في الوقت الذي كانت فيه قريناتها من البنات يذهبن إلى المدرسة، توقفت رغد المساعيد، ابنة الست سنوات حينها عن الانتظام في المدرسة، لأنها كانت تخاف المعلمات اللواتي «كانوا يظربوا كثير بالبربيش. وظربوني أنا كمان لأني ما قصيت أظافري». تركت رغد المدرسة، وانقطعت عن الذهاب إليها لعامين.
في تلك الفترة كانت رغد تلعب كرة القدم في الحارة، مع الأولاد صباحًا قبل ذهابهم للمدرسة، ومع البنات عصرًا بعد عودتهنّ من المدرسة. «في الحارة البنات ما يرضو يلعبوا مع الأولاد لأنه أهاليهم علموهم البنات ما يلعبوا مع الأولاد. أنا عادي ما عندي مانع ألعب مع الأولاد». وفي الإجازات كانت رغد تذهب إلى الملعب وتشاهد من خلف السياج والدها وإخوانها الذكور يلعبون كرة القدم، ولم يكن مسموحًا لها المشاركة حينها.
اعترض أقارب رغد على لعبها لكرة القدم مع الأولاد في الشارع، وحاول أخوها الأكبر منعها من فعل ذلك. وفي كل مرة يصادفها عمها أو خالها وهي تلعب الكرة مع الأولاد يوقفان اللعبة ويوبخان رغد. لكن ذلك لم يثنها عن اللعب.
خالد المساعيد، والد رغد كان أول من التفت إلى قدرات ابنته في اللعبة. فله تاريخ رياضي طويل بدأ في عام 1975 حين كان لاعبًا مسجلًا في الاتحاد الأردني لكرة القدم لمدة تسع سنوات، وانتهى عام 2003، بعد أن انتسب للقوات المسلحة التي لم تكن حينها تسمح لأعضائها بالانضمام للنوادي الرياضية. حاليًا، خالد متقاعد عسكري يعمل في وزارة الصحة كرجل أمن وحماية، «حلمي كان إني أصل كرياضي. حلمي وقف لحدود وكنت أتمناه لأبنائي»، يقول خالد الذي له أربعة أبناء وثلاث بنات أوسطهنّ رغد.
يستذكر خالد أول مرة شاهد ابنته وهي تلعب كرة القدم. «كنت جاي من الدوام، بتطلّع رغد هاي اللي بتلعب، ظليت صافن فيها بتلعب صح. ما دققت على أبنائي قد ما دققت على رغد لإنه ما كنت مقتنع أول إشي إنها تلعب كبنت». وبالرغم من إدراكه لقدرات ابنته في اللعبة إلا أنه اتخذ في البداية موقفًا مساندًا لابنه البكر، وبرر ذلك لرغد بخوفهم عليها من أن تتأذى خلال لعبها في الشارع. لكن رغد أصرت على متابعة اللعبة وأقنعت والدها بالذهاب لملعب القرية لتريه مهاراتها في كرة القدم. «أخذتها واختبرتها وأنا نفسي ما صدقت».
«قبل هيك ما كانن يمسكن الكرة. الأيام هاي صار طبيعي تلقاهن في الشارع يلعبن».
في اليوم التالي ذهبت رغد مع والدها لمقابلة مؤسس أكاديمية منشية السلطة لكرة القدم، نادر الشرعة، الذي أجرى لها اختبارًا لقياس قدراتها في اللعب. لكن لم يكن في الأكاديمية حينها فريق للبنات، فحاول والد رغد إقناع المدرب باستقبال البنات وتدريبهن في الأكاديمية. «نادر قال لي أنا خايف من المجتمع. قلت له لشو تخاف من المجتمع، في بنتي وبنات نسايبي وهم جيراني بطلعوا عشرة ولما يشوفوهن يتشجعوا اللي في المنطقة».
جمع نادر نحو خمس بنات من أقارب رغد في القرية. «وبلشت العقول تنفتح في البلد، أول شي خمسة بعدين 10، وهسا بوصل عددهن لـ50 بنت»، يقول خالد. «قبل هيك ما كانن يمسكن الكرة. الأيام هاي صار طبيعي تلقاهن في الشارع يلعبن».
حين بلغت سن الثامنة، أصبحت رغد أول عضوة في أكاديمية منشية السلطة، ونواة لتأسيس أول فريق كرة قدم لبنات المنشية، وهو فريق البنات الوحيد في محافظة المفرق لغاية الآن. وبالفعل، بدأت رغد التدريب مع نادر ورفيقاتها خلال الإجازة الصيفية، وفي نهايتها كانت رغد جاهزة للعودة للمدرسة. «أول شي فكرت إني رح ألاقي نفس المعلمات، بس رحت وإنه انتقلن وإجن معلمات جداد».
أتمت رغد الحادية عشرة من عمرها. وهي غير نادمة على تأخرها في المدرسة، «مبسوطة» لأنها استفادت من اللعب بالكرة. مدربها نادر يقول إنها تتميز باللياقة والمرونة الجسدية «وفهمانة الملعب، بتراوغ اثنين وثلاثة»، ويتحدى بها المنتخبات التي لو استثمرت في تدريبها ستكون رغد بعد خمس أو ست سنوات قادرة على المشاركة والفوز في بطولة آسيا. «في كثير بنات ثانيين إمكانياتهم أقل من رغد وماخذين فرص أكثر منها»، يقول نادر.
أحيانًا يلعب والد رغد كرة القدم معها، وفي كل مرة ينبهر بـ«النزعة الهجومية والبنية الجسدية القوية» لديها، كما يقول. وينضم للعبة ابن خالها عثمان، الذي يصف اللعب معها بالقول: «ما حدا بقدرلها، مرات نلعب هجوم، تهجم علينا تقصنا كلنا». يثق الأب بالمهارة والرغبة التي تمتلكهما رغد، «ولما تتوفر المهارة مع الرغبة معناته عندها حلم بس بتوقف عند خط محدود، ممكن تتجاوزه إذا تبناها أي نادي». ويبدي الوالد استعداده لدعم ابنته، حتى لو تطلب ذلك أن يكلف أحد إخوانها بتوصيلها ذهابًا وإيابًا إلى نادٍ يتولى تدريبها. «البنات مهضوم حقهن. حرام لما تكون عند البنت موهبة».
والدة رغد ترى تميز ابنتها في قوة شخصيتها وتصميمها على فعل ما لا يسمح للبنات فعله. وتقارن الأم بين زمانها عندما «كانت البنت عيب تطلع برة وعيب تلعب وكله ممنوع» وزمان ابنتها وكيف تطورت المعتقدات الاجتماعية التي سمحت لابنتها وقريناتها بما لم يكن مسموحًا به لأمهاتهنّ. «اللي الواحد ما قدر يسويه لنفسه سواه لأولاده».
تصف الأم لوم الجيران لها لسماحها لابنتها باللعب في الخارج مع الأولاد، «وأنا أقول هذي بنتي وخليها تلعب، ماهي قدام عيونّا وواثقين بيها ومربينها وعارفين إنها فهمانة وشخصيتها قوية». وتلفت إلى موقف الأب «المتفهم» والذي ساعد على تقبل الجيران والأقارب للعب رغد كرة القدم. «منطيها الحرية وما بقول البنت عيب وما عيب لأنها بنت»، بل يقوم والد رغد أحيانًا بتدريبها بنفسه واصطحابها معه لحضور مباريات كرة القدم، «وصارن البنات يغارن منها وتشجّع الكل وصاروا ياخذوا بناتهم يحضرن المباريات معهم».
في الحي الذي تقطنه عائلة رغد كان لكل المارّة، صغارًا وكبارًا، ما يقولونه عن كرة القدم. بدت وكأنها النشاط الرياضي والاجتماعي الأكثر شعبيةً في القرية. الأراضي الفارغة الممتدة بسخاء بين أحياء البلدة أتاحت لبلدية منشية السلطة إنشاء ملعب كرة قدم محاذٍ لها، يصفه مؤسس أكاديمية المنشية بأنه «مساحة آمنة» يمكن تدريب الأطفال فيها وإجراء مباريات لهم بما لا يزيد عن 10 أو 16 لاعبًا ولاعبة. وتفصل بين أحياء البلدة شوارع تندر فيها السيارات، تسمح للصغار بلعب كرة القدم.
توصف منشية السُلْطة بأنها «بلدة حديثة البناء» في محافظة المفرق، تتبع لبلدية «الزعتري ومنشية السلطة». عدد سكانها 3740 نسمة، هم عبارة عن توسع سكاني متنوع وتجمّعات لعدد من عشائر البادية الشمالية. تتوزع بين أحياء المنشية عشائر أردنية، مسلمون ومسيحيون، وعشائر فلسطينية سبعاوية من غزة، ولاجئون سوريون وعراقيون ويمنيون، وعائلة ممتدة برازيلية. ويمكن مشاهدة تأثير بعض عادات هذه المجموعات، مثل استخدام الدراجات الهوائية كوسيلة نقل داخل البلدة، والتي يقول خالد المساعيد إنها وسيلة أدخلها السوريون، وهو يستخدمها للذهاب إلى عمله.
أنشأت البلدية ملعب كرة القدم دعمًا لأكاديمية منشية السلطة لكرة القدم التي أسسها في عام 2011 نادر الشرعة، وهو مدرب من أبناء القرية. قامت الأكاديمية بتدريب نحو 80 يافعًا في القرية، انضم بعضهم لنوادٍ رياضيةً بعد أن أتموا 18 عامًا، وشكلت فريقًا للأولاد.
بعد أربع سنوات من تأسيس الأكاديمية تم تشكيل فريق كرة قدم للبنات، ضم نحو 20 فتاةً من أصل 50 شاركن في التدريب بشكل متقطع. شارك فريق الأولاد في بطولات محلية وبطولةً في السعودية، كان آخرها البطولة الأفروآسيوية للأندية والأكاديميات للناشئين، في قطر، في آب 2019.
شارك فريق أولاد منشية السلطة في بطولة قطر كممثل وحيد للأردن، وفاز بالمركز الثالث بعد العراق وقطر. حدث ذلك بعد أن تمكنت الأكاديمية من جمع تبرعات مالية من أفراد لتسفير 13 عضوًا، بما فيهم المدرب ولاعب احتياط واحد فقط. كان زين، 15 سنة، أحد المشاركين في البطولة بوصفه «قلب الدفاع»، يصف التجربة بأنها «الأجمل في حياتي» لكنها كانت شاقة جدًا. «والله تعبنا كثير، الواحد بطل فيه حيل وما قدرنا نبدل. كان في إصابتين واحد قدم بدلوه بالاحتياط وواحد إيده انكسرت وبده يريح ما قدر، ضل يلعب وإيده مكسورة». وبعد العودة بالفوز واجه الفريق إحباطًا آخر، «لما رجعنا كل واحد راح على بيته وأهله احتفلوا فيه وبس. توقعنا الأردن كله يحتفل فينا وما حدا دري».
«المهم أكون لاعبة كرة قدم، مو مهم إني أروح على دول ثانية. حتى لو ظليتني ألعب في المفرق، عادي، المهم إني ألعب».
لم تتمكن رغد وفريقها من المشاركة في أي من هذه البطولات، لأن الفريق، وفقًا لرغد، لم يتقن اللعبة بما يكفي للمشاركة في البطولات. ويأسف المدرب نادر الشرعة لعدم توفر الموارد المالية لإشراك رغد وفريق البنات في بطولة قطر، لكن البطولة ليست أولوية بالنسبة لرغد. «المهم أكون لاعبة كرة قدم، مو مهم إني أروح على دول ثانية. حتى لو ظليتني ألعب في المفرق، عادي، المهم إني ألعب».
في أكاديمية منشية السلطة كان يتدرب فريق البنات بشكل منفصل عن فريق الأولاد، إلى أن جرت أول مباراة بين الفريقين وفاز فيها فريق البنات. تروي رغد كيف فاز فريقها بالرغم من عدم ثقة رفيقاتها اللاعبات من قدرتهن على الفوز على فريق الأولاد. «قلت لا تخافون إنتو بس إلعبوا ودافعوا عن فريقكم. وسوينا خطة. كنا ستة، حطينا أربعة دفاع وأنا بس المهاجم. لكن أنا ما هاجمت لحالي وأعطيت الطابة لوحدة ثانية جابت جول».
في المدرسة، تولت معلمة الرياضة «مس هناء» تدريب رغد ورفيقاتها في الأكاديمية خلال حصص الرياضة، واختارت خمسةً منهنّ للمشاركة في بطولة مقابل مدارس أخرى. وفاز فريق مدرسة رغد بالمركز الثاني. «أحلى جول لما البنت رمت لي الطابة عالية وأنا كنت متقدم بس لفيت من ورا وظربتها باليسار لأول مرة»، تقول رغد.
عندما تلعب رغد كرة القدم تشعر «بالقوة والتنافس» عند مواجهة فريق كامل لأخذ الكرة. «مرة كلهن تجمعن علي وأنا زرقت الطابة وجبت الجول. البنات ما صدقن وصار الكل بده إياني بفريقه». وهي تلعب من أجل متعة التنافس وليس الفوز. «لما نمسك إيدين بعض بنتفق إنه نفوز بس ما نوتر حالنا، إذا فزنا فزنا، اللي كاتبه الله بده يصير، وإذا ما فزنا عادي المهم يظل في تنافس».
أكثر ما تتمناه رغد أن تواصل تدريبها كلاعبة إلى أن تصبح مدربة لفتيات قريتها. وتعلم أن تحقيق ذلك يعتمد على وجود الفريق واستمرار البنات في التدريب حتى بعد أن تصل أعمارهن إلى 13 أو 14 عامًا، وهو العمر الذي تتوقف فيه بنات القرية عن لعب كرة القدم. «ودي أظل ألعب لما أكبر ويصير عمري ثلاثين، وحتى لما أتجوز رح أظل ألعب بالطابة». وعندما تصبح مدربة، تعد رغد بأنها ستدرب بنات المنشية ثم بنات المفرق وباقي الأردن ودول أخرى. «بدي أدرب بنات صاحباتي عشان يحسين زي ما حسيت وأنا صغيرة».
تم إنتاج الفيديو المرافق لهذا التقرير ضمن مشروع «عيون» للصحافة المحلية.
أجريت المقابلات المصورة في شهر شباط 2020.