«مطلوب وبجيب مصاري»: ما مشكلة تدريس الذكاء الاصطناعي في الأردن؟

السبت 31 آب 2024
المصدر: إم آي تي تكنولوجي ريفيو.

في عام 2022 استحدثت الجامعة الأردنية أول قسم في الجامعات الحكومية لتدريس الذكاء الاصطناعي في كلية الملك عبد الله الثاني لتكنولوجيا المعلومات، واحتفَت الجامعة بذلك «إيمانًا منها بدور التكنولوجيا في بناء الاقتصاد الوطني». قوبل استحداث القسم الذي يدرّس برامج الذكاء الاصطناعي وعلم البيانات والأمن السيبراني بإقبال واسع من الطلبة. لكن بعض خريجي الثانوية العامة لهذا العام تفاجأوا بإعلان الجامعة وقف القبول في هذه التخصصات بسبب «عدم وجود أعضاء هيئة تدريسية كافية»، بحسب تصريح نشره اتحاد طلبة الجامعة. 

بعد أيام، عادت الجامعة عن قرارها وفتحت التخصص لبرنامج الموازي فقط، ثم أعادت فتحه لطلبة التنافس كذلك. فيما قال عميد كلية الملك عبد الله الثاني لتكنولوجيا المعلومات، صالح الشرايعة، لحبر إن ما حدث كان بسبب «تأخير إداري فقط مرتبط بتحديث المستجدات مع هيئة الاعتماد في التعليم العالي، وتمكنا من حله بدليل أننا سنستقبل طلبة جدد في القسم»، وأن الجامعة عيّنت مؤخرًا أربعة محاضرين من جامعات مرموقة، مشيرًا إلى أن الجامعة الأردنية قبل إقرار الخطة الدراسية لتخصص الذكاء الاصطناعي كانت قد أجرت تحليلًا يشمل تحليل احتياجات سوق العمل المحلي والإقليمي والعالمي، وتحديد المهارات المطلوبة لكل منها، وتزويد الطلبة بالمعرفة النظرية، والموازنة بينها وبين المهارات العملية.

قبل ذلك، كانت الجامعات الخاصة استحدثت تخصص الذكاء الاصطناعي لأول مرة في الأردن عام 2019 بعد أن دمجت بعض المساقات من برامج كلية تكنولوجيا المعلومات، داعية الطلبة للالتحاق «بتخصص المستقبل» انسجامًا مع التوجه العالمي في التقنيات الرقمية ومع دعوات ديوان الخدمة المدنية حول التخصصات الراكدة والمطلوبة. وقد تناقلت الكثير من الفعاليات المخصصة لإرشاد خريجي الثانوية العامة وبعض مدرسي المنصات الأكاديمية الإلكترونية هذه الدعوات على اعتبار أن التخصص «مطلوب وبجيب مصاري»، قبل أن يصطدم الطلبة بالواقع والإشكاليات المرافقة لتدريسه في الجامعات الأردنية على مستوى الخطط التدريسية والكادر الأكاديمي والتكلفة المادية وفرص العمل.

رسوم مبالغ فيها

«زيي زي أغلب الطلاب، كنت بدور على تخصص عليه طلب وإله فرص بالمستقبل»، يقول أويس أبو سنينة (20 عامًا) الذي التحق بتخصص الذكاء الاصطناعي في الجامعة الأردنية بناءً على توصية أحد إخوته من العاملين في مجال تكنولوجيا المعلومات واطلاعه على المجال عبر مواقع الإنترنت.

اليوم يُدرَّس تخصص الذكاء الاصطناعي في 10 جامعات حكومية و13 جامعة خاصة، وأبو سنينة واحد من حوالي 1650 طالبًا يدرسون الذكاء الاصطناعي في ست جامعات حكومية، 650 منهم في الجامعة الأردنية وحدها، فيما يصف الشرايعة حجم الإقبال على التخصص قائلًا: «لو نفتح القبول بدون سقف، بفوت عدد لا نهائي»، إلا أن للجامعة طاقة استيعابية تحددها البنية التحتية والموارد الرقمية وأعضاء الهيئة التدريسية وغير ذلك من الاعتبارات.

 

يتراوح سعر الساعة الواحدة لدراسة التخصص في الجامعات الحكومية ضمن برنامج التنافس بين 33 دينارًا و100 دينار، فيما يصل في الجامعات الخاصة أو بعض برامج الموازي في الجامعات الحكومية إلى 130 دينارًا. يدفع أبو سنينة 70 دينارًا لقاء ساعة التخصص على البرنامج التنافسي في الجامعة الأردنية، حيث يبلغ مجموع ساعات التخصص 132 ساعة، فضلًا عن رسوم التسجيل الفصلية. يعتبر أبو سنينة تكلفة التخصص «مبالغ بها، مش معقول ساعته أغلى من ساعة الطب».

أما الشرايعة -بالمقابل- فيقول إن رسوم الطالب في الجامعة الأردنية لا تغطي 40% من تكلفته، إذ تغطي الجامعة بقية التكلفة عبر موازنتها والاستثمارات التي تنفذها، مضيفًا أن هذه الرسوم تعتبر منخفضة إذا ما قورنت بمستوى الأسعار إقليميًا وعالميًا، خصوصًا مع النظر إلى تكلفة البرمجيات الرقمية والأجهزة المتطورة: «الجامعة بتدفع 600 ألف دينار بالسنة على الأقل لشراء رخص مايكروسوفت وويندوز وغيرهم، ما بالك ببرمجيات حديثة للذكاء الاصطناعي بتحتاج تحديث بشكل سنوي؟».

يتفق أحمد الجعافرة، عضو هيئة التدريس في تخصص الذكاء الاصطناعي في جامعة الطفيلة التقنية، جزئيًا مع الشرايعة، قائلًا إن تدريس الذكاء الاصطناعي يحتّم على الجامعات الاستثمار في بنية رقمية مكلفة تشمل وحدات المعالجة والخدمات السحابية والبرامج المتخصصة، لكن هذه الاحتياجات برأيه ليست أكثر تكلفة من احتياجات بقية التخصصات، ما يدفعه للاعتقاد بأن أسعار ساعات التخصص في بعض الجامعات مبالغ بها، مضيفًا أن بعض الجامعات تبالغ في رفع هذه الرسوم لتغطية العجز في موازناتها، إذ لا تستطيع غالبًا رفع رسوم الساعات في التخصصات القائمة فترفعه في التخصصات الجديدة.

خطط دراسية ضعيفة 

«إحنا بندرس لغات البرمجة بالورقة والقلم»، يقول أحمد (20 عامًا) أحد طلبة الذكاء الاصطناعي في الهاشمية، معتقدًا أن الطلبة لا يتلقون مقابل الرسوم المرتفعة التي يدفعونها ما يكفل لهم توفير المختبرات اللازمة لدراسة المواد المتخصصة، أو تنفيذ مشاريع تحاكي النماذج الذكية في الشركات، أو تأمين الوصول للبيانات الضخمة عالية الجودة لتدريب النماذج واختبارها، أو على الأقل تحديث الخطط الدراسية لتواكب المتغيرات في المجال.

بدوره، يقول الجعافرة إن الخطط الدراسية لتخصص الذكاء الاصطناعي في الجامعات الأردنية تستلهم نظريًا الخطط الدراسية العالمية، إلا أنها ما تزال بحاجة لمواكبة التطورات الحديثة في المجال، كما أنها متفاوتة في جودتها، خصوصًا أن الذكاء الاصطناعي يدرّس في الجامعات الأردنية ضمن مسارات مختلفة، إذ يدرّس بعضها الذكاء الاصطناعي بوصفه امتدادًا لعلم أو هندسة الحاسوب، وفيما تربط مسارات أخرى بين الذكاء الاصطناعي وعلم البيانات والروبوتكس (تعلم الآلة). يقول أبو سنينة إن أولى الخطط الدراسية كانت إشكالية من ناحية مضمون المواد وتسلسلها، إلا أنها خضعت للتعديل على مدار الفصول السابقة ما جعلها أفضل مما كانت عليه.

من ناحية أخرى، استندت الخطط الدراسية في كثير من الجامعات الخاصة على المواد الدراسية لتخصصات قريبة من الذكاء الاصطناعي مثل علم الحاسوب وهندسة الكهرباء، مع حصة قليلة من المواد المتخصصة والمرتبطة بالذكاء الاصطناعي بشكل مباشر. يقول علاء القدومي (23 عامًا) وهو خريج دبلوم الذكاء الاصطناعي من جامعة البلقاء التطبيقية، إن بعض الجامعات غيّرت أسماء بعض المواد إلا أن جزءًا كبيرًا من محتواها ظلّ متشابهًا مع تخصصات أخرى: «بدرّسوك مادة اسمها مقدمة في الذكاء الاصطناعي أو مادة اسمها ديناميكيا التحكم، بس اللي بشرحلك إياه الدكتور هو علم حاسوب أكثر من كونه ذكاء اصطناعي». 

يشير مفهوم الذكاء الاصطناعي إلى التكنولوجيا التي تمكّن أجهزة الكمبيوتر والآلات من محاكاة التعلم البشري والفهم وحل المشكلات والإبداع، وذلك عبر تطوير الخوارزميات وبرمجتها للغة الكمبيوتر واستخدامها في معالجة البيانات من أجل تنفيذ النماذج الرقمية القادرة على اتخاذ القرار. يرى الجعافرة أن تدريس الذكاء الاصطناعي يتطلب معرفة من تخصصات مختلفة، بما في ذلك علوم الكمبيوتر والرياضيات والإحصاء والأخلاقيات وعلم النفس وغيرها، كما أنه يتقاطع مع مجالات أخرى مثل هندسة الكهرباء والميكاترونيكس، لذا قد يصعب على الجامعات تطوير منهج دراسي متوازن يغطي هذه المجالات المتنوعة دون أن يترك الطالب مشتتًا.

«في طلاب بطلعوا لا فاهمين ذكاء اصطناعي ولا علم حاسوب، أنا تخرجت ونفسي أعرف على شو أدرس، ما في مراجع محددة»، يقول القدومي، طارحًا مثالًا عن مادة درسها حول معالجة الصور الرقمية، حيث الفكرة من تدريسها هي تمكين الطلبة من استخدام لغات البرمجة لزيادة جودة الصور، إلا أن ما كان الطلبة يقومون به في المساق هو تحويل ألوان الصورة من اللونين الأبيض والأسود إلى الملون: «هذا مش ذكاء اصطناعي، أي واحد عنده تلفون هسا بقدر يلون صورة»، يقول القدومي.

نقص الكوادر ذات الخبرة 

«التخصص جديد، ما في بالأردن كلها دكتور ذكاء اصطناعي تخصصه في البكالوريوس ذكاء اصطناعي، لأنه على وقته ما كان في [تخصص] ذكاء اصطناعي»، يقول الجعافرة في إشارة لنقص الكوادر الأكاديمية ذوي الخبرة، حتى وإن كانت بعض الخطط والمواد الدراسية جيدة نظريًا. وبحسبه، فإن الجامعات تستعيض عن هذا النقص عبر تعيين محاضرين من أقسام علم الحاسوب والكهرباء والميكاترونيكس لتدريس مواد الذكاء الاصطناعي، وتعتمد هيئة الاعتماد في وزارة التعليم العالي هؤلاء المحاضرين في حال أخذت تجربتهم البحثية منحىً متخصصًا في الذكاء الاصطناعي.

يعتقد كريم نوفل، أحد خريجي علم الحاسوب العاملين في مجال إدارة المنتجات الرقمية وتقنيات الذكاء الاصطناعي، أن معرفة الكوادر التعليمية في تخصصات الذكاء الاصطناعي في الجامعات هي في أحسن أحوالها معرفة أكاديمية، إذ يميل المهنيون للعمل في الشركات التي تمنح رواتب وامتيازات أكثر مما تقدمه المناصب الأكاديمية: «المحاضر قد يكون قادر على شرح طريقة عمل منتج رقمي، لكنه لا يكون قادرًا على تطويره عمليًا، الدكاترة بتدرّس الطلاب الذكاء الاصطناعي وكأنه كلهم بدهم يصيروا باحثين، بس التكنولوجيا ما بتنفصل عن السوق والممارسة»، يقول نوفل. لذا يرى لؤي (24 عامًا)، أحد خريجي التخصص من جامعة الزرقاء الخاصة، أن الاكتفاء بالمنحى البحثي ليس كفيلًا بإعداد هيئة تدريسية كفؤة نظرًا لارتباط الذكاء الاصطناعي وتقاطعه مع عدة مجالات ليست ذات صلة مباشرة بالتخصص نفسه، ما يعني برأيه حاجة الهيئات التدريسية لخبرة عملية بالإضافة للخبرة البحثية.

ويرى بعض الطلبة أن هناك إشكالية في أساليب التدريس والتقييم والفرص التدريبية، يقول أبو سنينة إن بعض محاضرات المواد الرقمية تُدرّس بشكل نظري فقط، مثل مواد تعلّم الآلة التي يحفظها الطلبة بدون تجربة، أو حل امتحانات لغات البرمجة على الورق بدلًا من كتابة شفرة (كود) على الكمبيوتر واختباره. مع ما سبق، يتجه بعض الطلبة لمصادر التعلم الذاتي من أجل تعويض المعارف والتجارب التي لا توفرها لهم الجامعة: «بدك تفتح يوتيوب عشان تتعلم»، يقول الطالب أحمد، مضيفًا أنه يبذل مجهودًا إضافيًا مكثفًا للانضمام إلى تدريبات رقمية أو ورشات عمل توفر له مساحة تجريبية، مشيرًا إلى أن الأندية الطلابية هي من أتاح له أولى التجارب العملية لتقنيات الذكاء الاصطناعي. 

تشمل معظم الخطط الدراسية للذكاء الاصطناعي ساعات تدريبية و/أو مشاريع تخرج، يقول القدومي إن الجامعة لم توفر له فرصة تدريبية في مجاله، ولأن السوق الأردني يفتقر للشركات المتخصصة في الذكاء الاصطناعي فقد انتهى به الحال بالتدرّب في شركة للخدمات الحاسوبية معنية بتصميم مواقع الإنترنت من أجل اجتياز متطلبات التخرج رغم بُعد هذا المجال عن دراسته. ويرى نوفل أن سوق العمل لخريجي التخصص في الأردن ما زال محدودًا جدًا، إذ تبحث الشركات عن الطلبة المميزين ممن تتجاوز معارفهم مضامين الخطط الدراسية الحالية، لذا ينتهي الحال بكثير من الطلبة بالعمل في مجالات مختلفة عن دراستهم.

«الطلاب بفكروا حالهم رح يشتغلوا بالخليج، بس لما تنافس برا إنت بتتنافس مع كفاءات من الهند ومصر وكل دول العالم»، يقول نوفل مضيفًا إن قدرة الخريجين الأردنيين على الانخراط بالأسواق الإقليمية والعالمية من وجهة نظره مُبالغ بها، وأن الجامعات تنشغل في تخريج مئات الطلبة كأن التوظيف يعتمد فقط على اسم التخصص في الشهادة. بالنسبة للجعافرة، فإن مهمة الجامعات لا تشمل تخريج طلبة مؤهلين لسوق العمل فحسب، إنما تمكينهم أيضًا من المعرفة والابتكار، مؤكدًا أن تقدير حاجة السوق لخريجي الذكاء الاصطناعي أمر جدلي: «هذا تخصص مختلف عن أي تخصص آخر ومرتبط بكثير مجالات، ما بقدر أحدد حجم احتياجه زي ما بقدر أحدد عدد الكوادر الطبية اللازمة في مستشفى ما مثلًا». وهو في كل الأحوال يشجع الطلبة على دراسة تخصص الذكاء الاصطناعي معتبرًا أن هذه المرحلة حتمية لتطوير مشهد تكنولوجي محلي، وأن التحديات الحالية منطقية ومشتركة مع كثير من دول العالم.

حاليًا، يحاول أبو سنينة أثناء دراسته الإلمام بمجالات متنوعة ضمن الذكاء الاصطناعي ليكون جاهزًا للمنافسة والبحث عن عمل في أسواق مختلفة. أما أحمد والقدومي فيريدان متابعة دراستهما في مجال هندسة الكهرباء لما لها من ارتباط مباشرة في معظم المشاريع التي انخرطا بها، معتبرين خطتهما هذه «عودة للوراء» حيث «كان بإمكاننا نبلش مباشرة بهذا التخصص».

Leave a Reply

Your email address will not be published.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية