في أسواق الألبان الأردنية، لا يجادل الناس حول المكانة التي تحتلها اللبنة «الجرشية»، لكنهم قد يجادلون -عن حق- فيما إذا كانت جميع الأصناف المعروضة تحت هذا الاسم جرشية بالفعل. ولكن هل على اللبنة الجرشية أن تكون مصنوعةً حصرًا في جرش؟ في الواقع، لقد تجاوزت مفردة «لبنة جرشية» حدود جرش وألبان جرش، لتصبح «ماركة» غذائية تستخدمها غالبية مصانع الألبان.
لدى أهل جرش، مواصفات محددة للبنة الجرشية «النموذجية»، وهي -للمفارقة- صنف قد لا يستطيع قطاع كبير من سكان جرش استهلاكه بشكل دائم، بسبب سعره. فما هي اللبنة الجرشية الأصلية، وما سر هذه الصنعة؟
ما هي اللبنة الجرشية الأصلية؟
أم جهاد (68 عامًا)، تمتلك معملًا ومتجرًا صغيرين على مدخل مدينة سوف، يساعدها فيهما حاليًا أحد أبنائها. أمضت حتى الآن 49 عامًا في العمل في مجال الألبان والأجبان، فمنذ أن تزوجت في التاسعة عشرة من عمرها، بدأت العمل في خيمة صغيرة نصبتها في الشارع العام، قرب موقع يتجمع فيه ركاب السيارات، ثم بنت «عِرْزالًا»[1] واستخدمته كمعمل صغير. واعتادت أن تقوم بالعمل وحدها أيام الشباب؛ إذ كانت تحلب وتغلي الحليب وتخضّه يدويًا في «الشكوة».[2]
تتذكر أم جهاد أنها امتلكت في إحدى السنوات 57 شكوة. لكنها تتذكر أيضًا أنها لطالما أحبت العناية بالحلال منذ طفولتها، إذ كان بعض الرعاة يمرون بالقرية ومعهم قطعانهم، ويعرضون رؤوس الماعز الضعيفة غير المنتجة للبيع، وكانت تشتري رأس الماعز الضعيف بنصف دينار –وهي طفلة، في ستينات القرن الماضي- ثم تقوم برعايته والعناية به إلى أن يستعيد صحته أو صحتها (إذا كانت أنثى)، وهو ما كان يثير إعجاب أسرتها وخاصة والدها.
وفق إفادة عدد من المشتغلين في الألبان، فإن اللبنة الجرشية في الأصل هي اللبنة المستخلصة من حليب الماعز «السّمار»، فهو معروف في المنطقة، ويدر الحليب لشهور عدة. ويحصل أن تتوفر بعض الماعز التي تدر الحليب على مدار السنة ويسمونها «شُولية»، ويقولون عنها: «اشولت». لكن حليب الماعز «السّمار» قليل نسبيًا، والعمل فيه يتطلب جهدًا كبيرًا؛ فالماعز تحلب منفردة، ويتطلب حلبها القدرة على السيطرة عليها، بينما في حالة الغنم «البياض»، تُصَف الرؤوس معًا، وتثبت في حبل على شكل حلقات، يسمى «الشّباق»، بحيث يمكن صف القطيع كاملًا ويظلّ ثابتًا، ما يسهل التحكم به وحلبه.
تختلف كمية اللبنة في حليب السمار بحسب الفصل، فهي كثيرة في فصل الشتاء، ثم تبدأ بالنقصان تدريجيًا. إن اللبنة المشتقة من السمار ذات طعم مائل إلى الحموضة، ودسم أعلى، ولون مائل قليلًا إلى الصفرة. وتكون «الجرشية» في العادة ذات قوام متفاوت الصلابة على ثلاث درجات: طَريّة، ونصف طرية، وجامدة للزيت. والأخيرة تحفظ لزمن طويل.
أم ياسر، سيدة تعد اللبنة في معملها في سوف، جرش.
كيف تصنع اللبنة الجرشية؟
تشرح أم جهاد عملية صناعة اللبنة الجرشية، التي تورد كما روتها بلهجتها المحلية، لهجة أهل سوف. ويرد تفسير لبعض المفردات بين أقواس.
«بتجيب هالحليب، بالأول بَدّه تِصْفاهْ. بِتْصَفّيه بْشاشِة (قماش ناعم) عَ بَابْ بَرْميل، بِتْحُطّه عَ المِغلى، بَدُّه يغلى عَ دَرجَة الغَلَيان، مَثَلِيّه (مثلًا) في ناس بتغليه بَس على الـ70 أو الـ75، هاظ ما بزبط، بعد ما بتغليه بتنزله وبتستنى تَا يُبرُد للـ60 أو للـ65 (درجة مئوية)، زمان كنت أقيسها باصبعي، كنا نْرَوّبْ عَلِصبع (بواسطة الاصبع)، اليوم صار الميازين (موازين الحرارة). بِتْرَوْبُه. مِنْ بعد ما يْرُوبْ، بِتْطلعُه بِتْحطُّه بالتبريد، تا يبرد بتحط عليه شويّة مَلح وبتديره بِالكْياس (أكياس قماشية بيضاء). الصُّبحيات، بَدّك تْقَلْبُه، لازم اللبن يِتْقلّبْ (ينقل من كيس إلى كيس جديد)، بِتْملحه، كل مِية كيلُو لبن بدهن كيلُو ملح. بتحطه بْبُّكَس مَثَلِيّه (في صناديق)، أو بِالِحْواض. ثاني يوم الصبحيات لازم كله يتقلّب، عن ما يصير فيه طَعُم (حتى لا يكتسب طعمًا غريبًا)، التقليب أهم إشي للبنة. لحد ما تصير تعرف تِقطَع مِنّه، بعدين اللّي بَدّك اياه تسويه لبنة طرية. وإذا بَدك لبنة للزيت، بَدّك تُرْكُنْها رَكِن (توضع تحت أثقال من الحجارة حتى تصبح ذات قوام صلب ويتوقف رشح المصل منها نهائيًا)».
سألنا أم جهاد عن سرّ الصنعة الرئيسي فقالت فورًا: «العوس، كل الاعتماد على العوس»، أي الخبرة، في الشغل في الطعام والغذاء، «والعوّاسِة الشاطرِهْ المتعودِهْ على الشغل لَبْنَتْها بْتِفْرِقْ».
اللبنة الجرشية المصنوعة من حليب الماعز «السّمار» لها تكلفة عالية، وهو ما يعني أن سعرها سيكون كذلك، لأن شغلها أصعب، وكمية حليب الماعز أقل نسبيًا.
صناعة الألبان في محافظة جرش
وفق تصريحات صحفية رسمية فإن في محافظة جرش أكثر من 70 معملًا مرخصًا لصناعة الألبان، ويملك أهالي المحافظة، 65050 رأسًا من الضأن والماعز، إلى جانب 1632 رأسًا من الأبقار وذلك حسب إحصاءات عام 2019.
غير أن في قرى المحافظة عشرات المعامل المنزلية غير المسجلة، والتي تسوّق إنتاجها بشكل شخصيّ في الأحياء أو بالاعتماد على العلاقات الشخصية، وبعضها نال شهرةً عالية قبل أن يتحول إلى مصنع رسميّ، مثل ألبان «الحاجة جواهر».
لقد بدأت السيدة جواهر منذ عشرات السنين في صنع مشتقات الألبان في المنزل، قبل أن تحيل الأمر إلى ابنتها التي أقدمت منذ عامين على فتح معمل ومعرض رسميين في السوق، ولكنها أبقت على الاسم المعروف: «ألبان الحاجة جواهر». لقد تقدمت السيدة جواهر في العمر، و«تقاعدت» بعد أن صنعت اسمًا معروفًا.
ليس كل أصحاب مصانع الألبان في جرش من أبناء المحافظة، فقد أصبحت المنتجات الجرشية سوقًا كبيرًا، حتى أن مصدر الحليب الذي يورد إلى المصانع لا يقتصر على جرش ويتوزع على باقي المحافظات ومنها المفرق والزرقاء (منطقة الظليل). أما مربو الأغنام في محافظة جرش فيوردون حليبهم عن طريق عدد من «الحَلابة» (جالبي الحليب)، وهم أصحاب سيارات «بيك أب» يجولون يوميًا على المربين في ساعات مبكرة ويجلبون منهم الحليب إلى المصانع والمعامل المنزلية.
من هؤلاء أبو همام، وهو رجل في الخمسين من عمره، يعمل في جلب الحليب منذ ثمانية أعوام، ويبدأ عمله اليومي فجرًا في جولة تشمل مربي أغنام في خمس قرى تقع إلى الشرق من جرش، وتنتهي جولته اليومية في السابعة صباحًا، حيث يورد ما جمعه من حليب إلى المعامل. ويشاركه من المنطقة ذاتها ستة زملاء صنعة آخرين (سائقو سيارات بيك أب)، كل منهم له زبائنه الثابتون.
إن إقامة مصنع للألبان في جرش يعطي انطباعًا بالجودة، كما يعتقد صاحب أحد المصانع المعروفة الذي التقيناه، وهو يقيم في محافظة بعيدة عن جرش، ولكنه افتتح مصنعه على مدخل مدينة سوف، ويحضر كل يوم من مدينته البعيدة، ويجلب كلّ الحليب اللازم له من خارج جرش، وذلك فقط للاستفادة من اسم المدينة لتصبح ألبانه «جرشية».
من «ألبان الحاجة جواهر».
الغشّ في صناعة اللبنة الجرشية
إنّ الكلام عن «الغش» منتشر بقوة، وبالطبع فلا أحد يقرّ بممارسته. لقد تطورت تقنيات غشّ الألبان والأجبان، إلى درجة التباس الأمر حتى على خبراء وخبيرات الصنعة. لكن هناك بعض النصائح التي يقدّمها محدّثونا من المشتغلين بالألبان.
وفق المشتغلين في الألبان فإنّ اللبنة ناصعة البياض ذات اللمعان الشديد، ليست لبنة أصلية، فهذا دليلٌ على وجود زيوت مهدرجة. ينبغي أن تكون اللبنة الأصلية غير المغشوشة مائلة إلى الصفار. أما خلط الحليب (سمار وبياض وأبقار) فلا يعدّ بحدّ ذاته غشًا، بشرط أن يفصح عن ذلك، لأنه يؤثر على السعر.
تختلف أذواق الناس، فبعضهم يحب اللبنة الحلوة أو الأقل حموضة، وهذا يتحقق من خلال إضافة لبن الأبقار، ويمكن تنويع المزيج بحسب الرغبة. وفي جرش يقولون عن اللبن المخلوط من أكثر من صنف من الحليب لبن «مشْمول»، ويتم التحكم بنسب المكونات حسب الرغبة. لكنّ خلط الحليب المقبول، لا يتضمن استعمال حليب البوردة أو مادة النشا، فهذا يصنف على أنه غش.
يمكن الحصول على لبنة جرشية أصلية بسعر منخفض، وهي لبنة اسمها «قَطيع»، تعتبر لبنة «منزوع خيرها» أو «منزوعة الثمرة»، أي خالية من الدسم، وتصنع من لبن الشنينة «المخيض»، وهو ناتج عملية خض اللبن لصناعة الزبدة. و«الشنينة» في الأصل مخصصة لصناعة الجميد بعد وضعها في أكياس مع كميات من الملح حتى ترشح السوائل منها، ولكن يمكن أن «يُقطع» منها لبن القطيع وهي طرية قبل أن تجف. وهذا اللبن له عشاقه، أحيانًا لأسباب صحية لخلوّه من الدسم. وهو صنف ذو سعر منخفض يبدأ من دينار ونصف للكيلوغرام، فيما يتراوح سعر اللبنة كاملة الدسم بين ثلاثة إلى خمسة دنانير، حسب طراوتها.
وعن التغيرات التي تحصل على اللبنة بعد شرائها، تؤكد أم جهاد –على عكس الانطباع الأولي- بأن تفوير اللبنة (أي تَشَكّل فقاعات على سطحها عند تعرضها للدفء) يعد دليلًا على جودتها؛ «اللبنة اللّي بِتحُطْها بِالعلبة وبِتْفَوّرْ مع الدفا، هاي لا تخاف منها، أما اللبنة اللي لما تدفى بتظل على سَكْتِتْها، لا بيصيبها لا إشي ولا شَيّاني، بتكون عليها مواد حافظة».
لكن هناك تغيرات تدل على عدم الجودة، منها مثلًا، تفتت اللبنة بعد وضعها بالزيت، وهذا دليل على أنها لم تصفّى جيدًا من المصل، أما اللون الأحمر الذي يظهر في لبنة الزيت، فهو إما نتيجة قلة الملح، أو راجع لصنف الزيت.
أما النكهات الغريبة فقد تكون نتيجة عدم التقليب أثناء صنع اللبنة، أي عدم نقل اللبن من كيس إلى كيس جديد ونظيف يوميًا. إذا لم يكن هناك غش في المكونات، كما تقول أم جهاد، فإن «اللبنة العاطلة من رَدى شغلها».
-
الهوامش
[1] العرزال عبارة عن هيكل من البوص والأخشاب على شكل غرفة صغيرة.
[2] الشكوة وجمعها: إشْكا، وهي جلد الخروف يُنظَّف ويدبَغ ويُخاط ويغلق على شكل كيس جلدي.