قبل ولادة طفلها، كانت داليا قد قررت إرضاعه رضاعةً طبيعية، وفي سبيل ذلك عملت على تحضير نفسها بشكل كبير قبل الولادة، فقرأت حول أهمية الرضاعة الطبيعية وكيفيتها، واشترت كل ما يمكن أن تحتاجه من معدات تساعدها في ذلك. ثم أنجبت في أحد المستشفيات الخاصة في عمّان، بعملية قيصرية، ولم تتمكن بسبب العملية من إجراء التلامس جسدًا لجسدٍ مع طفلها عند ولادته، ولم تره إلا بعد ساعتين من ولادته. تمكنت داليا من إرضاع طفلها حليب اللبأ، وهو الحليب الأصفر الكثيف الذي ينتجه الثدي بعد الولادة فورًا. «لكن بعد هيك بدأ الضغط من المستشفى، صاروا الممرضات رايحين جايين يحكولي ابنك جوعان، بلاش يصيبه جفاف خلينا نعطيه حليب صناعي»، تقول داليا، وقد رفضت إعطاء ابنها الحليب الصناعي في البداية، وقابلت خلال مدة بقائها في المستشفى أخصائيات عملن على تعليمها كيفية الرضاعة، لكنهن -كما تقول- قدمن لها مشورات متضاربة بحيث لم تعرف ما عليها فعله، وفي النهاية، بعد استمرار ضغط الممرضات في المستشفى عليها، قبلت إعطائه الحليب الصناعي.
بعد خروجها إلى المنزل، واجهت داليا المزيد من الضغوط نتيجة الآراء المتضاربة للمحيطين بها، «بقي الحليب قليل بعد خروجنا من المستشفى، 20 مل لـ30 مل، وأنا ما كنت أعرف إنه أصلًا البيبي ما بيحتاج أكتر من هيك». كان الأسبوع التالي للولادة «جحيمًا» كما تصفه داليا، وسط محاولاتها المستمرة لإرضاع ابنها ولجوئها لمدرّات الحليب الطبيعية. ثم عندما بدأ طفلها يعاني من الصفار طلب منها طبيب الأطفال أن تلجأ للحليب الصناعي، وتحت ضغط الخوف على صحة طفلها بدأت بإرضاعه حليبًا صناعيًا.
لجأت داليا إلى استشارية رضاعة طبيعية، لكنها لم تشهد تحسنًا ملموسًا، إذ أعطتها دواءً للمعدة من آثاره الجانبية إدرار الحليب، وهو ما أتعبها أيضًا، وفي وسط هذه الفترة من إصابة ابنها بالصفار ومحاولات العودة إلى الرضاعة الطبيعية، كان طفلها قد اعتاد طعم الحليب الصناعي وسهولة رضاعته، ولم يعد مجددًا للرضاعة منها، وتدريجيًا لم يعد جسمها ينتج الحليب. «لما هلأ بطّلع على التجربة، بفكر إنه مهم توعية الأمهات للتحضير للرضاعة الطبيعية خلال الحمل إذا مهتمين يرضعوا طبيعي، ومهم كمان يكونوا الدكاترة داعمين لقرار الأم اللي بدها ترضع طبيعي ويساعدوها».
تُعتبر الرضاعة الطبيعية من أكثر الطرق فعالية لضمان صحة الطفل وبقائه على قيد الحياة، فحليب الأم هو الغذاء المثالي للرضّع الذي يوفر الطاقة والمغذيات التي يحتاجها الرضيع في الأشهر الأولى من حياته، ويستمر في توفير ما يصل إلى أكثر من نصف احتياجات الطفل الغذائية خلال النصف الثاني من عامه الأول، حيث إنه آمن ونظيف ويحتوي على أجسام مضادة تساعد في الحماية من العديد من أمراض الطفولة الشائعة.
ويوصي الخبراء بالرضاعة الطبيعية الحصرية؛ أي دون حليب صناعي أو عصير أو ماء، لمدة ستة أشهر. كما يوصى بالاستمرار بالرضاعة الطبيعية خلال السنة الأولى من عمر الطفل، بعد إدخال الأطعمة الأخرى.[1] وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن التسويق غير الملائم لبدائل حليب الأم يعمل على تقويض الجهود المبذولة لتحسين معدلات الرضاعة الطبيعية ومدتها في جميع أنحاء العالم. ورغم أهميته إلا أن حوالي اثنين من كل ثلاثة أطفال عالميًا لا يحصلون على الرضاعة الطبيعية الحصرية خلال الأشهر الستة الأولى من حياتهم. كما أن ثلاثة من كل خمسة أطفال لا يرضعون رضاعة طبيعية في الساعة الأولى من حياتهم.
لماذا لا ترضع الأمهات في الأردن أطفالهن؟
استعرض بيانٌ صحفي صدر الشهر الماضي عن المجلس الأعلى للسكان وضع الرضاعة الطبيعية في الأردن، وبيّن أن مدة الرضاعة الطبيعية في الأردن قصيرة جدًا، حيث يبلغ وسيط مدة الرضاعة الطبيعية المحضة 0.9 شهر، وتنخفض نسبة الأطفال المعتمدين على الرضاعة الطبيعية المحضة إلى 11% بين الأطفال في سن أربعة إلى خمسة أشهر. كما أن ربع الأطفال فقط في عمر شهرين إلى ثلاثة أشهر يعتمدون على حليب الأم فقط، وهذه النسبة أقل بكثير من المتوسط الإقليمي البالغ 34%.
وبحسب تقرير مسح السكان والصحة الأسرية في الأردن للأعوام 2017-2018 يحصل 43% من الأطفال على حليب صناعي قبل إدرار حليب الأم خلافًا للتوصيات. وتلقى طفل واحد من كل أربعة أطفال تحت سن ستة أشهر الرضاعة الحصرية من الأم. كما أن واحدًا من بين كل خمسة أطفال في الأردن، تحت سن ستة أشهر، لا يحصل نهائيًا على الرضاعة الطبيعية.[2]
لغايات إعداد هذا التقرير، وفي محاولة للإجابة على سؤال لماذا لا ترضع الأمهات في الأردن أطفالهن، جمعنا شهادات وتجارب عشرات الأمهات في الأردن حول الرضاعة الطبيعية، عن طريق مجموعات فيسبوك مخصصة للأمهات وأخرى مخصصة للرضاعة الطبيعية. التجارب، وإن كان لكل منها خصوصيتها، إلا أنها تتشابه إجمالًا في التحديات التي تواجه الأمهات في رحلة إرضاع أطفالهنّ.
يمكن إجمال التحديات التي تواجهها الأمهات في مجموعة من الفئات، أولها التحديات الاجتماعية المتمثلة في انطباعات وتوجيهات المحيطين بالأمّ من العائلة والأصدقاء، والتي تذهب باتجاه لوم الأم إذا قررت اعتماد الحليب الصناعي لإرضاع طفلها، أو لومها على بكائه المستمر ونحول جسمه إذا تمسكت في الرضاعة الطبيعية. مدة الرضاعة الطبيعية في الأردن قصيرة جدًا، حيث يبلغ وسيط مدة الرضاعة الطبيعية المحضة 0.9 شهر، وتنخفض نسبة الأطفال المعتمدين على الرضاعة الطبيعية المحضة إلى 11% بين الأطفال في سن أربعة إلى خمسة أشهر.
تعلق فاتن تميم، دكتورة التغذية ومستشارة الرضاعة الطبيعية، على ذلك بالقول إنه من الطبيعي أن يبكي الطفل بعد ولادته، وهذا مرتبط بالتغيير الكبير الحاصل على البيئة المحيطة به بعد أن كان داخل الرحم، إلا أن الأشخاص المحيطين بالأم يضغطون عليها ويتّهمونها بالتقصير في جميع الحالات، سواء تمسكت بالرضاعة الطبيعية أو لجأت إلى الحليب الصناعي.
ثاني التحديات التي تتقاطع فيها تجارب العديد من الأمهات كانت قلة المعرفة والتثقيف حول أهمية الرضاعة الطبيعية وطريقتها، وما يجب فعله للتحضير لها. تقول إيمان (29 عامًا) إنها أصرت على إرضاع ابنها رضاعة طبيعية، رغم الكثير من الصعوبات التي واجهتها في البداية، «كنت أفكر الموضوع سهل وراح يمشي بأي طريقة، بعدين بتكتشفي إنه في طريقة معينة للرضاعة، وإذا ما أتقنتيها رح يسبب الموضوع أوجاع للأم وصعوبات في الرضاعة للطفل». قامت إيمان بتعليم وتدريب نفسها على الرضاعة من خلال صفحات على فيسبوك وإنستغرام، لكنها تعتقد أن قلة التثقيف والتعليم تتسبب بصعوبات ما بعد الولادة، ما تدفعهنّ لترك الرضاعة الطبيعية، إذ احتاجت وقتًا وجهدًا كبيرين حتى أتقنت الرضاعة.
ترى تميم أن من المهم أن يبدأ تدريب الأم في فترة الحمل، حتى تبدأ تجربة الرضاعة بدايةً صحيحة. وقد عملت تميم ضمن مشاريع بين منظمات ومستشفيات حكومية لتشجيع الرضاعة الطبيعية، وتقول إن القابلات في المستشفيات الحكومية في الغالب مدرَّبات على تقديم مشورة للأمهات لتشجيع الرضاعة الطبيعية، لكن عدد مستشارات الرضاعة الطبيعية المتخصصات ما زال قليلًا.
عديدٌ من الأمهات أشرنَ إلى تشجيع المستشفيات التي أنجبن فيها للحليب الصناعي -وهي مستشفيات خاصة في الغالب- وإعطاءه للطفل، أحيانًا بخلاف رغبة الأم، ما أثر على قدرتها على العودة لإرضاعه طبيعيًا بعد خروجها من المستشفى. وبحسب تميم، فإن التوعية بأهمية الرضاعة الطبيعية في المستشفيات الحكومية أفضل حالًا بكثيرٍ عمّا هي عليه في المستشفيات الخاصة في الأردن، إذ لا يُعطى الحليب الصناعي للأمهات في المستشفيات الحكومية بلا سبب طبي يستدعي ذلك. بينما تهتم الكوادر الصحية في المستشفيات الخاصة بخروج الطفل منها وهو بصحة جيدة دون حدوث مشاكل، ما يجعل تأخير إرضاعه في انتظار رضاعته طبيعيًا من أمه مخاطرة لا يريدون تحملها، «في مستشفيات بتحكي للأم إذا بدك الولد يرضع منك بدك تتحملي المسؤولية»، تقول تميم، وهو ما يخيف بعض الأمهات.
أسيل (29 عامًا) أمٌ لطفلين (ابنتها سنتين، وابنها سبعة أشهر)، وقد مرت خلال ولادتيها بتجربة الولادة في مستشفى خاص ومستشفى حكومي. تقارن أسيل بين التجربتين، حيث قامت بإرضاع ابنتها الكبرى رضاعة طبيعية وما زالت ترضع ابنها حتى الآن. بحسب أسيل فإن أحدًا لم يتحدث لها عن الرضاعة الطبيعية أو يدربها عليها سواء في المستشفى الحكومي أو الخاص، بل كانت قد قررت إرضاع أطفالها من تلقاء نفسها.
الفرق -كما تقول- يكمن في أنها في ولادتها الأولى في المستشفى الخاص لم يحضر لها أحد طفلتها لتقوم بإرضاعها، وانتظرت حتى تمكنت من السير بعد الولادة، لتقوم وتطلب طفلتها لترضعها، في هذه الأثناء كانت الطفلة قد حصلت على الحليب الصناعي في الحاضنة. أما في المستشفى الحكومي، فقد أعطوها طفلها فور اختفاء مفعول التخدير بعد العملية القيصرية التي خضعت لها، وبقي الطفل عندها حتى خرجت من المستشفى، وبهذا قامت بإرضاعه طبيعيًا ولم يحصل على أي حليب صناعي فترة تواجده في المستشفى. في النهاية، تمكنت أسيل من إرضاع ابنها وابنتها رضاعةً طبيعية، حتى مع حصول ابنتها على حليب صناعي بعد ولادتها مباشرة.
تذهب تجارب أخرى أيضًا إلى تحديات الرضاعة الطبيعية في أماكن العمل، في ظل محدودية قدرة الأمهات على الخروج لإرضاع أطفالهن، بالإضافة إلى صعوبة لجوء الأم لشفط الحليب في الأماكن التي لا تحتوي غرفًا خاصةً للموظفات. تقول إيمان إن أحد أكبر التحديات التي واجهتها أثناء إرضاع ابنها كانت عدم قدرتها على إرضاعه في الأماكن العامة، «قلة الأماكن المخصصة للرضاعة في الأماكن العامة تدفع الأمهات للاعتماد على الحليب الصناعي كمان».
تحدثت أمهات أيضًا عن الجانب المرهق نفسيًا من الرضاعة الطبيعية، والذي قد يصل إلى قلق يدفعهنّ لتركها. منهن سلمى[3] التي عندما علمت بحملها اتخذت قرارها بإرضاع طفلتها رضاعةً طبيعية. لكن، تعسرت ولادتها وتعبت بشكل كبير في المرحلة الأولى بعد الولادة، وزاد من تعبها شعورها بأن بعض الأشخاص في محيطها ضغطوا عليها لترضع طفلتها طبيعيًا، «هاد أول سبب كرهت الرضاعة منّه، إنها كانت بالإجبار نوعًا ما». صارت سلمى تعطي طفلتها الحليب الصناعي، لنيّتها ألا تكمل الرضاعة الطبيعية لعدة أسباب، «نحفت بشكل مقرف، وشكل صدري صار مقرف جدًا، وريحتي أغلب الوقت حليب، والبنت ما كانت تشبع مني، وكانت ما تنام الليل كله، وهاد يأثر على نفسيتي في النهار فما آكل و دائمًا أبكي». أرهقت رحلة الرضاعة سلمى حتى توقفت عنها نهائيًا «وصلت لمرحلة إنه خلص لو أكمل رضاعة بموت نفسيًا، وقفت رضاعة وعمر بنتي شهرين ونص (..) تجربتي ما رح أرجع أكررها أبدًا ولا بحياتي رح أرضع طبيعي».
ما أهمية الرضاعة الطبيعية؟
يوفر حليب الأم التغذية المثالية للطفل الرضيع، إذ يحتوي مزيجًا من كل ما يحتاجه الطفل للنمو، من الفيتامينات والبروتينات والدهون، بالإضافة إلى أجسام مضادة تساعد في محاربة الفيروسات والبكتيريا، في صورة أسهل للهضم من الحليب الصناعي. بحسب توصيات مسح السكان والصحة الأسرية في الأردن فلا حاجة لاستبدال حليب الأم قبل عمر الستة أشهر، ولا يجب التشجيع على ذلك، بسبب احتمال تلوث حليب الأطفال وارتفاع مخاطر الإصابة بأمراض الإسهال.
وتقلل الرضاعة الطبيعية من خطر إصابة الأطفال بالربو، والحساسية، والسكري، وأمراض الجهاز التنفسي السفلي الشديدة، والتهاب الأذن الوسطى الحاد، والتهابات الجهاز الهضمي، والإسهال، والتقيؤ، والتهاب الأمعاء والقولون الناخر، ومتلازمة موت الرضيع المفاجئ. كما يكتسب الأطفال الذين يرضعون رضاعة طبيعية القدر المناسب من الوزن أثناء نموهم، بدلًا من الزيادة السريعة في الوزن.
يوفر حليب الأم التغذية المثالية للطفل الرضيع، إذ يحتوي مزيجًا من كل ما يحتاجه الطفل للنمو، من الفيتامينات والبروتينات والدهون، بالإضافة إلى أجسام مضادة تساعد في محاربة الفيروسات والبكتيريا.
أما بالنسبة للأم، فيمكن أن تساعد الرضاعة الطبيعية على إنقاص وزن الحمل بشكل أسرع، إذ تساعد في حرق سعرات حرارية إضافية، ويفرز هرمون الأوكسيتوسين الذي يساعد الرحم على العودة إلى حجمه الذي كان عليه قبل الحمل ويمكن أن يقلل من نزيف الرحم بعد الولادة. كما تقلل الرضاعة الطبيعية من خطر الإصابة بسرطان الثدي والمبيض، وهشاشة العظام.
بالإضافة إلى ما سبق، فإن للرضاعة جانب آخر يتمثل في القرب الجسدي بين الأم والطفل، وتلامس الجلد للجلد، والتواصل البصري مع الطفل، التي يعتقد أنها جميعها تعزز ارتباط الطفل بالأم، وشعوره بالأمان.
ويشير تقرير مشترك، صدر عن منظمة الصحة العالمية واليونيسيف، إلى أنه يمكن إنقاذ أكثر من 820 ألف طفل سنويًا على مستوى العالم إذا حصل جميع الأطفال خلال أول سنتين من حياتهم على الرضاعة الطبيعية، إذ إن الأطفال الذين يرضعون رضاعة طبيعية حصرية خلال الأشهر الستة الأولى من العمر أكثر عرضة للبقاء على قيد الحياة بـ14 مرة مقارنة مع الأطفال الذين لا يرضعون رضاعة طبيعية. كما تساعد الرضاعة الطبيعية في الوقاية من الإسهال والالتهاب الرئوي اللذين يعدان من الأسباب الرئيسية للوفاة عند الرضع.
يُذكر أن عدد المرات التي يرضع فيها الطفل يعتمد على ما إذا كان يفضل الحصول على وجبات صغيرة متكررة أو وجبات أطول، ويتغير هذا مع نمو الطفل، إذ غالبًا ما يرغب المواليد الجدد في الرضاعة كل ساعتين إلى ثلاث ساعات، وبحلول الشهرين يرضع الأطفال كل ثلاث إلى أربع ساعات، لينخفض إلى أربع أو خمس ساعات بحلول عمر الستة أشهر.
هل يكفي حليب الأم وحده؟
تظل الأمهات خلال المرحلة الأولى من الرضاعة الطبيعية في شكّ مستمر من كون الحليب الذي ينتجنه كافيًا لتلبية حاجات الطفل الغذائية، خاصةً أن معظم الأطفال يفقدون قدرًا صغيرًا من الوزن خلال الأيام الثلاثة إلى الخمسة الأولى بعد الولادة، وهذا لا علاقة له بالرضاعة الطبيعية. وفي حين يوصي الخبراء بالرضاعة الطبيعية الحصرية حتى عمر ستة أشهر، فإن الإرضاع حتى لمدة تقل عن الأشهر الستة تظلّ أفضل من عدم الرضاعة على الإطلاق.
بدأت الصعوبات بالنسبة لتسنيم (32 عامًا) عندما علمت أنها حامل بتوأم، إذ في تجربتها مع طفلتها الأولى لم تستطع إرضاعها أكثر من أربعة أشهر، لما تعرضت له من ضغطٍ من المحيطين بها لكون حليبها لا يكفي الطفلة، ولا تشبع منه وحده. خلال حملها بالتوأم، ومنذ الشهر الخامس، تواصلت تسنيم مع أخصائية رضاعة طبيعية وبدأت تقرأ وتحضر الدورات والورش التدريبية عن رضاعة التوأم، وتشتري تجهيزات الرضاعة الطبيعية اللازمة.
عند الولادة، أصيبت إحدى طفلتيها بالصفار، ما دفع الطبيب لطلب فطامها عن الرضاعة الطبيعية وحصولها على الحليب الصناعي، حتى يزيد إخراج الصفار مع الفضلات، لكنها أكملت الرضاعة الطبيعية رغم ذلك، إذ لم يكن الصفار يستدعي دخول الطفلة المستشفى، ولجأت إلى خيار الاستمرار في إرضاعها طوال الليل لزيادة إخراجها مع إجراء فحص الصفار لها بشكل دوري، تحت إشراف طبيبة الأطفال، حتى شفيت طفلتها.
تقول تسنيم إنها واجهت الكثير من الانتقاد حول أحجام طفلتيها، لكنها استمرت في تعلم وضعيات الرضاعة التي تمكّنها من إرضاع التوأم معًا، وتناول مدرّات الرضاعة الطبيعية حتى تنتج ما يكفي من الحليب لطفلتيها. بحلول الشهر الرابع من عمر طفلتيها، لجأت تسنيم إلى استخدام الشفط لزيادة إدرار الحليب، وهو ما ساعدها كثيرًا في زيادة حليبها، واستمرت في إرضاع ابنتيها أكثر من سنة. «اللي خلاني أكمل رغم كل التعب والجهد الكبير اللي بتتطلبه الرضاعة الطبيعية هو إنّي قرأت عن مضار الحليب الصناعي، وتجربتي مع بنتي الكبيرة إنه مناعتها سيئة لأنها رضعت لأربعة شهور فقط».
من واقع تجربتها، تقول تسنيم إن المعيار الأساسي في كفاية حليب الأم للطفل من عدمها هو عدد الحفاضات التي يبللها الطفل ومقدار الزيادة في وزنه، لا الأحكام الشخصية لمن يشاهد الطفل، والتي تضع الأمهات تحت ضغط كبير لعدم كفاية حليبهنّ.
ويُذكر أنه في الأيام القليلة الأولى بعد الولادة ينتج الثدي الحليب الأول، الذي يسمى باللبأ، وهو المرحلة الأولى من حليب الثدي حيث يكون سميكًا ومائلًا للصفرة، بقوامٍ كثيف وبنيةٍ كريميّة، وهو يتوفّر بكمية قليلة لكنها كافية لتلبية احتياجات الطفل الغذائية في ذاك العمر. يساعد اللبأ على نمو الجهاز الهضمي لحديثي الولادة وتحضيره لهضم حليب الثدي الذي سيبدأ إنتاجه لاحقًا. بعد اللبأ تبدأ المرحلة الثانية من حليب الأم وتسمى الحليب الانتقالي، وهو الحليب الذي ينتجه الثدي تمهيدًا للانتقال إلى المرحلة الثالثة، التي تبدأ بعد مرور 10 إلى 15 يومًا بعد الولادة، وهي مرحلة الحليب الناضج الذي يمنح الطفل كل التغذية التي يحتاجها.
مع زيادة حاجة الطفل إلى الحليب، سيستجيب الثديان بشكل طبيعي بإنتاج المزيد من الحليب. وفي حال إدخال الحليب الصناعي كمكمل لحليب الأم، سينتج الثديان كمية أقل من الحليب. بحلول عمر الستة أشهر، يمكن البدء في إدخال الأطعمة الصلبة، مع الاستمرار في الرضاعة الطبيعية في حال رغبة الأم في الاستمرار في إنتاج الحليب، إذ سيؤدي التوقف عن الرضاعة إلى التوقف عن إنتاج الحليب.
هناك مؤشرات عديدة تؤكد حصول الطفل على ما يكفي حاجته من حليب الأم، ومنها ألا يفقد الطفل أكثر من 7% من وزنه عند الولادة خلال الأيام القليلة الأولى بعد الولادة، وأن يفصل بين الوجبات ساعة إلى ثلاث ساعات، وأن يبلل الطفل ست حفاضات على الأقل يوميًا، ببول أصفر شاحب جدًا أو صافٍ (شفاف) خلال أسبوع إلى 10 أيام من ولادته.
متى يكون على الأم أن تلجأ للحليب الصناعي؟
عانت مها[4] (30 عامًا) عند ولادة طفلها الأول من الحلمات الغائرة[5] (المنقلبة)، ومع أن ثدييها كانا ينتجان الحليب إلا أن طفلها لم يتمكن من الرضاعة منها لهذا السبب، «سمعته ببكي، بعدين سألتني الممرضة نعطيه صناعي ولا نستناكِ؟، ما هانلي صوت بكاه و قلت أعطوه فأكيد عجبته القنينة أكثر».
حاولت مها بعد خروجها من المستشفى أن ترضع ابنها رضاعةً طبيعية رغم مشكلة الحلمة الغائرة، «صرت أشفط بس برضه ما حدا حكالي [الطريقة]، يا ريت لو في حدا بالمستشفى حكالي إشي عن الشفط، وهمّ شايفين إنه ما عم يرضى يرضع مني مباشرة، وصراحة أبدًا ما كان عندي خلق أو وقت أبحث في الموضوع وإنه لازم أشفط كل ثلاث ساعات تقريبًا، شوي شوي صار يخف الحليب لحد ما صرت كل يومين أشفط مرة لحد ما راح الحليب، وهاد كله صار بشهر».
هناك حالات طبية عند الأمهات تستدعي أن يستعنّ بالحليب الصناعي، أو أن يمتنعن تمامًا عن الرضاعة الطبيعية، مثل تشقق وجفاف الحلمتين، أو التهاب الثدي، أو الخمَج الحاد (أو الانتنان) عند الأم، أو تناول الأم بعض الأدوية التي تُفرَز عبر الحليب، أو أن تكون الحلمتان منقلبتان، وحالات طبية أخرى.[6] كما قد ينصح الطبيب بالتوقف عن الرضاعة الطبيعية في حال إصابة الطفل بعوز اللاكتوز[7] أو الغالاكتوزيميا[8] أو بِيلَة الفينيل كيتون يوريا.[9] لكن يبقى على الأطباء إجراء تقييمات لكل حالة على حدة لتحديد ما إذا كانت الحالة الصحية للأم أو الرضيع تستدعي التوقف عن الرضاعة الطبيعية أو عدم البدء بها مطلقًا.
-
الهوامش
[1] يجري إدخال الأطعمة الأخرى للأطفال في العمر بين أربعة وستة أشهر، بحسب استعداد الطفل.
[2] صفحة 231.
[3] اسم مستعار حفاظًا على خصوصية صاحبته.
[4] اسم مستعار حفاظًا على خصوصية صاحبته.
[5] الحلمة المقلوبة أو الغائرة هي التي تختفي تحت سطح الجلد بسبب التصاق أنسجة الثدي بقاعدة الحلمة بقوة، ما قد يصعّب الرضاعة الطبيعية.
[6] مثل انتان الدم، التهاب الكلية، النزف الغزير، السل أو التدرن الفعال، الحمى التيفية، سرطان الثدي، الملاريا، سوء التغذية المزمن، الإدمان على الكحول أو المخدرات، الأمراض العصبية الشديدة، النفاس ما بعد الولادة.
[7] عوز اللاكتوز، أو عدم تحمل اللاكتوز، هو عدم قدرة الأشخاص المصابين على هضم السكر (اللاكتوز) الموجود في الحليب بشكل كامل.
[8] الغالاكتوزيميا هي اضطراب ناتج عن ارتفاع مستوى الغالاكتوز في الدم بسبب العوز لأحد الأنزيمات الضرورية لاستقلاب الغالاكتوز وهو أحد أشكال السكّر.
[9] «بيلة الفينيل كيتون هي اضطراب وراثي نادر يتسبب في تراكم حمض أميني يسمى الفينيل ألانين في الجسم».