قبل حوالي ثلاثة أشهر، بدأ رزق (32 عامًا) رحلة بحثٍ مكثف عن منزلٍ للإيجار في عمان، بعدما قرر الانتقال من محافظة عجلون بحثًا عن فرصة عمل أفضل، حيث يعمل حاليًا على أحد تطبيقات النقل الذكي غير المرخصة دون تحقيق عائد مالي جيد، ما دفعه للتفكير في العمل على التطبيق نفسه في عمان إلى حين إيجاد مهنةٍ أفضل.
وبمعزلٍ عن قيمة الإيجارات المرتفعة لشقة صغيرة أو استديو يناسب شابًا أعزب، وجد رزق أن شروط الاستئجار في عمان لم تكن سهلة عند بعض الملّاك الذين قابلهم. هذا إن لم يُقابل بالرفض بعد أن يذكر مجال عمله كونه ليس موظفًا حكوميًا أو عاملًا في القطاع الخاص براتب ثابت. وقد لاحَظ خلال بحثه أن بعض الإعلانات مشروطة بما يُدعى «الإيجار الآمن»، وهو مصطلح لم يكن يعرف دلالته حتى بدأ الاتصال بالملّاك المعلنين. والمقصود به هو آلية حماية ابتكرها بعض الملاك، يضعون فيها شروطًا لانتقاء مستأجر ليست لديه أسبقيات قضائية مالية، فيخضعونه لتدقيق أمني وائتماني، مع مطالبته بتقديم ضمانات للإيفاء بالتزامه التعاقدي، مع توقيع عقد إيجار يضم الكثير من الشروط الجزائية والتعويضات التي قد تترتب على المستأجر حال التأخر في دفع الإيجار، بالإضافة إلى دفع مبلغ تأمين مقدمًا أو التوقيع على كمبيالة، فضلًا عن طلب كفيل مقتدر ماليًا في بعض الأحيان.
لا يمانع رزق التدقيق الأمني والقضائي من قبل المؤجرين، إلا أنه تفاجأ بطلب بعضهم مبالغ كبيرة للتأمين أو التوقيع على كمبيالة قد تزيد عن خمسة آلاف دينار، ما أثار مخاوفه حول هذه الإجراءات وأعاق استئجاره منزلًا حتى اللحظة. ورغم أنه يدرك مبررات الملاك ويتفهم رغبتهم بحفظ حقوقهم، لكنه يعتقد أن شروطهم مبالغ بها: «يعني ما براعوا الظروف اللي بنعيشها بوقت صعب مثل هيك، غالبية الناس ماكلة هوا»، يقول رزق. ما دفعه للبحث عن منزل في محافظة أخرى هي إربد، ليواجه هناك معوقًا آخر هو المبالغ التي دفعها بشكل متكرر لمكاتب التأجير والوسطاء دون الوصول إلى المنزل المنشود.
يقول المحامي المتخصص في قضايا الإيجار، فهد جمعة، إن الحاجة لمثل هذه الآليات باتت ملحة لدى بعض الملاك بعد جائحة كورونا، حيث فاقمت الجائحة من المصاعب المالية لدى المستأجرين واستنكاف بعضهم عن دفع الإيجار، وبسبب الضغط الهائل على قضايا الإخلاء في الجائحة ظهرت اختلالات في قانون التنفيذ للمتخلفين عن السداد بحسب جمعة، منها طول مُدد التنفيذ والإخلاء، وعدم القدرة على تحصيل الإيجار المترتب على المستأجرين، إضافة إلى قرار منع حبس المدين من خلال أمر الدفاع،[1] والذي قضى بتأجيل حبس المدين شريطة ألّا يتجاوز مبلغ الدين مائة ألف دينار، ما دفع بعض المُلّاك إلى اتخاذ إجراءات مشددة عند التأجير لتفادي الوصول إلى المحاكم.
وقد ذاع سيط هذه الإجراءات في عمّان بعدما وجد بعض المُلّاك أن رسوم المحاكم وأجور التنفيذ وأتعاب المحامي مرتفعة بما يفوق قيمة مبلغ الإيجار نفسه، بحسب جمعة. لذا يبدأ المُلّاك عند التأجير بتقييم المستأجر المحتمل من خلال مقابلته ومعرفة معلوماته الاجتماعية وظروفه المادية، إذ لم يعد يُنصح بين بعض المُلاك بتأجير النساء غير العاملات، أو من لديهم خمسة أبناء وأكثر، أو العاملين بأعمال حرة، أو المتقاعدين بسبب منع الحجز على راتب الضمان، وغيرها من المعايير في سبيل «تشكيل اطمئنان مبدئي» لدى الموجّر.
ذاع سيط إجراءات التأجير الآمن للمساكن في عمّان بعدما وجد بعض المُلّاك أن رسوم المحاكم وأجور التنفيذ وأتعاب المحامي مرتفعة بما يفوق قيمة مبلغ الإيجار نفسه.
ثم ما إن يطمئن المالك، حتى يباشر بالتدقيق الأمني والقضائي في موقع وزارة العدل على كل من الزوج والزوجة وكفيلهم، ويذهب بعضهم حدّ التدقيق القضائي على كل الأبناء الشباب أيضّا، حتى لو لم يكن عقد الإيجار باسمهم. أكثر ما يهم الملاك هو التأكد من سمعة المستأجر، وعدم وجود قضايا مالية أو أوامر تنفيذ إخلاء مأجور. وقد يُطلب من المستأجر أحيانًا تقديم كفيل تنطبق عليه مواصفات مستأجرٍ محتمل، أي أن تكون لديه الملاءة المالية والقدرة على سداد الإيجار بحال تخلّف المستأجر عن ذلك، ويوقع الكفيل على كل من العقد والكمبيالة، فيكون هو الآخر عرضةً للحبس في حال عدم السداد.
بعد الانتهاء من التدقيق، يُطلب عادةً من المستأجر مبلغًا تأمينيًا مقدمًا، أو التوقيع على كمبيالة بقيمة تتناسب مع مواصفات العقار. وهنا يشير جمعة إلى كمبيالة بمبلغ يزيد قليلًا عن خمسة آلاف دينار يمكن أن تكون أكثر ضبطًا للمستأجر، حيث أقر قانون التنفيذ بتعديلاته الأخيرة منع حبس المدين بأقل من خمسة آلاف ما عدا عقود الإيجار والعمل.[2] ورغم أن القانون يستثني ديون الإيجار من شرط الحد الأدنى من قيمة الدين، إلا أن جمعة يشير إلى أن أحد قرارات المحاكم لم يعتبر مستحقات فواتير الكهرباء والماء والصيانة، والتي قلت عن خمسة آلاف، جزءًا من ديون الإيجار، لذا يُنصح بين أوساط المُلّاك بكتابة كمبيالة تزيد عن ذلك لتنطبق عليها شروط قانون التنفيذ في حال التخلف عن دفع مبالغ قد لا تتعلق مباشرةً بالإيجار.
بعد كورونا، بدأ بعض المُلّاك تطبيق هذه الشروط، خصوصًا بعدما استنكاف المستأجرين لديهم عن دفع الإيجار، وهو ما حصل مع إبراهيم الذي سافر قبل 12 عامًا إلى السعودية من أجل العمل، وأصبحت زياراته إلى الأردن متقطعة وقصيرة، فقرر قبل حوالي خمسة أعوام تأجير منزله في منطقة خلدا، بغرض زيادة دخله. يقول إنه لم يكن آنذاك ضليعًا في مسائل التأجير والعقار، وأنه كان عجولًا في تأجير المنزل، فلم يتّبع أية إجراءات تدقيقية على المستأجر، الذي كان بنظره من عائلة ميسورة الحال ولديه زوجة وأطفال، فدفع المستأجر أول ثلاثة أشهر، ثم ترك أسره في الأردن وسافر إلى تركيا.
لم يكن إبراهيم يعلم سبب سفر المستأجر، ولكنه لم يعد يدفع الإيجار، واستمر بالمماطلة. في البداية، لم يفكر إبراهيم برفع قضية إخلاء بحقه: «يعني الواحد كان في كورونا (..) وكان اليوم وبكرة، اليوم وبكرة». لكن، قبل انتهاء عام 2020، وكّل ابراهيم محاميًا للمباشرة بالقضية، وفوجئ بمطالبات مالية طائلة على المستأجر من أكثر من ثمانية أشخاص. بعد إنذاره عبر المحكمة، أخلت أسرة المستأجر المنزل بعد انتفاعهم منه مدة عام بأكمله، وقد ترتب على إبراهيم تكاليف صيانة وفواتير ماء وكهرباء، حيث تلزم شركة الكهرباء المالك بدفع الفواتير عند خروج المستأجر دون دفع فواتيره.
قانون المالكين والمستأجرين ليس هو المسبب التشريعي للإشكالية بين المؤجر والمستأجر بحسب المحامي حازم النسور، وإنما قانون التنفيذ الذي لا يجد حلولًا كافية للملّاك الذين يتعرضون لمستأجرين غير ملتزمين رغم مقدرتهم على الدفع.
حاول إبراهيم تحصيل مبلغ الإيجار المستحق والبالغ حوالي أربعة آلاف، فتواصل مع شقيق المستأجر، لكن الأخير طلب إعفاء أخيه من سداد المبلغ لأنه مُطالب بمستحقات مالية أخرى، أكبر بكثير من قيمة الإيجار. بعد هذه التجربة، فكر إبراهيم كثيرًا قبل إعادة طرح منزله للتأجير، وكان المحامي قد أشار له بالبحث أكثر حول طرق تأجير مضمونة. وبعد ستة أشهر، استطاع تأجير المنزل مرة أخرى، بعد التدقيق على المستأجر قضائيًا وأمنيًا، وتقييم عمله والشركة التي يعمل فيها، كما طلب كفيلًا هي زوجة المستأجر، وتوقيع كمبيالة بقيمة الإيجار لمدة عام: «منطقيا عادي، اعتبر إنك مستأجر سيارة (..) بتوقع على طول [كمبيالة] بقيمة السيارة».
نجحت هذه الطريقة مع إبراهيم، على الأقل طيلة السنوات الثلاث اللاحقة حتى اللحظة، قائلًا إن هذه الطريقة نفّرت الأشخاص ممن يمكن برأيه أن يحملوا نوايا سيئة، وأنه اليوم يحظى بالراحة رغم عدم وجوده في الأردن. موضحًا أن الملّاك ليسوا جميعًا من أصحاب رؤوس الأموال، وأن عددًا كبيرًا منهم ليس لديهم مصادر دخل أخرى، فيتأثرون بشدة جراء عدم سداد الإيجار.
ورغم أن هذه الشروط نجحت مع بعض المؤجرين إلا أن المحامي حازم النسور يشير إلى أنها ليست حلًّا لمسألة تخلف المستأجرين عن دفع الإيجار، وأن مسألة التشدد في شروط التأجير لها آثارها السلبية على المستأجر الملتزم حيث يدفع ثمن تخلف البعض عن الدفع، ويصعب على فئة عظمى من الناس إيجاد المسكن، ما قد يعرضهم إلى التشريد مستقبلًا لو انتشرت هذه الإجراءات على مدى أوسع.
مضيفًا أن هذه الإشكالية تتطلب تدخل الدولة بين الطرفين، وبرأيه فإن قانون المالكين والمستأجرين ليس هو المسبب التشريعي للإشكالية بين المؤجر والمستأجر، وإنما قانون التنفيذ الذي لا يجد حلولًا كافية للملّاك الذين يتعرضون لمستأجرين غير ملتزمين رغم مقدرتهم على الدفع. أما عضو الجمعية الوطنية للعناية بحقوق المستأجرين، المحامي رائد عويدات فيرى أن عدم تدخل الدولة بتنظيم الحدود العُليا والدنيا لأجور العقارات هو ما أدى أساسًا إلى تقليص قدرة المستأجرين على الوفاء بالدفع، حيث تُركت للمُلّاك حرية فرض إيجارات مبالغ في قيمتها. مقترحًا على الدولة التدخل عبر فرز المناطق السكنية إلى شرائح، ووضع تقديرات إلزامية لنطاق أسعار العقارات، بحسب أسعار الأراضي والوصول إلى الخدمات وعمر العقارات وغيرها، لتنظيم العلاقة بين الطرفين على نحو عادل.
ويحذر النسور من اللجوء إلى الكمبيالات، حيث الأصل قانونيًا أن العقد شريعة المتعاقدين، وعقد الإيجار سندٌ تنفيذيٌ مثله مثل الكمبيالات، موضحًا أنه عند توقيع عقد وتوقيع كمبيالة أخرى مهما كانت صيغتها فهي لا ترتبط بالعقد كوحدة واحدة، بل تعتبر دينًا آخر يمكن أن يكون مستحقًا، أي يمكن للمالك أن يقدم عقد الإيجار والكمبيالة كديْنين منفصلين. بالمقابل، يرى جمعة بضرورة الكمبيالة نظرًا لما يعتبره قصورًا في قانون التنفيذ عن حماية حقوق الملّاك، معتبرًا أن تقديم المالك الكمبيالة للتنفيذ -في حال عدم إخلال المستأجر بالعقد- مخالفةً للقانون من قبل المالك، ويُنظر إليه قانونيًا باعتباره مسيئًا للأمانة لو استطاع المستأجر إثبات وفائه بالإيجار.
اقرأ/ي أيضا:
ورغم أن بعض المُلّاك توجهوا نحو التأجير الآمن بكل إجراءاته، إلا أن بعضهم يستثني منها توقيع المستأجر على الكمبيالات ودفع مبالغ تأمينية، ومن بين هؤلاء إخلاص، وهي مالكة خمس محلات تجارية وشقة واحدة في الزرقاء، قائلة إن الأوضاع الاقتصادية لا تسمح بالتشديد على المستأجرين، وأنها تعتمد التدقيق الأمني والتأكد من القدرة المالية للمستأجرين المحتملين، وهو ما صارت تعتمده بعدما توجهت سابقًا إلى القضاء مع عدد من المستأجرين الذين تخلفوا عن السداد واستعصى إخلاؤهم. كان ذلك قبل جائحة كورونا، حيث وجدت أن أتعاب المحامين ورسوم القضايا مرتفعة، فصارت تطلب مبلغ إيجار مقدم لثلاثة أشهر لتعلم مدى جدية المستأجر، فإن وافق تبحث عن عائلته وعشيرته وأصدقائه، وتسأل الناس عن سمعته، فضلًا عن التدقيق الأمني والقضائي.
وهي تعتمد على العقد بشكل أساسي فتضيف إليه كل التفاصيل والشروط وما يتوافر في عقارها، قائلة إن المستأجر لديه الحق أيضًا في كتابة شروطه في العقد. وهي تشعر اليوم بأن جهدها في تبيّن جدية المستأجر يؤتي ثماره: «حسيت إني كتير أريح (..) وفّرت على حالي جهد ومادة».
وبالنظر إلى مخاوف العديد من المُلّاك من التوجه إلى القضاء لاسترجاع ملكهم في حال تخلف المستأجرين عن الدفع، يرى العويدات أن أكثر الإجراءات تخفيفًا على المّلاك هي تطبيق الدولة لنظام الإخلاء دون اللجوء إلى القضاء، إنما التوجه إلى الإجراء التنفيذي في حال إثبات عدم دفع الإيجار، كما هو مطبق في دول أخرى، ويعتقد أنه من الصعب انتشار التأجير الآمن في الأردن مستقبلًا، مشيرا إلى أن بعض المُلّاك، تحديدًا ممن يمتلكون عدّة عقارات، تضرروا بالفعل من مثل هذه الإجراءات، وتناقصت أعداد المستأجرين لديهم. موضحًا أن عددًا من المستأجرين لجأ إلى استبدال الاستئجار ببرامج تمويل الشقق السكنية مع البنوك، ما أثر بالفعل على سوق التأجير ككل، وهو ما سيفرض على المُلّاك التراجع عما يعتبره تعسفًا في بعض شروط التأجير.
-
الهوامش
[1] أمر الدفاع 28 لسنة 2021، الصادر بالاستناد إلى أحكام قانون الدفاع رقم 13 لسنة 1992.
[2] بمدّة حبس يقدّرها القاضي على ألا تتجاوز 60 يومًا للدين الواحد خلال السنة، وعلى ألا يتجاوز الحبس مدة 120 يومًا مهما تعدد الدائنون.