هذا التقرير جزء من ملف ««تلبيس طواقي»: عن العيش بديون لا تنتهي». يمكنكم قراءة الملف كاملًا من هنا.
قبل حوالي عشر سنوات تخرجت أسماء* (28 عامًا) من الثانوية العامة بمعدل 72%، لم تسمح لها الظروف العائلية آنذاك بالالتحاق بالتعليم الجامعي، وتزوجت ابن خالتها الذي يعمل ميكانيكي سيارات، ثم بعد أشهر من الزواج قررت الالتحاق بكليةٍ تابعة لإحدى الجامعات الحكومية لدراسة دبلوم تربية الطفل.
كانت أسماء بحاجة 500 دينار من أجل تسديد قسط الفصل الدراسي الأول، «يومها كنت بايعة ذهبي، يعني خلص فش حل إلا القروض، وشغل زوجي يا دوب، ما [بقدر] يدرسني»، تقول أسماء. فتقدمت -عام 2013- بطلب للحصول على قرض من البنك الوطني لتمويل المشاريع الصغيرة. «ومن هون بلشت المعاناة (..) وفتنا بدوامة».
على مدار ما يقرب من عشر سنوات، ستقترض أسماء وزوجها من عدة مؤسساتٍ للتمويل الأصغر، تخضع لرقابة البنك المركزي، بالإضافة إلى شركات مالية تقدم تمويلًا وقروضًا متناهية الصغر للأفراد، وتنتشر مكاتبها في الأحياء الشعبية. وقد اقترضا منها أحيانًا مبالغ لم تتجاوز 70 دينارًا للوفاء بالتزامات معيشية أو لسداد أقساط قروض أخرى.
«بدي أشتغل عشان تأمين مستقبل أولادي، وعشان أشتغل لازم أجيب شهادة»، تقول أسماء. بعد تقدمها بطلبٍ للحصول على قرض بقيمة 500 دينار لأغراض تعليمية، طلب البنك الوطني منها شهادة التسجيل في الكلية ودفتر العائلة وكفلاء، فكفلها زوجها وأخوه. حصلتْ على القرض، على أن تسدده 900 دينار تقريبًا بما يشمل الفوائد والرسوم، وبقسطٍ شهري يبلغ 74 دينارًا لمدة سنة واحدة، يضاف إليه دينارٌ واحد على الأقل غرامة عن كل يوم تأخير.
حاولت أسماء وزوجها الالتزام بالسداد في الموعد ما أمكنهما، لكن الدفعات الثلاثة الأخيرة كانت الأصعب عليهما، «لازم أدفعهم بخمسة الشهر، معيش أدفع أو معيش المبلغ كامل»، لذا تقدما للبنك نفسه بطلب قرضٍ جديد، بحيث تُقتطع منه الدفعات المستحقة على القرض السابق، وتُعاد جدولة غرامات التأخير مع الأقساط الجديدة على سنةٍ أخرى. حصلت على قرض بقيمة 600 دينار، اقتطعت منه غرامات التأخير عن الدفعات الثلاثة، ليتبقى من المبلغ حوالي 400 دينار دفعتها رسومًا لدراسة الفصل الثاني في الكلية.
عام 2015، تخرجت أسماء من الكلية وعملت في مدرسةٍ خاصة، لكن رغبتها في تحسين راتبها والتنافس على وظيفة حكومية، دفعها بتشجيعٍ من زوجها لاستكمال تعليمها الجامعي، فالتحقت بجامعة خاصة لتحصل على شهادة البكالوريوس في تخصص معلمة صف.
ومن أجل دفع تكاليف الدراسة والمساهمة في نفقات المنزل، اقترضت أسماء وأعادت جدولة قروضها سبع مرات خلال ثماني سنوات، امتدت من 2013 إلى 2021، «بتصير زي الإدمان بتستسهل الموضوع»، حتى إنها استنفدت كل فرص التأجيل المتاحة، وهو ما يفرض عليها رسومًا إضافية بحسب قيمة القرض ومدة التأخير في السداد، «التعليم بده ثروة، وحياتنا صارت تلبيس طواقي»، تقول أسماء.
هكذا، اقترضت أسماء ألف دينار عام 2021 من شركة أخرى هي أهلي للتمويل الأصغر، من أجل تسديد دفعتين من قرض البنك الوطني، وكمبيالات بدل أقساط سيارة كانا قد اشترياها ودفعا ثلاثة آلاف دينار من ثمنها، لكنهما لم يتمكّنا من تسديد باقي قيمتها، فأعاداها للمالك. سيبلغ حجم القرض مع الفوائد والرسوم والعمولات حوالي 1350 دينارًا، يُسدّد بقسط شهري قيمته 75 دينارًا على مدار عام ونصف.
في كل الأحوال، لم يكن راتب أسماء البالغ 220 دينارًا، ولا دخل زوجها البالغ 300 دينار، يكفيان لتغطية الالتزامات المعيشية والأقساط بما فيها إيجار المنزل، خصوصًا بعد أن أنجبا طفلين. فاضطرا لتقاسم منزلهما مع مستأجرة أخرى من أجل تقاسم قيمة الإيجار البالغ 180 دينارًا مناصفة بينهما، فأضيف بين الغرف وفي منتصف المطبخ قواطع «جبسون بورد»، وهو ما قَبِل به مالك المنزل.
رغم ذلك، استمرت الأعباء المالية، ورفضت شركات التمويل منحهم قروضًا إضافية قبل تسديد القروض السارية، كما بدأت هذه القروض تلاحق الكفلاء وتزعجهم، «صار بدنا ندبرها من تحت الارض»، تقول أسماء. وفي أيلول 2021 وصلتها رسالة على هاتفها عن عرضٍ لاقتراض 70 دينارًا بدون شروط أو كفيل من شركة تدعى «ليندو» للتمويل. تصفّحت أسماء صفحة الشركة على فيسبوك ووجدت فيها منشورات من قبيل: «مصاريفك زادت بالمنخفض؟ اطلب قرضك الفوري الآن» و«التزاماتك بتكبر؟ قيمة قروضنا كمان بتكبر». توجهت في اليوم التالي إلى أحد فروع الشركة دون أن تسأل حتى عن الأوراق المطلوبة «لإني صرت خبرة بالموضوع».
يتطلب الاقتراض من ليندو بطاقة هوية أردنية أو جواز سفر ساري المفعول، بالإضافة إلى قسيمة راتب، ويمكن طلب قرض قصير الأجل للأشخاص الذين لا يملكون دخلًا منتظمًا بشرط توافر حساب ضمان اجتماعي غير منقطع. عبّأت أسماء الطلب سريعًا، ووقعت كمبيالة بقيمة 550 دينار في حال عدم سداد المبلغ في موعده، لتحصل في عشر دقائق على 70 دينارًا مستحقة الدفع بعد شهر واحد، «حكولي إذا سدّيتهم قبل الشهر، برتفع السقف المرة الجاي».
بعد يومين، ذهب زوج أسماء إلى المكتب نفسه واقترض هو الآخر 70 دينارًا أخرى. وبعد أسبوع توجّها لشركة أخرى تدعى «المال» للتمويل واقترض كل منهما 60 دينارًا مستحقة الدفع بعد شهر واحد، وقد استخدما هذه المبالغ لسداد دفعة مستعجلة للبنك الوطني كان يطلبها من الكفيل.
يُذكر أن شركتي المال وليندو مسجلتان في دائرة مراقبة الشركات، إذ تأسست المال عام 2020، ولها 43 فرعًا في الأردن. فيما تأسست ليندو عام 2019 ولها 17 فرعًا. ومن غايات الشركتين التمويل والإقراض للشركات والأفراد، وتمويل الحاجات الشخصية والاستهلاكية الصغيرة والمتوسطة.
مرّ على أسماء وزوجها أكثر من شهر دون أن يتمكّنا من سداد القروض الأربعة الأخير، فطلبا التأجيل، ليترتّب على كل منهما غرامة قدرها 70 قرشًا عن كل يوم تأخير، يضاف إليها 11 دينارًا عن كل شهر بدل رسوم تأجيل السداد، حتى وصلت قيمة المبلغ المطلوب لشركة ليندو إلى 127 دينارًا. فيما وصل المبلغ المطلوب من شركة المال 174 دينارًا.
خلال عام 2021، كانت أسماء تستقبل يوميًا عشرات المكالمات تطالبها بسداد المبالغ المستحقة عليها لهذه الشركات، مع تهديدات بالملاحقة القانونية بسبب التأخر في السداد، حتى قررت مطلع عام 2022 التوقف نهائيًا عن الاقتراض من هذه الشركات رغم تزايد التزاماتها تجاه أطفالها، «حتى لو بدي أموت جوع». ولجأت للاستدانة من أقربائها حتى تسدد شهرين متراكمين من إيجار المنزل، ودفعةً للبنك الوطني، والدفعات الأربعة لليندو والمال.
بعد سداد قروض ليندو والمال، وصلت إلى هاتف أسماء رسالة تفيد بإغلاق المعاملات السابقة، وتجهيز معاملة قرض جديدة في حال رغبتها بالتجديد، مع دعوة لاستلام المبلغ من أقرب فرع. «كان المسج زي اللي بحطك تحت الأمر الواقع»، تقول أسماء التي حذفت الرسالة من بريدها فورًا حتى لا تفكر بالموضوع أبدًا، خصوصًا أن خمس دفعات للبنك الوطني، وست دفعات للأهلي، ما زالت مستحقة عليهما خلال الأشهر القادمة، ولا يعرفان كيف سيتمكّنان من تسديدها.
كل يومٍ تقول أسماء لنفسها إن هذا الكابوس سينتهي، وتضحك حين يسألها زوجها: «ما بدك تكملي دكتوراه؟». هي اليوم بعد ست سنواتٍ في البكالوريوس وخوض كل هذه المعاناة من أجل الحصول على شهادة جامعية تقول «ممكن غلطتي إني درست»، خصوصًا أنها لم تستلم شهادتها الجامعة بعْد، إذ راجعت في أيلول 2022 مكتب القبول والتسجيل في الجامعة لاستلام شهادتها، فقال لها الموظف: «ما بنقدر نعطيكِ شهادتك، عليكِ 70 دينار».
* اسم مستعار حفاظًا على الخصوصية.