في رحلات النزوح الأربعة التي قطعها عبيدة* برفقة عائلته من بيت لاهيا شمالي قطاع غزة إلى دير البلح في الجنوب، كان الطفل البالغ من العمر تسع سنوات مُصرًا على أن يحمل في حقيبته الصغيرة كتبه المدرسية للصف الرابع الذي لم يكمله بسبب الحرب الإسرائيلية على غزة وتوقف العملية التعليمية في كافة مدارس القطاع: «وقّفنا عند وحدة الكسور في الرياضيات»، يقول عبيدة مستذكرًا آخر واجبٍ مدرسي في مادته المفضلة.
سبق وخسر عبيدة عام 2021 جاره وزميله في المدرسة، الطفل نظمي أبو كرش، جراء غارة جوية إسرائيلية على مخيم جباليا، وقد شغلت صورته المحاطة بإكليل من الورد مقعده الفارغ في الصف. في هذه الحرب لا يستطيع عبيدة أن يحصي خساراته، بما فيها فقدان بعض كتبه تباعًا؛ أحيانًا تحت ركام المنازل، ومرة لنارٍ شبّت في الخيمة، ومرة لقاء علبة حلاوة استغنى عنها طفل آخر مقابل الحصول على كتاب العلوم. تقول رانية، والدة عبيدة، إن هذه الكتب التي حاولت منعه من أخذها في أول استهداف لمنزلهم هي أثمن ما تمكنوا من إنقاذه.
دمرّت «إسرائيل» قرابة 93% من مدارس وجامعات القطاع بشكل جزئي أو كلي، وحولت بعضها لمقارّ عسكرية، فيما تحول ما يصلح منها لمراكز نزوح وإيواء. هكذا حُرم حوالي 630 ألف طالب وطالبة في غزة من التعليم، واستشهد أكثر من 10 آلاف طالب و400 معلم وأصيب الآلاف، فيما تُرك مئات آلاف الأطفال لمواجهة جرائم الإبادة والتجويع والتجهيل الإسرائيلية. لكن كثيرًا منهم انخرط في المنصات الإلكترونية أو المبادرات الشعبية أو التعليم الوجاهي في مراكز الإيواء بحثًا عن فرصة لمتابعة تعليمه.
التعلم عن بعد: أصعب من المتوقع
قررت رانية (35 عامًا) بداية العام الماضي أن يستكمل أبناؤها الثلاثة؛ أكبرهم عبيدة، تعليمهم منزليًا محاولة بذلك الهروب من الحرب واستئناف الحياة العادية. دَرَست رانية العلوم الطبية المخبرية في الجامعة الإسلامية بغزة، وتدرّبت لستة أشهر في إحدى المختبرات الطبية قبل أن تتفرغ لأسرتها وتدريس أبنائها الذين طالما كانوا من الأوائل في المدرسة، وكانوا لا يحتاجون أكثر من الحد الأدنى من المتابعة نظرًا لالتزامهم واجتهادهم الشخصي. لكن الحال تغير في ظل الحرب، فهي منذ عام تخصص ما معدله خمس ساعات يوميًا لتدريس الأطفال في أماكن نزوحهم بعض المواد التأسيسية مثل اللغة العربية والإنجليزية والرياضيات.
في البداية اعتمدت رانية على كتب عبيدة لتدريس الأطفال الثلاثة رغم اختلاف مراحلهم الدراسية، إذ يتناوبون على حل التمارين بعدما تمسح رانية الإجابات كل مرة، وظلت على هذه الحال حتى استطاع زوجها، المسؤول عن تأمين الطعام والمياه للعائلة، تأمين هاتف مستعمل ساعد رانية في تحميل نسخ إلكترونية من الكتب المدرسية، ومتابعة الأطفال تعليمهم عبر المنصة الإلكترونية التي أطلقتها وزارة التربية والتعليم في رام الله لتعليم الطلاب في غزة عن بعد.[1]
في أيلول الماضي، سجّل حوالي 200 ألف طالب وطالبة في المنصة، وهو ما اعتبرته الوزارة «إنجازًا كبيرًا في ظل التدمير الواسع والمنهجي للبنية التحتية التعليمية والذي جعل من شبه المستحيل على الوزارة إعادة العملية التعليمية إلى سابق عهدها»، بحسب الناطق الرسمي باسم الوزارة صادق خضور.
لم تدّخر رانية جهدًا لتأمين الكهرباء أو الإنترنت أو إصلاح شاشة الهاتف المكسورة أو تركيب شريحة دولية، إذ حاولت العمل في شراء المساعدات ثم بيعها في الأسواق، والتطوع في أقسام الطوارئ في بعض المستشفيات لقاء مبلغ مالي رمزي يغطي تكاليف بطاقات الإنترنت أو شحن الهاتف. تقول رانية إن الاتصال بالإنترنت والوصول إلى الكهرباء شبه مستحيل في ظل انقطاع التيار الكهربائي طوال ساعات اليوم وتدمير البنية التحتية للاتصالات وارتفاع تكاليف بطاقات الشحن.
بعد شهر من محاولة تأمين الإنترنت، تمكنت أخيرًا من تسجيل أطفالها في المنصة الإلكترونية وتحميل مناهجهم الدراسية على الهاتف والانضمام لمجموعات التلغرام التي تتبادل فيها الأمهات الأسئلة. وظنت في البداية أن المنصة ستوفّر جهدها وتقلّص المدة الزمنية اللازمة لتدريس الأطفال طالما توفر الإنترنت، إلا أن التجربة كانت مليئة بالتحديات. فالحصص الدراسية تُعقد لكل الصفوف لمدة ثلاثة ساعات متواصلة يوميًا في اجتماعات مباشرة عبر تطبيق «تيمز»، لذا صار الأطفال يتناوبون على حضور الحصص إما مباشرة عبر الهاتف أو عبر مشاهدة الحصص المسجلة، ما يعني قضاء رانية تسع ساعات يوميًا على الأقل في متابعة التزام أبنائها في تلقي الدروس والاستجابة السريعة لأي تحدٍ تقني قد يطرأ.
التزمت رانية بالتعليم عبر المنصة لشهرين تقريبًا، لكن التحربة كانت صعبة وضاغطة أكثر من المتوقع، إذ حاولت ضبط أبنائها عبر التأكد من خوضهم الامتحانات الفصلية، وفتح الميكروفون للتفاعل مع المعلمين حتى لو كان صوت «الزنانة» في محيطهم يغطي على أصواتهم، وأحضرت لهم هدايا بسيطة في سبيل تشجيعهم على الدراسة. يضاف إلى كل هذا عبء الظروف المحيطة بالأطفال بدءًا بالقصف المستمر للمنازل والخيام المحيطة بهم، وإصابة والدهم في يده، ومحاولات الحصول على الطعام، أو استهلاك المياه غير النظيفة، وتضرر خيمتهم في فصل الشتاء، والتعرض لوعكات صحية متكررة.
«أول ما يبلش القصف، فجأة عدد الحضور يصير يقل» تقول رانية، معتبرة التعلم عن بعد تجربة متعبة أصلًا وتزداد صعوبتها في ظل الحرب، وبما أن الفائدة التعليمية كانت محدودة إذا ما قورنت بالجهد المبذول من أجلها، قررت رانية الاستغناء عن المنصة، وطبعت المقررات الدراسية حتى تدرّس أطفالها بنفسها، قائلة إن التحديات التقنية الكثيرة دفعت الأهالي للبحث عن حلول أخرى وحالت دون استفادة معظم الأطفال من هذا البرنامج حتى لو كان ثلث طلبة غزة قد قاموا بالتسجيل في المنصة: «بالبداية كان في إقبال، تفتح التيمز يكون في 200 واحد بحضروا معك بالصف، مع الوقت صار منيح إذا في 30 واحد».
مبادرات تعليمية شعبية
مع عجز برنامج التعلّم عن بعد تقديم تعليم فعال في ظل الحرب المتواصلة على القطاع، بادر بعض معلمي غزة لتنظيم برامج تعليمية خاصة وأنشأوا مدارس مؤقتة في مراكز الإيواء والمخيمات. كانت آلاء أبو مصطفى (35 سنة) إحدى المعلمات المبادرات لتعليم الأطفال، وكانت قد درست أصول التربية والإدارة التربوية في جامعة الأقصى، وقضت عشر سنوات في تدريس الأطفال في المدارس الخاصة.
بينما كانت آلاء تدرّس طفلاتها الثلاثة القراءة والكتابة في المنزل، شعرت بالحاجة لتعميم التجربة وتوسيع دائرة الأطفال المستفيدين منها، فقررت بالتعاون مع أختها، والتي كانت تعمل في إدارة الروضات قبل الحرب، إنشاء خيمتين تعليميتين جنوبي القطاع؛ واحدة لمرحلة رياض الأطفال الذين حُرِموا من دخول الصف الأول –ويبلغ عددهم في القطاع إجمالًا حوالي 58 ألفًا-، والثانية للصفوف من الأول حتى السادس. وقد دفعهم النزوح المتكرر من غزة البلد إلى المعسكر الغربي لتغيير موقع المبادرة عدة مرات حتى استقروا في منطقة بني سهيلة.
لم تكن آلاء وأختها تتوقعان في بداية الحرب أنهما ستعودان في حزيران الماضي لمنزلهما المدمر من أجل إقامة هذه المبادرة التعليمية على ركامه، وهو ما فعلتاه نظرًا لحاجة أطفال المخيم إلى فرصة للتعلم، وكن قد تلقّين تشجيع الأهالي للاستمرار في المبادرة التي شهدت إقبالًا واسعًا، حيث بدأت بخمسين طفلًا من سكان المنطقة أو النازحين إليها. وإلى جانب المواد التأسيسية مثل اللغة العربية والإنجليزية والرياضيات، تحرص آلاء على تدريس التربية الوطنية لتشرح للأطفال تاريخ فلسطين وتعرّفهم على معالم مدينة غزة والأماكن الأثرية التي دمرها الاحتلال محاولة بذلك «إعداد جيل واعٍ يعرف تاريخه ويحافظ على هويته» كما تقول.
تضم المبادرة اليوم حوالي 500 طالب وطالبة يتطوع لتدريسهم حوالي عشرة معلمين ومعلمات من مختلف التخصصات حسب خطة دراسية طوروها معًا لإدارة العملية التعليمية في الخيمة بناءً على أساليب تربوية مختلفة منها التعلم عن طريق اللعب أو الغناء أو سرد القصص. تقول آلاء إن علاقة المعلمين مع الأطفال لا تنحصر بالتدريس فقط، وإنما يحاولون كذلك تقديم الدعم النفسي اللازم للطلبة الذين حرموا من طفولتهم وفقدوا عائلاتهم وحياتهم: «فجأة بيجي طالب يقول يا مس أنا والدي شهيد، باخذه بحضني وبقله بابا في مكان أحسن، وإنت لازم يكون عندك إرادة ورسالة في الحياة عشان يكون بابا فخور فيك».
من ناحية أخرى، تشعر آلاء بالمسؤولية حيال ظروف الأطفال الصعبة ممن يأتون للخيمة جائعين أو بدون أحذية، وتحاول بالتعاون مع مبادرات تطوعية أخرى تأمين وجبات الطعام والملابس وأدوات القرطاسية لهم، إذ تمكنت بصعوبة من توفير لوح للكتابة في خيمتها وكذلك توزيع الأقلام والدفاتر على الطلبة. تقول آلاء إن أهالي المخيم يحاولون مساعدتها في تأمين احتياجات الطلبة ويرسلون أبناءهم للخيم التعليمية رغم خطورة الطريق، إذ يثقون في جودة التعليم المقدم لأطفالهم في ظل كثرة المبادرات الترفيهية، وعمليّته مقارنة بخيارات أخرى مثل التعلم عن بعد، إلا أن المبادرات برأيها غير قادرة على تغطية الفاقد التعليمي والدمار الهائل في البنية التعليمية دون خطة رسمية شاملة.
التعليم الوجاهي في مراكز الإيواء
مطلع آب الماضي، أطلقت الأونروا أنشطة «العودة إلى التعلم» في مدارسها التي تحولت إلى مراكز إيواء وعددها 183 مدرسة. وقال مدير الأونروا في غزة حينها إن «الأطفال في غزة يعانون من الصدمات النفسية (..) ونحن نطلق برنامج العودة إلى التعلم اليوم لمساعدة الأطفال على التأقلم»، مضيفًا أن البرنامج في مرحلته الأولى سيقوم بتوسيع أنشطة الدعم النفسي الاجتماعي، مع التركيز على الفنون والموسيقى والرياضة، بالإضافة إلى التوعية بمخاطر الذخائر المتفجرة، ثم سينتقل في مرحلته الثانية ليشمل أنشطة تعليمية غير رسمية، مع دروس في القراءة والكتابة والرياضيات.
خصصت الأونروا غرفًا صفية داخل مراكز الإيواء التابعة لها لعقد الأنشطة التعليمية على فترتين؛ صباحية ومسائية، بواقع ساعة واحدة لكل صف دراسي «من أجل توفير مساحات آمنة للعب والتعلم والنمو ولمّ شملهم مع أصدقائهم القدامى وتكوين صداقات جديدة». يعلّق أحمد زقوت، والد أحد الأطفال في غزة، على البرنامج قائلًا: «بدي إبني برجع يتعلم كيف يكتب اسمه»، معتبرًا أن أنشطة القفز عن الحبل والتلوين التي نظمتها الأونروا في إحدى المدارس شغلت طفله البالغ من العمر سبع سنوات عن الدمار والموت لساعات قليلة، لكنها لا تقدم تعليمًا جادًا يعالج تراجع المستوى التعليمي للطلبة الناتج عن الحرب.
لاحقًا استضافت الأونروا في غرفها الصفية العديد من المبادرات التعليمية والترفيهية التي سبق وبادر بها معلمون ومتطوعون من أجل تقديم مساحات تدريسية لهم واستقبال الأطفال بشكل منتظم. تقول المعلمة آلاء حسونة إن العمل ضمن أنشطة الأونروا التعليمية أتاح لها تجاوز أزمة التنقل بين المخيمات ومراكز الإيواء، حيث تستقطب عشرات الطلبة في ممر مدرسة في مخيم خان يونس حولته إلى غرفة صفية، استكمالًا لمبادرتها التي أطلقتها في أيار الماضي بهدف تعليم الأطفال بعض المهارات الحياتية والعلوم وتقديم الدعم النفسي والمعرفي لهم.
ينسحب هذا الحال على مراكز الإيواء غير التابعة لوكالة الأونروا، إذ قامت بعض المبادرات باستكمال الدراسة في بعض المدارس الحكومية بالتعاون مع النازحين ووزارة التربية والتعليم في غزة. يتولى المعلم محمد معين الخضري، على سبيل المثال، مسؤولية إدارة التعليم الوجاهي في مدرسة الخير الأساسية المشتركة في غزة في محاولة لمحاكاة العملية التعليمية واستكمال الدروس لطلبة المرحلة الأساسية بعد أن قضى أشهرًا في التدريس المستقل ضمن مبادرته «الجسد الواحد».
تتفاوت تجارب التعليم الوجاهي في مدارس غزة، لكنها تعاني جميعًا من نقص أدوات القرطاسية والغرف الصفية جراء النزوح أو الدمار، وقلة الكوادر التعليمية. يقول الخضري إن المعلمين المتطوعين والعاملين في المبادرات والأنشطة التعليمية يواصلون عملهم بدافعٍ وطني، إلا أن الحاجة تزداد لتوفير مقابل مالي لضمان استمرارية عملهم في بيئة تعليمية سليمة في ظل التزاماتهم المعيشية الأخرى. يضاف لهذه التحديات، استمرار العدوان وارتفاع معدلات استشهاد وإصابة الأطفال، إذ دفعت الغارات الجوية المعلمين لوقف الأنشطة التعليمية في بعض هذه المدارس.
في هذه الظروف، يرى معلمو غزة أن مستقبل التعليم واستمراريته مرتبط بشكل وثيق بالتوصل لوقف إطلاق نار يمكّن الجهات المعنية من إعادة إعمار المدارس وإرساء الخطط التي تعوض الفاقد التعليمي الحاصل وتعزز أدوار الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين. ويرى بعضهم أن على مبادرات التعليم المختلفة في غزة ومحاولات إعادة إعمار القطاع القادمة أن تأخذ في الحسبان الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية والصحية الجديدة، إذ يقضي آلاف الأطفال وقتهم في الوقوف على طوابير الطعام والمياه، وفقد ما لا يقل عن أربعة آلاف طفل أطرافهم، كما تعرّض معظمهم لصدمات نفسية حادة. علمًا أن المبادرات التعليمية والشعبية الحالية لا تستطيع تلبية احتياجات الطلبة في المراحل الدراسية المتقدمة، بما فيهم 39 ألف طالبًا حُرموا من امتحانات الثانوية العامة.
ختامًا، كانت الوزارة قد قررت احتساب هذه السنة بسنتين دراسيتين، أي سيجري ترفيعهم تلقائيًا للسنة الدراسية اللاحقة مع منحهم شهادات بذلك. لكن الأهالي والمعلمين يأخذون على عاتقهم المسؤولية التعليمية إيمانًا بضرورة مواجهة مساعي الاحتلال الإسرائيلي في تجهيل أطفال القطاع، وسعيًا لمساعدتهم على تجاوز الصدمات التي عاشوها بعد فقد أقربائهم وأصدقائهم. ويؤكد المشرفون على المبادرات على استمرارهم في تقديم الحصص حتى لو فوق الركام وفي ممرات مراكز الإيواء وداخل الخيام.
تقول رانية إنها تجد في الوقت الذي تقضيه في تدريس أبنائها فرصة «ليشبعوا من بعضهم البعض قبل أن يفرقهم الموت لا سمح الله»، وأنها تسعى لإنقاذ ما تبقى من مستقبل الأطفال وأحلامهم: «كل ما يحكي عبيدة حاء حرب، بحكيله: لأ، حاء حرية».
1) أعلنت الأونروا منتصف كانون الأول الماضي بدء برنامج التعلم عن بعد بهدف استكمال العملية التعليمية مطلع عام 2025.
* اسم مستعار حفاظًا على الخصوصية.