«حيّ المصاروة» في الرصيفة: من دلتا النيل إلى الجبل الشمالي

أحد شوارع حيّ المصاروة، تصوير مؤمن ملكاوي.

«حيّ المصاروة» في الرصيفة: من دلتا النيل إلى الجبل الشمالي

الخميس 08 أيار 2025

قادتني الصدفة المحضة للتعرف على هذا المقطع الاجتماعي الفريد في واحدة من المدن الأردنية؛ ففي منتصف العام الماضي كنت مشغولًا ببحثٍ يتابع السلوك الانتخابي في وسط شعبي، ووقع اختياري كميدان لذاك البحث على مدينة الرصيفة الواقعة إلى الشرق من عمان. ذات نهار وصلتُ إلى حي شهير ورئيسي في المدينة اسمه «الجبل الشمالي»، وهو يشكل واحدة من أكثر المناطق المكتظة والمرهَقَة في المدينة، وعندما كنت على وشك الدخول إلى حي فرعي في الموقع، نبهني مُحَدّثي إلى أن هذا الحي يسكنه عمال مصريون فقط، وهم بالطبع لا علاقة لهم بالشأن الانتخابي الأردني.

دفعني الفضول إلى بعض الأسئلة السريعة عن الحي. ليتبين أنه بالفعل حيٌ ذو خصوصية واضحة للجميع، وبلغ عمره الآن أكثر من أربعين عامًا ويقطنه بشكل دائم نحو ألفي عامل مصري. وهم أصلا من بلدة واحدة في مصر اسمها «ظَفَر» أو «زَفَر» (كما يلفظونها ويكتبونها أحيانًا) تتبع لمركز المنصورة عاصمة محافظة الدقهلية في دلتا مصر. وأن الحي معروف في المنطقة باسم «حي المصاروة»، وأصبحت له شخصيته الخاصة.

للحي مدخل واسع نسبيًا يتصل بشارع رئيس يمثل جانبًا من سوق المنطقة، ثم يتفرع هذا المدخل إلى شارعين متوسطين ثم إلى شوارع فرعية ضيقة وإلى كثير من الأزقة الأكثر ضيقًا، وتصطف على جوانبها المباني المتلاصقة في أغلب الحالات. لا تسمع في الحي إلا اللهجة المصرية، ومع مرور الوقت تشكّلت في الحي ملامح مصرية أيضًا، صنعها قاطنوه عبر الزمن؛ فقد تجد مساطب خشبية أو اسمنتية على أبواب المباني، أو مساحات صغيرة مفروشة ذات سقف هش أُعدّت للجلوس وتناول الأحاديث والشاي طبعًا والأرجيلة أحيانًا، وعلى مدخل الحي أقيم مقهى صغير وضع له صاحبه اسما مصريًا هو «على الناصْيَة». 

تنعكس كثافة السكان في الحيّ على مستوى الشقة الواحدة. ويتضح ذلك من خلال حركة الساكنين وأماكن لقاءاتهم، واستخدامهم للمداخل والجدران لنشر ملابسهم باتجاه الشارع، ولركن أدوات عملهم، وذلك إشارة إلى ضيق المساحة الداخلية للمساكن. ولا يحتاج الزائر لجهد كبير للتعرف على صنعة العاملين، إذ تنتشر عشرات «خلاطات الباطون» وعربات النقل اليدوية الخاصة بالصنعة، على طول الشارع الرئيسي للحي.

سيرة الحي، سيرة المدينة

لكي نفهم تشكّل الحي يتعين أن نُطلّ على مجمل التاريخ الاجتماعي الاقتصادي العمراني للمنطقة ككل، وهو تاريخ غاية في التنوع والتقلب خلال العقود الخمسة الأخيرة.

إن الرصيفة التي تتصل من جهة الغرب بالعاصمة عمان، وتبعد عن مركزها نحو 15 كلم، مدينة حديثة العمران الواسع نسبيًا، مع أنها تعد من المناطق ذات القيمة الآثارية العالية، وهي منذ عقود مستهدفة من قبل فرق التنقيب المحلية والدولية، لا سيما بعد الاكتشاف الكبير في المنطقة المجاورة لها في نهاية ستينيات القرن العشرين، والذي دل على وجود أقدم المستوطنات الزراعية عالميًا فيها.

يخترق الرصيفة، ولمسافة تبلغ نحو 8 كلم، نهرٌ صغيرٌ حمل في السابق اسم «نهر الزرقاء». لكن ومع تراجع كميات مياهه أثناء فصول انقطاع الأمطار، تقلص النهر، حتى في التسمية، ليصبح «سَيْل الزرقاء»، لكن مياهه مع هذا لا تجف على مدار العام. في الماضي كان حوض النهر منطقة زراعية مشهورة وغنية، ثم أقيم عليه العديد من المتنزهات الكبيرة ليتحول إلى مصيف لقطاع كبير من السكان في وسط الأردن، واختيرت جوانب مجراه لإنشاء خط سكة حديد الحجاز منذ عام 1908. وقد شكّلت أعمال وحفريات إنشاء السكة بدايةً لاكتشاف الفوسفات في الموقع، التي ستنتظر لعام 1935 حتى يبدأ الاستخراج الفعلي لها لغايات تجارية، ثم لتنشأ أول شركة مساهمة عامة مختصة في عام 1949 فتجذب أنظار وأقدام العمّال إليها. 

بموازاة ذلك، وفي مطلع ستينيات القرن العشرين ومع انطلاقة بدايات الصناعة الوطنية، أقيمت عدة شركات للصناعات الخفيفة، كان من أبرزها مجمعٌ كبيرٌ اتخذ اسمًا شهيرًا هو «شركة الإنتاج»، وقد جذبت الحركة والتوسع أولى مجموعات السكان، لتليها موجة الهجرة الكبيرة إلى المكان بعد حرب حزيران 1967، حيث أقيم على الضفة الأخرى من السيل مخيم كبير نسبيًا اسمه الآن «مخيم حطين»، وتلا ذلك نشوء أحياء شعبية أخرى ملاصقة انتشرت في التلال المحيطة.

اليوم، وعلى بعد عشرات الأمتار فقط من «حي المصاروة»، لا يزال بمقدور الزائر أن يرى أطلال صناعة الفوسفات ممثلة بالعديد من المباني وتلال الأتربة، إلى جانب مباني شركة الإنتاج ومعاملها ومستودعاتها، إضافة إلى عشرات المزارع التي صمد أصحابها أو متضمنوها في زراعة الخضروات المتنوعة لغايات التجارة.

مدخل حي المصاروة في الرصيفة، والمباني المتلاصقة في أحد شوارعه.

يقول أبو علاء، الذي ولد في المنطقة، ويبلغ من العمر الآن 63 عامًا، إن والده كان يعمل في «شركة الإنتاج»، وكان أحيانًا يصطحبه معه إلى الشركة عندما كان طفلا. ويتذكر أن 12 حافلة نقل ركاب كبيرة كانت تنطلق يوميًا من الشركة وإليها حاملة العاملين من مناطق سكنهم وإليها، وهو ما يشير إلى عدد العمال الكبير حينها.

بالتدريج، بدأ عمّال شركة الفوسفات والشركات الصناعية الأخرى، بنقل سكنهم إلى مواقع قريبة مجاورة لموقع عملهم. وكان والد أبو علاء ضمن مجموعة مؤسسي الحي الشمالي الأوائل، إذ بنت الأسرة منزلها الخاص فيه عام 1969. وقد شكلت سفوح التلال المشرفة على النهر مواقع مستهدفة للقادمين الجدد، فهي حتى مطلع سبعينيات القرن الماضي لم تكن مأهولة بكثافة، بل كانت إلى حدٍ ما خالية من السكان. تعود ملكية تلك الأراضي في الأصل إلى بعض عشائر قبيلة بني حسن، التي تنتشر في منطقة شرق وشمال عمان ككل. وقتها كان سعر الأرض متدنيًا جدًا وبدأ البناء يتكاثر بسرعة، ولكن بشكل عشوائي، وهو ما أثّر وما زال على المشهد العام.

لقد نشأت إذًا منطقة سكنية شعبية عمالية عشوائية في بعض تلك المواقع ومنها الجبل الشمالي. لكن مع منتصف الثمانينيات كانت شركة الفوسفات تغلق مناجمها بعد حصول اكتشافات جديدة جنوب المملكة، وذلك بعد نصف قرن على العمل في الرصيفة. وفي التسعينيات كانت شركة الإنتاج وشركات أخرى تنتقل هي الأخرى إلى مواقع جديدة خارج الرصيفة بل خارج محافظة الزرقاء لأسباب لها علاقة بتطورات الاقتصاد الكلي وتوزيع الأنشطة الاقتصادية نحو جغرافيا جديدة.

واستجابة للظروف المستجدة من حيث تقلص الأنشطة الاقتصادية كثيفة العمالة، بدأ ساكنو ومالكو المباني في هذه المنطقة، والتي أقيمت قرب أمكنة العمل، بمغادرتها بعد أن فقدت ميزتها تلك.

متى حضر المصريون؟

مطلع الثمانينيات استقطبت شركة الفوسفات عددًا من سائقي الشاحنات الكبيرة المصريين، الذين كزملائهم الأردنيين سكنوا قرب الشركة، وشكلوا بذلك نواة هذا الحي من الجبل الشمالي الذي سيصبح لاحقًا خاصًا بالمصريين. 

وجد العمّال المصريون في المباني المفرغة منطقة جاذبة، ووفق كلام محدثينا في الحي الآن، فإن المجموعة الأولى التي صادف أن منتسبيها كانوا أصلا من قرية واحدة هي «ظفر»، هم من قادوا عملية استقطاب ساكنين جدد من القادمين حديثا من قريتهم في مصر. ويعد هذا سلوكًا نموذجيًا بالنسبة للعمالة المصرية ذات الأصول الريفية، حيث تؤثر العلاقات الاجتماعية في اختيار موقع العمل والسكن.

يقول العامل المصري شعبان، البالغ من العمر 47 عامًا، والذي حضر إلى الأردن وهو فتى قبل أكثر من ثلاثين عامًا، ولا يزال يعمل في قطاع البناء، وخاصة أنه تمكن من الحصول على فرصة عمل منتظمة إن الحي سرعان ما تحول إلى مجتمع خاص له تقاليده وحياته الداخلية التي صيغت مع مرور الوقت. وساهم تزايد عدد العمال المصريين فيه بدفع وتشجيع المواطنين إلى مغادرته، وتأجير أو بيع منازلهم لآخرين سيقومون بتوسيعها وتأجيرها.

يسكن شعبان مع عائلته في طرف الحي، محاولًا الابتعاد عن مواقع سكن العمال العازبين، ويلتحق أبناؤه في المدارس، وله ابنة تدرس الصيدلة في جامعة خاصة في الزرقاء. شعبان واحد من ثلاثة متزوجين يسكنون الحي الآن، وذلك بعد أن تقلّص عددهم (أي عدد الأسر) من حوالي 15 حالة قبل أكثر من عشرة أعوام، وذلك إثر فرض بعض الشروط التنظيمية الرسمية من قبل الحكومة الأردنية، من ضمنها ضرورة توفر حد أدنى لراتب الزوج، مع الاشتراك في الضمان الاجتماعي وشروط أخرى خلقت بعض الصعوبات التي دفعت الأزواج إلى إعادة أسرهم إلى مصر.

يوضح شعبان: يحضر العامل الجديد من مصر بعد إتمام إجراءاته الرسمية، ويجري ترتيب استقباله في الحي، وفي العادة فإن القادم الجديد يأتي بلا مال. هنا يستقبله العمال السابقون، من أصدقائه وأقربائه، ويقومون بزيارته ويقدمون له «هدية» مالية غير مستردة، حسب مقدرة كل منهم وحسب علاقته بالقادم الجديد، ويوفرون له سكنًا وعيشًا مجانيًا لمدة شهر، وبعد ذلك ينتظر أن يبدأ العمل وينخرط في الحياة كالآخرين ويشارك معهم في الإنفاق.

يقيم العاملون في الشقق على شكل مجموعات، وقد يصل عدد العمال في الغرفة الواحدة إلى أكثر من أربعة أشخاص. في العادة تُستأجر الشقة من قبل شخص واحد، ثم يقوم هذا المستأجِر بإعادة تأجيرها بالغرفة أو بالسرير أحيانًا. وينظم سكان الشقة أمور يومهم بدقة وانضباط، من حيث أدوار إعداد الطعام والتنظيف وخلاف ذلك. 

علاقات العمال هنا تبقى مرتبطة بشبكة العلاقات في البلد الأصلي وخاضعة لالتزاماتها الاجتماعية هناك، وهو ما يوفر قدرًا من الانسجام والاستمراية والضبط، إذ يعرف كل عامل أنه لا يستطيع الاستمرار إلا بانسجامه مع الشروط الجماعية التي بُنِيَت داخل الحي، والجميع على اتصال بشبكة الأقارب في مصر.

تنقسم البلد الأصلي «ظفر» إلى أربع مجموعات قرابية، أي أربع «عائلات» رئيسية، وهو ما يعد واحدًا من أسس بناء مجتمع الحي في بلاد الغربة هنا. وقد أنشأ العاملون أربعة صناديق مالية بمساهمات منتظمة، وذلك كنوع من الحماية الاجتماعية الذاتية في حال حصول أي مشكلة مع أحدهم، أو في حالة تعرضه لإصابة عمل قاسية، أو في حالات الوفاة التي حصل بعضها فعلًا. كما يعتمد العاملون المصريون هنا وفي مناطق أخرى، ما يطلقون عليه «اللّمة» أي جمع مبلغ مالي عند الاحتياجات الكبيرة التي لا تحتملها الصناديق المنتظمة، وقد تحول هذا السلوك إلى ما يشبه التقليد.

شبكة علاقات متشعبة

في أعمالهم، يعتمد ساكنو الحي على ما بنوه من علاقات مع أصحاب العمل في العاصمة عمان والمدن الأخرى، وخاصة من مقاولي البناء، وهو ما يوفر درجة من الانتظام في فرص العمل، ففي شركات المقاولات الكبيرة يشترط التسجيل في مؤسسة الضمان الاجتماعي. بالتوازي مع هذا، تمكّن عدد كبير من قدامى العاملين من تأسيس أعمال مقاولات خاصة بهم، وبِلغة الصنعة تحولوا إلى «معَلّمين» يعملون لحسابهم الخاص، وأصبح بمقدورهم تشغيل آخرين من زملائهم المصريين وفي بعض الحالات تشغيل عمالة أردنية أيضًا، وذلك كحال محدثنا الأردني الأربعيني الذي يسكن على مدخل الحي وقد عمل مع «مْعلم بناء» مصري قبل أن يصاب بحادث أعاقه عن العمل الشاق، وهو الآن يؤجر بيته لعمال مصريين. 

يتبادل العمال الأخبار فيما بينهم في حالة توقف عمل أحدهم، فيبلغ زملاءه بذلك، ويحرصون على العمل الجماعي. فحتى عندما يطلب الزبون صاحب العمل، عاملًا واحدًا مثلا، فإن العامل المصري يحرص على إشراك «جماعته» بالكامل، وبذلك يتقاسمون العمل والدخل معًا. وقد تحول هذا الإجراء إلى تقليد من نوع خاص، إذ يتحول العامل الذي جرى التعاقد معه إلى «رئيس عمل» في تلك الورشة الصغيرة حتى لو كانت لساعات، فيشرف عليهم ويكون مسؤولًا عن التنفيذ أمام صاحب العمل، ولكنهم يتقاسمون الأجر غالبًا بالتساوي.

تمكن قاطنو الحي من بناء شبكة واسعة من العلاقات الضرورية لعملهم، ومن ذلك استخدامهم لعشرات سيارات النقل التي يعمل عليها أردنيون، فالمقاول المصري كغيره يحتاج لسيارة لنقل عماله وأدواته من وإلى ورش العمل، ونظرًا لأن ملكية سيارة النقل وقيادتها لا تجوز إلا للمواطنين، فقد اعتمدوا على علاقات منتظمة مع مقدمي الخدمة. وتستطيع أن ترى على مدار الساعة السيارات وهي تغادر أو تحضر إلى الحي، وتبدأ حركة النقل منذ ساعات الفجر الأولى وتستمر حتى نهاية النهار.

عمّال مصريون يستريحون بعد يوم العمل في أحد مقاهي الحي.

يعيش الحي يومه بما يتناسب مع شغل ساكنيه. هناك حركة صباحية فجرًا عند توجه العمال إلى أعمالهم، وحركة عودة واضحة قبيل المغيب. يعود كل منهم ومعه بعض الطعام، وفي أيام الجمعة يحضّرون وجبة مطبوخة. كما أقامت سيدة مصرية مطعمًا للوجبات قرب مدخل الحي، ويعتمد عليه العمال عند الحاجة. 

أمّا في شهر رمضان، فإن بعض المقاولين يعملون بعد الإفطار، ولهذا فإن هناك موجة نشاط وحركة يشهدها الحي في أوقات مختلفة. مع أن العمال المصريين عمومًا يعتبرون شهر رمضان شهر إجازة لمن يسمح عمله بذلك.

يدخل عمّال الحي في علاقات طبيعية مع محيطهم الاجتماعي، ووفق محدثنا وهو مواطن أردني اليوم في السابعة والأربعين، ويجاور الحي منذ ولادته؛ من النادر حدوث مشكلات مع المحيط. مضيفًا أنه قد تشكل لدى العمال المصريين عدد من قادة الحي، معروفون كـ«كبار الحي» وهم يديرون أية مشكلة ويحلّون الخلافات سواء بين العمال أنفسهم أو بينهم وبين مجاوريهم.

وفق تقديرات محدثينا فإن حوالي ثلاثة أرباع العمال المقيمين في هذا الحي يعملون في «الباطون» كجزء من قطاع الإنشاءات والبناء، بينما يعمل الآخرون كأصحاب مهن ذات صلة بالبناء أيضًا، أي «صنايعية» في مجالات البلاط والتمديدات الكهربائية والميكانيكية والدهان والقصارة وغيرها.

وقد بلغت مرونة مجتمع الحي، أن أقام أحد العاملين منذ أكثر من عشرين عامًا، ورشة حدادة تقدم خدمة صيانة وصناعة بعض أدوات العمل، وخاصة بالنسبة للعربات المعدنية التي تدفع يدويًا، ولخلاطات الإسمنت نصف الآلية التي تحتاج لصيانة وتجديد دهان وخراطة بعض القطع. أنشأ عامل قديم المحددة ثم أورثها لابنه الذي يديرها الآن بالشراكة مع مواطن أردني. 

العمال المصريون: 50 عامًا في الأردن

يعود تاريخ حضور العمالة المصرية إلى الأردن إلى النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين، حينها كانت قد بدأت هجرة العمالة الأردنية إلى دول الخليج، وحصل نقص في الأيدي العاملة المحلية في العديد من المجالات. لقد غادر العمال الأردنيون أعمال «الباطون» ولكنهم مارسوها في بلاد الاغتراب، في الخليج وليبيا مثلًا، فيما حل العمال المصريون مكانهم.

يستقطب السوق الأردني العمالة المصرية القادمة من أوساط الريف المصري والصعيد، لأسباب أغلبها يتصل بالعامل الثقافي الاجتماعي، حيث تتوفر بيئة مناسبة تعوض عن فارق الأجور، مقارنة بدول الخليج مثلا. حتى إن مناطق البادية الأردنية استقطبت عاملين مصريين ذوي خبرة في التعامل مع الثروة الحيوانية، وقد اعتبروا انتقالهم سهلا لا سيما مع التشابه في البيئة الاجتماعية والثقافية.

يتوزع أغلب العاملين القادمين من مصر على قطاعات رئيسة أبرزها الزراعة والخدمات العامة والإنشاءات. كما تتواجد أعداد من العمال المصريين المتنقلين بين المواقع والقطاعات الاقتصادية، وهم المعروفون في مصر بـ«عمال التراحيل» ممن يعملون باليومية في شتى الأعمال، وهؤلاء ينتشرون في مواقع محددة كثيرة في الشوارع والأحياء بانتظار من يطلبهم للعمل. وإذا سألت الواحد منهم عن عمله يجيبك «بِتاع كُلّه». وقد أصبحت هذه التسمية معتمدة حتى بين المواطنين الأردنيين أنفسهم. يعتمد السكان على هذه الفئة في إنجاز مختلف الأعمال الضرورية لهم، ومنها الحفر والتحميل والتنزيل وأعمال البناء البسيطة والصيانة العامة، والعناية بحدائق المنازل. وفي العادة يكون هؤلاء ممن تسرّبوا من القطاعات المفتوحة أمام العمالة الوافدة والتي سجلوا أسماءهم فيها. غير أن الظاهرة الرئيسية المعترف بها رسميًا وشعبيًا هو سيطرة العمالة المصرية على جزء كبير من العمل في قطاع البناء وخاصة العمل الشاق في «الباطون»، وتتكرر عبارة مثل «مباني الأردن تقام على أكتاف المصريين». وربما لعب هذا دورًا في استمرارية هذا الحي واستقراره النسبي.

يُعَد الأردن ثاني أكبر مستقبل للعمالة المصرية بعد السعودية، ووفق متابعات عامة، يمكن ملاحظة أن القادمين إلى الأردن يميلون عادة إلى الاستقرار وإكمال فترة الاغتراب فيه. هذا رغم تقلب الظروف بين زمن وآخر. فقبل 15 عامًا كان الحضور والحصول على تصريح عمل في الأردن أمرا يسيرًا وقليل التكلفة، بينما اختلف الوضع حاليًا. ومنذ نحو عقدين تتكرر بين سنة وأخرى عمليات إعادة النظر بالاتفاقيات العمالية بين الحكومتين الأردنية والمصرية تحت تأثير المستجدات، وإن كانت العلاقات الرسمية الجيدة بين الأردن ومصر تلقي بأثرها على مجريات نقاش قضية العمال على الأقل ما يظهر منها للرأي العام. 

لقد استمر الحي لنحو أربعين عامًا إلى الآن، ويعود ذلك إلى تكامله مع الحالة العمرانية والاجتماعية الاقتصادية في المنطقة المحيطة. إن مدينة الرصيفة هي المنطقة الأكثر كثافة سكانية في الأردن وبفارق كبير حتى عن المدينة الكبيرة المجاورة؛ مدينة الزرقاء، وهي مركز المحافظة التي تعد الأكثر اكتظاظًا بين محافظات المملكة. تشهد الرصيفة نسبة نمو في عدد السكان هو الأعلى أيضًا، فقد ارتفع عدد سكانها بنسبة 15 ضعفا خلال أقل من نصف قرن ليصل الآن إلى نحو 680 ألفا، بكثافة سكانية تبلغ 6800 نسمة في كل كلم مربع.

لقد تمكن العمال المصريون في هذا الحي من تحقيق قدر من الخصوصية يحتاجون إليه ويعتمدون عليه في إدارة غربتهم وتحقيق أفضل العوائد منها وتقليص التكاليف. يعيش الحي علاقة طبيعية مع المحيط الاجتماعي أي مع السكان المواطنين الأردنيين، ولذا تتداخل مساكن المواطنين في الشوارع المجاورة مع مساكن العمال المصريين.

عندما بدأتُ العمل لإعداد هذا التقرير كانت السلطات الرسمية قد بدأت حملة واسعة لضبط العمالة المخالفة. وتتركز المخالفات في الانتقال من العمل المرخص في قطاع الزراعة إلى قطاعات أخرى، وهذا ينطبق على العديد من المقيمين في هذا الحي. لكنهم يقولون إن الحملة هذه المرة أكثر جدية، ولأول مرة يشعر قسم منهم بالقلق الجدي، لا سيما وأنه يترافق مع ظروف اقتصادية صعبة أردنيًا، خاصة لجهة أزمة البطالة التي تعد الآن واحدة من أبرز مشاكل المجتمع والاقتصاد الأردني.

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية