آلام مُجندرة: كيف يؤثّر عمل النساء في منازلهنّ على صحتهنّ؟

آلام مُجندرة: كيف يؤثّر عمل النساء في منازلهنّ على صحتهنّ؟

الإثنين 07 حزيران 2021

تعاني النساء كالرجال من أمراض ومشكلات صحية متعددة، قد يكون بعضها مزمنًا؛ مثل أمراض الضغط والسكري، وأمراض القلب والشرايين، وأنواع السرطانات المختلفة. لكن ثمة مشكلات صحية عديدة أخرى تعاني منها النساء بشكل أكبر، ترتبط بالأدوار الجندرية المنمطة، تتعلق بحياتهنّ وأعمالهنّ غير المأجورة داخل المنزل.[1] وفي الوقت الذي تتعالى فيه الأصوات بالحديث عن الغبن والاستغلال المتعلق بعمل النساء غير المأجور، يندر التطرق إلى مسألة العلاقة بين العمل المنزلي غير المأجور وآثاره السلبية على صحة النساء الجسدية والنفسية.

في كثير من الحالات، لا يتوقف عمل النساء غير المأجور داخل المنزل إلا على عتبة الموت وعند حدود العجز. وتطول قائمة الأعمال المطلوب إنجازها، بدءًا من إنجاب الأطفال والعناية بهم ورعايتهم وحمايتهم وتربيتهم وتعليمهم، والمحافظة على صحتهم وراحتهم، يضاف إلى ذلك الانهماك بترتيب البيت ونظافته وتألقه، والانشغال بأعمال الطبخ، وغسل الأطباق والأدوات، ومسح الغبار، وتنظيف الحمّامات، وغسل الملابس وكيّها.

بالتأكيد لا تنطبق هذه التوصيفات من الأعمال غير المأجورة على كل النساء، فنساء الطبقات العليا في المجتمعات المختلفة قادرات على كسر هذه الحلقة من الإنهاك المستمر، عن طريق استقدام العاملات المنزليات من دول الجنوب العالمي مقابل أجر. إلا أنّه على مدى قرون طويلة من الهيمنة الذكورية اعتادت الفتيات على القيام بهذه الأعمال منذ الطفولة، ومساعدة أمهاتهن، وكأنهنّ خلقن بفطرتهنّ الطبيعية لإنجاز تلك المهام. ويوصف عمل النساء في المنزل، عادة، على أنه عملٌ نابعٌ من الحب والعطاء والتفاني، فلا يسائِلنه ولا يشتكين منه في كثير من الأحيان، إلّا في مراحل متقدمة من العمر، عندما يكبرن ويضعفن، ويشتد الشعور بالألم والإحباط بعد أن تبدأ علامات التعب والإرهاق وآلام الظهر والمفاصل والعضلات بالظهور عليهن.

يحاول هذا التقرير تقديم قراءة في صحة النساء المرتبطة بنمط حياتهن داخل المنزل، دون أن يعني ذلك أن النساء أكثر تعرّضًا للمرض من الرجال، ولا التقليل من أهمية أمراض الرجال التي تصيبهم طوال حياتهم بسبب طبيعة أعمالهم المختلفة خارج المنزل، علمًا بأن إصابتهم بالأمراض المزمنة بنسبة أعلى من النساء في الأردن. لكن النماذج المختلفة من النساء من حولنا ترينا كيف تصبر النساء على اعتلال صحتهن المرتبطة بعملهنّ داخل المنزل، وتتراوح هذه الاعتلالات والشكاوى من النساء بين آلام الظهر والقدمين واليدين، وأوجاع المفاصل واحتكاكها، ومشاكل الانزلاقات الغضروفية للرقبة والعمود الفقري، وآلام العضلات، ومشاكل التنفس، فضلًا عن التداعيات والآثار النفسية المنهكة، مثل القلق والاكتئاب.

آلام متراكمة

عادة ما تُسأل النساء عن عملهن، فيبادرن بالإجابة بالقول «أنا ربة منزل، قاعدة بالبيت، ما بشتغل»، وتكشف هذه الإجابة عن رسوخ فكرة عدم اعتبار عمل النساء داخل المنزل عملًا حقيقيًا.

قبل 38 عامًا، انتقلت أم المعتصم (60 عامًا)، من الأردن إلى السعودية، رفقة زوجها الذي وجد فرصة عمل هناك، لتبدأ حياتها الزوجية في الغربة ربة منزل. أنجبت خلال هذه السنوات ثلاثة ذكور وثلاث إناث، دون وجود أحد لمساعدتها في غربتها ووحدتها، فدوام زوجها الطويل، ووجودها في قرية من قرى حائل النائية شمال السعودية دون مغتربين آخرين حولها، زاد من صعوبة وضعها. بعد إنجابها طفلتها الأولى بدأت أوجاع الظهر تظهر عليها، واستمرت هذه الأوجاع عقب إنجاب أطفالها الآخرين.

عانت أم المعتصم من آلام شديدة في منطقة الظهر، ولم تعالج نفسها إلّا باستخدام المشدّات التي كانت تلفها على ظهرها وبطنها للتخفيف من حدة الألم، لكن تلك الآلام لم تكن تثنيها عن القيام بأعمال المنزل، فلا يوجد من يقوم به غيرها. تردّ أم المعتصم تلك الآلام لثلاثة أسباب، هي التعب الذي كانت تعانيه من مراحل النفاس بعد كل ولادة طفل من أطفالها، وإلى أنها كانت تبدأ بالعمل في المنزل دون راحة، خاصة وأن هذا العمل كان لزامًا عليها أن تقوم به وإلا لن يقوم به أحد سواها، وأخيرًا بسبب وضعية الرضاعة الطبيعية التي تتخذها كي ترضع أطفالها في الليل والنهار. هذه العوامل شكّلت البدايات الأولية لآلام الظهر والعضلات المستمرة حتى الكبر.

عادة ما تُسأل النساء عن عملهن، فيبادرن بالإجابة بالقول «أنا ربة منزل، قاعدة بالبيت، ما بشتغل»، وتكشف هذه الإجابة عن رسوخ فكرة عدم اعتبار عمل النساء داخل المنزل عملًا حقيقيًا.

لا تبدو آلام أم المعتصم فريدة ومعزولة، حيث أظهرت دراسة[2] حول آلام أسفل الظهر لدى عامة السكان البالغين بأن انتشارها النقطي يقارب 12%، مع انتشارها لمدة شهر واحد بنسبة 23%، وانتشارها لمدة عام واحد بنسبة 38%، ونسبة انتشار مدى الحياة تقارب 40%. وتشير الدراسة إلى أن آلام الظهر السفلية هي مشكلة عالمية بمعدل انتشار عالٍ بين النساء، ولدى أصحاب الأعمار بين 40 و80 عامًا. وتُظهِر دراسات أخرى[3] أجريت في إسبانيا أن آلام الظهر لدى النساء تظهر بشكل واضح خلال مرحلة الحمل والولادة. ومن أهم العوامل التي ترتبط بآلام الظهر السفلية عند النساء وتدفعهن للإبلاغ عنها، هو وجود تاريخ سابق بهذه الآلام، والآلام التي لها علاقة بالأحمال وفترات ما بعد الوضع، والألم الذي يصاحب القلق. بالمقابل فإن آلام الأقدام، ترتبط بآلام أسفل الظهر، والاكتئاب، وقلة عدد ساعات النوم في اليوم، وزيادة مؤشر كتلة الجسم. ورغم أن آلام الظهر تشيع بين النساء بشكل عام أكثر من الرجال، إلا أن هنالك بعض الدراسات التي تشير إلى أن إبلاغ الرجال عن آلام الظهر أكثر من النساء بسبب طبيعة المهن المختلفة الخاصة بهم مثل مهنة قيادة المركبات.

تقول أمل أبو شنب، وهي طبيبة أسرة تعمل في منطقة الأشرفية في مدينة عمّان، إن آلام الظهر والعضلات التي تصيب النساء بعد الولادة، قد تكون مرتبطة بالوضعية الخاطئة التي يتخذنها عند حمل أطفالهن الصغار، أثناء الرضاعة في النهار أو في الليل، وخاصة في أيام الشتاء، إذ تتطلب الرضاعة أن تكشف الأم عن أجزاء من جسدها، ما يعرّضها للبرد الذي يؤثر على العضلات ويسبب لها الشدّ العضلي، وإذا استمرت النساء باتخاذ هذه الوضعية لفترة طويلة، فإن العضلة تُرهَق، ويصبح الألم مضاعفًا، وتحتاج الحالة إلى العلاج، إمّا بممارسة الرياضة أو بالخضوع للعلاج الطبيعي.

القلق ومضاعفاته

لا يؤثر العمل داخل المنزل على الصحة الجسدية للنساء فحسب؛ بل على صحتهن النفسية أيضًا. فقد كشفت دراسة[4] حول التبعات الصحية لمقدمي العمل غير المأجور في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، عن ارتباط العمل غير المأجور بمستويات عالية من هرمونات القلق، والاستجابة السيئة للأجسام المضادة، والانتشار الأكبر لعوامل الخطورة التي تؤدي إلى أمراض مزمنة، مثل الأنظمة الغذائية غير الصحية، وأنماط المعيشة الخاملة، وزيادة استخدام الخدمات الصحية. وتظهر الدراسات[5] أن مقدمي العمل غير المأجور، ينتهي بهم المطاف لأن يكونوا أكثر فقرًا وأقل صحة وسعادة.[6] 

في كثير من الحالات، لا يتوقف عمل النساء غير المأجور داخل المنزل إلا على عتبة الموت وعند حدود العجز.

يقول ماهر ياغي، وهو طبيب عام في منطقة الهاشمي الشمالي، إن الضغوطات التي تعاني منها النساء داخل المنزل، من تربية وعناية بالأطفال وترتيب وتنظيف للمنزل، تؤدي لحصول مشاكل القلق والاكتئاب، والتي بدورها تؤثر على صحة النساء البدنية أيضًا؛ مثل الإصابة بالسمنة والخمول، بالإضافة إلى مشاكل الغدة الدرقية. ويشير ياغي بحكم عمله في عمّان الشرقية إلى أن «الست في بيئتنا بتكون نايمة وبتفكر بولادها». ويضيف بأن النساء في منطقة شعبية مثل الهاشمي الشمالي لا يُمنحن الوقت الكافي للاهتمام بأنفسهنّ ولا لممارسة الرياضات المتنوعة، ويقول إنه أصبح يرى نساء بدأت تظهر عليهن الأمراض المزمنة، مثل ارتفاع مستويات ضغط الدم والسكري، وهنّ في الثلاثينيات من العمر.

في مسح وطني تدرّجي أجرته وزارة الصحة الأردنية عام 2019، سئِل المشاركون إن كانت قد ظهرت عليهم بوادر الاكتئاب[7] خلال 12 شهرًا سابقة على المسح، فأجاب 14.3% من الرجال، و21.9% من النساء بنعم. وكانت التغطية العلاجية للمصابين بالاكتئاب خلال نفس الفترة 7.2% للرجال و6.2% للنساء.

أمّا عن شدة الاكتئاب، وهو ما استند تحديده إلى أربعة مؤشرات هي فقدان الشهية، وبطء التفكير، والمشاعر السلبية حول النفس وفقدان الثقة بالنفس، والتفكير بالموت أو تمنيه خلال الفترة نفسها فكانت كالتالي: فقدان الشهية للرجال 68.7% وللنساء 76.2%، بطء التفكير للرجال 72.8% وللنساء 72.5%، المشاعر السلبية حول النفس وفقدان الثقة بالنفس للرجال 58.4% وللنساء 64%، التفكير بالموت أو تمنيه للرجال 48.9% وللنساء 55%.

الوصول إلى العلاج

أمضت أم المعتصم 26 سنة في السعودية، وانتقلت قبل 12 سنة إلى الأردن، لتستقر مع أبنائها وبناتها الذين انتقلوا للدراسة في الجامعات الأردنية بعدما أنهوا المرحلة الثانوية، مع بقاء زوجها في السعودية حتى الآن. تسترجع ما عاشته طوال هذه الفترة من أعمال المنزل ورعاية أبنائها وتربيتهم، وأنها أفنت حياتها وصحتها حتى بدأت تظهر عليها منذ أكثر من سبع سنوات علامات التعب وآلام الظهر والقدمين، وآلام مفاصل الركبة ومفاصل أصابع اليدين، وسخونة في القدمين. وكان للتعلق بالنظافة أثرٌ كبيرٌ عليها فيما يتعلق بصحتها، فرغبتها الشديدة ببقاء منزلها مرتبًا ونظيفًا، سواء عندما كانت في السعودية وعندما كان أطفالها صغارًا، أو حتى بعد عودتهم إلى الأردن، كان له تأثيره الكبير على صحتها. «يعني مشكلتي إني كنت أعاني مع الولاد إنهم يكركبوا وأنا من النوع اللي ما بحب يكركبوا. خلص بحب كل إشي يكون بمكانه، هاد نظيف لازم يضل نظيف».

تتحدث تانيا سعيد، وهي طبيبة أسرة في منطقة الجاردنز في عمّان، عن أن نسبة مراجعاتها من النساء تقدر بـ85%. وتشير إلى أن أبرز الأعراض التي تشكو منها النساء هي؛ التعب العام، وأوجاع العظام والمفاصل، وقلة النوم وتساقط الشعر، والأمراض المزمنة مثل الضغط والسكري واضطرابات الدورة الشهرية. وبحسبها، غالبًا ما تتأخر النساء في الذهاب إلى الطبيب من أجل معاينة هذه الأعراض والأمراض.

يوصف عمل النساء في المنزل، عادة، على أنه عملٌ نابعٌ من الحب والعطاء والتفاني، فلا يسائِلنه ولا يشتكين منه في كثير من الأحيان، إلّا في مراحل متقدمة من العمر، عندما يكبرن ويضعفن.

وحتى لحظة إعداد هذا التقرير لم تذهب أم المعتصم إلى الطبيب لمعاينة وتشخيص هذه الآلام رغم اشتدادها عليها. وتقول ابنتها مريم إن عدم مراجعة أمها للطبيب سببه أنها لم تكن مشمولة بالتأمين الصحي، وعندما شملها التأمين بعد حصول أحد أبناءها على وظيفة معلّم، كانت المشكلة أن الحصول على موعد في المستشفى الحكومي يتطلّب أشهرًا، فكانت تنتظر شهرين إلى ثلاثة أشهر حتى يحين موعد إجراء صورة رنين مغناطيسي أو صورة طبقية. أما مراجعة الطبيب الخاص فتحتاج إلى ميزانية كبيرة؛ من كشفية الطبيب إلى الإجراءات التشخيصية والعلاجية الأخرى الواجب عملها في حالتها، وهذا الخيار غير وارد لديها، فتتكاسل أمها وتصبر على الألم.

أمّا أم محمد (58 عامًا)، التي تزوجت قبل 35 عامًا، وأنجبت خلال 14 عامًا تسعة أطفال، سبع بنات وابنين، وكان الفارق بين كل طفل وآخر قرابة سنة ونصف إلى سنتين، فقد كان عملها في الاعتناء بأطفالها ومنزلها محببًا لها بحسب قولها، فهي تحب أن ترى أفراد عائلتها فرحين بما تفعل حتى لو كان ذلك على حساب صحتها، ولا ترغب بممارسة ضغوطات عليهم لمساعدتها في أعمال المنزل.

بعد إنجابها لطفلتها الثالثة، بدأت مشكلات دوالي القدمين بالظهور لديها، وهي عبارة عن انتفاخ في أوردة الأقدام نتيجة الحمل أو الوقوف لمدة طويلة، وغالبًا ما تصاب به المعلمات والممرضات وربات المنازل، وغالبًا ما يكون سببه وراثيًا. ورغم أن آلام دوالي القدمين لم تظهر في كل أحمالها اللاحقة، وإن ظهرت فكان ذلك في الأشهر الأخيرة من الحمل، فقد نصحها الأطباء بإجراء العلاج بالإبر، أو سحب الأوردة المنتفخة من خلال تدخل جراحي، إلا أن هذا الإجراء يتطلب الراحة التامة، وعدم الوقوف لمدد طويلة. لكنها تقول إن «اللي وراه عيلة ما بقدرش»، فتم نصحها باستخدام الجرابات الطبية التي تخفف الضغط على أوردة القدمين، فلم تستطع احتمال الجوارب، إلى أن وصف لها دواء «دافلون» الذي يزيد من مقاومة الأوعية الدموية ويحميها من النزف، بالإضافة إلى المداومة على رفع الأقدام إلى أعلى باستخدام الوسائد عند الشعور بالتعب أو الألم، وهذا التعب المرافق لدوالي القدمين غالبًا ما يحدث في فصل الصيف مع تمدد الأوعية الدموية بسبب ارتفاع درجات الحرارة، فيكون لديها احتياطي كافٍ من دواء دافلون لكل صيف.

لم تكن مشكلة دوالي القدمين المعاناة الوحيدة لدى أم محمد، فبعد إنجابها لطفلتها الأخيرة، بدأت أوجاع الكتف والرسغين لديها بالظهور بشدة، ولم تكن تستطيع حمل طفلتها أو حتى التقاط الأشياء من حولها، فاضطرت لمراجعة أربعة أطباء حيث تم تشخيصها بالروماتيزم، الذي يستمرّ معها منذ عشرين عامًا، ويتسبب لها باحتكاك في مفاصل الركب، إلا أن ألمه قد خفّ مع استخدام الأدوية والمكملات الغذائية. وبعد أن كبر أبناؤها، وقلّت الأعمال التي كانت تقوم بها عندما كانوا صغارًا، تتذكر أنها كانت تقضي عشر ساعات يوميًا في أعمال المنزل ورعاية أطفالها وزوجها، أمّا الآن فيقتصر عملها المنزلي على الطبخ والغسيل الذي تستطيع أخذ استراحة خلال أدائه، أمّا الأعمال التي تتطلب الحركة الكثيرة والوقوف الطويل فلا تقوى على فعلها، مثل مسح الغبار وشطف الأرضية، حيث تقوم بناتها بهذه الأعمال.

خلال هذه المدة الطويلة من التعب والإرهاق والألم، لم تحصل «أم محمد» أيضًا على تأمين صحي حكومي أو خاص، فكانت تعالج نفسها على حسابها الخاص، ويحدث هذا عندما يشتد الألم عليها، فتذهب إلى الأطباء في العيادات الخاصة، لأن زوجها لم يرغب بتحكّم أصحاب التأمينات بخياراتهم في العلاج، حيث تحدد شركات التأمين أماكن العلاج في المستشفيات ولوائح الأطباء المتعاقدة معهم. تقول أم محمد إن تكلفة العلاج لدى الأطباء في القطاع الخاص تحتاج إلى ميزانية كبيرة من أجل دفع الكشفية التي يتقاضاها الطبيب ودفع كلفة الفحوصات المخبرية التي يجب إجراؤها من أجل تشخيصها أو متابعة وضعها الصحي وتلقي علاجها، فتضطر إلى إجراء هذه الفحوصات في مختبرات المناطق الشعبية، حتى لا تتكبد مبالغ باهظة لنفس أنواع الفحوصات المخبرية المطلوب إجراؤها.

مفاوضات على صحتهنّ

«إحنا بنعاني معاها، لأنه ما عادت صحتها زي لمّا كان عمرها 30 سنة، يعني هي ستينية ونفس الشغل اللي كانت عم تشتغله زمان (..) وبتشتغل كل الشغل في يوم واحد»، تقول مريم (26 عامًا)، عن والدتها. وتروي كيف استيقظت في أحد الأيام لتجد والدتها قد صعدت السلم لتنظيف حافّات خزائن المطبخ المعلّقة، حيث أنجزت مهمتها بنجاح باستخدام منظف «بليدج» المخصص لتنظيف خشب الطاولات والخزائن دون أذيتها، فأدركت الابنة أن والدتها لن تنام الليلة من أوجاع الظهر واليدين والمفاصل، وسيرافقها هذا الألم لليوم التالي. تقول مريم إن الوالدة لا تستمع لنصائح بناتها بتوزيع تنظيف البيت على أيّام عديدة في الأسبوع، في الوقت الذي لا تكون فيه ابنتاها في المنزل، وإنها تخصص يومين في الأسبوع لتنظيف المنزل، مجازفة بصحتها.

تتراوح اعتلالات النساء نتيجة العمل في المنزل، بين آلام الظهر والقدمين واليدين، وأوجاع المفاصل واحتكاكها، والانزلاقات الغضروفية للرقبة والعمود الفقري، وآلام العضلات، ومشاكل التنفس، فضلًا عن القلق والاكتئاب.

تقول أم محمد «أنا إذا عملت إشي وحسيت إنهم انبسطوا، بحب أشوف الفرحة عليهم، إني ريحتهم»، وتشكو بيسان من أن والدتها لا تطلب مساعدة من أبنائها وبناتها المقيمين معها، خاصة أن الوقوف لساعات طويلة يرهق والدتها التي تعاني من دوالي القدمين والروماتيزم، لكن أم محمد لا تحب أن تبدو كالأم المتسلطة. «مبحبّش أغصب حدا وأقله تعال اشتغل»، فهي تقوم بأعمال المنزل بحب، وتشعر بالسعادة إذا قامت بمفاجئتهم. وترغب بالمقابل أن يفاجئنها بالتنظيف دون أن تطلب منهن ذلك. أما سنابل، وهي إحدى بنات أم محمد، فإنها غالبًا ما تهاتف والدتها لتقول لها أن ترتاح وأن تنتظر أخواتها بعد عودتهن من العمل لمساعدتها، وتنظر لعمل والدتها داخل المنزل بطريقتين؛ إيجابية بأنها تتسلى وتحرك جسدها وتقتبس من والدتها الكلام بأن «الحركة بركة»، وسلبية مع وجود أعراض الروماتيزم التي تتعبها فتنصحها بأن تقوم بتوزيع المهمات حتى لا تنهك.

تعزو مريم، آخذة أمّها أم المعتصم مثالًا، إهمالَ ربات البيوت لصحتهن الجسدية والنفسية إلى أن المجتمع غالبًا لا يرى عملهنّ داخل المنزل كعمل يجب تقديره، وإلى أن النساء مثل والدتها لا ينظرن لعملهنّ الشاق، من رعاية الأطفال وتنظيف المنزل، على أنه مجهود يجب أن يُشكَرن ويكافئن عليه من أقرب الناس إليهنّ، وتحديدًا الزوج والأبناء، وأن هذا النمط من العمل داخل المنزل هو في نظر المجتمع عمل طبيعي خلقت النساء لتأديته، وبالتالي فإن إشكالية النساء الصحية المرتبطة بنمط حياتهنّ داخل المنزل لا يأخذنها على محمل الجد، وتعاني جميع النساء منه بشكل أو آخر. تعقّب أم المعتصم على كلام ابنتها «يعني مين خلانا نفكر هيك تفكير غير المجتمع، إنه إنتِ ربة منزل شو عم تعملي؟»، وتضيف أن هذا ينعكس على الكيفية التي تنظر بها لنفسها وأن ما تفعله هو روتين يجب أن تفعله.

تختلف إجابات النساء ممن قوبلن لغايات إعداد هذا التقرير عند سؤالهنّ عن شكل ومعنى التقدير الذي يرغبن به من المحيطين بهنّ، بعد سنوات من التعب في عناية ورعاية الزوج والأبناء وإدارة البيت وبالأخص الزوج، خاصة أن مساعدة ومشاركة الزوج والأبناء الذكور في أعمال المنزل قليلة بالمقارنة مع مساعدة البنات ومشاركتهنّ لدى كل من أم محمد وأم المعتصم لتخفيف العبء عليهن. تقتصر مساهمة أبو محمد النادرة على تحضير وجبات الفطور أو العشاء، أمّا الأبناء الذكور فتكون مساهمتهم النادرة كذلك من خلال شطف درج المنزل الخارجي أو المساعدة أحيانًا في الطبخ مع والدتهم، إلا أن الجزء الأكبر من الأعمال المقسمة داخل المنزل تكون عادة لأم محمد وبناتها. أما أبو المعتصم، فبحكم عمله في السعودية لم يكن يساعد زوجته بسبب ساعات عمله الطويلة خارج المنزل، فكان جلّ العمل داخل المنزل من نصيبها وبناتها، وبعد عودتها من السعودية وبقاء زوجها هناك، أصبحت ترى في زياراته القليلة للأردن أنه تغير، وصار يساهم في أعمال المنزل مثل الترتيب والتنظيف وأعمال الصيانة، أمّا الأبناء الذكور فمساهمتهم لا تذكر.

تفعل أم محمد ما تفعله في البيت بحب وتفانٍ، إلّا أنها، كما تقول، بحاجة إلى أن تسمع كلمات المديح والشكر من الزوج مثل «يسلمو إيديكِ»، وأصغر كلمة كفيلة بأن تضيع التعب حسبما تقول. أمّا أم المعتصم فتصف التقدير الذي ترغب بالحصول عليه في ألا تضطرّ لتنظيف المنزل ليوم كامل، أو أن يجلب أحد الأولاد الأكل الجاهز فلا تضطر هي للطهي، أو أن تحافظ العائلة على نظافة المنزل، وتقول إن هذا كفيل أن يسعدها ويشعرها بالراحة. وتضيف أنها قبل عودتها من السعودية لم تكن تشعر بهذا التقدير، فضلًا عن الحصول على المساعدة من زوجها، وحتى لو اشتكت من التعب وأعمال المنزل وتربية ورعاية الأبناء، فإنها كانت تقابَل بالقول إن هذه الأعمال تقوم بها كل النساء بشكل طبيعي فلا داعي للشكوى منها. إلّا أن مجيئها للأردن، وبقاء زوجها لوحده في الغربة، جعله يدرك، ولو بعد سنين، حجم التعب والمسؤولية التي كانت على عاتقها، كما تؤكد ابنتها مريم فتقول «يعني حسّ إنها فارقة، بس بعد كتير وقت ومش دائمًا بعبّرعن هذا الشي»، وتضيف بأنه لا يعبّر سوى بالأعياد والمناسبات فيقول «أمكم ما في منها»، «السيدة الأولى»، «فش حدا زيها». تختم أم المعتصم بالقول إن زوجها لا يعبّر كثيرًا لكنه يعرف، وهو أيضًا تعب كذلك في الغربة لوحده «يعني بنقدّر هاد الشيء ما بننساه».

 

أنتجت هذه المادة ضمن فترة الدراسة في «الأكاديمية البديلة للصحافة العربية».

 

 

 

  • الهوامش

    [1] ظهر مفهوم العمل غير المأجور في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي من قبل الاقتصاديين وعلماء الاجتماع في السياق الغربي، ويعبر عن كافة الخدمات والأنشطة الإنتاجية خارج ما يسمى سوق العمل الرسمي، التي يقوم بها الأفراد من أجل أسرهم أو لغيرهم، وهذه الأنشطة محددة بالجندر، حيث تكرس النساء وقتهن لهذه الأعمال أكثر من الرجال. كرعاية الأسرة والاعتناء بالمنزل والأطفال والمرضى وكبار السن، ويشمل كذلك أعمال التطوع. حاججت النسويات وخاصة الماركسيات بأن العمل غير المأجور ضمن بنية النظام الرأسمالي لا يتم حسابه من الناتج الإجمالي القومي للدول، رغم أن النساء يقمن بإعادة إنتاج الأطفال الذين سيكبرون ويذهبون لسوق العمل ورعاية رب الأسرة المعيل.

    [2] Epidemiology of Low Back Pain in Adults: Laxmaiah Manchikanti, Vijay Singh, Frank J. E. Falco, Ramsin M. Benyamin, Joshua A. Hirsch. 2012

    [3] نفس المصدر.

    [4] Health outcomes of unpaid care workers in low-income and middle-income countries: a protocol for a systematic review. Irene Magaña, Pablo Martínez, María-Soledad Loyola, 2018.

    [5] نفس المصدر، وفق دراسات طولية أو Longitudinal Studies، أي الدراسات المعنية ببحث الملاحظات المتكررة لنفس المتغيرات على مدى فترات زمنية طويلة أو قصيرة.

    [6] تربط الدراسة في مقدمتها بأن اللامساواة بين الأشخاص في اتخاذ القرارات وممارسة السلطة والموصولية للخدمات الصحية تعرضهم بشكل مختلف للمخاطر الصحية، وأن التقسيمات الاجتماعية كالطبقة والعرق والجندر وجنسانية الشخص، ينتج عنها لا مساواة في الوصول للخدمات الصحية. وتشكل العلاقات الاجتماعية غير المتساوية للجنسين الإخضاع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للنساء، التي تؤثر على استقلاليتهن في اتخاذ القرارات، وبالتالي تؤثر على حياتهن. وأن هذا يسبب تفاوتات وعواقب إجتماعية واقتصادية سيئة على الصحة.

    [7] تم تشخيص الاكتئاب على أساس إجابة المشاركين بشكل ايجابي على اثنين من أصل الثلاثة أسئلة الموجودة في هامش المسح ص 47.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية