نشرت هذه المقابلة بالإنجليزية في موقع ذا إنترسبت في 23 آذار 2024. أدناه ترجمة لنسخة مختصرة من المقابلة.
على مدار الخمسة شهور ونصف الماضية، شنّت «إسرائيل» حربًا شاملة ضد المدنيين في قطاع غزة. ولم تقدّم الولايات المتحدة ودولٌ غربيّة أخرى الدعم بالأسلحة في الحرب الإباديّة هذه ضد الفلسطينيين فحسب، بل وفّرت دعمًا سياسيًا وديبلوماسيًا أساسيًا أيضًا.
كانت نتائج تحالفُ القتل هذا مدمرة. إذ تشيرُ تقديرات متحفظة بأنّ هنالك 31 ألف فلسطينيّ قد لقوا حتفهم، بمن فيهم 13 ألف طفل، فيما لا يزال أكثر من 8 آلاف شخص في عداد المفقودين، ويُعتقَد أنّ كثيرًا منهم قد ماتوا جرّاء انهيار المباني التي قامت الهجمات الإسرائيليّة بتدميرها. وتسودُ الآن مجاعة كبيرة في مساحات شاسعة من قطاع غزة.
يشكل هذا النطاق الهائل للدمار البشريّ الذي نجم عن الهجمات الإسرائيليّة تحديات بالغة الخطورة حتى على المستشفيات المجهزة جيدًا. بيد أنّ كثيرًا من مرافق الرعاية الصحيّة في غزة قد دُمِّرت جرّاء الهجمات الإسرائيليّة، أو أُخليت وأُجليت، لكنّ النزر اليسير جدًا بقي مفتوحًا ولكنها محدودة في الرعاية والخدمات التي تقدمها.
لشهورٍ عدّة، قام الأطباء في كافة أنحاء غزة بإجراء عمليّات بتر وغيرها من العمليات الخطيرة دون تخدير أو توفُّر غرف عمليات ملائمة. ولطالما منعت «إسرائيل» مرارًا وتكرارًا شاحنات المساعدات للمواد الطبيّة الحيوية من الدخول إلى غزة. حيث تكاد تكون الرعاية الطبيّة الأساسيّة والبسيطة معدومة، ويتوقّع الخبراء الطبيّون بأنّ سوء التغذية سوف يحتّم على جيل جديد من الشباب الفلسطينيين أن يعيشوا حياة تتسم بعرقلة النمو.
وهكذا، أسفر الهجوم المستمر على المرافق الطبيّة عن بقاء مشفى واحد فقط في الخدمة بالمنطقة، ألا وهو مستشفى غزة الأوروبيّ في خان يونس. الدكتور ياسر خان، طبيب العيون والتجميل الكنديّ، غادر غزة لتوه بعد رحلة علاجيّة استمرت عشرة أيّام أجرى فيها عمليات جراحيّة في العيون لضحايا الهجمات الإسرائيليّة. وكانت هذه الرحلة هي رحلته الثانية إلى غزة منذ بدء الحرب في تشرين الأول الماضي.
الجرَّاح الكندي د. ياسر خان مع صبيّ فلسطينيّ احتمى بمستشفى غزة الأوروبيّ قرب خان يونس. مصدر الصورة: ياسر خان.
جيرمي سكاهيل: قبل أن نتكلم عن رحلتك الطبيّة إلى خان يونس في غزة، أود أن أسألك قليلًا عن خلفيتك وعن ممارستك الطبيّة.
ياسر خان: حسنًا، أنا من منطقة تورنتو الكبرى هنا في كندا، وأزاول الطبّ منذ ما يقرب من عشرين عامًا. أنا طبيب عيون، لكنّي متخصص في الجراحة التجميليّة والترميميّة للجفون والوجوه.
لذا، فهذا هو تخصصي الفرعي، وهو ما أزاوله منذ ما يقرب من عشرين عامًا. كما إنني أستاذٌ جامعي. حيث زرتُ أكثر من 45 دولة مختلفة لدواع إنسانية حيث درَّستُ الجراحة، وقمتُ بإجرائها، وأنشأتُ برامج لها. ولذلك، فقد زرتُ العديد من المناطق المختلفة في آسيا وإفريقيا وأميركا الجنوبيّة.
أخبرنا كيف أفضى بك المطاف إلى أن تركب طائرة وتذهب إلى منطقة حرب حيث الإسرائيليّون يقذفون الصواريخ على الفلسطينيين في غزة.
أنت لا تخطط البتة للذهاب إلى منطقة مثل غزة. كنتُ في أول بعثة من أميركا الشماليّة [إلى غزة]. حيث ذهب سبعة أو ثمانية منا، من جراحي الولايات المتحدة وكندا. الأمر لم يكن سوى مجرد محادثة عشوائية مع أحد زملائي الجراحين بجوار المغسلة. حيث شاهدنا هذا القتل الجماعي أو المذبحة آنذاك لمدة ثلاثة أشهر تقريبًا، عبر البث المباشر. وأعتقدُ أنَّ الكثير منا كانوا يعانون، لذا باغتني زميلي في لحظات إحباطي، قائلًا: «اسمع، أنا ذاهب إلى غزة». فقلت: «ماذا؟ كيف؟ كيف ستدخل؟ لا أحد يذهب إلى هناك، أليس كذلك؟». فقال إنهم يحاولون منذ ستة أسابيع، وأخيرًا أعطتهم منظمة الصحة العالمية الضوء الأخضر. «قد لا يوافقون عليك. أعلم أن الوقت ربما يكون قد فات، لكن دعني أرسل معلوماتك.أحتاج إلى جواز سفرك وشهادتك الطبية وفصيلة دمك». ولم أكن أعرف حتى ما هي فصيلة دمي بصراحة. خمّنت أنها فصيلة AB، وأرسلتها على الفور إليه. وبعد يومين، وبأعجوبة، مُنحِت الموافقة. لا يمكن لأحد أن يدخل إلى غزة سوى عامل في مجال الرعاية الصحية، ومن أجل الدخول يجب الحصول على موافقة منظمة الصحة العالمية، والسلطات الإسرائيلية، والسلطات المصرية. وهكذا دخلت.
صِف لنا تلك الرحلة حيث ذهبت من كندا إلى غزة.
لم يكن أمامي سوى يوم واحد لحجز رحلتي. جمعتُ أكبر قدر من الإمدادات وسافرت إلى القاهرة. ومن هناك، من القاهرة، تلتقي بقافلة تابعة للأمم المتحدة تغادر كل يوم اثنين وأربعاء، حوالي الساعة الخامسة فجرًا في رحلة تستغرق مدتها حوالي 8 أو 9 ساعات عبر صحراء سيناء. تمر بعدة نقاط تفتيش مصرية، ثم تصل إلى حدود رفح التي يسيطر عليها الجانب المصري. ومن ثم، تخضع لفحص جوازات السفر، ثم تصل إلى الجانب الغزي الذي يسيطر عليه الفلسطينيون.
ماذا كان انطباعك الأول حينما عبرت من مصر إلى غزة؟
وصلت إلى غزة حوالي الساعة 6:30 مساء، إذ لا يسافر أحدٌ في الليل. وفي واقع الحال، فإنّ الحد الأقصى لعبور الأمم المتحدة هو الخامسة مساءً، لأنّ أيّ شيء يتحرك مساء تهاجمه القوات الإسرائيليّة من خلال الطائرات المسيّرة أو بالصواريخ الأخرى. إلَّا أنّ الرجلين اللذين أتيا ليقلّاني من المستشفى قالا لي: «سيكون كلّ شيء على ما يرام. لا تقلق. ثق بالله». وهكذا مضيتُ.
كنّا السيارة الوحيدة على الطريق. وكانت الأرجاء ظلامًا، لأنّه ما من وقود ولا كهرباء، وكان الطريق فارغًا. كانت هذه الأجواء مخيفة للغاية. وهكذا، استسلمت لله، وكنت مستعدًا للرحيل في أي وقت. إلّا أنّني لم أكن أسعد برؤية لافتة «الطوارئ» في المستشفى قط كما فعلت حينها، وحينئذ علمتُ أنني وصلت. لم يكن هنالك مستشفيات متبقية في غزة سوى مستشفى ناصر ومستشفى غزة الأوروبيّ، وكانا يعملان بكامل طاقتهما حينها.
وحين نزلتُ من السيارة، كنت أسمع طنين الطائرات المسيّرة على مدار الأربعة وعشرين ساعة، وكان صوت طنينها عاليًا دائمًا، ولم يخفت أبدًا. فإما أن تكون هنالك طائرات تجسس وطائرات رباعية المراوح [كوادكوبتر]؛ وهي طائرات مسلحة يمكنها أن تطلق الصواريخ والنيران. أما الشيء الآخر الذي سمعته فكان القصف. فحرفيًا كلّ ساعة، كل ساعتين أو ثلاث، تسمع «بوم» جراء القنابل، وكانت هنالك قنابل تهز كلّ شيء حرفيًا. كانت هذه هي الصورة الأولى التي عاينتها.
بيد أنّ الصورة الأخرى التي عاينتها كانت بمثابة مخيّم جماعيّ للاجئين. آنذاك قبل شهرين تقريبًا، كان حوالي 20 ألف شخص قد احتموا بالمستشفى، سواء داخله أو خارجه. وكانت هذه بمثابة ملاجئ مؤقتة من ملاءات أسرّة أو أكياس بلاستيكيّة. مَن كانوا خارج المستشفى كانوا ينامون على الأرض. وإذا حصلوا على سجادة أو حصيرة فكان ذلك حظًا. وكان هنالك حمّام واحد لـ200 شخص تقريبًا، وعليهم أن يتقاسموه فيما بينهم. أمّا في الداخل، فقد حُوِّلت ممرَّات المستشفى إلى ملاجئ. بالكاد كان هنالك متسع لأن تمشي، والأطفال يركضون بكلّ محلّ. وإنّه من المهم أن نتذكّر أن هؤلاء جميعًا لديهم منازل مدمرة. كلّهم نازحون التمسوا في المستشفى ملجأً.
قِيل لي بأنّه في كلّ مرة تسقط فيها قنبلة، فانتظر لـ15 دقيقة وسيأتي جمع غفيرٌ من الإصابات. وهذا كان الشيء الآخر الذي صدمني آنذاك: فما كنا نشاهده يُبث مباشرةً على وسائل التواصل الاجتماعي، عاينته بنفسي بالفعل وكان الأمر أشدّ سوءًا مما أتخيل. لقد رأيت مشاهد مروعة لم أشهدها من قبل، ولا أرغب برؤيتها مرة أخرى قطّ. ترى أمًا تمشي وهي تحمل طفلها النحيف البالغ من العمر ثماني أو تسع سنوات -لأنهم جميعًا يتضورون جوعًا- إنه ميت، وجسده بارد، والأم تصرخ، وتطلب من شخص ما أن يفحص نبضه والجميع مشغول بالفوضى الجماعية. كان هذا هو الترحيب الأول الذي لقيته حينما دخلت خان يونس للمرة الأولى.
يقدّر خان أن نحو 30 ألف فلسطيني يعيشون الآن في مستشفى غزة الأوروبي وما حوله، على أمل ألا تهاجمه «إسرائيل». تصوير: ياسر خان.
عدتَ للتو من مهمتك الطبيّة الثانية، حيث كنت هنالك في غزة لمدة عشرة أيام. صف لنا المشاهد التي رأيتها هذه المرة في قطاع غزة، لا سيّما في المستشفى.
عليَّ أن أقرّ بأنه في المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى هناك، كنت أحاول اعتياد ما يحدث، ورؤية أعداد كبيرة من الضحايا، ورؤية المستشفى، ومقابلة الأطباء والممرضات والعاملين في مجال الرعاية الصحية، والتعرف على المناطق المحيطة، وأيضًا على إجراء العمليات. هذه المرة، كانت المقدمة قد انتهت.
كانت الأمور محبطة جدًا. عليك أن تكون على الأرض لترى مدى سوء الأمور. ففي غضون شهرين فحسب، تدهورت الأمور بصورة كبيرة، لأنّ خان يونس كمدينة قد دُمرّت حرفيًا هذه المرة. كانت مدينة نشطة وصاخبة وتضج بالحياة. مستشفى ناصر دُمّر تمامًا الآن. إنها ببساطة منطقة موت. هنالك جثت متحللة في المستشفى، الذي بات مخلى الآن. وأودّ أن أضيف شيئًا واحدًا في هذا الصدد: بوصفي عاملًا في مجال الرعاية الطبيّة، فإنّني أعلم أنّ بناء مستشفى يعمل بكامل طاقته هو أمر يحتاج إلى سنوات حتى يُبنى ويعمل ويعالج. إنها مأساة مطلقة أن يتم تدمير كلّ ذلك في غضون ساعات قليلة.
المستشفى الأوروبي، الذي يضم رسميًا 240 سريرًا، بات فوق طاقته الاستيعابية بـ300%، بينما لجأ العديد من النازحين داخليًا إلى أروقة المستشفى. تصوير: ياسر خان.
أمّا الآن [في مستشفى غزة الأوروبي] بدلاً من 20 ألف شخص، هناك حوالي 35 ألف شخص يلجأون إلى مستشفى يعمل بما يفوق طاقته بالفعل. سواء في الخارج أو في الداخل، هناك جمع من الناس. لا يوجد مكان للتحرك الآن في الممرات. انخفض تعقيم المستشفى بصورة ملحوظة. كان مستشفى غزة الأوروبي مستشفى جميلًا ورائعًا. جيد البناء، ومُدارًا جيدًا، وكانت مراقبة الجودة فيه تسير بشكل جيد، كل ما عليك فعله هو الاتصال بالإنترنت لتلقي نظرة على صوره من قبل. أما الآن، فقد حُوِّل إلى مكان فوضويّ تمامًا. هناك أشخاص يطبخون داخل ممرات المستشفى، وهناك أشخاص مختلطون مع المرضى الذين يعانون من إصابات خطيرة في العظام، والمرضى بعد العملية. ما من أسرَّة. لذا، فإنّ الناس يذهبون أحيانًا وينامون في ملاجئهم الصغيرة المؤقتة. وعليه، فالعدوى متفشية كما يمكنك أن تتخيل. لذلك إذا لم تمت في المرة الأولى أو إذا لم يتم بتر ساقك أو ذراعك في المرة الأولى، فمن المؤكد أن تصاب بالعدوى. لذلك عليهم أن يبتروها إنقاذًا لحياتك. لذلك، فالأمور أسوأ جدًا.
الشيء الآخر الذي لاحظته، أكثر من أي وقت مضى، هو أن العاملين في مجال الرعاية الصحية والممرضات والأطباء منهكون تمامًا. لقد شهدوا الكثير خلال ستة أشهر تقريبًا. عادةً، عندما أقوم بإجراء عملية جراحية [في مستشفى بكندا]، يكون لديّ عدد قليل من الحالات الاختيارية غير العاجلة التي يتعين عليك إصلاحها. ثم هناك بعض الإصابات، أو الحالات الأكثر إلحاحًا، هذه هي قائمتي المعتادة. لكن [العاملين الطبيين الفلسطينيين] يعملون يوميًا على علاج أفظع وأشد الإصابات التي لم يسبق لك أن رأيتها قط. أحيانًا يقومون بإجراء 14 أو 15 عملية بتر، معظمها لأطفال، يوميًا، وهم يفعلون ذلك منذ ستة أشهر.
ما أحاولُ التشديد عليه للناس هو أن الأمر لا يتعلق الإصابة الطبية الفعلية فحسب، بل بالصدمة الأخرى المتعلقة بها. إذا تعرضت لإصابة انفجارية، وجئت مصابًا، فمن المؤكد أنك فقدت أحبابك. إذًا، إما أنك فقدت أبًا، أو أمًا، أو طفلًا، أو جميع أطفالك، أو جميع أفراد عائلتك، أو عمك، أو عمتك، أو أجدادك، أو منزلك، أو أي شيء آخر. لقد فقدت شيئًا. وعليه، فإن كل مريض يأتي، فإنه لا يجيء فقط مصابًا بجروح خطيرة، بل إنه يعاني من هذه الصدمة.
[في إحدى الحالات التي عالجتها] رأيت فتاة جميلة تبلغ من العمر 8 سنوات. جاءت بسبب كسر في ساقها. ماتت أمها وجميع إخوتها وعماتها وأعمامها. الأمر بمثابة قتل للأجيال. هناك حوالي ألفي عائلة قد مُحيت وقُتلت بالكامل. كان والدها بالخارج يدفن زوجته وأطفاله الشهداء بينما كانت هي بمفردها تعالج كسر ساقها. بقيت تحت الأنقاض لمدة 12 ساعة، وبجانبها كانت جدتها وخالتها ميّتتيْن.
ورأيتُ رجلًا انشق وجهه، وظل تحت الركام لمدة ثمانية أيام. لا أعرف كيف نجا، وكيف تمكنوا من إنقاذه. لقد فقدَ عينيه، لكنهم تمكنوا من إعادة تجميع وجهه مرة أخرى، ونجا. لذا، فهم يتعاملون مع كلّ هذا. كانت الأوضاع سيئة قبل شهرين، أما بعد شهرين فأصبحت أشدّ سوءًا. أستطيع أن أرى وأشعر في الواقع بالإنهاك الحاصل [لدى العاملين الطبيين الفلسطينيين]، لكنهم خارقون بالفعل. إنهم يمضون قدمًا حتى عندما يخسر الباقون منّا أملهم. لكنهم مواصلون لأن هذا هو صمودهم وهذا هو إيمانهم. ولا زالوا يعتبرون أنّ مجرد بقائهم هو في حد ذاته مقاومة. وسينجون من القصف الإسرائيلي، مهما حدث، لأن هذا هو شكل مقاومتهم.
يقول خان إن هذه الفتاة الفلسطينية البالغة من العمر ثماني سنوات ظلت محاصرة لمدة 12 ساعة تحت الأنقاض بجوار اثنتين من أقاربها الشهداء بعد هجوم إسرائيلي. تصوير: ياسر خان.
ما القصص التي سمعتها من زملائك الفلسطينيين حول الغارات والهجوم الذي يقوم به الإسرائيليون ضد المرافق الطبية والأطباء والممرضات؟
كان هذا اعتداء ممنهجًا ومتعمدًا على نظام الرعاية الصحية. الأعجب من ذلك هو أن الساسة الإسرائيليين لم يخفوه. لقد كان هناك الكثير من التصريحات العلنية حول ما ينوون فعله. أعتقد أن ما يزيد عن 450 ممن يعملون في قطاع الرعاية الصحية قد قُتلوا، أطباء وممرضون ومسعفون. كما استُهدف وقُتل أطباء بعينهم من المختصين في اختصاصات نادرة. وخُطف العديد من الأطباء وعُذبوا. رأينا صورهم، لذا عرفنا أن هذا يحدث. عاد أحد الأطباء الذين تعرضوا للتعذيب، وهو جراح عام، وتحدثت مع زوجته، لتخبرني بأنه لم يعد لسابق عهده مطلقًا. فقد عُذب وما زالت أثار التعذيب بادية عليه. كما جُرد مساعد مدير المستشفى من ثيابه وضُرب أمام مرأى العاملين إمعانًا في إذلاله وإهانته نظرًا لكونه رئيسهم. وبالتالي، كان هذا إمعانًا في نزع الإنسانية عنهم. حين يعود هؤلاء الأطباء، فإنهم لا يكونون كسابق عهدهم. وما يزال الكثير منهم رهن الاعتقال لدى القوات الإسرائيلية. بالنسبة لي، كجراح، فإن رؤية هذا يفطر قلبي حقيقةً. أرواح الناس أمانة بين أيدينا، لذا فإن مشاهدة حالهم يؤول إلى العدم عقليًا هو أمر يشق عليك تقبله.
حدثنا عن أنواع الإصابات أو الوفيات التي شهدتها خلال فترة وجودك هناك.
أنا جراح عيون، جراح تجميل عيون، وبالتالي فقد رأيت ما وصفته بـ«وجه غزة المتشظي» الذي بات أمرًا كلاسيكيًا، لأنه في حالة وجود انفجار، يتعذر عليك معرفة ما القادم. حين يقع انفجار، فإنك لا تقف هكذا [مغمضًا عينيك]، بل تفتح عينيك في واقع الأمر، وبالتالي فإن الشظايا تكون في كل مكان. تستخدم القوات الإسرائيلية هذه الصواريخ التي تتعمد عن سابق تصميم خلق قطع كبيرة من الشظايا المنتشرة في كل مكان، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى عمليات بتر غير مسبوقة.
عادة [في سياق غير حربي] تكون عمليات البتر في نقاط ضعيفة، كالمرفق أو الركبة، لذا فإنها تكون محتملة بصورة أفضل. غير أن هذه [الشظايا] تؤدي إلى عمليات بتر في منتصف الفخذ ومنتصف الذراع، وتكون أصعب، والتعافي منها أشد مشقة. والجروح الناجمة عن هذه الشظايا لا تشبه الجرح الذي تخلفه الرصاصة، حيث تخلق الرصاصة نقطة دخول وخرج. لكن الشظايا تبقى في الداخل، لذا يتوجب عليك إخراجها. وبالتالي فإن الإصابات التي شاهدتها كانت [صعبة جدًا]. رأيت أشخاصًا انفجرت أعينهم. اقرأ/ي أيضا:
حين كنت هناك أول مرة، كان جميع مرضاي من الأطفال. عالجت أطفالًا أعمارهم 2 و6 و10و13 و15 و16 و17 سنوات. كانت الشظايا في محاجر أعينهم وهو ما اضطرني لاستئصالها. هناك العديد من المرضى، والعديد من الأطفال ممن كان لديهم شظايا في كلتا عينيهم. وما باستطاعتك فعل الكثير حاليًا، نتيجة للحصار الذي يمنع دخول المساعدات، وللدمار الذي لحق بمعظم غزة، حيث لا تتوفر المعدات اللازمة لإزالة الشظايا من الأعين. ما يعني أن العمى مصيرهم في النهاية.
لقد شهدت على إصابات الوجه هذه، ورأيت أطفالاً كانت أطرافهم متدلية وبالكاد متصلة. رأيت إصابات في البطن كانت فيها الأمعاء خارج البطن. والمعضلة كانت تتمثل في عدم توفر مكان في غرف الطوارئ، لذا فإن المرضى كانوا على الأرضية. كانت هناك إصابات هائلة، والمصابون بها الأرض، حتى أنهم كانوا يُنسون أحيانًا في خضم هذه الفوضى العارمة.
جاءنا طفل يبلغ عمره عامين مصاب في قصف حديث. فقد عمته وشقيقه، بينما أمه كانت في غرفة العمليات تخضع لعملية بتر. وبالمناسبة، كانت الأم موظفة فلسطينية لدى الأمم المتحدة. وبالتالي نُسي الطفل في مكانٍ ما على الأرض، وهو يعاني من إصابة خطيرة في الرأس. لم تكن والدته إلى جانبه، وكذلك والده، عائلته ليست معه. ولحسن حظه، عُثر عليه بعد ساعتين، واصطحبوه لقسم جراحة الأعصاب، لكنني لا أعرف ما حلّ به لأن ذلك كان آخر يوم لي هناك. لقد كانت إصاباتٍ لم أشهدها من قبل وكانت درجتها صادمة.
في كانون الأول، قالت اليونيسف بأن هناك ما يزيد عن 1000 طفل -وهو رقم قليل- قد تعرضوا لبتر طرف أو طرفين. كان هذا حتى كانون الأول فحسب، وكان هذا تقديرًا متحفظًا للغاية. في كانون الثاني، قال البعض إن عدد الأطفال الذين خضعوا للبتر قد بلغ ما يقارب 5000 طفل. وبالتالي إذا ألقيت نظرة على الأعداد بعد شهرين من ذلك، فلا بد أن يكون الرقم قد بلغ 7000 أو 8000 الآن، معظمهم من الأطفال. في حالات البتر الطبيعية، في الظروف الطبيعية، يخضع الطفل الذي تعرض للبتر لثمانٍ أو تسع عمليات حتى يصبح بالغًا، من أجل إصلاح الجذع. مَن الذي سيقوم بهذا الآن؟ إنهم لا يمتلكون البنية الأسرية ولا البنية التحتية للقيام بذلك، لأن كل ذلك دُمر.
إنك تصف مشهدًا كارثيًا، خاصة ما يتعلق بعمليات البتر التي تعرض لها الأطفال. هل هناك إمدادات كافية للتعامل مع الإصابات في المستشفى الأوروبي حيث كنت؟
قطعًا لم تكن متوفرةً قبل شهرين. في آخر يومٍ لي أثناء مغادرتي، نفد المورفين لديهم، والمورفين علاج يلزم وجوده للتعامل مع العديد من حالات جراحة العظام والإصابات البالغة. أنت بحاجة المورفين للسيطرة على الألم. ولاحقًا، بعد شهرين تقريبًا، نفدت المضادات الحيوية كذلك. الآن، دخلت الإمدادات. لكنها سرعان من تنفد، وهو ما يحدث بالفعل. لقد صدئت معداتهم، والأصعب الحصول على معدات جديدة، لأن أي أداة مزدوجة الاستخدام، تحظر القوات الإسرائيلية دخولها للقطاع.
وبالتالي، يتوجب استبدال الكثير من هذه المعدات الطبية، لكن الأطباء الفلسطينيون مبتكرون جدًا. إنهم عباقرة، جميعهم هكذا. إن ما يمرون به، وما يقومون به مذهل للغاية. لكن في النهاية، إنها فوضى. حتى غرفة العمليات تعمها الفوضى. هناك إحباط كبير [بين الأطباء الفلسطينيين]، ولا لوم عليهم.
خان يجري عملية جراحية لأحد المرضى في المستشفى الأوروبي في غزة في بداية آذار. مصدر الصورة: ياسر خان.
علينا جميعًا أن نتذكر أن الأطباء والممرضين والعاملين في القطاع الطبي من الفلسطينيين يؤدون عملهم في الآن ذاته الذي فقد فيه الكثير منهم عائلاتهم وأزواجهم وأطفالهم وأحفادهم. بصفتك طبيبًا من كندا، كيف شعرت أثناء الحديث لزملائك الفلسطينيين وأي أثر تركوه في قلبك؟
لقد ترك ذلك أثرًا هائلًا، بالأخص هذه المرة. لقد شعرت بالعبء العاطفي هذه المرة أكثر مما اختبرته في المرة السابقة. لكن، دعني أخبرك بأمر: أعرف أننا نتحدث عن الموت والمرض وكل هذه الأمور، لكن هناك أمر آخر ينبغي أن نوليه جزءًا أكبر من حديثنا، وهو موت ثقافتهم وحضارتهم، وهو ما يعد إبادة جماعية أو جزءًا منها. لقد دُمّر كل ملعب ومكان للتسلية ومقهى ومطعم ومسجد أو كنيسة عمرهما أكثر من 500 عام، جميعها دُمرت. لقد دُمرت مدارس وملاعب ومنشآت رياضية ومستشفيات وصالات سينما ومتاحف وأرشيفات ومنازل، حيث بلغت نسبة المنازل التي هُدمت 80%. ونُشر كل هذا على التيك توك ليراه العالم أجمع. إنهم يشهدون تدميرًا كاملًا لثقافتهم وحضارتهم وأرواحهم، وهذا بحد ذاته مأساة مروعة. إذا ما تخيلنا أن ذلك يحدث لنا نحن، كيف سيكون شعورنا حينها؟
بالرغم من كل ذلك، فإنهم ما زالوا متفائلين. إنهم كذلك حقًا. البعض فقد الأمل ويرغب بالخروج. يريدون المغادرة لينجو بأرواحهم، لكنهم جميعًا يريدون العودة بعد ذلك. لأن ارتباطهم بأرضهم كبير، ولا يريدون تركها. لكن في هذا الوقت، يريدون الخروج، ليحظوا بالأمان. في النهاية، أعتقد أن ما يربطهم ببعضهم هو إيمانهم. إنهم مؤمنون بالله وبالعدل؛ مؤمنون بعدل الله. بيد أنهم ليسوا مؤمنين بالعدالة الإنسانية على الإطلاق. ولا لوم عليهم، فهم لا يعرفون ماذا يفعلون. إذ ليس هناك يقين. ليس بمقدورهم التخطيط للمستقبل لأنهم لا يعلمون ما إذا كان اجتياح رفح سيحدث.
لقد عاينت الواقع، تجولت في مخيمات اللجوء، وذهبت إلى رفح، وفي حال حدوث اجتياح إسرائيلي، فليس بمقدوري أن أؤكد بما يكفي مدى كارثية ذلك. ستكون مذبحة جماعية وتدميرًا شاملاً، وما لا يدركه الناس هو أن الإصابة في بيئة كهذه تفتقر إلى نظام رعاية صحي، نظرًا إلى أنه انهار بشكلٍ كلي، هو بمثابة حكم بالإعدام. وغالبًا ما يفقد الجرحى جميع أقاربهم، خاصة الأطفال، وبالتالي لا يبقى لهم مَن يعتني بهم. سيكون ذلك كارثيًا. لا أعرف ماذا أقول للعالم للحيلولة دون وقوع هذا الغزو الوشيك. ينبغي كبح جماح رئيس الوزراء الإسرائيلي. ينبغي فعل أي شيء لوقف هذا الغزو.
ما تصورك لما سيواجهه المرضى الذين أجريتَ لهم عمليات جراحية وباتوا يعيشون واقعًا لم يعد بإمكانهم الرؤية فيه؟
هذا الأمر يقض مضجعي. الإجابة البسيطة والشاملة هي أنني لا أعرف. العديد منهم يعيشون في الخيم وخسروا عائلاتهم والدعم، وخاصة الأطفال. وحتى الكبار منهم.
أحد المرضى لدي كان شابًا صغيرًا، يبلغ من العمر 25 عامًا، فقد إحدى عينيه التي استئصلتها بنفسي. قضى خمس أو ست أو سبع سنوات، ودفع آلاف الدولارات لإجراء عملية إخصاب صناعي لأنه تزوج في سن صغير، ورغبوا في إنجاب طفل لكنهم لم يتمكنوا من ذلك. قضى سنوات من عمره يجرب الإخصاب الصناعي وأخيرًا أنجب طفلاً بلغ من العمر ثلاثة أشهر. ثم استهدف منزله بصاروخ إسرائيلي، ليفقد كل عائلته؛ طفله وزوجته ووالديه وعائلته. لقد تُرك بمفرده، وبات رجلًا وحيدًا. لقد استأصلت عينه المتبقية بنفسي، لم يتبقى له أحدٌ في هذا العالم. لا يفعل شيئًا سوى التجول حول الخيم، يمشي وحسب. أصبح بلا منزل، يحاول النوم حيثما استطاع.
أطفال كثر يقاسون الوضع ذاته. ماذا سيحل بهم؟ لا أعرف. ماذا سيحل بالطفل مبتور الساقين الذي فقد بيته ووالديه وأعمامه وعماته وأجداده وإخوته كذلك؟ رأيت طفلة فقدت ذراعها وقريبها الوحيد المتبقي على قيد الحياة كان شقيقها ذا الـ11 أو 12 عامًا، وهو مَن يعتني بها. وبالتالي فأنا أجهل ما سيحدث لأنه لا يوجد بنية تحتية، ولا توجد رعاية لجذوع الأطراف المبتورة. العديد منهم يصابون بالعدوى، بعد خضوعهم لعمليات البتر. وهو ما يحدث عادة عندما يُخرجون من المستشفى، نظرًا لأن المستشفى تحاول إخراجهم بغية إيجاد مكان لإدخال المزيد من الناس، وبالتالي فهم يخرجون إلى الملاجئ أو الخيم. وهذا مختلف تمامًا عن إخراج المريض إلى منزله حيث تتوفر الرعاية المناسبة.
أريد التأكيد على الآتي: عاش الفلسطينيون لعقود في سجن مفتوح. هذا ليس بجديد. كانوا يقاسون، لكنهم كانوا قادرين على المضي قدمًا في حياتهم. ونظرًا لأنه ليس بإمكانهم الانتقال إلى أي مكان، بسبب الحصار والقيود المفروضة عليهم من قبل «إسرائيل» من جانب ومصر من الجانب الآخر، فقد وضعوا كل ما يملكونه لإنشاء بيوتهم. كانت تلك المنازل قصورهم، ومركز حياتهم وعالمهم. لقد أولى الناس هناك اهتمامًا ورعاية كبيرين بمنازلهم. والآن صار كل أولئك الناس بلا مأوى. لذا، فإن لهذا أثر جسيم، ليس باستطاعتي سوى تخيل ما يختبرون. منذ عام مضى فقط، كانت الحياة طبيعية، إذا جاز التعبير، بالرغم من وجودهم في معسكر اعتقال، لكن كانت الحياة ما تزال طبيعية. كان ذلك الوضع الطبيعي بالنسبة لهم. كانوا يعيشون ويفعلون أفضل ما بمقدورهم. إنهم أشخاص ممتنون وكرماء للغاية، وصامدون، ويخلقون الأفضل في كل سيناريو، لقد حققوا أفضل ما بوسعهم حتى وهم في معسكر اعتقال. لكن ما يحدث الآن يفطر القلب.
مقبرة مرتجلة بالقرب من المستشفى الأوروبي خارج خان يونس، غزة. يقول خان «هذه مجرد واحدة من المقابر التي اكتشفتها خارج المستشفى». مصدر الصورة: ياسر خان.
ما هي رسالتك للعالم الآن؟
إن غزة الآن جحيم من صنع البشر. في حال حدث الاجتياح الإسرائيلي لرفح، فإن ذلك سيكون كارثة محققة. ينبغي علينا جميعًا أن نفعل كل ما باستطاعتنا لمنع حدوث ذلك، وأن نضغط بكل ما أوتينا على ساستنا، وعلى سلطاتنا، للحيلولة دون وقوع ذلك لأن الرعاية الصحية والخسائر البشرية ستتجاوز قدرتنا على التخيل. وفي حقيقة الأمر فإن هذا الاحتلال قد طال لمدة 75 عامًا. وبعيدًا عن كل هذا القتل والتدمير الحاصلين، فإن هؤلاء الناس يجب أن ينالوا استقلالهم ودولتهم المستقلة ليعيشوا بكرامة وحرية.
دعني أخبرك شيئًا: لقد زرت 45 دولة مختلفة، والفلسطينيون من أفضل الشعوب التي قابلتها في حياتي. إنهم الشعب الأكرم والألطف والأطيب قلبًا والأذكى والأحكم الذي قابلته في حياتي على الإطلاق. لذا فإنهم يستحقون أن نناضل من أجلهم. إنها مسألة إنسانية.