بين يديّ خبر يعود إلى أكثر من سبعين عامًا، نشرته يومية «النهضة» الأردنية في حزيران 1949، عن عقد اجتماع في دار بلدية العاصمة عمان، حضره المحافظ وقائد الشرطة، وعلى إثره جرى تنبيه الباعة المتجولين، عبر مكبرات الصوت، إلى عدم الوقوف في الشوارع، ورفع بسطات الخضار منها كي لا تعيق حركة السير، وتم توعد المخالفين بالعقوبة.
من غير المعروف إن كانت هناك أخبار أخرى مماثلة سبقت هذا الخبر، لكن ما هو معروف ومؤكد أن مثل هذه الأخبار لم تتوقف منذ ذلك الحين، بل تعدت العاصمة إلى باقي المدن الكبيرة والصغيرة أيضًا، والطرق الواصلة بينها.
عندما بدأتُ البحث التفصيلي في ظاهرة البسطات منذ عام 1997، اخترت وسط عمان كموقع رئيس. كانت هناك مواقع أخرى أقل حجمًا أشهرها الوحدات، وأعداد متناثرة هنا وهناك في مناطق عمان المختلفة. كنت حينها مهتمًا بالبحث في ظاهرة البسطات كجزء بارز مما يعرف بالقطاع غير الرسمي أو قطاع التوظيف الذاتي، وأذكر أنني سألت مدير دائرة الإحصاءات العامة حينها إن كانت لدى دائرته أية أرقام حول هذا القطاع، فأجابني إن هكذا بيانات ومعلومات غير مطلوبة! وأبدى قدرًا من الاستغراب.
لقد اضطررت حينها لإجراء إحصاء شخصي للظاهرة في منطقة البحث، مرة في يوم الذروة وهو يوم الجمعة، وأخرى في منتصف الأسبوع كممثل لباقي الأيام، وقد اخترت يوم الاثنين. كانت منطقة البحث تمتد من مجمع رغدان القديم شرقًا إلى آخر سقف السيل غربًا، وكان العدد الكلي للبسطات في يوم الذروة حوالي 1500، ينقص إلى النصف في اليوم العادي من الأسبوع.
اليوم تتحدث الأرقام الرسمية عن أن نسبة العاملين في القطاع غير الرسمي تبلغ 44% من مجموع العاملين، وذلك وفق دراسة موسعة أجرتها وزارة التخطيط بالتعاون مع المجلس الاقتصادي الاجتماعي عام 2012. ورغم ما يحيط تلك الدراسة الرسمية من خلل منهجي في تعريف وطرق احتساب القطاع غير الرسمي، إلا أن صدورها يشير إلى أن الظاهرة أخذت تلفت الانتباه.
من المرجح الآن أن أيًا من أحياء عمان لا يخلو من البسطات، شرقًا وغربًا، وهناك مواقع تكاد تكون مغلقة بالبسطات وبشكل دائم ويومي، مثل الهاشمي الشمالي والحسين (الجبل والمخيم) والنزهة وصويلح. وإذا غادرنا عمان فإن كل المدن اليوم تشهد تضخمًا في هذه الظاهرة.
إن الانخراط في السوق غير الرسمي يعود في الأصل إلى الفشل التنموي، وبالتالي، وبمنتهى البساطة، يتعين ألا تكون المعالجة بعيدة عن السبب الأصلي، وهو حكمًا ليس في الشارع بقدر ما هو في السياسات الكلية.
لكن هذا المقال لن يحاول تفسير هذا التضخم، وإنما سيعلق على موقف الجهات الرسمية من البسطات الذي يتخذ عمومًا شكل المنع والملاحقة، والذي يُمارس من خلال حملات الإزالة والمصادرة المتفاوتة في المدة والقسوة ومدى الشمول.
في واقع الأمر، أصبحت الملاحقة أحد ثوابت العمل في سوق البسطات في العاصمة وفي باقي المدن، ففي الزرقاء لا تتوقف الملاحقات والمصادمات، التي شهدت سقوط جرحى في أكثر من حملة، وفي إربد لم تتوقف أخبار حملات البلدية وأجهزة الأمن، وكذلك الأمر في جرش والمفرق ومادبا والكرك وغيرها من مواقع التبسيط الجماعي.
ليست حادثة انتحار الشاب أنس الجمرة في إربد مؤخرًا هي حالة الوفاة الوحيدة بسبب ملاحقة البسطات، ففي عام 2009 توفي شاب من حي الطفايلة بعد اصطدام مع أجهزة الأمن بسبب بسطته في جبل الحسين، كما جرى تداول أخبار عن وفاة شاب في ماركا، حيث نفت الأمانة أنها المتسبب بالوفاة غير أنها أقرت أن الشاب أصيب بسكتة قلبية بعد حملة ملاحقات طالت بسطته.
طقوس الملاحقة
إن سيرة أي عامل في البسطات تشتمل على العديد من حوادث الملاحقة والمصادرة، بل إن المشتغلين في البسطات أخذوا يحسبون تكلفة المصادرة ضمن حسابات المنفعة والتكلفة يجرونها بدقة لأعمالهم. إن عامل البسطة المتمرس أصبح خبيرًا في الإجراءات الأمنية والقضائية التي سيتعرض لها، وعندما كنت أسألهم عما تجريه السلطات الرسمية معهم بعد القبض عليهم، كان كل منهم يقدم إجابة وكأنها درس في المحفوظات، رغم تعدد التفاصيل: فهناك تعهدات ذات صيغ رسمية تكتب وكفالات يوقع عليها، وإذا سجل بحقك «مقاومة» أي مقاومة أجهزة الأمن، فعليك أن تزور المحكمة، فيسألك القاضي إذا كنت مذنبًا، ثم يوقفك أسبوع، فتدفع غرامة، وبكل الأحوال فإنك قد تستعيد العربة، أو تُصادر وتُعرض للبيع في المزاد، وقد تشتري عربتك التي صودرت منك!
ووفق تصريحات رسمية، فقد نفّذت دائرة ضبط البيع العشوائي والإزالة أكثر من 55 ألف حالة مداهمة خلال عام 2019. وفي الواقع، لا يبدو أن أحدًا يطرح القضية للنقاش خارج إطار مسألة الملاحقات والمداهمات. إذ لا يزال التعامل مع القضية واتخاذ القرارات فيها يجري مكتبيًا، رغم أن تنفيذها يجري في الشارع. وقبل خمس سنوات أقرت حملة على مستوى البلد ككل شملت الشوارع الرئيسية شمالًا وجنوبًا لمكافحة كل أشكال «التبسيط» بما في ذلك الأكشاك العشوائية على الطرق، وقد بلغ الحماس برئيس إحدى البلديات الكبرى أن قال إن مكافحة البسطات قرار دولة، وشُنت بالفعل حملة تواصلت في بعض المواقع على شكل نقاط أمنية ثابتة ليلًا نهارًا.
لا زلت أذكر جيدًا الملف الورقي الذي زودني به الخمسيني -حينها- أبو رياض الذي كان عام 1997 يعد أقدم المُبسطين في مجمع رغدان، وكانوا يسمونه «مؤسس البسطات» في موقعه. كان الملف يحتوي على عشرات الوثائق والمطالبات والشكاوى والتعهدات والاسترحامات التي جسدت سيرة أبو رياض وأولاده الثلاثة الذين كانوا يتناوبون على أكثر من بسطة في الموقع نفسه. لقد دخل السجن عدة مرات، وتم إيقاف أولاده في المخافر عدة مرات. بل أنه كان يحفظ في ذاكرته سيرة قمع البسطات التي سبقته، وقد تحدث عن حملة شديدة في الثمانينيات استمرت لعام كامل. وأذكر أنه أرفق بملفه ذاك بعض ما كان ينشر في الصحافة الأسبوعية في التسعينيات عن البسطات وملاحقتها.
جدوى التنظيم
بموازاة أبو رياض، كان هناك خبير «البسطات المنظمة»، الحاج محمود أبو العرايس، الذي يعد الاسم الأبرز في الأسواق الشعبية الرسمية. لقد بادر إلى أولى المطالبات بتأسيس سوق شعبي منتظم، وكان ذلك في ماركا باسم «سوق الأحد»، ثم تتالت الأسواق وتتالت كذلك عمليات إغلاقها.
منذ أيام، وكرد فعل على انتحار عامل بسطة اربد، اقترح رئيس الوزراء، عمر الرزاز، فكرة إقامة أسواق للبسطات، ومن المرجح أنه لا يعلم تعقيدات تأسيس سوق ناجح للبسطات.
إن أجهزة الحكم المحلي في عمان وعدد آخر من المدن لها تجربة في هذا الميدان. في الواقع، إن اختيار أماكن التبسيط الجماعية أمر يخضع لحسابات لا يعرفها إلا أبناء الكار، أي كار البسطات. وبالمقابل، تفترض البلديات أن السوق مجرد مساحة فارغة يجري ترتيبها وتوزيعها ودعوة أصحاب البسطات وزبائنهم إليها، بينما لم تعرف أي من هذه التجارب النجاح الحقيقي، إلا بعد مفاوضات شاقة. ففي عمان أقيمت أكثر من عشرة أسواق لم يكتب لأي منها النجاح، وكذلك الأمر في جرش والمفرق وإربد والكرك، وفي جميع هذه الحالات كانت البلديات تتحمل التكلفة المالية وتبقى البسطات على حالها تقاوم في مواقعها.
لقد أصبحت صيغة العمل معروفة ومتكررة: يختار الباعة مكانًا وفق خبرتهم في حركة الزبائن، فيقيمون سوقهم الذاتي، ثم تتدخل البلدية، فتضع خيارًا آخر كخيار وحيد للانتقال إليه، وتحدث في الأثناء المصادمات، أو تجريف المنطقة أو تغيير طبيعة عمرانها، بحيث يكون من الصعب مواصلة العمل فيها، ولكنها تبقى فارغة من البسطات والزبائن.
البسطات لا تُكافَح في الشوارع
إن الانخراط في السوق غير الرسمي يعود في الأصل إلى الفشل التنموي، وبالتالي، وبمنتهى البساطة، يتعين ألا تكون المعالجة بعيدة عن السبب الأصلي، وهو حكمًا ليس في الشارع بقدر ما هو في السياسات الكلية.
ربما كانت البسطات أكثر أشكال العمل غير الرسمي مقبوليةً من الناحية الاجتماعية، إذ من المعروف أن القطاع غير الرسمي يتشكل من فرعين أحدهما مقبول اجتماعيًا ومنه البيع على البسطات، والثاني هو النشاط غير المقبول ومنه تجارة المخدرات وأعمال الدعارة وبعض أشكال التهريب.
في ظروف الأزمة، وخاصة فيما يتعلق بالبطالة وندرة فرص العمل، يتعين أن تكون هناك درجة عالية من المرونة، كما يحصل في الواقع مع النشاطات الرسمية كبيرة الحجم.
إن السوق غير الرسمي هو سوق بالمعنى المتعارف عليه، يخضع للعرض والطلب، وفيه حركة دخول وخروج نشطة، ومن الغريب أن تزعم الأجهزة الرسمية أنها تلاحق البسطات تحت طلب الجمهور، بينما في واقع الأمر أن البسطات لا يمكن أن تقوم بلا جمهور.
غير أنه من الضروري التوقف هنا عند مسألة هامة في هذا القطاع، وهي أثر التعود على العمل فيه. فصحيح أن العمل على البسطة هو في الأصل خيار لمن لا يتوفر لديه عمل، غير أن الانخراط في العمل والاستمرار فيه يقود إلى تغيرات نفسية عند العامل، بحيث تتوقف لديه القابلية للعمل في قطاع رسمي أو منظم. إن كثيرين من أصحاب البسطات قد تتوفر لديهم بعد فترة، فرصة عمل خارج البسطات، ولكنهم يرفضونها بسبب عامل نفسي فردي وجماعي، يتجسد بالتعلق بالعمل الحر ورفض الخضوع لسلطة أي رب عمل، وكثيرًا ما يردد عامل البسطة المحترف: «صارت البسطة بدمّي».
صاحب البسطة كمستثمر
بلا شك، أن من واجب الجهات الرسمية الحفاظ على القوانين وعلى حقوق مختلف الأطراف، وهناك في الواقع تعليمات تمنع العمل غير المرخص وغير المراقب وغير المسجل رسميًا. لكن في ظروف الأزمة، وخاصة فيما يتعلق بالبطالة وندرة فرص العمل، يتعين أن تكون هناك درجة عالية من المرونة، كما يحصل في الواقع مع النشاطات الرسمية كبيرة الحجم. إذ تُعطى مثلًا امتيازات وإعفاءات واستثناءات لكبار المستثمرين، بل ويجري أحيانًا تغيير القوانين والتعليمات في خدمتهم، وتقدم الحكومة موقفها هذا في سياق تشجيع النمو والحركة الاقتصادية.
من الزاوية ذاتها يتعين النظر إلى من يستثمر في بسطة في الشارع. ويفترض أن المستثمرين سواسية في بلدهم وأمام القانون، بغض النظر عن حجم استثماراتهم. بل إن دولة تضع لنفسها مهمة تنموية شاملة عليها أن تنحاز لصالح الناس وخاصة أولئك الذين لا يحوزون ما يكفي من السلطة للحصول على الحد الأدنى من العيش بكرامة.
إن خبرة البلديات، بما فيها أمانة عمان، مع ملاحقة وقمع البسطات ينبغي أن تكون كافية لكي تقنع المسؤول باستحالة نجاح عمليات المكافحة هذه، وبهذه الطريقة. وعلى صاحب القرار أن يوازن بين مشهد وجود البسطات وما يتسبب به، وبين مشهد الملاحقة وما يتسبب به أيضًا من توتر وقلق وأزمات تتوزع على البيوت الفقيرة والمستورة، وصولًا إلى قسوة التأثير التي كان مثالها حالة الشاب أنس الجمرة الذي اختار أن يفارق الحياة بعد أن اضطر لمفارقة بسطته مصدر رزقه.