رمضان بعد الإبادة: غزة ترقب أشباحها

إفطار جماعي وسط الأنقاض في جباليا شمال القطاع، في أول أيام رمضان. تصوير بشار طالب. أ ف ب.

رمضان بعد الإبادة: غزة ترقب أشباحها

الخميس 06 آذار 2025

تفاجأ الغزيون بقدوم شهر رمضان. إذ لم تكن 42 يومًا من وقف إطلاق النار أعقبت 471 يومًا من حرب إبادة دامية، كافيةً لاستقبال مناسبة بهذا الحجم. أُعلِن عن تحري هلال الشهر الفضيل بينما ينهمك الأهالي في عراكٍ قاسٍ مع نسق حياة جديد، لا يشبه ما اعتادوه طوال عقود مضت. هذه المرّة، عادت المدينة سنوات إلى الوراء؛ فلا كهرباء ولا مياه ولا عمل. ومع تعطيل كاملٍ لكافة مظاهر الحياة المدنية، يتوجس الناس من غدٍ مجهول يحمل تهديدات بعودة الحرب، ومن مستقبل غامض يحوم فيه شبح التهجير، لذا؛ لم تنشغل الأمهات في شراء حبال الإضاءة والفوانيس وشراشف السفرة والطعام المخصص للسحور، وقد كانت تلك طقوس البهجة الأساسية التي تحضّر قبل أسابيع من يوم الصيام الأول. 

بدا واضحًا في الشوارع الغارقة في العتمة، أن محاولات التمرّد على الواقع الذي خلفته الإبادة، انحصرت في حالات فردية: حبل زينة يتيم على ما تبقى من منزل مُهدّم في مخيم جباليا، بائعو قطائف لم يتنازلوا عن موسم الرزق السنوي، أصحاب محلات تجارية نجت جزئيًا من الخراب يشغلون أغانٍ رمضانية، ومبادرات في شكل إفطار جماعي، تقوم عليها جمعيات خيرية من خارج القطاع، نُفّذت بشق الأنفس وبتكاليف باهظة تصل لعشرات الآلاف من الدولارات لصناعة صورة إعلامية والتقاط لحظة. أمّا الجميع، فغارقون في هموم الحياة الجديدة؛ استصلاح غرفة في بيت مهدم للسكن، تثبيت الخيمة كي لا تقتلعها الرياح أو تغرقها مياه المطر، وروتين الحياة اليومي الذي يبدأ بحمل دلاء المياه لمئات الأمتار، وتأمين رغيف الخبز، وتوفير الحطب للطهي، وشحن الهواتف والبطاريات للإضاءة.

عائلة غزية تتناول الإفطار في منزلها المدمر في بيت لاهيا. تصوير بشار طالب. أ ف ب.

أحد باعة القطايف في سوق الزاوية، في أول أيام شهر رمضان. تصوير عمر القطاع. أ ف ب.

يتضح في كل مناسبة، أن الإبادة لم تكن حربًا دمويةً وإجرامية فقط، بل هوّة زمنية تفصل بين حياة نعيشها وأخرى كنا نخشاها. الهاجس من القادم دفع الأهالي طوال العقدين الماضيين إلى المبالغة والمغالاة في خلق الفرح والتهامه، إذ نقل الغزيون مظاهر البهجة الرمضانية من جيرانهم المصريين، للحد الذي كنت تشعر معه وأنت تمشي في شارع فهمي بيك وسط مدينة غزة بأنك تسير في حي السيدة زينب في القاهرة القديمة؛ حبال الزينة والفوانيس الفاطمية والأغاني الشعبية التراثية المصرية يُشغّلها أصحاب المتاجر والبسطات عبر مكبرات الصوت. ستمشي وسط الزحام المحبب وترافقك في كل حارة: «وحوي يا وحوي»، وأغنية «رمضان جانا أهلًا رمضان». يقترب قرص الشمس من المغيب، فتعزف حارات المدينة على رتم واحد صوت النقشبندي «مولاي إني ببابك قد بسطت يدي».

تعليق زينة رمضان خلال إفطار جماعي في حي تل الهوى. تصوير عمر القطاع. أ ف ب.

كان ذلك التماهي مثيرًا للجدل، وضعه بعض المثقفين في سياق ظواهر اجتماعية مثل التأثر والفقر الحضري. سنفهم في رمضان ما بعد الإبادة، أن الموضوع أبسط من ذلك التعقيد، الغزيون كانوا دائمًا جائعين للفرح، تسكنهم عقدة الخوف من الآتي، يتمسّكون بأي لحظة متاحة للحياة وكأنها الفرصة الأخيرة. ستتضخم المناسبات لتأخذ أكثر من حقها، رأس السنة الميلادية وعيد الحب وحتى موسم الثانوية العامة ونتائج التوجيهي. ستجد عائلات بأكملها تتجهز لإحياء عيد المولد النبوي بالحلويات والمدائح وكحل العين. «الناس جعانة فرح .. جعانة حياة» كان صديقي يكرر دائمًا تلك اللازمة، وها نحن نقف أمام لحظة إدراك: كيف يكون الحدس الجماعي صادقًا إلى هذا الحد؟ 

كلُ شيء تغير في رمضان هذا العام، والمشكلة ليست في غياب المظاهر فقط، فالأضواء التي كانت تزين الشرفات، هي انعكاس لعائلة كان تجتمع على مائدة الفطور، ومحالّ الحلويات التي تزدحم في ساعات المساء، هي تيرمومتر صلة الرحم وحركة العائلات في تبادل الزيارات والسهرات التي تطول حتى السحور. لقد حلت الفرقة والفراغ والفقد مكان كل ذلك. «آذتنا «إسرائيل» في موطن بطولتنا الوحيد، الناس في غزة ليسوا أثرياء بالمال، وهامش الحياة الصاخبة بالسفر والحفلات والترف معدوم لديهم، كنا نمتلك عائلات متماسكة، وحياة دافئة، نستثمر في أولادنا، نستمتع بهذا البناء الاجتماعي المنسجم والمتآلف»، يقول إسماعيل شقورة، وهو معلم حكومي فقد منزله وعددًا من أفراد عائلته وجيرانه، وتابع: «الغربة اللي بنعيشها في رمضان هذا العام أننا فقدنا بيوتنا والناس اللي كانت تعطي للبيت والحارة نكهة الحياة وأنسها وبهجتها، الحياة كانت تبدأ بعد الفطور، كل الشوارع مضيئة وصاخبة وعامرة بالفرح والأنس. الزيارات الاجتماعية والسهرات، الأسواق المكتظة، والأهم، هداة البال. لكن اليوم إذا قدرت تخلق أجواء من العدم في خيمة أو مركز إيواء، مين يرجع الغائبين، وكيف ممكن تتجاوز تهديدات عودة الحرب بعد أيام؟».

أطفال يشعلون الألعاب النارية في مخيم البريج. تصوير إياد البابا. أ ف ب.

المسحراتي وظيفة ألغاها التطور في غزة أيضًا، ساعات المنبه وسماعات المساجد كانت تقوم بالمهمة. لكن المسحراتي عاد إلى حارات القطاع خلال السنوات العشر التي سبقت الإبادة، بل وتحوّل من حالات طوعية عشوائية إلى مهنة سنوية يداوم فيها أشخاص معروفون بالعطاء والظرافة. يأتي العم أبو أحمد إلى حي تل الزعتر شرق مخيم جباليا مناديًا بصوته الجميل: «اصحى يا نايم وحد الدايم. رمضان كريم» هذا نداء للعوام. أمّا لوجهاء الحي وكبار السن وأصحاب الحظوة، فيقف تحت نوافذ بيوتهم ويناديهم بأسمائهم: «الطبل دق والقلب رق، واصحى يا أبو العز ومتقولش لأ». في هذا العام استبق العمّ أبو أحمد السحور الرمضاني الأول، وجاء ليتحقق إن كان أصدقاؤه لا يزالون أحياء، كي لا ينكأ جروح عائلاتهم. سأل عن أكثرهم ولمّا علم أنهم قضوا في حرب الإبادة، قفل عائدًا وقد قرر ألا ينادي على أحدٍ باسمه. 

إفطار جماعي في أول أيام رمضان في رفح. أ ف ب.

سيغدو كل ما تقدم ترفًا في المشهد القائم، فالآلاف من ذوي الشهداء والمفقودين لم يغادروا بعد دائرة الموت إلى البحث عن الحياة. تقول أم محمد حجازي: «نفسي أعيش الهموم اللي الكل عايشها. نفسي أنزعج من ارتفاع سعر البضائع في السوق، أو إنه بيتي مهدوم. (..) من يوم ما توقف إطلاق النار، وإحنا بنبحث عن محمد بين الشهداء في القبور الجماعية، بنزور كل أسير تحرر من السجن وبنسأل إذا شافه. يعني أمنيتنا نعرف خبر عنه، في كل سحور بسأل ربنا يهدي بالنا عنه ويريحنا من الحيرة والقلق».

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية