حكاية الثائر الذي أضاع اسمه

الأربعاء 11 آب 2021
فلسطيني يعبر بجانب حرس حدود إسرائيلي خلال مظاهرة نظمتها حماس في 7 كانون الأول 1993. تصوير عوض عوض. أ ف ب.

على أطراف مدينة رام الله، في الطابق الثاني من عمارة قديمة حجارتها متآكلة، قرعتُ الجرس منتظرًا الإجابة. دخلتُ إلى المنزل مرتبكًا من اللقاء، أو لعلّي كنت قلقًا من تحية لم أعرف كيف سألقيها. لم أكن أعرف ما الاسم الذي يجب أن أُسمّيه به، عرفته لسنواتٍ طويلة باسم «عثمان»* قبل أن أعرف من أحدِهم أنَّ هذا الاسم الذي رافقه منذ دخوله إلى فلسطين مع العائدين بعد اتفاقية أوسلو لم يكن اسمه الحقيقي. اختلطت التسمية، فتجاوزتها وحييته بتحية محايدة، وباشرنا الحديث كأن كلينا عرف المعضلة وتغاضى عنها.

بدأتْ قصة الاسم بعد توقيع السلطة الفلسطينية لاتفاقية أوسلو، إذ مُنِع عبد القادر،* وهو أحد المناضلين الذين شاركوا في مقاومة الاحتلال مع الكتيبة الطلابية في لبنان، من العودة إلى فلسطين المحتلة مع العائدين. كان شقيقه أيضًا من الذين شاركوا مع المقاومة الفلسطينية في لبنان، واستشهد هناك وبقي جثمانه مدفونًا في ترابها. استخدم عبد القادر أوراقه للعودة إلى الأراضي الفلسطينية، وأصبح لاحقًا يُعرف باسم عثمان، وهو اسم أخيه الشهيد.

عن الالتحاق بالثورة

سافر عبد القادر إلى الأردن مع عمّه ولمّا يبلغ 15 عامًا بعد، وبعد الثانوية التحق بإحدى جامعاتها، إلّا أنّه قرّر ترك الجامعة ليتفرغ للعمل ويعين عمه، الذي تولى رعاية عبد القادر وعثمان بعد وفاة والدهما، لتنتقل مسؤولية إعالة العائلة إلى كاهل عمّهم. بعد سنوات من العمل بين عمّان وفلسطين، قرّر عبد القادر إرسال شقيقه إلى لبنان ليكمل تعليمه، متكفّلًا بنفقات عيشه ودراسته.

في لبنان، التحق عثمان بالحركة الطلابيّة، وبعدها أقنع أخاه بالالتحاق به، وهو ما حدث. ورغم أن عبد القادر لم يكن طالبًا، إلّا أنه انضم بمساعدة شقيقه إلى الحركة الطلابية. كان الشقيقان منتسبيْن لحركة فتح، ونفّذا معًا عدة عمليات فدائية كانا فيها جنبًا إلى جنب حتى استشهد عثمان خلال اجتياح قوات الاحتلال لبنان عام 1982. ومع انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، عاد عبد القادر إلى الأردن، واستقرّ فيه.

مع توقيع السلطة الفلسطينية اتفاقية أوسلو، عاد الآلاف من الفلسطينيين إلى الضفة الغربية وغزة، وفي السنوات اللاحقة عادت أفواج أخرى إمّا من خلال تقديم طلبات «لمّ شمل» أو من خلال التقدم بطلب للزيارة لفترة زمنية محددة والبقاء بعدها. إلّا أنَّ بعض الفلسطينيين مُنعوا من العودة، ولم توافق «إسرائيل» على إصدار أوراق لهم، فعاد بعضهم بأوراق مزورة بينما بقي آخرون إلى هذه اللحظة في الدول العربية المجاورة. وكان عبد القادر أحد الممنوعين. 

عندما بدأت الحكاية

بطرق مختلفة حاول عبد القادر العودة، إلّا أن هذه المحاولات كلها باءت بالفشل. 

بحسب عبد القادر، فقد بدأت القصة عندما أشار أحد زملائه إلى أنَّ بعض الأوراق الشخصية لشقيقة الشهيد عثمان ما زالت موجودة في حقيبة مع شريك سكنه في بيروت، مشيرًا عليه أن يحاول البحث عنه للحصول عليها واستخدامها في محاولة أخيرة للعودة إلى الوطن. وبعد استكمال جمع الأوراق بدأت الحكاية. يقول عبد القادر، «كنا بنشبه بعض كثير، بس هو كان عنده لحية كثيفة، [فأنا] ما حلقت لحيتي لمدة شهر كامل. صرنا كثير بنشبه بعض، صرت أتطلع على الصورة وأشعر إني أنا الموجود فيها، وفي الآخر مشت الأمور وقدرت أرجع وأشوف أهلي وأقاربي ورجعت أعيش في رام الله». 

الآن، وبعد مرور حوالي 25 سنة على عودته إلى فلسطين، لم يعد أحد من أقاربه أو عائلته أو حتى زملائه يناديه باسمه الحقيقي. سُجّل عبد القادر في السجلات الرسمية باسم شقيقه، أولاده حملوا اسم عثمان، توظف بنفس الاسم، حتى زوجته التي تخيلتُ أنّ تناديه هي على الأقل باسمه الحقيقي، كانت تناديه عثمان.

لقد ضاع الاسم الأول تمامًا، اختفى تحت ركامِ مدافع المقاومة في لبنان، تآكل مع الغبار الذي غطى آخر بندقية ثائرٍ في بيروت. أو لعلّ حروف اسمه امتزجت بالحبر نفسه الذي وقّعت به اتفاقية العودة.

يقول عبد القادر، أو عثمان كما يناديه كل من يعرفه، إنه يشعر بالقلق حيال التناقضات التي حملها اسم عثمان، لقد كان الاسم يرمز في مخيلته إلى ثائر ومقاوم ضحى بحياته لأجل قضيته العادلة، وفي الوقت نفسه، صار الاسم أداة للعودة إلى الوطن وهي في مخيلته رمز لمشروع بناء «الدولة» والتخلي عن جزءٍ كبير من هوية منظمة التحرير الفلسطينية حسب قوله. مَثّلَ الاسم إذًا في مخيلة عبد القادر مرحلتين مختلفتين ومتناقضتين في تاريخ القضية الفلسطينية وفي تاريخه الشخصيّ، كان الاسم في السابق يذكره ببندقية أخيه، قبل أن يصبح بعد العودة رمزًا يدل على التخلي والتنازل.

لقد ضاع الاسم الأول تمامًا، اختفى تحت ركامِ مدافع المقاومة في لبنان، تآكل مع الغبار الذي غطى آخر بندقية ثائرٍ في بيروت. أو لعلّ حروف اسمه امتزجت بالحبر نفسه الذي وقّعت به اتفاقية العودة.

لم يدرك عبد القادر في البداية أنّ عودته بهذا الاسم ستكون بداية لمرحلة جديدة، لا على المستوى السياسي فقط، وإنما على المستوى الشخصي كذلك. فلم يتخيل أنّ هذا الاسم الذي استخدمه للعودة سيصير لصيقًا به، سيصير هويته وحسابه البنكيّ واسمه الوظيفيّ. يقول عبد القادر «ما حدا قدر يفهمني. كنت أحكي لصحابي يلي بيعرفوا القصة، وكانوا يحكولي أنا بضخم الموضوع، في واحد من صحابي حكالي على اليوم لو بقدر أغير اسمي زيك، وضحك ضحك كثير، ما كان عارف قديش أنا متأزم من الفكرة».

بقي عبد القادر في سنوات عودته الأولى مأزومًا من الاسم، إلا أنه وبعد فترة آمن بأن الوقت والتأقلم هما العلاج الوحيد، وبضرورة تجاوز المعضلة، لا من خلال الالتفات إلى المرحلة السابقة بل من خلال التركيز على المرحلة القادمة.

يقول عبد القادر إنه ومع الوقت انغمس في الاسم تمامًا، ففي لحظات ينسى عمره الحقيقي، ويعتقد أن عمره هو العمر المسجل في السجلات الرسمية، وهو عمر أخيه الذي يصغره بعدّة سنوات. يشعل سيجارته الرابعة منذ بدء المقابلة، ويقول «الدخان مش منيح كثير لكبار السن، بس إحنا الشباب بأثرش علينا كثير»، في إشارة ساخرة للفرق بين عمره الحقيقي وعمره في السجلات الرسمية. ويُكمل «حتى عيد ميلادي ما بعمله وبحاول ما أتذكره، لأنه مش عارف متى لازم أعمله، مش عارف أنا متى انولدت، لما انولد عثمان، ولا لما انولد عبد القادر». يسكت كأنه تذكر شيئًا ما بعيون ممتلئة بالدمع، وبملامح تحاول إخفاء الضعف، ويقول «هو على الأغلب أنا انولدت لمّا استشهد عثمان». ويعود إلى سكوته الطويل. يطلب مني المغادرة والعودة في يوم آخر لإكمال الحوار، ودون أن يوصلني إلى باب المنزل، يأخذ زاوية مخفية عن مرمى بصري وينفجر في البكاء، كأنه شعر أن ملامح وجهه الصلبة لم تعد قادرة على حماية دمعته من النزول، وينهي الحوار.

يوم جديد من النسيان

«أنا ما عيطت امبارح لأني تذكرت أخوي، بالعكس أنا عيطت امبارح لأني نسيته»، يبدأ عبد القادر جلستنا الجديدة بهذه الجملة، ويكمل «في البداية كنت أنسى وأستخدم اسمي الحقيقيّ للتعريف عن نفسي، بس لما تسجل اسمي في السجلات الرسمية للسلطة الفلسطينية باسم أخوي، مع الوقت تعودت على الاسم، ممكن صار جزء مني وصرت جزء منه، المُحزن إنه توقعت إنه استخدام اسم أخوي ممكن يكون تخليد لذكراه، بس طلع بالعكس، اندمجت في الاسم تمامًا ونسيت لشو كان يرمز اسم أخوي».

تضم عائلة عبد القادر الآن زوجته وأطفاله ووالدته التي تسكن معهم، يحمل الأطفال الاسم المستعار لوالدهم، دون أن يعلموا القصة، أو حتى اسم والدهم الحقيقيّ. يذهب عبد القادر إلى عمله مثقلًا باسم شقيقه، لسحب راتبه الشهري من البنك الذي لا يعترف باسمه الحقيقيّ، ويدفع الإيجار لمالك المنزل الذي لا يعرفه إلا باسم عثمان، ومن ثم يجلس مع جيرانه وأصدقائه ليدخنوا سجائرهم ويشربوا القهوة دون أنّ يلتفت أحدٌ لاسمه، ليعود إلى المنزل فتناديه زوجته باسمٍ ليس اسمه، يتناول عشائه ومن ثم يذهب لغرفة والدته التي فقدت مع العمر ذاكرتها ليسلّم عليها قبل النوم كما تعوّد أنّ يفعل كل يوم، وعلى باب الغرفة، وهو ذاهبٌ للنوم، يسمع صوتًا هامسًا من ورائه قائلًا «الله يرضى عليك يا ابني يا عبد القادر». فأمه هي الوحيدة التي لم تزل تناديه باسمه الحقيقيّ. 

في نهاية الجلسة، قررت أنّ ارتجل خارج إطار الأسئلة التي كنت قد أعددتها وأرسلتها له، وسألته: أي اسم بتفضل، اسم عثمان أم اسم عبد القادر؟ تنهد وأطفأ سيجارته ولمّا يكد يشعلها، وسكتَ لدقيقة كاملة كأنه ارتبك من مباغة السؤال، ثم قال بصوتٍ خافت، «عبد القادر، مش لأنه اسمي الحقيقي وبس، لا لأنه نسيت كثير أشياء هناك [في إشارة إلى لبنان] بارودتي وجعبتي والحذاء العسكري واسمي. هاي الأشياء بقدرش أرجعها، بس بقدر أضل أتذكر باستمرار المكان اللي نسيتها فيه».


* تم تغيير الأسماء وبعض التفاصيل حفاظًا على خصوصية الشخصية الرئيسية.

Leave a Reply

Your email address will not be published.