلى خريجي كليات الطب من الخارج ممن نجحوا في امتحان المجلس الطبي الأردني وعددهم 529 (من أصل 1485 دخلوا الامتحان)، بحسب الدكتورة منار الشوابكة، مندوبة نقابة الأطباء للمجلس الطبي الأردني في لجنة الامتياز وعضو مجلس نقابة الأطباء سابقًا، وبحسب ممثلين عن كليات الطب في الجامعات المشمولة.
[3] مع ملاحظة عدم مباشرة 480 طبيب في وزارة الصحة في 2020 وعدد كبير من المقبولين في الخدمات الطبية في آخر دورة لبرامج الإقامة وهؤلاء محتسبون ضمن 1100 مقعد إقامة.
[4] (الأردنية: 1200 طالب، العلوم والتكنولوجيا: 1200 طالب، اليرموك: 700 طالب، مؤتة: 600 طالب، الهاشمية: 580 طالب، البلقاء: 547 طالب)
[5] عام 2016 ألغى مستشفى الملك عبدالله المؤسس برامج الإقامة غير مدفوعة الأجر للأردنيين.
[6] يشمل ذلك وزارة الصحة بمستشفياتها ومراكزها، والخدمات الطبية الملكية التابعة للجيش العربي، والمستشفيات الجامعية (مستشفى الملك عبدالله المؤسس التابع لجامعة العلوم والتكنولوجيا، ومستشفي الجامعة الأردنية) ومركز الحسين للسرطان كجهة مستقلة، والمستشفيات الخاصة (مع تبعية كل مستشفى لجمعية أو ارتباطها بالمستثمر سواء كان شخصًا أو عائلة أو شركة مساهمة محدودة).
[7] لا توجد برامج اختصاص تستوعبهم ولا نظام رعاية صحية أولية يمكن أن يعملوا من خلاله.