بعد أن لاحظ أحمد* (64 عامًا) أن الذراع اليسرى لوالده حسن* (85 عامًا) أصيبت بالكسل، ولم يعد يستعملها، ابتكر طريقة لتدريبها. أدخل حبلًا في حلقة في سقف غرفة والده، ربط أحد طرفيه بدلو بلاستيكيّ، وصار يطلب منه أن يشد الطرف الآخر إلى أعلى وأسفل، ليرتفع الدلو ويهبط مع حركة ذراعه. كان هذا شبيهًا بحركة العربات المحمّلة بالإسمنت، التي راقبها أحمد لأربعين عامًا، تعلو وتهبط من الطوابق العلوية للبنايات التي عمل فيها عامل قصارة، قبل أن يترك المهنة من سنتين، عندما انهارت قدرته على الاستمرار.
حسن الذي أمضى حياته يعمل في الخياطة، وتوفيت زوجته قبل 12 عامًا، لم يُعرَض على طبيب، لأن مشقة الرحلة إلى المركز الصحي، وصعود الدرج، والانتظار على الكرسي لساعات وسط جموع المراجعين، من أجل مقابلة خاطفة مع طبيب المركز، الذي عليه أن يرى عشرات المرضى غيره، كل هذا أكبر من قدرته على التحمّل. ولأن كشفية الطبيب الخاص التي لا تقل عن 20 دينارًا خارج إمكانياته المالية فإنه عندما يشتد عليه أي عارض صحي، يطلب من أبنائه أن يأخذوه إلى صيدلية قريبة، حيث يراه الصيدلي، ويكتب له ما يراه مناسبا من مسكنات وغيرها.
يعتقد أحمد أن كسل يد والده نتيجة طبيعية لتقدمه في السن، بالضبط مثل اختلال توازنه وبداية التدهور في ذاكرته. ويتقاسم مع اثنين من أشقائه مهمة البقاء معه خلال النهار، خوفًا من أن يسقط أو يتعرض لكسر يقعده في الفراش. فحتى مع حقيقة أن والده لم يعد يغادر منزله نهائيًا، ويمضي يومه جالسًا أو ممددًا على سريره، فهو على الأقل، قادر على الذهاب إلى الحمام.
لا شيء يمكن عمله أكثر من ذلك، يقول أحمد، الذي يعاني هو نفسه من متاعبه الصحية الخاصة، ولا يفعل الكثير أيضًا لمعالجتها. فهو يعاني منذ سنوات من نوبات ضيق تنفس «أكون قاعد، فجأة بتصيبني. بحسّ حالي بدي أختنق». معتقدًا أن السبب، إضافة إلى التدخين، هو أنه ظل لأربعين عامًا يستنشق الإسمنت لأكثر من عشر ساعات يوميًا. وعندما تصيبه النوبة، يذهب إلى الطوارئ، فتجرى له صور الأشعة، ويصف له الطبيب بخاخًا، وإبرة مهدئة، إلى حين النوبة التالية.
على عكسهما تواظب فاطمة* (63 عامًا) مضطرّةً على مراجعة المركز الصحي والمستشفى لعلاج مشاكلها الصحية المتعددة، من ارتفاع ضغط وحساسية تنفسية، إضافة إلى إصابات تعرضت لها بعد سقوطها عدة مرات في المنزل، أصيبت في إحداها بكسر في الساق. ورغم أن الأطباء أخبروها بانجباره إلا أن ساقها ما زالت بعد سبع سنوات تؤلمها بشدة. تقول إنها تشكو للأطباء في مراجعاتها، فتكون الإجابة أن هذا طبيعي نظرًا لعمرها. «بقولي الطبيب عادي، انكسرت وإنت كبيرة».
ترمّلت فاطمة قبل 25 عامًا، وبقي معها في المنزل واحد من من أبنائها، وهو يعمل طوال اليوم، لهذا تضطر للذهاب إلى مواعيدها الطبية وحدها. في البداية تذهب إلى المركز الصحي، وتنتظر إلى أن يحين دورها لتحصل على التحويل إلى المستشفى، ثم تذهب إلى المستشفى ليحددوا لها موعدًا لعيادة الاختصاص في المستشفى. ويكون يوم الموعد بالنسبة لها دوامًا ليوم كامل، إذ تخرج من منزلها الساعة الثامنة صباحًا، وتعود ظهرًا. ففي المركز الصحي وعيادات الاختصاص لا اعتبارات أولوية للسن. ومهما بلغ عمرك ووهن جسمك فإن الجميع مطالبون سواسية بالانتظار لساعات، إما جلوسًا على مقاعد صلبة، أو وقوفا مستندين إلى الجدران. وهي عندما تحتاج إلى مساعدة، يتكفل أحد مرافقي المرضى الآخرين بتقديمها لها.
تقول فاطمة إن وضعها يظل -مع ذلك- أفضل من مسنين رأت الناس يتطوعون لحملهم على الدرج إلى الطوابق العلوية، لأن المصاعد دائمة التعطل أو غير موجودة أصلًا، كما هي الحال في المركز الصحي. كل هذا من أجل مقابلة الطبيب التي لا تستمر سوى بضع دقائق، ليتمكن من مقابلة العشرات غيرها. وهي لا تستطيع خلال هذه الدقائق شرح حالتها، ولا تطور متاعبها الصحية. في إحدى المرات وصف لها الطبيب دواء اتضح أنه يتعارض مع دواء آخر كانت حصلت عليه من طبيب آخر خارج وزارة الصحة. وعندما عادت إليه، قال لها «وليش ما حكيتيلي؟».
أحمد وحسن وفاطمة، الذين يصارعون من أجل الحصول على الحد الأدنى من الخدمات العلاجية، ينتمون بحسب تعريف الأمم المتحدة، الذي يتبناه الأردن، إلى فئة كبار السن، وهم الذين تجاوزوا الستين عامًا. ولو أن أهداف الخطط الحكومية المعلنة منذ العام 2008 لتحسين الرعاية الصحية لهذه الفئة تحققت، فإن من المفترض أنهم يتمتعون الآن ليس فقط بخدمات علاجية وتأهيلية نوعية، بل ووقائية، تقدمها لهم مؤسسات صحية مؤهلة لاستقبال المسنين، تعمل فيها كوادر تلقت تدريبًا متخصصًا في احتياجات كبار السن. ولن تقتصر هذه الخدمات على رعاية أجسادهم، بل سيشمل العلاج والتأهيل والوقاية صحتهم النفسية والعقلية أيضًا. وسيكون هناك دعم لأسرهم من خلال تدريبهم على أساليب الرعاية. وستكون قد وُفّرت لهم أيضًا خدمات رعاية صحية منزلية. فما سبق هو بعض أهداف محور الرعاية الصحية في الاستراتيجية الوطنية لكبار السن، التي أطلقها المجلس الوطني لشؤون الأسرة، العام 2008، وخططت للسنوات بين 2009 و2013.
لكن تقريرًا صدر العام 2015،[1] قيّم مخرجات هذه الاستراتيجية، وآخر صدر العام 2017،[2] رصد واقع كبار السن، أثبتا أن لا شيء يذكر تحقق من أهداف هذا المحور. لذلك تقرّر أن تُرحّل الأهداف إلى استراتيجية وطنية ثانية،[3] خططت للسنوات بين 2018 و2022. ومع نهاية هذا العام، يقول خبراء، إنه لم يتغير الكثير أيضا. فكبار السن، الذين أكّدت الاستراتيجية الأولى أنهم الآن «من الأولويات الوطنية»، ليسوا كذلك.
الأعمار تطول وكبار السن يزيدون
في دراستها[4] الصادرة عام 2019 عن أوضاع كبار السن في الأردن، توضح الدكتورة لانا هلسة، المتخصصة في طب الشيخوخة، والأستاذة في كلية الطب في الجامعة الأردنية، أن الأردن يختبر منذ سنوات تحولًا ديموغرافيًا فيما يتعلق بأعمار تركيبته السكانية. فالانخفاض المضطرد في نسبة الخصوبة، المترافق مع الانخفاض المضطرد في الوفيات نتيجة ارتفاع العمر المتوقع عند الولادة، قلل من نسبة صغار السن، مقابل زيادة نسبة المسنين. هذه ظاهرة سكانية بدأت في دول العالم المتقدمة، وامتدت الآن إلى الدول النامية، ومن بينها الأردن.
العمر المتوقع عند الولادة في الأردن، وفق آخر أرقام نشرها البنك الدولي للعام 2020، هو 75 عامًا. وكان قد ارتفع من حوالي 43 عامًا في عام 1950 إلى قرابة 74 عامًا في عام 2015. ومن المتوقع أن يصبح 76.8 عامًا في عام 2030.[5]
يصنف البنك الدولي دول العالم في مجموعات، استنادًا إلى مستوى الدخل. ويقع الأردن في مجموعة الشريحة العليا من الدول متوسطة الدخل، وعددها 54 دولة. ومن بين الـ52 دولة التي وفر موقع البنك الدولي بيانات عنها، كان هناك 18 دولة حققت عمرًا أعلى من الأردن، تراوح بين 76 عامًا و80 عامًا. في حين كان العمر المتوقع لسكان 28 دولة في المجموعة أقل من ذلك، إذ تراوح بين 74 عامًا و59 عامًا.
لقد زاد عدد كبار السن في الأردن من 35 ألف شخص عام 1950، شكلوا آنذاك 7.4% من السكان، إلى 406 آلاف عام 2015، شكلوا 6.1% من السكان. ومن المتوقع أن يرتفع العدد عام 2025 إلى 609 آلاف، لترتفع نسبتهم إلى 7%، وصولًا إلى 1.8 مليون بحلول العام 2050، سيشكلون حينها 15.6% من السكان.
هذا التغير الديمغرافي، كما توضح الاستراتيجيات، حافز للالتفات نحو تطوير الخدمات الصحية المقدمة لكبار السن. ورغم أن هذه الخطط شملت مختلف مقدمي الخدمات الصحية في المملكة، لكن التركيز في هذا التقرير سيكون على وزارة الصحة، باعتبارها المقدم الرئيسي للخدمات الصحية، والجهة الملزمة قانونيًا بتقديم هذه الخدمات لفئة كبار السن، من خلال شمولهم بالتأمين الصحي المدني ابتداءً من العام 2006.
تقول الدكتورة عرين العتوم، ممثلة وزارة الصحة في لجنة متابعة تنفيذ استراتيجية العام 2018، إن السبب في أنه لم يكن هناك تقدم باتجاه تحقيق الأهداف الطموحة لهذه الاستراتيجيات هو قلة المخصصات المالية لفئة كبار السن. ومع شحّ التمويل، فإن وزارة الصحة مجبرة على توجيه الموارد وفق ترتيب للأولويات، وهي حاليًا الأمومة والطفولة، وتنظيم الأسرة، والأمراض السارية، وإدارة المخاطر.
توضح العتوم أن كبار السن يستفيدون، مع ذلك، من الخدمات الصحية المقدمة للعموم في المراكز الصحية والمستشفيات. وأساسًا هم يشكلون القسم الأكبر من المستفيدين من الخدمات العلاجية. لذلك فإن هناك، كما تقول، منطق فيما تقوم به وزارة الصحة فيما يتعلق بتوزيع الإنفاق ضمن الإمكانيات المتاحة.
حصة كبار السن من الإنفاق الصحي هي بالفعل الأعلى، إذ بلغت حسب آخر أرقام متاحة 74% من مجمل الإنفاق على الخدمات العلاجية. المشكلة هي أن هذه الخدمات العلاجية الموجهة للعموم، تعاني أصلًا من اختلالات عميقة. وكبار السن بوصفهم فئة مستضعفة، هم أول ضحايا هذه الاختلالات.
الأمر الآخر هو أنه حتى لو توفرت خدمات صحية نوعية، فإن هذا لا يغني عن خدمات متخصصة لكبار السن، كما تقول المتخصصة في طب الشيخوخة الدكتورة دانا أبو الرب، والسبب ليس فقط لأن هناك أمراضًا مرتبطة أساسًا بالتقدم في العمر، هناك أيضًا حقيقة أن فسيولوجية الجسم تتغير بحسب الحالة العمرية، فكلما تقدم الجسد في العمر، تختلف حاجاته، وتختلف بالتالي الطريقة التي يعبّر فيها عن نفسه في مواجهة الحالات المرضية المختلفة. وهذا يعني أن الحالة المرضية ذاتها، لا يستجاب لها في التشخيص والعلاج من قبل الأطباء في حالة كبير السن كما في حالة الأصغر سنًا. هذا هو المبدأ ذاته الذي حتم وجود تخصص طب الأطفال مثلًا، الذين تخصص لهم أقسام خاصة في المستشفيات وغرف الطوارئ. ففي الدول المتقدمة، تقول أبو الرب، هناك أيضًا أقسام خاصة لكبار السن في المستشفيات وغرف الطوارئ.
تؤكد ذلك هلسة، التي تقول لحبر إن تقديم خدمات رعاية صحية متخصصة في كبار السن، سيساهم عمومًا في تحسين جودة حياة هذه الفئة من الناس. ذلك أن أساس مقاربة المتخصص في طب الشيخوخة للحالات المرضية لدى كبار السن هي «الشمولية». فالمشكلة ليست فقط في الحالة المرضية التي جاء من أجلها، فمريض السكري أو الضغط مثلا لا تُنجز المهمة تجاهه بإعطائه أدويته الشهرية، بل يجب النظر في كل العوامل الأخرى المؤثرة في صحته، سواء كانت جسدية، أو نفسية، أو حتى اجتماعية. تَحقُّق هذا الشرط في الخدمات الصحية الموجهة لكبار السن يساهم في إطالة أمد اعتمادهم على أنفسهم، وهذه ضرورة قصوى بالنظر إلى حقيقة أن الناس الآن يعيشون أطول.
عندما صدرت استراتيجية «كبار السن» الأولى عام 2008، كان أحد أهدافها بدء اعتماد تخصص طب الشيخوخة في المجلس الطبي العالي، بما يتيح زيادة عدد المختصين. حينها لم يكن هناك، بحسب الاستراتيجية، أي متخصص في طب الشيخوخة. ثم ذكر تقرير تقييم الاستراتيجية عام 2015، أنه صار هناك متخصص واحد فقط.
الآن، ما زال التخصص غير معتمد في المجلس الطبي العالي. ولهذا ليس هناك أرقام رسمية لعدد الأخصائيين، كما تقول هلسة. فهذا تخصص فرعي يدرسه الأطباء بعد التخصص الرئيسي الذي يكون في طب الأسرة أو الباطني. ولأن طب الشيخوخة غير معتمد في المجلس فإن هذا يعني أن من يدرسه في الخارج تُعتمد شهادته في التخصص الرئيسي فقط. تقول هلسة إنها تعرف فقط أربعة غيرها في هذا التخصص. ووفق العتوم ليس هناك أي أخصائي في طب الشيخوخة في وزارة الصحة.
ومع ذلك، تقول أبو الرب إنه يمكن سدّ الثغرة مؤقتًا بتقديم نوع من التدريب المتخصص للكوادر العاملة، يمكن أن يساهم في تجنب الالتباسات التي تحدث أحيانًا في التشخيص والعلاج نتيجة افتقار الكوادر للتدريب والخبرة في الرعاية الصحية المتخصصة بكبار السن.
بحسب العتوم فإن التدريب المتاح داخل وزارة الصحة على تقديم الرعاية الصحية لكبار السن، وهو تدريب بدأته العام 2019، يتضمن إرشادات تخص طرق التعامل مع كبار السن، والأمراض الأكثر شيوعًا بينهم، والتداخلات الدوائية، والممارسات الغذائية السليمة. وقد قُدّم لكوادر المراكز الصحية التي اعتمدت بوصفها «صديقة لكبار السن».
بالنسبة للمراكز الصديقة للمسنين، تشرح العتوم أن منظمة الصحة العالمية أسست عام 2006 في وزارة الصحة برنامج «رعاية صحة المسنين»، بهدف تطوير الخدمات الصحية لكبار السن. وكان أحد مهامه الأساسية تأهيل المراكز الصحية في المملكة لتكون صديقة للمسنين. لكن «المنظمة» توقفت عن تمويل البرنامج بعد فترة قصيرة، ما أدّى إلى تحجيم نشاطه ليتركز على الخدمات الصحية المقدمة لنزلاء دور رعاية المسنين. لكن خلال السنوات القليلة الماضية، عادت الجهود باتجاه هذا الملف، وهناك حاليًا 23 مركزًا صديقًا للمسنين، اختيرت كلها من بين المراكز الشاملة، لأن المراكز الأولية والفرعية، تقول العتوم، غير صالحة من ناحية البنية التحتية لتكون صديقة للمسنين.
يذكر أن المراكز الصحية الصديقة للمسنين هي في الأصل مبادرة أطلقتها منظمة الصحة العالمية عام 2002، بهدف تحسين الرعاية الصحية الأولية المقدمة لكبار السن في الدول النامية، لكن تطبيق هذه المبادرة محليًّا لم يتحقق ولو بالحد الأدنى.
ذلك أنه وفق الدليل الإرشادي الذي أطلقته المنظمة، فإن على هذه المراكز أن تلعب دورًا وقائيًا من خلال تطبيق مجموعة كبيرة من الفحوص الدورية التي تضمن الكشف المسبق عن الأمراض المرتبطة بالتقدم في العمر، مثل هشاشة العظام والضغط والسرطانات وأمراض القلب وتدهور السمع والبصر والحالة الذهنية، إضافة إلى مقابلات دورية معهم لاستكشاف أي ممارسات غير صحية في نمط الحياة والتغذية. ومن الواضح أن هذه الرؤية للمراكز الصديقة للمسنين لا تنطبق على أي من المراكز الصحية في الأردن. فما الذي يعنيه إذن مركز صحي صديق للمسنين في الأردن؟
طلبت حبر من العتوم، عدة مرات، تزويدها بأسماء هذه المراكز، وقائمة بالمعايير التي على أساسها اعتمدت صديقة للمسنين، لكنها لم تفعل، مكتفيةً بالقول إن تطبيق الفكرة في الأردن كان محكومًا بمحدودية الموارد المالية، لهذا اهتم أكثر بأن يحصل كبار السن على الخدمة «بسهولة وسرعة» من خلال توفير أدويتهم، وتوفير مصعد، وضمان أن تكون لهم الأولوية في تلقي الخدمة. وهذه الأمور، تقول العتوم، لم يتمكن أي مركز من المراكز المصنفة صديقة للمسنين من تحقيقها بالكامل. مضيفةً أن وزارة الصحة تبذل ما في وسعها، ضمن الإمكانيات المتاحة، فأطلقت العام الماضي دليل الرعاية الصحية الأولية في المراكز الصحية، تضمّن فصلًا إرشاديًا عن كبار السن وطرق التعامل معهم وتهيئة البيئة المناسبة لهم. والأهم من كل هذا هو شمول كل الأردنيين فوق الستين عامًا بالتأمين الصحي.
التأمين الذي تشير إليه العتوم صدر عام 2006، ودرجته الثالثة. ووفق خبير الأنظمة الصحية، الدكتور موسى العجلوني، فعلاوة على حقيقة أن الخدمات الصحية المقدمة ضمنه تعاني بشكل عام من قصور كبير، ولا يتوفر فيها عناية متخصصة في طب الشيخوخة، فإن هذا التأمين يحصر المنتفعين بخدمات القطاع العام. وفي حالة كبار السن الذين يحتاجون إلى إجراءات متقدمة قد لا تكون متوفرة في القطاع العام، فإن هذا التأمين لا يغطي تحويلهم إلى القطاع الخاص.
يشير العجلوني، الذي عمل بين 1973 و2003 في إدارة المستشفيات والتخطيط الصحي في الخدمات الطبية الملكية، ويعمل حاليا مستشارا غير متفرغ لمنظمة الصحة العالمية، إلى واحدة من الخدمات الحيوية لكبار السن، والتي لا تتوفر حاليًا إلا في القطاع الخاص، وهي الرعاية الصحية المنزلية. لقد كان تأسيس خدمة رعاية منزلية حكومية واحدًا من أهداف الاستراتيجية الأولى، وأوصى تقرير واقع كبار السن بأن تكون هذه الخدمة مجانية للفقراء، ورصدت استراتيجية 2018 انعدام هذه الخدمة حكوميًا بوصفه خللًا في منظومة الرعاية الصحية.
يقول العجلوني إنه يحدث كثيرًا في المستشفيات أن ينصح الأطباء أهالي المسنين بأن يعيدوهم إلى المنزل، لأنه لا إجراءات طبية إضافية يمكن القيام بها، ولأن بقاء المسن في المستشفى يجعله عرضة لالتقاط العدوى. وهذا، يقول العجلوني، إجراء صحيح، لكن ما ليس صحيحًا هو ترك الأسرة تتحمل بعدها وحدها مسؤولية هذا المسن، من دون أي تدريب ولا موارد للعناية به. في حين أن خدمات الرعاية المنزلية في القطاع الخاص باهظة الثمن، وغير مشمولة بأي تأمين، لا حكومي ولا خاص.
في كل مرة تطرح قضية توفير خدمات لكبار السن، يقول العجلوني، تبدأ الشكوى من شح المخصصات، وهذا جزء حقيقي من العوائق. لكن هناك بنفس الأهمية حقيقة أن هناك خللًا واضحًا في «كفاءة إنفاق» الموارد الموجودة.
يذكر أن إنفاق الأردن على الصحة -كنسبة من مجمل الناتج المحلي- يُعدّ من بين الأعلى مقارنة بمجموعته من الشريحة العليا من الدول متوسطة الدخل، حيث احتل الأردن عام 2019 المرتبة 17 بين 52 دولة من شريحته، بنسبة إنفاق بلغت 8% تقريبًا.
يمكن للطريقة التي تتعاطى بها وزارة الصحة مع المراكز الصديقة للمسنين، وكل منظومة الرعاية الأولية، بشكل عام، أن تكون مثالًا على اختلال كفاءة الإنفاق التي أشار إليها العجلوني. فالشبكة الضخمة من المراكز الصحية خصص لها في موازنة العام 2021 ما نسبته 22% فقط من موازنة وزارة الصحة، مقابل 48% تقريبًا خصصت للرعاية الثانوية والمستشفيات. إنه توزيع يعكس «ضعف الإنفاق» على خدمات الرعاية الأولية، وسببه أن منظومة الرعاية الصحية في الأردن قائمة على مبدأ علاج الأمراض لا الوقاية منها.
تقول هلسة إن الاستثمار في الخدمات الوقائية لكبار السن من خلال منظومة الرعاية الأولية الممثلة بالمراكز الصحية سيمكّن وقايَتهم من الكثير من الأمراض، ويخفّف وطأة أخرى من خلال تدارك العواقب المرضية قبل استفحالها. وهذا سيبعدهم عن المستشفيات التي تستنزف معظم الإنفاق الصحي، والتي يستنزف كبار السن -كما تقدم- معظم هذا الإنفاق.
إذن، فإن رؤية منظمة الصحة العالمية للمراكز الصحية الصديقة للمسنين، التي تبدو مستحيلة بسبب ضخامة ما تحتاج إليه من مخصصات، هي في الحقيقة على المدى البعيد أقل كلفة من آلية الإنفاق الحالية على الخدمات العلاجية.
لا خطة تنفيذية ولا قاعدة بيانات
يقول العجلوني إن مشكلة استراتيجيتي كبار السن أنهما لم تكونا مدعومتين بسياسة حكومية لرعاية متكاملة لكبار السن. سياسة تكون الحكومة قد التزمت بها، وترجمت هذا الالتزام إلى خطة، خصّصت لها التمويل اللازم، وحددت بعد إطلاقها بشكل دقيق الجهات المكلفة بتنفيذ أهدافها، والمهام المحددة المطلوبة من كل جهة. لم يحدث أي من هذا، لهذا لم تتحقق الأهداف. ولأنه ليس من الواضح من كان المكلف بالتنفيذ، فإنه لا إمكانية للمساءلة.
سألنا العتوم إن كان تبع إطلاق الاستراتيجية إعداد خطة تنفيذية لمحور الرعاية الصحية، حددت بشكل مفصل المهام الواجب القيام بها لتحقيق كل هدف، والجهات المكلفة بتنفيذها داخل وزارة الصحة، فأجابت بأن هذا لم يحدث.
وفق هلسة، فقد بدأ الآن التوجه نحو إعداد استراتيجية ثالثة لكبار السن. وأحد التحديات الخطيرة هي الافتقار إلى معلومات كافية عن كبار السن في الأردن تساعد في فهم تركيبتهم من مختلف الجوانب، وتحديد احتياجاتهم، بما يسمح ببناء خطط لتغطية هذه الاحتياجات، فلا قواعد بيانات، والدراسات الخاصة بكبار السن شحيحة جدًا. وتقول إنها عندما أنجزت دراستها الصادرة عام 2019 اضطرت في بعض المواضع للاستعانة بأرقام من سنوات التسعينيات.
تقول هلسة إن الاستثمار في الخدمات الوقائية لكبار السن من خلال منظومة الرعاية الأولية الممثلة بالمراكز الصحية سيمكّن وقايَتهم من الكثير من الأمراض، ويخفّف وطأة أخرى من خلال تدارك العواقب المرضية قبل استفحالها.
لقد أقرّت استراتيجية 2018 بأن الافتقار إلى البيانات «يضعف قدرة صنّاع السياسات ومتخذي القرارات من رسم السياسات المستقبلية المناسبة لتلبية المتطلبات الصحية لكبار السن على المدى المتوسط والطويل». ورغم ذلك، نال محور الرعاية الصحية في استراتيجية 2009 علامة 62% تقريبًا على سلّم الإنجاز، وفق التقرير الذي قيّم مخرجاتها. المفارقة أن هذه العلامة جاءت بناءً على سبعة مؤشرات، ذكر تقرير التقييم أنه لم تتوفر لمعدّيه بيانات عن خمسة منها. أحد المؤشرين الباقيين، هو توفر أخصائيين في طب الشيخوخة، حيث ارتفع العدد من صفر إلى واحد. أما المؤشر الثاني، فهو ارتفاع العمر المتوقع عند الولادة. وهذا الأخير، يقول العجلوني، إنه «مضلل» لأن ارتفاع العمر المتوقع عند الولادة هو ناتج مجموعة كبيرة جدًا من العوامل، أحدها تقدّم الرعاية الصحية المقدمة للإنسان، طوال مراحل عمره، وليس الشيخوخة فقط. ولا يجوز اعتباره مؤشرًا حصريًا على تقدم الرعاية الصحية لكبار السن.
إن أبرز عائق أمام بناء قاعدة بيانات لكبار السن في الأردن، يقول العجلوني، هو أنهم موزعون على مختلف القطاعات الصحية؛ قطاع وزارة الصحة، والخدمات الطبية الملكية، والمستشفيات الجامعية، ومستشفيات وعيادات القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني، وجميعها قطاعات لا تنسيق ولا ربط بينها. في حين أن الصحيح هو أن تتوفر في كل مؤسسة صحية قاعدة بيانات مربوطة بنظام معلومات وطني، كما هي الحال في دول متقدمة استطاعت أن تحقق ذلك بالتدريج من خلال إعطاء حوافز في البداية لهذه المؤسسات لتزوّد النظام الوطني ببيانات مرضاها، إلى أن انتهت أخيرًا بأن أصبح هذا إلزاميًا.
ورغم وجود برنامج حكيم، الذي تحوّلت من خلاله السجلات الورقية للمرضى إلى إلكترونية، والذي بدأ تطبيقه أواخر 2009، ويغطي الآن قسمًا من المؤسسات الصحية في المملكة، إلا أن العجلوني يقول إنه لاعتبارات تقنية، لا يمكن استخدامه لإنشاء قاعدة بيانات حتى على مستوى المؤسسة الصحية الواحدة. وهذا يضطرّ الحكومة بين فترة وأخرى لإجراء دراسات مسحية وطنية لانتشار الأمراض. وهذه الدراسات علاوة على أن كلفتها عالية جدًا، فهي غير قادرة على توفير المعلومات بالدقة والشمول الذي يمكن أن توفره قواعد البيانات.
الدراسة المسحية الأخيرة التي رصدت انتشار الأمراض كانت المسح الوطني التدرجي عام 2019، وقد رصد انتشار عوامل الخطورة المرتبطة بالأمراض غير السارية، من ضغط وسكري وسرطان وأمراض الكلى وغيرها. وجاء بعد مسح مشابه أجري عام 2007.
نتائج هذا المسح[7] كانت بالفعل مقيدة بالعديد من المحددات، فرغم أن المسح شمل جميع المحافظات، إلا أن اختبارات البول الهادفة لتقييم وظائف الكلى مثلًا، اقتصرت على أفراد العينة من سكان عمان، لاعتبارات تتعلق بنقل العينات للمختبرات. كما استثنى المساجين، والقاطنين في المساكن الجماعية، لأن المسح اقتصر على الأسر.
الأهم هو أن العينة توقفت عند عمر 69 عامًا، مستثنيةً كل من هم فوق ذلك. وجاء هذا التزامًا بمعيار منظمة الصحة العالمية التي تحصر العمر في هذه المسوح بين 18 عامًا و69 عامًا، كما يقول مدير مديرية الأمراض غير السارية، الدكتور أنس المحتسب. علما بأن هناك دول تتجاوز ذلك، كما يقول، لكن توسيع العينة في الأردن كان سيزيد من صعوبة الدراسة، لأن نسبة الأكبر سنًّا محدودة، والوصول إليهم كان سيكون صعبًا. وأيضا كان سيرتّب كلفة إضافية عالية، ولأن الموارد المالية هنا محدودة، تقرر ترتيب الأولويات استنادًا إلى حقيقة أن غاية المسح أصلًا تقييم فعالية السياسات في خفض الأمراض غير السارية. «والأولوية في هذا للوقاية من الوفاة المبكرة. والوفاة تكون مبكرة عندما تكون تحت السبعين».
المراهنة على أن النسبة ستظل محدودة لن تصلح على المدى البعيد، إذ تظهر الإحصائيات[8] أن الفئة الأسرع نموًا من بين كل الفئات العمرية في الأردن هم الذين تجاوزوا الثمانين، إذ زادت أعدادهم خلال السنوات القليلة الماضية بنسبة 6.6% سنويًا، مقابل 3.1% هي نسبة الزيادة الكلية للسكان. في الحقيقة، فإن الأرقام ذاتها، وبناءً على المعطيات الحالية، تظهر أن سرعة نمو كبار السن عمومًا في الأردن، ستكون أعلى من بقية دول العالم.[9] فإذا لم نرد لهؤلاء أن يكونوا عبئًا على أنفسهم والمجتمع، فإن التخطيط بجدية لتمكينهم، يجب أن يبدأ الآن.
-
الهوامش
* أسماء مستعارة بناءً على طلب أصحابها.
[1] التقرير التحليلي لتقييم الاستراتيجية الوطنية لكبار السن (2009-2013)، المجلس الوطني لشؤون الأسرة.
[2] أروى النجداوي، واقع كبار السن في الأردن- دراسة تحليلية مقارنة، 2017، المجلس الوطني لشؤون الأسرة.
[3] الإستراتيجية الوطنية الأردنية لكبار السن (2018-2022)، المجلس الوطني لشؤون الأسرة.
[4] Lana J AlHalaseh. Population Ageing in the Eastern Mediterranean Countries: A Regional Overview of the Situation. Jordan. Middle East Journal of Age and Ageing Volume 16, Issue 1, February 2019.
[5] Lana J AlHalaseh. Population Ageing in the Eastern Mediterranean Countries: A Regional Overview of the Situation. Jordan. Middle East Journal of Age and Ageing Volume 16, Issue 1, February 2019.
[6] Lana J. Halaseh. International Journal on Ageing in Developing Countries, 2021, 6 (2): 176-198.
[7] انقسمت عينته مناصفة بين الأردنيين والسوريين.
[8] Lana J AlHalaseh. Population Ageing in the Eastern Mediterranean Countries: A Regional Overview of the Situation. Jordan. Middle East Journal of Age and Ageing Volume 16, Issue 1, February 2019.
[9] Lana J AlHalaseh. Population Ageing in the Eastern Mediterranean Countries: A Regional Overview of the Situation. Jordan. Middle East Journal of Age and Ageing Volume 16, Issue 1, February 2019.