نشر المقال بالإنجليزية في مجلة إيون في التاسع من أيار 2023.
يعود تشبيه مرض السرطان بالعدو الشرس لأكثر من قرن مضى. خلال الحرب العالمية الأولى، كتب آر إتش بيشوب جونيور، مفوّض الصحة في كليفلاند؛ «لفهم أفضل لهذا الشيء المخيف الذي نعرفه باسم السرطان، فلنقارنه بالحرب، يطلق على البروسيّة أنها نمو سرطاني يحاول القضاء على الأمم الأخرى في أوروبا. وبالنسبة للسرطان فهو بحد ذاته نمو غير شرعي لخلايا الجسم، وإذا ما سمح لهذا النمو أن يأخذ مجراه، فسيدمر الحياة».
في بدايات القرن العشرين -وعندما كان يطلق على مرضى السرطان اسم «الضحايا» قبل وقت طويل من أن يصبح التعافي ممكنًا للكثير منهم- اكتسبت فكرة اللجوء لحملات الحرب ضد السرطان جاذبية كبيرة بين الأطباء المختصين وفاعلي الخير. ومع ذلك، فإن الأشخاص رغم تعايشهم مع هذا المرض نادرًا ما هزموا السرطان. فالقتال لم يكن خيارًا بالنسبة لآلاف المصابين بالمرض الذين توفي معظمهم خلال سنة أو سنتين من التشخيص المتقدم. فلم يكن لمرضى السرطان والأطباء معلومات كافية وقتها، وكانت الفحوصات التشخيصية شحيحة والعلاجات المعتبرة قليلة. وفي أغلب الأحيان لم يخفف عن مرضى السرطان إلا لمن حالفه الحظ بالحصول على مسكنات الألم.
في الظروف الحالية التي تبدو واعدة أكثر من قبل، تستهوي «الروح القتالية» العديد من الأشخاص الذين يعانون من السرطان، وبالنسبة لبعض مرضى السرطان الذين أعرفهم، من المهم أن نقول لهم ولمن حولهم أن يحاولوا استجماع قواهم العاطفية والجسدية لفعل كل ما بوسعهم كي يعيشوا لفترة أطول. قد يستخدم البعض منهم عبارات قتالية لتشجيع أنفسهم، مثل «يمكنك التغلب عليه» والتي تستخدم كتحفيز قبل وأثناء تلقي علاج السرطان، رغم معرفتهم التامة أن نتائج العلاج قد تكون خارج نطاق سيطرتهم.
مع ذلك، فقد خرجت المفردات الحربية من أفواه الأطباء وعلماء النفس والمدافعين عن حقوق المرضى عند الحديث عن محاربة السرطان بدلًا من التعامل معه، وبحكم أنني طبيبة أورام مزاولة فأنا أتجنب استخدام هذه اللغة. حيث تبدو الاستعارات الحربية غير مناسبة في وصف البحوث عن السرطان ورعاية المرضى. وقد تداركتُ بنفسي هذا الخطر، فإذا لم ينجح العلاج أو تضاعف حجم الورم، قد يلوم المرضى الذين بني عندهم الاعتقاد الافتراضي بأنهم يقاتلون السرطان أنفسهم، وهم يعتقدون خطأً أنهم كانوا يفتقرون إلى القوة والإرادة الكافية، في حين يكون الفشل في العلاج هو السبب.
وبغض النظر عن الطريقة التي يميل فيها المرضى ومقدمو الرعاية للحديث عن السرطان، فإن تاريخ استخدام اللغة القتالية حول المرض أسهم في تشكيل مواقفهم. ومن أجل فهم أفضل لأسباب شيوع المفردات القتالية حول السرطان اليوم، ولماذا ابتعد العديد من الخبراء عن استخدامها كثيرًا، معربين عن قلقهم حول قدرتها على إثقال كاهل المرضى بدل مساعدتهم. يستحق الأمر أخذ نظرة حول صعودها إلى الواجهة في الولايات المتحدة الأمريكية خلال القرن المنصرم وما تلاها من نقاشات.
احتلت صورة السيف الذي يقتل السرطان مكانة مركزية ضمن الصور الفائزة التي اختيرت من قبل لجنة مكافحة السرطان في مدينة نيويورك في مسابقة اللوحات الإعلانية عام 1928، حيث يظهر النصل الذي ينبثق من مقبض مصمم على شكل عصا هرمس فوق شعار «حارب السرطان بالمعرفة»، ومثلت هذه الصورة الجريئة رسالة المنظمة الأم للجنة نيويورك وهي الجمعية الأمريكية لمكافحة السرطان والتي ستصبح فيما بعد الجمعية الأمريكية للسرطان. وبعد تلقيهم ألف مشاركة، منح الحكام الجائزة الأولى مع 500 دولار لفنان من بروكلين يدعى جورج إي دورانت، عن لوحته هذه. وبعد ذلك بعقود استخدمت جمعية السرطان السيف في شعاراتها وفي حملات جمع التبرعات.
لوحة إعلانية بعنوان «حارب السرطان بالمعرفة» (حوالي عام 1937)، بإذن من الجمعية الأمريكية لمكافحة السرطان.
عندما أقرّ الكونجرس الأمريكي قانون إنشاء المعهد الوطني للسرطان وصادق الرئيس فرانكلين روزفيلت على ذلك، أعلنت صحيفة الواشنطن بوست في عنوان رئيسي: «تم اعتماد «قهر السرطان» باعتباره صرخة معركة من أجل خدمات الصحة العامة»، في التقاطة للمشاعر السائدة بأن القضاء على السرطان يستحق جهدًا يشبه الحرب. حيث أفادت الصحيفة أن الفرع الأحدث لخدمات الصحة العامة الأمريكية سيجابه هذا المرض الخبيث على جبهتين، سيقوم باحثو المعهد بالتنقيب في أسباب المرض والعلاجات المحتملة، بينما سيقوم الأطباء الممارسون بتوسيع نطاق العلاجات المعتمدة في المناطق التي تفتقر إلى المرافق والمعرفة الطبية.
في ذلك الوقت، سعى معظم الأشخاص المصابين بالسرطان للحصول على الرعاية الطبية المشروعة بعد انتشار المرض فقط، وهذا إن فعلوا ذلك على الإطلاق. وبسبب «الخوف من العملية الجراحية» أُجلّت الاستشارات الجراحية للعديد منهم حتى فوات الأوان. وفي ظل غياب الأدوية الفعالة لعلاج السرطان ازدهرت تجارة الدجالين الذين يبيعون علاجات وهمية.
وعلى خلفية ذلك، لم يشر شعار «حارب السرطان بالمعرفة» لبيولوجية المرض أو الفحوصات المخبرية حوله، وإنما لفهم عامة الناس لهذا المرض وعلاجه الملائم. حيث كان البحث الطبي كما نعرفه الآن في مهده، ولم يكن في الغالب أولوية لدى الجمعية الأمريكية لمكافحة السرطان إلا بعد الحرب العالمية الثانية. وعوضًا عن ذلك هدفت الجمعية إلى تثقيف الناس حول السرطان حتى يتسنى اكتشاف الحالات في وقت مبكر، وعندما تكون العلاجات الناشئة -وخاصة الجراحة والعلاج الإشعاعي- شافية، عدا عن شيوع عبارة «لا تتأخر»، حيث أكد الخبراء المنتسبون إلى جمعية السرطان أن الدفاع ضد الأورام الخبيثة يعتمد على معرفة عامة الناس بأن السرطان يمكن شفاؤه إذا ما عولج بسرعة، وبالتعرف إلى أعراضه من خلال «علامات الخطر» والإلمام بالرعاية المناسبة.
وفي سبيل تحقيق مهمتها، رعت الجمعية الأمريكية لمكافحة السرطان الجيش الميداني النسائي، وهي منظمة شعبية ذات طراز عسكري، نشرت الأدبيات حول مناهضة السرطان وجمعت التبرعات من أجل المجتمع. وبحلول عام 1939، وبقيادة القائدة الوطنية الفذة مارجوري إليغ، ضمت الشبكة النسائية جحافل من القادة العسكريين على مستوى الإقليم والولايات والمدن، والنواب وممثلين عن القادة والمساعدين، والرواد الذين أشرفوا على النقباء، والملازمين والرقباء والعرفاء ومئات آلاف القوات. وكان المتوقع من كل مجند لدعم هذه القضية أن يدفع دولارًا واحدًا كرسوم للتجنيد.
وبينما كانت تلوح في الأفق حرب عالمية أخرى، انخرط الجيش الميداني النسائي في الخطابات البلاغية العسكرية. ففي شباط 1938، على سبيل المثال، تحدثت إليغ مع عضو الكونجرس الأمريكي إديث نورس روجرز عبر فقرة إذاعية بعنوان «أيتها النساء، تجندن، هذه حربكن»، في إشارة إلى الصراعات القائمة في إسبانيا والصين، حيث قالت إليغ: «حربنا هذه مختلفة في طابعها، نحن لا نستخدم الحراب أو الدبابات أو المدافع الرشاشة، أسلحتنا هي النشرات والمحاضرات، نحن نقاتل بالحقائق وأهدافنا العسكرية هي التغلب على الخوف والجهل».
وكما لو كنّ في حالة حرب ارتدت قائدات الأقاليم في الجيش الميداني النسائي زيًا بنيًا باهتًا.
القائدة الوطنية للجيش النسائي الميداني مارجوري إليغ (تجلس الثالثة من اليسار) مع القائدات الإقليميات بالزي الرسمي، عام 1942. بإذن من الجمعية الأمريكية للسرطان.
بقيت استعارة المعركة عالقة، فمنذ أواخر الأربعينيات قدمت «حملة السرطان» السنوية التي نظمتها جمعية السرطان الأمريكية -ورمزها السيف- تبرعات بملايين الدولارات. وبينما سعى العلماء وقتها إلى تطوير المركّبات المشعة لعلاج السرطان، أشادت الصحف بهذه الجهود تحت عناوين مثل «المستشفيات تخصص ذرات «القنابل» لمكافحة السرطان»، حيث استدخل القرّاء هذه الاستعارات من القصص مثل قصة «المعركة الطويلة والبطيئة مع السرطان» والتي نشرت في مجلة هاربر عام 1952، ومقالة «أسلحة جديدة لمكافحة سرطان الثدي» والتي نشرت في مجلة بيت السيدات عام 1962.
غالبًا ما نسبت عبارة «الحرب على السرطان» إلى الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بمناسبة توقيعه على القانون الوطني للسرطان عام 1971، رغم أن هذا التعبير سبق ذلك بعقود. ففي حديثه بحفل في البيت الأبيض في كانون الأول عام 1971، قارن الرئيس نيكسون وفيات الأمريكيين بسبب السرطان بأولئك الذين فقدوا حياتهم في حروب أخرى، حيث قال: «نجد أن عدد الأشخاص الذين يموتون كل عام بسبب السرطان في الولايات المتحدة الأمريكية، يفوق عدد الأمريكيين الذين فقدوا حياتهم في الحرب العالمية الثانية». كان نيكسون وقتها، يأمل أن يؤدي إعلان عيد الميلاد إلى صرف انتباه الرأي العام عن الحرب الحقيقية المندلعة في فيتنام.
ورغم أن قِلة من الناس في ذلك الوقت اعترضوا على استحضار صور الحرب عند مناقشة مرض السرطان، فقد كتبت لوسي أيزنبرج مقالًا ذلك العام لصالح مجلة هاربر تحت عنوان: «حرب عصابات أم هجوم واسع النطاق: أي استراتيجية للحرب ضد السرطان؟» حيث كان العلماء يعارضون بصمت فكرة «هزيمة السرطان» وانتقالها تشريعيًا من خلال الكونجرس عام 1971، وأضافت: «يزعم أنصار هذه الفكرة وأغلبهم من عامة الناس أن الاختراقات في مجال السرطان أصبحت وشيكة، وأنه مع توفر المال الكافي وتقنيات الإدارة السليمة، يستطيع الإنسان هزيمة السرطان تمامًا كما قام بشطر الذرة والهبوط على القمر، ولكن العلماء أنفسهم يشككون في هذا الافتراض».
تساءلت أيزنبرج في مقالها عن السبب وراء قيام الكونجرس الأمريكي بتنفيذ «برامج مكثفة» لتسريع وتيرة أبحاث السرطان الفيدرالية بدلًا من توفير دعم أكثر ثباتًا وربما أقل إهدارًا للأبحاث الأساسية، مجيبة عن ذلك: «بُهِرَ الكونجرس بالمفردات الحربية، فبعد انغماسه في سعار خطابي في الحديث عن «الألم والمعاناة العالميين» و«التغلب على عدو عنيد»، تم التغاضي عن مجالات الجهل الكبيرة بشأن السرطان والتي لا تزال قائمة».
تصاعدت انتقادات مقولة «الحرب على السرطان» بعد عام 1975، عندما نشرت مجلة كولومبيا جورناليزم ريفيو مقالًا بقلم الصحفي الطبي دانييل إس غرينبرج، مفتتحًا مقاله بـ«مع تسارع ما يسمى بالحرب الفيدرالية على السرطان، التي دخلت الآن عامها الثالث، من المفيد التأمل في أوجه التشابه الغريبة والشنيعة، والتي بدأت تظهر في نقل أحداث هذه الحرب والتقارير المنقولة في بداية حرب فيتنام»، وكما أكد غرينبرج «وخلافًا للإحصائيات الإيجابية والتقارير المتفائلة التي نشرتها الجمعية الأمريكية للسرطان، كان التقدم ضد السرطان ضئيلًا ويعزى بشكل رئيسي إلى التقدم الجراحي الذي تم إحرازه قبل عام 1955»، وذكر أيضًا أنه رغم أن أبحاث السرطان تكلف الحكومة مبالغ طائلة، فإن الحكومة «لها سياساتها الخاصة، ومصالحها المكتسبة، وفصائلها المتحاربة، وعدّتها المعلوماتية [التي تقدمها] للعامة».
مناشدة لجنة مواطنين من أجل هزيمة السرطان في صحيفة الواشنطن بوست عام 1969، بإذن من المكتبة الوطنية للطب.
ومع ذلك، ظلت لغة الحرب تحظى بشعبية إلى ما بعد عام 1978، حينما شجبت سوزان سونتاغ هذه اللغة في كتابها «المرض كاستعارة». حيث أنهت سونتاغ وقتها علاجات سرطان الثدي العنيفة كالاستئصال الجذري للثدي والعلاج الكيميائي والعلاج المناعي التجريبي. وجادلت سونتاغ بأن «التفكير المجازي في المرض يحجب عقلانية المرضى». وكتبت أن «تصور السرطان كعدو شيطاني، يدعم بشكل واضح مفاهيم العلاج الصارمة»، مضيفة أنه «إذا اعتبر جسد المريض معرضًا للهجوم أو (الغزو)، فإن العلاج الوحيد هو الهجوم المضاد».
وفي إشارة إلى وجهة نظر غرينبرج، كتبت سونتاغ: «إن التشكيك في الخطابات البلاغية التي تحيط السرطان مسألة، وتقديم الدعم للعديد من الأطباء غير المُطَّلعين الذين يصرّون على أنه لم يتم إحراز أي تقدم كبير في العلاج هي مسألة أخرى».
تكمن الحقيقة بشأن السرطان بين «التشويه المزدوج» للخطابات البلاغية العسكرية، حيث تشيد مؤسسات السرطان الأمريكية «دون كلل بالنصر الوشيك على السرطان»، وبين تشاؤم المختصين الذين يتحدثون «مثل الضباط المنهكين من المعركة».
اعتنق مؤثرون آخرون كانوا مرضى بالسرطان لغة الحرب كذلك حيث وجدوها تمكينية، فكانت النسوية السوداء والشاعرة أودري لورد صريحة في رغبتها بأن ينظر لها على أنها محاربة للسرطان، حيث كتبت في مجلة السرطان عام 1980 بعد خضوعها لعملية اسئصال للثدي في أواخر السبعينيات «النساء المصابات بسرطان الثدي، محاربات»، كما أنها رفضت الضغوطات لوضع ثدي اصطناعي ما بعد الجراحة، ففي مجتمع السود كان السرطان مخفيًا في كثير من الأحيان، وأكدت أن جعل الجروح غير مرئية يعزل مرضى السرطان ويضعفهم.
ألهمت كلمات لورد الرسالة التي أشاعها مرضى نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) بعد بضع سنوات أن «الصمت يعني الموت»، فكتبت: «إذا أردنا أن نترجم الصمت المحيط بسرطان الثدي إلى قول وعمل ضد هذه المصيبة، فإن الخطوة الأولى هي أن تصبح النساء اللاتي خضعن لعملية استئصال الثدي مرئيات لبعضهن البعض، لأن الصمت والاختفاء يسيران جنبًا إلى جنب مع العجز».
بعد مظاهرات عامة نظمها «تحالف الإيدز لإطلاق عنان القوة»، أصبح بعض المدافعين عن مرضى السرطان نشطاء، وأدركوا أنهم بحاجة إلى النضال من أجل تسريع وتيرة الأبحاث وتحسين الرعاية والقدرة على الوصول إلى العلاج.
في الثمانينيات أصبح تعبير «قتال» السرطان يشير إلى دور نشط وجريء للمرضى بألّا يضطروا إلى المعاناة بشكل قاسٍ، وأن معرفتهم وخياراتهم يمكن أن تحدث فرقًا. فعندما شخصت إصابة ريتشارد بلوخ، أحد مؤسسي شركة الضرائب إتش أند آر بلوك، بسرطان الرئة لأول مرة، قال الأطباء إن حالته ميؤوس منها، لكنه قام باستشارة أحد المتخصصين في مستشفى إم دي أندرسون في هيوستن وكان محظوظًا. وبعد إجرائه الجراحة، بقي على قيد الحياة لأكثر من عقدين من الزمن. شارك بلوخ في تأليف كتاب بعنوان «قتال السرطان» عام 1985، وقام برعاية خط ساخن للمعلومات وأنشأ مؤسسة لمساعدة المتضررين، وشجع جميع مرضى السرطان على طلب آراء ثانية قبل «الاستسلام للمرض».
ومن وجهة نظر بلوخ إن قتال السرطان يتطلب البحث عن المعلومات، حيث لاحظ أن بعض الأطباء لم يواكبوا أحدث المعارف، وأنهم يقومون بتوصية المصابين بالسرطان «بالعودة إلى منازلهم، وأن يكونوا مرتاحين قدر الإمكان»، وأوضح «أنا لا أقول إن الجميع قادرون على التغلب على السرطان، من المؤكد أن بعض الناس سيموتون منه، بغض النظر عما فعلوه [لقتاله] .. ولكن إذا لم يحاول المرء فلا توجد طريقة للتغلب عليه».
تلقت الممثلة الكوميدية جيلدا رادنر، وهي من أبرز مقاتلي السرطان في تلك الحقبة، علاجًا كيميائيًا قاسيًا لسرطان المبيض قبل وفاتها عن 42 عامًا. وقبل أن تضع مجلة لايف صورة رادنر على غلافها عام 1988، أرسل لها المحررون صورة لها. «بدا الأمر أشبه بـ«التأقلم مع السرطان» بالنسبة لي»، هذا ما شاركَته في مذكراتها التي تحمل عنوان «إنه شيء دائمًا» عام 1989. وكتبت «لم أكن أرغب في الحصول على غلاف خاص بـ«التأقلم مع السرطان» لأن هذه ليست الطريقة التي أتعامل بها، فأنا لم أكن أتأقلم، لقد كنت أقاتل».
رفض العديد من الأطباء استخدام اللغة العسكرية في سياق المرض بسبب تداعياتها النفسية المحتملة، فعدم استجابة الشخص لعلاج السرطان أو حدوث انتكاسات أو حتى الوفاة قد يشير بشكل خاطئ إلى أنه لم يبذل قصارى جهده بما فيه الكفاية وأنه كان «ضعيفًا» ومسؤولًا بطريقة ما عن الاستسلام لمرضه. وقد يلوم أحباب المرضى مرضاهم بوعي أو من غير وعي إذا ما كانت حالتهم سيئة بعد التشخيص، وفي النهاية يلوم المرضى أنفسهم.
يَحذَر الأطباء اليوم عمومًا تجاه تأطير السرطان على أنه عدو يجب على المرء هزيمته شخصيًا، «عندما نتحدث عن «المعركة»، نحن نقلل من المشاكل الحقيقية التي يواجهها المرضى كل يوم».
بحثت دراسات سريرية قليلة بكل صرامة علمية، احتمالية وجود علاقة بين سلوكيات مرضى السرطان ونجاتهم، ففي حزيران من عام 1985، نشرت مجلة نيو إنجلاند الطبية تحليلًا استباقيًا لعدة مئات من مرضى السرطان، أجرته عالمة الاجتماع باري كاسيليث وزملاؤها في مركز السرطان بجامعة بنسلفانيا. وخلص الباحثون إلى أن «بيولوجية المرض تبدو المهيمنة» على الأشخاص المصابين بالسرطان، و«تتجاوز التأثيرات المحتملة لنمط الحياة والمتغيرات النفسية الاجتماعية» مثل اليأس. ففي افتتاحية المجلة ونقلًا عن تلك الدراسة، انتقدت مارسيا أنجيل المفاهيم الشائعة حول الأسباب النفسية للسرطان وتطوره، فكتبت «وجهة النظر التي تنسب الفضل للمرضى في التحكم بمرضهم تعني أيضًا لومهم على تطور المرض»، وتولد عن هذه الافتتاحية استجابات هائلة وردود فعل غير محبذة في الرسائل المنشورة.
وفي تشرين الأول عام 1985 دخل الصحفيون في خضم إثارة النقاش، حيث نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالتين صحفيتين حول هذا الجدل لعالم النفس دانييل جولمان والذي كتب في القسم العلمي من الصحيفة: «خلص بعض الباحثين إلى أن مرضى سرطان الثدي، على سبيل المثال، الذين يشعرون بالانزعاج علنًا ويظهرون روحًا قتالية بقولهم «سوف أهزم هذا الشيء!» يحشدون دفاعات مناعية أقوى ضد انتشار المرض ويكونون أكثر قدرة على النجاة من أولئك الذين يأخذون مذهب الرواقية».
لفت جولمان في مقالاته انتباه رئيسة قسم الطب النفسي في مركز ميموريـال سلون كيترينج للسرطان في نيويورك، جيمي هولاند، و وعالم النفس مورتون بارد، وفي رسالة إلى التايمز بعدها بشهر، كتبت هولاند وبارد: «يتم إمطار مرضى السرطان بوابل من المعلومات مفادها أن المواقف السلبية تجاه المرض تعجل الوفاة، بينما يجب الحفاظ على المواقف الإيجابية -والتي يصعب الإبقاء عليها أحيانًا عند الشعور بالمرض- للتحكم به. حيث تساهم الروح القتالية والتفاؤل في تحقيق العافية والشعور بالسيطرة على الوضع الصحي (..) ومن ناحية أخرى، يبدو أن المرضى الذين يتطور لديهم السرطان يُلامون لأنهم لم يبذلوا جهدًا كافيًا. وما يتبع هذه الإيديولوجيا المعروفة والتي يتم تطبيقها على مشاكل كالفقر والجريمة، في إلقاء اللوم على الضحية عندما لا يمكن العثور على أي تفسير».
كرّست هولاند حياتها المهنية في مجال علم الأورام النفسي وتحدثت عن «طغيان التفكير الإيجابي»، وبعدها بسنوات في مقابلة عبر شبكة سي بي إس قالت «إن الفكرة في قدرتنا على التحكم بالمرض والموت، من خلال عقولنا تثير رغباتنا الدفينة، لكن الأمر ليس كذلك».
احتدم النقاش بعدها، ففي عام 1999 وعندما نشرت مجلة لانسيت بعض الأدلة على أن النساء المصابات بسرطان الثدي في المراحل المبكرة واللواتي عانين من الاكتئاب وسجلن درجات عالية على مقياس الشعور بـ«العجز واليأس»، كنّ أكثر عرضة للوفاة في غضون خمس سنوات. لم تدعم دراسات أخرى -رغم محدوديتها- وجود صلة بين الحالة النفسية والنجاة من السرطان. وقام باحثون في مجموعة علاج الأورام بالإشعاع وبقيادة عالم النفس جيمس كوين، باستطلاع آراء أكثر من ألف مريض مصاب بسرطانات الرأس والرقبة لدراسة ما إذا كانت حالاتهم العاطفية كالحزن قد تؤثر على النتائج الطبية. لم يجد كوين وزملاؤه في تحليل نشرته مجلة السرطان عام 2007 أي علاقة بين بقاء مرضى السرطان على قيد الحياة وعافيتهم العاطفية، وكتبوا أن «هناك اعتقاد بأن العافية العاطفية تؤثر في نجاة المرضى، رغم أن هذا الاعتقاد كان صامدًا في مواجهة البيانات المناقضة له».
أعلم كطبيبة أنه لا توجد عقلية قاهرة للسرطان، ولذلك أفضل تجنب لغة المعركة، ولكن إذا أراد أي شخص القول إنه يحارب مرضه، فربما لا بأس في ذلك، طالما أنه وأطباؤه واضحون بهذا الشأن، ولا يخدعون أنفسهم بالاعتقاد بأنهم يتحكمون في نتائج العلاج بمواقف وأفكار متفائلة.
يَحذَر الأطباء اليوم عمومًا من تأطير السرطان على أنه عدو يجب على المرء هزيمته شخصيًا، كتب كل من الطبيبين لي إليس وتشارلز بلانك والناجية من السرطان والمدافعة عن حقوق المرضى نانسي بلوش في عدد عام 2015 من مجلة الجمعية الطبية الأمريكية «إن استعمال استعارة المعركة يشير إلى مستوى من السيطرة لا يتمتع به المرضى ببساطة»، مضيفين: «عندما نتحدث عن «المعركة»، نحن نقلل من المشاكل الحقيقية التي يواجهها المرضى كل يوم، يتعامل المرضى مع الغثيان والألم والتعب وفقدان الوزن، وفي بعض الأحيان يتغلبون على هذه الأعراض، بالإضافة إلى معاناتهم من العزلة التي تأتي مع التشخيص. وبالنسبة لأولئك الذين لديهم احتمالات تعافٍ من المرض، فإنهم يعيشون في الخوف من عودة المرض وآثاره الجانبية المزمنة».
وأشاروا أيضًا بأن «الرغبة المستمرة في كسب المعركة» قد تمتد إلى الأطباء، حيث تكون رغبة أطباء الأورام في «الانتصار» على السرطان مؤذية لمرضاهم إذا كانوا يميلون إلى وصف علاجات قاسية وشرسة وبشكل غير مناسب. عدا عن تردد المرضى الذين يأملون في «التغلب» على السرطان، في القبول بالرعاية التلطيفية ورعاية نهاية الحياة.
أعلم كطبيبة أنه لا توجد عقلية قاهرة للسرطان، ولذلك أفضل تجنب لغة المعركة، ولكن إذا أراد أي شخص القول إنه يحارب مرضه، فربما لا بأس في ذلك، طالما أنه وأطباؤه واضحون بهذا الشأن، ولا يخدعون أنفسهم بالاعتقاد بأنهم يتحكمون في نتائج العلاج بمواقف وأفكار متفائلة. فمرضى السرطان لديهم أساليب وفلسفات مختلفة، فما يساعد أحدهم قد يكون مؤذيًا لآخر.
أثناء انخراطي في العمل كصحفية قبل عدة سنوات، دُعيت إلى مناسبة لجمع التبرعات بعنوان «صانعو القش من أجل الأمل» وكانت عبارة عن مباراة ملاكمة للهواة في ماديسون سكوير جاردن، لم يسبق لي الذهاب إلى مباراة ملاكمة أو مشاهدة إحداها على التلفاز بسبب العنف المتضمن فيها، ولكنني انجذبت إلى رمزيتها، سيتقاتل المشاركون حرفيًا، من أجل جمعيات السرطان الخيرية التي اختاروها، كانوا يتدربون ويتمرنون لعدة أشهر كي يلكموا ويضربوا بعضهم من أجل قضية سامية. لم أكن متأكدة من قدرتي على التعامل مع الأمر. وتذكرتُ كتاب ليزلي جاميسون «اختبارات التعاطف» (The Empathy Exams) حيث تتحدى المؤلفة نفسها وتعاطفها مع أناس تقابلهم ولهم معتقدات وسلوكات مغايرة عن معتقداتها وسلوكياتها. وفي هذه المناسبة، أجريت مقابلات مع ملاكمات فقدن أصدقاءهن بسبب المرض، كان يطلق عليهن «فتيات الخاتم»، وكن أيضًا ناجيات من السرطان. مَن أنا لأنتقدهن؟
تعاظم التقدم في مواجهة السرطان خلال العقود الأخيرة، سواء تم عزو ذلك إلى حملات «الحرب على السرطان» الممولة فيدراليًا والتي أطلقت خلال إدراة نيكسون، أو إلى العمل الثابت والمتزايد للعلماء على مدار نصف القرن الماضي (بما في ذلك الاستثمارات الخيرية والحكومية واستثمارات الشركات والتي حدثت على كل الأحوال)، أو لكليهما، فمن المستحيل معرفة ذلك، ولكن المكتسبات لا يمكن إنكارها. ففي عام 1975 كان معدل الوفيات الإجمالي بسبب السرطان في الولايات المتحدة الأمريكية 199 وفاة لكل مائة ألف من السكان، وارتفع هذا المعدل وبلغ ذروته عام 1991 عند 205 وفاة. وانخفض منذ ذلك الحين بشكل مطرد إلى 144 وفاة لكل مائة ألف من إجمالي السكان حتى عام 2020، وهذا انخفاض بنسبة 28% منذ عام 1975.
في عام 2016 أنشئ برنامج كانسر مون شوت (Cancer Moonshot) الأمريكي والذي قدم وعودًا بمزيد من التقدم في مجال السرطان، ومع ذلك، انتقد البعض، مثل جيفري كلوجر في مجلة تايم هذا النهج، وشبهه بالعودة إلى «الحرب على السرطان».
اليوم، ومع توافر الأدوات التشخيصية بشكل أفضل، والعوامل المناعية والعلاجات الموجهة للسرطان، فإن ما يهم أكثر هو ما نقوم به على المستوى المجتمعي لمساعدة الأشخاص المصابين بالسرطان. والسؤال الملح إذا ما كنا على استعداد لتمويل جهود متكاملة لمساعدة المصابين، من خلال بحوث أكثر شمولية وتقديم الرعاية للمرضى. هنا قد تكون الاستعارات العدائية أكثر ملاءمة بعد أن يصبح العلاج ممكنًا، وسوف يتطلب ذلك معركة سياسية لخفض أسعار أدوية السرطان وضمان حصول جميع المرضى على فرص متساوية في الوصول للعلاجات التي يحتاجونها.