عبد الله رجا الزعبي: ذاكرة الإدارة العامة في الأردن

عبد الله رجا الزعبي في كلية المجتمع العربي التي يرأس مجلس إدارتها. تصوير مؤمن ملكاوي.

عبد الله رجا الزعبي: ذاكرة الإدارة العامة في الأردن

الخميس 29 آب 2024

«لقد عملت في 71 بلدًا حول العالم»، يقولها بابتهاج متكرر، ثم ينهض لإحضار خارطة للعالم رُسِمَت عليها بقعٌ ودوائر ملونة تشير إلى تلك البلدان. هذه ربما تكون أحب الكلمات إلى قلب الدكتور عبد الله رجا الزعبي، الذي أكمل في حزيران 2024 عامه الثاني والتسعين، وما زال يمارس عمله بانتباه شديد ومتابعة حثيثة في الكلية الجامعية العربية للتكنولوجيا (كلية المجتمع العربي) التي يرأس مجلس إدارتها بعد تقاعده من العمل الرسمي.

كان في بداية حياته العملية قد تنقل لسنوات قليلة بين وظائف متنوعة، لكن سرعان ما استقر به الحال منذ منتصف ستينيات القرن الماضي في ميدان الإدارة العامة وتدريب الكوادر ووضع الخطط الإدارية في الأردن وشتى بلدان العالم كخبير دولي منتدب، وخاصة في الدول التي مرت بمشاكل إدارية نتيجة أزمات مرت بها في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، خصوصًا في قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. وقد مزج الزعبي بين المعرفة العلمية بعد نيله دكتوراه الفلسفة في الإدارة العامة، وبين التجربة العملية الغنية. لكنه يتحدث بأسىً اليوم عن ضياع تجربة الإدارة العامة التي صُنعت في الأردن، والتي صارت تسمى في بعض المنتديات الدولية بـ«التجربة الأردنية». واليوم تتغير ملامح وجهه وهو يعلّق على نمط التفكير الحالي في الإدارة العامة: «لقد انتهت الوظيفة العامة في الأردن».

إنها حتى الآن حوالي 70 سنة عمل، سبقها عقدان من الدراسة، لكنه يعرضها لمحدثّيه كما لو كانت سلسلة من الطرائف المتصلة. ولعله في ذلك ورث وحافظ على روح الفكاهة والتهكم التي تتميز بها بلدته الرمثا التي ولد فيها عام 1932 وغادرها بعد المدرسة، دون أن يقطع علاقاته معها، بل سوف يُذهلُ محدّثه بذاكرة حادة مكتظة بتفاصيل أسماء وأمكنة وعلاقات فردية وجماعية، وهو يحتفظ لغاية اليوم بتفاصيل العلاقات القرابية لسكان الرمثا، كما يحتفظ بصورة ذهنية للعمران وتوزيع السكان فيها، وأسماء شخوصها، كما يحفظ العشرات من طرائفها وحكاياها. وفي الأثناء يروي العديد من الأسرار الاجتماعية والحكايا الفكاهية التي يمتنع عن الإشارة إليها علنًا في مذكراته التي يكتبها حاليًا، لكنه بالطبع سوف يفرج عن الكثير مما تحمله الذاكرة.

مسودة مذكرات عبد الله رجا الزعبي

مصادفات شكلت المسيرة

كأغلب أسر الرمثا، اشتغلت أسرة الزعبي في الزراعة النباتية والحيوانية، فزرعوا القمح والعدس والشعير، وامتلكوا قطيعًا صغيرًا من الغنم وعددًا من الأبقار، وكان يشارك الطفل عبدالله بتسليمها لـ«العجّال» الذي يرعاها لهم في النهار مقابل أجرة،[1] ثم يستلمها منه عندما يعيدها مساء لأصحابها. لاحقًا امتلكت الأسرة بعض الجِمال التي شغّلوها في نقل محاصيل المزارعين من حقولهم إلى بيادرهم، ثم شغلوها بالنقل في بعض أعمال الطرق أثناء الحرب العالمية الثانية، كما استعملت العائلة الجمال في نقل الحجاج، وكان والده «مقوّم حجاج» ينظم الرحلات إلى أن بدأ الحج بالشاحنات عام 1946.

مارس الطفل والفتى عبد الله كافة مراحل العمل الزراعي، الذي كان يتخذ تقسيمًا وفق العمر بالدرجة الأولى، فعمل غَمّارًا[2] يجمع القش المحصود في أكوام، ثم رَجّادًا ينقل المحصول من الحقل إلى البيدر، ثم حصادًا فدَرّاسًا، وكان لديه متسع لصيد الطيور، وهو لا يزال يحفظ مفردات الزراعة كاملة وأغانيها. وخلال أعمال الزراعة المتواصلة على مدار العام، كان ينتزع وقتًا للدراسة والاستعداد للامتحانات.

يرى الزعبي اليوم أن مجموعة من المصادفات والأحداث شكلت مفاصل رئيسية في سيرته، من أهمها ما يحب أن يسميه «الهروب إلى المدرسة»، وهذه بالنسبة له أخطر قرار مفصلي اتخذه في حياته، موضحًا أنه التحق بـ«كُتّاب» سيدي موسى اللحام، وهو من رواد الكتاتيب في الرمثا، وكانت الدراسة في الكتّاب تنتهي بـ«الخِتمة»؛ أي ختم أجزاء من القرآن الكريم. وقد جاء يوم «الختمة» الخاص به والطلبة جلوسٌ على الأرض أمام الشيخ، وفجأة وقف الزعبي بين التلاميذ، دون أن يعرف السبب، ولم يجلس عندما نهره الشيخ طالبًا منه الجلوس، بل شقّ طريقه بين الأولاد الجالسين، فلحقه الشيخ بالعصا وهو يتجه راكضًا نحو المدرسة القريبة، وهي الوحيدة آنذاك، وظل الشيخ خلفه إلى أن دخل الى غرفة المدرسين، فشعر بالأمان وقال لهم إنه يريد الالتحاق بالمدرسة.

هدأ الشيخ، وقُبل الزعبي في الصف الأول عام 1942 وهو في العاشرة من عمره. ثم اشترت له والدته بدلة كاكي ببنطلون قصير ولكاليك (جوارب طويلة) وشورة وعقال،[3] وكان هذا الزي الرسمي للجميع. وكانت الدراسة في الرمثا آنذاك تنتهي في الصف السابع، وكانوا عند التخرج سبعة طلاب: ثلاثة من الرمثا وأربعة من قرى مجاورة.

عبد الله رجا الزعبي (وسط الصورة) أثناء رحلة كشافة مدرسة إربد إلى دمشق

يتذكر الزعبي أنه عندما أنهى الصف السابع، حصل أن جاء إلى بيتهم سائق سيارة شحن، فقال لوالده: «عقبال عند عبدالله يصير شوفير»، وكان للشوفير مقامًا متميزا في الرمثا في بداية اقتناء السيارات، ولكنه انتفض ورد علله فورًا: «لا يا عم إن شالله أدرس حتى العاشر، وأصبح أستاذًا». يقول الزعبي إن هذا الرد العفوي كان القرار المفصلي الثاني الذي رسم له الطريق إلى الرتب العلمية من مدرسة الرمثا إلى إربد إلى القاهرة إلى الولايات المتحدة حيث نال الدكتوراه في فلسفة الإدارة العامة.

من المفاصل المهمة التي شكلت مسيرة الزعبي مجموعة زياراتٍ إلى دمشق، وخاصة زيارة بيت محمد الأشمر وهو من أبرز المجاهدين السوريين في فلسطين، وقد زاره الزعبي في بيته المتواضع في دمشق عدة مرات، وكان يزورهم كلما حضر إلى الأردن قبل وفاته. ثم زيارة يافا وحيفا والتعرف على أردنيين هناك، وخاصة تاجر من المنطقة اسمه محمد يوسف الزعبي[4] كان يعمل في يافا، وكان محمد الزعبي مرجعية لعمال الميناء القادمين من حوران جنوبي سوريا ومن الرمثا وإربد، وفي هذه الزيارات بدأ التعرف على الصراع مع الصهاينة.

مصادفة أخرى أبعدته هذه المرة عن مجال التهريب الذي كان يستهوي الشباب في الرمثا، وعلى يد عبد الله التل[5] الذي كان يعمل حينها «مأمور جوازات» في مركز حدود الرمثا، وكان الزعبي ذاهبًا للتهريب مثل أقرانه، ولكن التل ناداه وسأله: ألست ابن الحاج رجا؟ فرد الزعبي نعم، فقال: «إرجع هاي الشغلة مش ليك». يقول «عدت ولم أفكر بالتهريب بعدها»، مضيفًا أنه لم يفكر بـ«الدبكة» أيضًا، وهي الاهتمام البارز الثاني لشباب القرية.

من الرمثا إلى 70 دولة في العالم

لاحقًا غادر الزعبي الرمثا إلى إربد، وسجل في الصف الأول الثانوي في مدرسة إربد الثانوية، وهي الوحيدة في متصرفية عجلون[6] التي كانت تضم كل مدن وقرى شمالي الأردن من الأغوار حتى بلدة «الاجفور» (الرويشد حاليًا) قرب الحدود العراقية.

في مدرسة إربد انفتح الزعبي على الاهتمامات الثقافية والسياسية، وكان التحزب منتشرًا بين التلاميذ والمعلمين، وانقسموا إلى إخوان مسلمين وتحريريين وبعثيين وشيوعيين، وكان هو محسوبًا على الإخوان حينها، فقد انضم إلى مجموعة زملاء تنشط في دار الإخوان دون الحاجة للانتساب. وقد مكنته هذه العلاقة مع الإخوان من الفوز في انتخابات «عريف الصف» على زميله ذي الميول البعثية عبدالله جرادات، فحصل على 17 صوتًا مقابل 15 للبعث، ورغم أن مربي الصف وهو ذوقان الهنداوي[7] كان بعثيًا، لكنه لم يتدخل في الانتخابات. ويذكر الزعبي أنه شهد في عام 1951 في إربد مقتل الطالب يحيى حقي الخصاونة[8] في مظاهرة تضامنية مع مصر، كما شهد تأبينه الذي كان بمشاركة الجميع.

كانت المدارس تصعب الترفيع الى الصف الأخير حتى يكون من يتقدم لامتحان «المترك» قادرًا على تجاوزه، وبالنتيجة نجح نصف الطلاب، ليتخرج من مدرسة إربد عام 1953: «كان علينا مراجعة خليل السالم[9] مسؤول البعثات في الوزارة. حصلت مع زملاء على منحة دراسية إلى جامعة القاهرة، ولكن علينا قبل الالتحاق بالجامعة التقدم للحصول على شهادة توجيهي مصري».

عبد الله رجا الزعبي في صباه

في القاهرة عالم جديد، أنشطة عديدة؛ سينما ومسرح وسياسة وفنون ولهو، يذكر أنه حضر انتخاب ملكة جمال الجامعة لبنى عبد العزيز التي أصبحت ممثلة مشهورة بعد ذلك، كما انفرد بالانتساب إلى نادي البلياردو، وهو ناد خاص تعرف فيه على بعض الشخصيات الفنية ومنهم عمر الشريف ورشدي أباظة وأحمد رمزي.

يقول الزعبي إن الطلبة انخرطوا في النشاط السياسي، وكان عدد الطلبة الأردنيين في القاهرة نحو 400 طالب انقسم أغلبهم بين التيارات السياسية: الإخوان والبعث والشيوعي، ونشطوا معًا في «رابطة الطلبة الأردنيين». ويذكر أنه شارك في أول مظاهرة وكانت للاحتجاج على إجبار محمد نجيب[10] على التنحي. وإثر ذلك، سجن بعض الطلبة الأردنيين وأبعد بعضهم من مصر، وكان الزعبي على وشك الاعتقال لولا بعض الصدف التي مكنته من استثمار بعض العلاقات الشخصية التي حالت دون السجن أو الإبعاد.

عاد من القاهرة بعد التخرج، وكان يفترض أن يعمل في الرمثا معلمًا، وشاءت الصدف أن تشاهده سيدة تجلس مع جاراتها أمام أحد البيوت، فسألت: «مش هاظ ابن الحجة ابديوية؟ (اسم والدته) بده يصير معلم؟ حَبّة تِنُقْرُه» وفور سماعه ذلك قرر الرحيل من الرمثا «خشية الحبة النقارة[11] تلك».

عبد الله رجا الزعبي في شبابه

عمل معلمًا في دار المعلمين في بيت حنينا بالقدس، وفي المدرسة التطبيقية التابعة لها، كان مدير الدار ذوقان الهنداوي الذي سيبقى صديقًا وشريك عمل حتى آخر عمره. ولم تكن مهمة دور المعلمين آنذاك تقتصر على التدريس وتخريج المعلمين، بل كان عليها أن تركز على ما يحتاجه الريف في الضفتين من تطوير وسائل الزراعة ورعاية الحيوانات. وكان على الطلاب أن يتجوّلوا في القرى ويطبقوا بعض ما تعلموه، فينظّم بعضهم صفوفًا لمكافحة الأمية، أو حملات لتطعيم الدواجن. وقد أسهم الطلاب في تنمية المجتمع الريفي في بيت حنينا فشجّعوا تأسيس فرع للبريد ومركز نسوي وروضة أطفال. وكان لدار المعلمين في بيت حنينا منجرة للتعليم على حرفة النجارة، حتى إن ذوقان الهنداوي بعدما أسسا معًا الكلية العربية أنشأ فيها منجرة لا تزال قائمة للآن.

الزعبي في دار المعلمين الريفية في بيت حنينا بالقدس عام 1958

عاد مرة أخرى إلى جامعة القاهرة لنيل الماجستير في التاريخ عام 1960، ثم العمل مفتشًا تربويًا في لواء عجلون، ثم بالصدفة وبتسارع الأحداث انتقل إلى ألمانيا ملحقًا ثقافيًا في السفارة الأردنية في مدينة بون. ويتذكر أنه قابل وصفي التل الذي قال له: إذا كنت ستذهب للجلوس وراء مكتبك وتعمل بيروقراطيًا، فلا تذهب، نريدك أن تكون مع الطلاب تشعر بهم ويشعرون بك.

يقول الزعبي إنه كان قادمًا من تجربة طلابية، واستفاد من ذلك في تفهم الطلاب الأردنيين في ألمانيا بعد أن أصبح مسؤولًا عن العلاقة معهم، محدثًا نقلة في علاقة السفارة بالطلبة. لكن الجانب الآخر من عمله في ألمانيا يرتبط بكونه من الرمثا، حيث كان المئات من أبناء المدينة حينذاك في ألمانيا، وقد أقاموا مجتمعاتهم الخاصة وحضورهم الكبير إلى درجة أن الزعبي استمع بحكم عمله إلى رجل أعمال ألماني يتحدث عن العلاقات الاقتصادية بين ألمانيا والدول العربية وخاصة مع مصر والسعودية.. والرمثا!

بعد ألمانيا عاد الزعبي إلى الأردن، كمحصلة لمناكفات بين بعض المسؤولين، وعُين في الكرك، فاستقال من وزارة التربية ليلتحق موظفًا في الجامعة الأردنية. ثم في عام 1966 مبعوثًا إلى أمريكا لدورة دراسية مدتها عام واحد في الإدارة. وقد استثمر تلك السنة في توسيع معارفه والاطلاع ميدانيا على أساليب الإدارة، وذلك بمبادرة منه بعيدًا عن واجبات الدراسة.

عاد إلى الأردن، وكانت الحكومة قد باشرت الاهتمام بمسائل تطوير الإدارة العامة والعناية بالتدريب، وأنشأت لذلك قسمًا في وزارة المالية اسمه «قسم التنظيم والأساليب» يعنى بقضايا تطوير التنظيم الإداري. بدا أن أحدًا ما لفت نائب مدير الموازنة في وزارة المالية إلى اسم عبد الله الزعبي، وبسرعة أجرى المقابلة اللازمة والتحق بوظيفة «أخصائي تدريب وتنظيم» مطلع عام 1967. وتطلبت احتياجات العمل أن يُرسل الموظف الجديد إلى أمريكا مجددًا لمزيد من الدراسة في ميدان التدريب في الإدارة العامة.

الزعبي أثناء دراسته في جامعة جنوب كاليفورنيا في لوس أنجلوس.

كانت تلك السنة زمن الانطلاق بحماس، يقول إنه وجد نفسه في هذا الميدان. ليعود في العام التالي وقد تأسس معهد الإدارة العامة، وكانت فكرة الوظيفة العامة تشهد تبدلات رئيسية في المفاهيم، فإلى ذلك الحين كان آخر شخصيات عهد الإدارة الإنجليزية، المعارين أصلًا من حكومة الانتداب في فلسطين لا يزالون في مواقع هامة، وبدأ مباشرة الصراع بين القديم والجديد، ولكن بقدر كبير من الانضباط، بحيث يمكن أن يحل جيل مكان جيل.

بعد تحقيق عدد من النجاحات، ومنها تنظيم أول مؤتمر للقادة الإداريين المحليين الذي عقد في الجامعة الأردنية عام 1969 برعاية الملك حسين، بدأ نجم الزعبي في الظهور، ثم كانت الخطوة الأكبر في حياته بأن أرسل لدراسة الدكتوراه في فلسفة الإدارة العامة، لينجر الجزء الأكبر من دراسته ويقطعها لأسباب خاصة عام 1972 ويعود مديرًا لمعهد الإدارة العامة.

يضع الزعبي في مذكراته فصلًا بعنوان «أنا والمعهد صنوان»، ذلك أن المعهد تحول بالنسبة إليه إلى سلاح لبناء خبرة وسمعة مهنية وقيادية على مستوى الوطن، ومن ثم العبور بينهما إلى المستويين العربي والدولي. وقد بدأت محاولة تطوير خبرات محلية، وحصل تعاون مع الجامعة الأردنية وأكاديميها، كما أرسلت بعثات تغطي احتياجات التدريب العالية من أصحاب خبراتٍ في الضريبة والسلك الدبلوماسي لدراسة حالة الإدارة القائمة وتطويرها.

لم تكن ميزانية المعهد في السنوات الأولى تتجاوز 70 ألف دينار، وقد صممت عشرات البرامج الإدارية في شتى المجالات لتشمل مختلف دوائر ومؤسسات ووزارات الدولة، وقد بلغ عدد المستفيدين من الدورات في بعض السنوات ما معدله 900 موظف وموظفة، حتى وصل التدريب إلى الأجهزة الأمنية والجيش ودائرة الجمارك ووزارة الخارجية. كما نال المعهد ثقة القطاع الخاص لغايات التدريب مثلما حصل مع غرفة التجارة وشركة الدخان وشركة الكهرباء وشركة عالية للطيران.

كانت تلك فترة ذهبية في مجال تطوير الإدارة وتدريب الموظفين، وذاع اسم المعهد وبدأت نشاطاته تتسع خارج الأردن. إن التفاصيل الفنية كثيرة، لكن الزعبي تميز بجرأة ملاحظاته مستندًا إلى اهتمام الأوساط العليا في السلطة. ثم تمّ ترشيحه للعمل في المجال ذاته في الجامعة العربية، بناء على ثقة الأمين العام للجامعة، الشاذلي القليبي. عاد إلى الأردن بعد انتهاء مهمته بالتزامن مع تشكيل حكومة أحمد عبيدات التي طرحت مهمة التطوير الإداري مجددًا، ليستعين عبيدات بالزعبي لإعداد الخطة اللازمة، ولكن استقالة الحكومة السريعة أنهت المشروع.

لكن الزعبي كان قد لفت انتباه مسؤولي الأمم المتحدة، الذين رشحوه للالتحاق بالمركز في الولايات المتحدة، لتفتح مرحلة جديدة في حياته العملية، ويُنتدب للعمل والاستشارات في عشرات الدول، وخاصة تلك التي تعرضت لتحولات سياسية كبرى في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. وهو يختار هذا الجانب من خبرته الدولية يعنون مذكراته بـ«كيف أصبح العالم قريتي؟».

الزعبي في باحة مبنى الأمم المتحدة في نيويورك عام 1985.

تجول مبعوثا أمميًا في 14 دولة أوروبية، و15 دولة عربية، وست دول آسيوية، وسبع دول جزرية في المحيط الهادئ، وثماني دول في إفريقيا، وست دول في أمريكا اللاتينية، وغيرها من الدول التي كان قد خدم فيها قبل الالتحاق بالأمم المتحدة.

في مذكراته، ثمة فصل عن تجربته في التطوير الإداري في غزة بعد إقامة السلطة الفلسطينية عام 1994. وهنا تمتزج الذكريات عن فلسطين بالمشاعر الجديدة، ويتحدث كيف استطاع وهو الموظف الأممي أن يتجاوز التعامل مع الطرف الإسرائيلي، وهو ما أدخله في بعض الإشكالات التي تجاوزها بطرق رسمية حينًا وغير رسمية حينًا آخر، وقد تمكّن بالنتيجة من تصميم ووضع خطة لهيكلة الإدارة في السلطة الوليدة في غزة.

انتهى عمله في الأمم المتحدة عام 1996، ليعود للاستقرار في بلده. لكنه لا يعرف التوقف عن العمل، فعاد إلى مؤسسة تعليمية كان قد دخل شريكًا بها منذ العام 1980، وهي كلية المجتمع العربي، وعمل في إدارتها مع من بقي من شركائه القدامى، وآخرهم الراحل ذوقان الهنداوي الذي توفي عام 2005، فاستلم الإدارة مكانه، ولا يزال حتى الآن على رأس عمله بما لا يقل عن أربع ساعات يوميًا. وهو اليوم يضع فوق رأسه صورة شركائه من مؤسسي الكلية وأغلبهم من رواد قطاع التربية والتعليم في الأردن، وعندما تطلب منه أية جهة أن يغير من أساليبه، ولكن بطريقة يراها مخالفة لمبادئه في العمل، يقول لهم: «انظروا إليهم في الصورة، إنهم يراقبونني».

عبدالله رجا الزعبي يشير إلى الزملاء الذين يقول إنهم يراقبونه.

في صفحات المذكرات التي تفوق الـ600 صفحة، تنتشر عشرات الوثائق والحكايا والطرائف، وعندما استفسرت منه عن ذلك قال لي: في كل جولاتي الدولية، كنت بمجرد أن أصل إلى البلد المعني، وإلى جانب مهماتي الفنية، كنت دومًا «رمثاويًا».

  • الهوامش

    [1] العجّال: راعي الأبقار المتخصص يستلمها من أصحابها صباحًا ويرعاها ثم يعيدها مساءً مقابل أجرة.

    [2] الغمّار: غمّر يغمر غَمّار، هو الشخص الذي يقوم بتجميع القش المحصود في أكوام يسمى كل منها «غمر».

    [3] الشورة والعقال غطاء الرأس.

    [4] محمد يوسف الزعبي أحد وجوه شمال الأردن، من قرية حريما في لواء بني كنانة، عمل في الأردن وفلسطين، وهو والد نقيب الأطباء الحالي زياد الزعبي.

    [5] عبدالله التل هو القائد العسكري الشهير في الجيش الأردني حتى حرب 1948 وقد نفي إلى القاهرة بعد اتهامه بالضلوع في حادثة اغتيال الملك عبدالله الأول، وعاد إلى الأردن لاحقًا وتوفي فيه عام 1972.

    [6] وفق التقسيمات الإدارية منذ تأسيس الإمارة حتى خمسينات القرن العشرين كانت متصرفية عجلون تشمل كل منطقة شمال الأردن من الأغوار حتى الحدود مع العراق، مرورًا بإربد وجرش وجبل عجلون والمفرق.

    [7] ذوقان الهنداوي شخصية سياسية وتربوية معروفة، تولى منصب وزير التربية.

    [8] يحيى حقي الخصاونة: يعد أول شهيد للحركة الطلابية، وكان ينتمي لحزب البعث.

    [9] خليل السالم هو أحد أوائل خريجي الجامعة الأمريكية في بيروت واشتهر بعمله في البداية في المجال التربوي ثم انتقل إلى الاقتصاد وهو يعتبر مؤسس البنك المركزي وشغل منصب وزاري أكثر من مرة.

    [10] اللواء محمد نجيب أعلى الضباط الأحرار رتبة وأكبرهم عمرًا، وقد اختير للمركز القيادي الأول ثم أجبر على التنحي لصالح جمال عبد الناصر.

    [11] حبة نقّارة: مرض جلدي على شكل بثور متنقلة على الوجه، وفي الكلام الدارج تحولت عبارة «حبة نقارة» إلى دعوة.

Leave a Reply

Your email address will not be published.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية