تضم بلدية النسيم، التابعة لمحافظة جرش، قُرى بليلا، والربوة، وقَفْقَفا، وكفر خل. وفي هذه القرية الأخيرة، ثمة منطقة تسمّى شعبيًا بدير مروان، وتقع على سفح جبلٍ. في جانبه الغربيّ خمسة بيوت، ثلاثة منها لعائلة المحاسيس، تُصنّف على أنها اعتداء على الأحراش، كونها تقع ضمن المناطق الحرجيّة في محافظة جرش.
عائلة المحاسيس ليست حالة استثنائية في القرية، فهناك قرابة مئة مبنى بنيت على أراض حرجية في كفر خلّ تتوزع على عدة مناطق، هي المحافير ودير مروان في الحيّ الجنوبيّ، ومنطقة الحاووز في الحي الغربي، ومنطقة الفردوس في الحي الشرقي، ومنطقة حيّ الرصاص في الحي الشمالي.
في منتصف الطريق إلى هذه البيوت قابلنا محمد جميل المحاسيس، وهو أحد ثلاثة أخوة يسكنون المنطقة، عندما قرّر محمد المحاسيس الزواج سنة 2006، سكن بغرفةٍ بالإيجار عند شقيقهِ الذي بنى سنة 2004 منزلًا في المنطقة. «ما فيش لينا أراضي، توفى رحمة أبوي واعتدينا هون، أبوي كان ساكن مُلك بكفر خل».
تسمح بعض القوانين والقرارات الحكوميّة الأردنية لبعض الفئات في المجتمع ببناء مساكن لهم على الأرض التي تملكها الدولة، والتي تندرج ضمن أراضي الخزينة وتشمل كذلك الأراضي الحرجيّة، «وهي أراضي الدولة المسجلة حراجًا، وأراضي الدولة التي يتمّ تخصيصها لأغراض التحريج». في هذه المناطق كان القانون يسمح ببناء مساكن لبعض الفئات، مثل من لا يملك هو أو زوجته سكنًا وينوي في نفس المنطقة، لكنه منع البناء في فترة لاحقة، ثم اتجه مرة أخرى ليعترف بما بُنيَّ في فترة المنع لكن بشروط.
منذ العام 1987 وحتى العام 2015، تاريخ صدور آخر قانون زراعة في الأردن، تغيّرت الأنظمة والقوانين والقرارات الحكوميّة المتعلقة ببناء المواطنين مساكن لهم في المناطق الحرجيّة، وتغيرت كذلك طريقة تعامل الحكومة مع هذه الفئة.
فلماذا بنى مواطنون مساكن لهم على هذه المناطق الحرجيّة؟ ومتى صنّف القانون البناء فيها كاعتداء؟ وماذا يعني أن تعيش «خارج التنظيم»؟
إلى دير مروان
عند وصولنا إلى دير مروان، كان محمَّد المحاسيس ينتظر صهريج ماء ليملأ خزانات منزلهِ. «ميّ ما فيش، بشتري مشترا، بالشهر ثلاث تنكات، ستة متر شهري، راتبي 420 ليرة، [وبدفع] 70-80 ليرة ميّ مِشترى». بالإضافة إلى عدم توافر شبكة مياهٍ لهذه المنطقة، فإن أغلب البيوت فيها تصلها الكهرباء عن طريق مدِّ سلكٍ من أحد الجيران، بحيث يتم تقاسم فواتيرها. أما الطريق إلى البيت، فلا يمكن تسميته بطريق إذ أنه ترابيّ وغير معبّد، وضيّق لدرجة أنه بالكاد يسمح بمرور سيّارة فيه. يصف محمد المنطقة بأنها «زي المقطوعة».
رافقنا في الجولة على بيوت دير مروان، رئيس المجلس المحلي لبلدية النسيم محمد خليف النواصرة، وفور معرفة الناس بوجوده التفَّ عليه الأهالي يطلبون منه بعض الخدمات، ليقف حائرًا أمام طلبات الأهالي هناك.
يقول النواصرة إنَّ الكثير من المعتدين على الأرض الحرجيّة ببناء مساكن لهم يُراجعونه للحصول على خدمات مثل فتح شوارع أو توصيل البيوت بشبكة المياه، لكنّ النظام والقانون لا يسمحان له بالتعاون معهم أو حتى فتح شارع ترابي على هذه البيوت. «أنا ما بيش بيدي قانون أو مَنفذ أخدمه»، يقول النواصرة. «أنا على مستوى الجرافة مش مسموحلي أوديها تسهل [طريق ترابي]».
خلال الحديث انضمّ لنا ابن عم محمَّد المحاسيس، محمد عمر (25 سنة). عاش جدّ محمد عمر في كفر خل، وكان للجدّ عشرة دونمات وُزعت عند وفاته على الورثة، وهم 12 رجلًا، أيّ والد وأعمام محمد عمر، وأولاد أعمامه وأخوته. وبحسب محمد، فقد «تفتتت الملكية، ما فيه مجال تبني على هذيك الأرض». لذا بنى أبوه في العام 1993 بيتًا في هذه المنطقة وكان البيت مكونًا من غرفتين فقط.
كان الوالد قد بنى البيت على دفعات. وفي فترة البناء جاءت جرافات الحكومة لتهدم البيت المخالف. يروى محمد عمر ما سمعه عن أبيه قائلًا: «الحكومة أجوا بدهم يهدو الدار، أجا أبوي قعَّد الولاد بلبّ الدار، وقال هدوها على روسهم». إذ لم يكن هناك من مسكن للأب وأطفاله غير هذا المسكن.
يتذكّر محمد عمر أيّام المدرسة، وطريق ذهابه إليها والعودة، حيث لا شوارع ولا إنارة ولا كهرباء داخل المنزل وخارجه. «كانت منطقة موحشة، أبوي كان يطلّع عصاه، ويلف عليها [شريطة] عليها ديزل يولعها [مثل] مشعلة». هكذا كان الأب عمر يصحب الأولاد في فصل الشتاء في الليل، صيفًا يتذكّر حين كان منزلهم بدون ثلاجة أو تلفاز.
ويعمل محمد عمر الآن مهندسًا في القوات المسلحة، كما يعمل ابن عمه محمد المحاسيس في القوات المسلحة كذلك، ومثلهما أخوة المحاسيس وجيرانه.
لا توجد خطوط لحافلات النقل العام تصل لمنطقة دير مروان، لذا يستخدم الأهالي البك آب، أو المشي. هذا حال عبيدة المحاسيس، وهو طفلٌ في الصف السابع. «نطلع هاي الطلعة مشي، ونرجعها مشي، وأحيانًا أبوي بوديني بالسيارة»، يقول عبيدة. «بصحا على الستة، وبطلع الساعة سبعة، بصل المدرسة حوالي ثمنية إلا ربع».
يبلغ تعداد سكّان بلدية النسيم نحو 24 ألف و463 نسمة وفقًا لآخر تقديرات من دائرة الإحصاءات العامّة لعام 2018. وتنتشر البيوت المقامة على أراضٍ حرجيّة في القرى الأربعة التي تضمها البلدية، ومنها ما هو قديم ويعود إلى السبعينيات من القرن الماضي، لكنَّ أغلبها يقع في قرية كفر خلّ.
حتى اللحظة، أحصت البلدية 89 بيتًا مقامًا على أراض حرجية. يقول أحد المسّاحين الذي شارك في مسح هذه البيوت، والذي فضّل عدم ذكر اسمهِ، إنَّ عمليات المسح كانت قبل شهر ونصف تقريبًا، واستمرت لـ12 يومًا، وكانت بطلب من اللجنة اللوائيّة، وبالتعاون مع وزارة الزراعة والبلدية، وشارك فيها مسّاحون من وزارة الزراعة.
ويقول المسّاح إن هذه المسوحات تمت بهدف الدراسة، لغايات تقديم الخدمات وتفويض الأراضي، هذه القائمة ليست نهائية، كما يقول، إنما يقترب عدد البيوت من 100 بيت.
وفقًا لكشف المسح، تتراوح مساحة البيوت التي تصنف على أنها مبنيّة في مناطق حرجيّة بين 16 مترًا مربعًا، إلى 400 مترًا مربعًا، لكنَّ المسح شمل المساحة الأفقيّة كذلك؛ إذ أنَّ بعض المنازل مُسحت بمجموع مساحة طابق التسوية والطابق الأرضيّ والطابق الأوّل. وجاء في خانة صفة الاستعمال في كشف المسح أنَّ هذه المباني تأخذ صفة سكن منزليّ، أي لغايات السكن، باستثناءاتٍ قليلةٍ مثل استخدامها كزريبة غنم أو غرفة حارس.
الوضع القانونيّ منذ البداية
في العام 1987 القرن الماضي، قرّر مجلس الوزراء «الموافقة من حيث المبدأ على التخلي عن المساحات المعتدى عليها حسب وضع اليدّ، وذلك على القطع المسجلة باسم الخزينة/حراج، شريطة أن يدفع المعتدي قيمة الأرض المعتدى عليها وبالسعر الدارج والمتعارف عليه في المنطقة».
إثر القرار، راجع الأهالي الدوائر الحكوميّة، وبحسب النواصرة، فقد «قامت لجنة مؤلفة من دائرة الأراضي، ووزارة الزراعة، ووزارة البلديات بحصر الاعتداءات الواقعة على الأراضي الحرجية في منطقة كفر خل، وتمَّ تنظيم جداول بأسماء المعتدين، وتقدير قيمة الأراضي المعتدى عليها ماليًا».
في تموز 1995، ثمّنت اللجنة سعر الدونم في المنطقة بسعر خمسة آلاف دينار، فتقدّم الأهالي المعتدين بطلب تخفيض سعر التخمين من خلال مذكّرة نيابيّة تبَّناها النائب مفلح الرحيمي حينها، وصلت نسخة منها لرئاسة الوزراء. إلا أن الحكومة، قررت في شباط 1999 إيقاف كافة معاملات المبادلة والتفويض المتعلقة بالموضوع. «إحنا طالبنا بتخفيض سعر، بدال ما يخفضوا، أجوا راحوا وقّفوا، إنت بترد على كتابي يا إما بتخليه على نفس السعر، أجا هم اتخذوا القرار بإيقاف المعاملة»، يقول أحد المعتدين على الأرض الحرجيّة، والذي فضل عدم ذكر اسمه.
عام 2002، صدرَ قانون الزراعة المؤقت الذي منع تفويض الأراضي الحرجيّة إلى أي شخص أو جهةٍ أو تخصيصها أو بيعها أو مبادلتها. وعام 2015، صدر قانون الزراعة النافذ الآن، والذي سمحت مادة منه (المادة 27 منه الفقرة أ) لمجلس الوزراء، بناءً على تنسيب الوزير، باستثناء قطع الأراضي الحرجية التي تقل كثافة نمو الأشجار فيها عن 5% والواقعة ضمن حدود البلدية والمقام عليها تجمعات سكانية قبل نفاذ أحكام القانون. كان ذلك لغايات إخضاعها لقانون أملاك الدولة الذي يتيح بناء مسكن لبعض الفئات في هذه المناطق لغايات السكن ضمن مناطق التنظيم، أو مناطق البلديات عن طريق تفويضها بالأسعار الدارجة للمواطن الذي لا يملك هو أو زوجته بيتًا للسكن ويقيم بنفس المنطقة التي تقع فيها الأرض ويكون مسؤولًا عن إعالة أسرتهِ. ويجري التفويض في هذه الحالة لمرة واحدة فقط للشخص الواحد، بشرط ألا يزيد التفويض عن دونمين.
بتاريخ 14 شباط 2014، وجّه وزير الشؤون البلدية وليد المصري كتابًا إلى بلدية النسيم بعنوان «ترخيص الأبنية القائمة على أراضي الخزينة» يطلب فيه من البلدية «حصر الأبنية القائمة على أراضي الخزينة ضمن مناطق التنظيم المصدق على مخططات التنظيم الهيكلية لبلدية النسيم»، وتزويده بكشف بالمواقع الممكنة، وتفاصيل موقعها «ليصار إلى مخاطبة دولة رئيس الوزراء بشأن ترخيص هذه المباني ومنحها إذن الأشغال اللازم لإيصال الخدمات لها من ماء وكهرباء»، لكن دون أن يحدث تغيير على أرض الواقع.
عام 2019، خاطبت مديرية الحراج بوزارة الزراعة، رئاسة الوزراء بأن مجموعة من المواطنين اعتدت على الأراضي الحرجية قبل العام 2002، وأنَّ بيوتهم مخدومةٌ بالكهرباء والماء. يقول مساعد مدير المديرية ورئيس قسم المساحة والأراضي الحرجية فيها، هاني النجّار: «ارتأينا أن نأخذ موافقة رئيس الوزراء على تفويض الأبنية الواقعة على هذه الأراضي مقابل مبلغ مالي. قديش سعر الأرض بالمنطقة، ونعطيهم إياها».
لكن هذه المخاطبة شملت فقط من اعتدوا قبل العام 2002، واشترطت إثبات ذلك. ويتم الإثبات عن طريق ضبط حرجي، حيث كانت مديرية الحراج قبل العام 2002 ومن خلال موظفي وزارة الزراعة يقومون بكتابة ضبوط حرجية وتحويل المعتدي إلى المحاكم كمخالفين ومعتدين على أراضي الدولة. وفي حال لم يكن هناك ضبط حرجي للمعتدين لسبب أو آخر، يطلب من المعتدي فاتورة كهرباء قبل 2002 أو فاتورة بلدية. وعند سؤاله عن وضع من اعتدى بعد 2002، أكد النجار أن القرار لن يشملهم.
بالتالي، في حال استمرت الحكومة، ممثلةً بوزارة الزراعة، بالمضيّ قدمًا لتفويض هذه الأراضي للمعتدين مقابل ثمن الأرض المقدّر بعد انتهائها من الدراسة والمسح، فلن يكون للبيوت المستثناة ترخيص. أما حول ضمانة تطبيق القرار على من اعتدى على الأراضي الحرجيّة قبل العام 2002، فيعلّق النجّار بالقول إن الوزارة هي من طلبت من رئاسة الوزراء حصر الاعتداءات لغايات السكن لترخيص الأراضي المقامة عليها، دلالة على جديتها في المضي قدمًا بالقرار.
يُطالب المجلس المحلي عبر رئيسه النواصرة الحكومة بالنظر للفئة غير المشمولة، أي أن توصل الخدمات وليس مجانًا إنما بثمن، مضيفًا أن غالبية هؤلاء موظفون في القطاع العام أو القوات المسلحة وهذا ما يساعد الحكومة على الاقتطاع من رواتبهم، بحسبه. «هذول الولاد بدهم إنارة اللي يقرأ، ريحة مي باردة بالصيف، مروحة، ثلاجة. هاظا الإشي كله ممنوع عنهم».
ويضيف النواصرة أن هؤلاء بنوا بيوتهم خارج التنظيم «قلّة الأراضي»، «يعني لو بي عندهم أرض ما عمّروا، وهم من ذوي الدخول المتدنية جدًا، يعني هم بالفعل بحاجة. أنا ابن المنطقة وبعرف أنهم بحاجة. ولو وجدوا مكان يبنوا فيه ما راحوا على المناطق هاي ولا دفعوا غرامات».
هذا التقرير جزء من مشروع «عيون» للصحافة المحلية الذي تنفذه حبر وشبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج).