أنا جاسر محمد الشوبكي، وُلدت العام 1938 لعائلةٍ تنحدر من قرية المقارعيّة في الشوبك، لأبٍ جندي في الجيش الأردني، لي قدرة عجيبة على كسب الصداقات؛ اجتمعت مع أنجيلا ديفيس إحدى قيادات نضال الأميركيين السّود في أمريكا، ومع الفيزيائيّ العراقي عبد الجبار عبدالله في بغداد، ومع صلاح خلف أحد زعماء حركة فتح في الكويت، ومع الأكاديمي والشاعر اليمني عبد العزيز المقالح في صنعاء، ومع أكثر من رئيس ديوان للملك، ورئيس وزراء، ومع ذلك لم أدخل يومًا السلطة، ولا كنت رفيقًا في حزب.
درستُ الفيزياء النووية لأجيب على سؤال طرحتهُ على أمي عائشة الهباهبة وأنا في السادسة ولم تعرف إجابته: من يملأ النجوم بالكاز لتضيء؟ وحين عرفت، تركت البحث في الفيزياء واتجهت لتدريسها، لكن على طريقتي.
انتهى عملي الأكاديمي في الجامعة مرّتين، الأولى بعد أن فُصلت على موقف سياسيّ واتجهت لامتلاك كشك بيع صحف وسجائر في إربد، أو عاملًا في محطة محروقات في عمّان، والثانية حين تقاعدت براتب شهري قدره 328 دينارًا، ولست نادمًا على شيء.
لي لسان سليط، يتذكّره من حضر لقاء وفد السفارة الأمريكية بأكاديميين أردنيين في عمّان للاطمئنان على سير التطبيع مع «إسرائيل» بعد اتفاقية وادي عربة في الوسط الأكاديميّ، فقلت لمسؤولٍ حضر الاجتماع: لن أعترف بإسرائيل، لا على أرض فلسطين، ولا في المياه الإقليمية في البحر الأبيض المتوسط، ولا حتى لو أقامت دولتها على ظهر باخرة. وهذه طريقتي في قول الحقيقة.
هذا مختصر قصّة حياة جاسر الشوبكي، تكوّنت شخصيّته في أكثر من مرحلة خلال وجوده في عدة دول، وكانت أول مرحلة وعى فيها على الدنيا في الأردن حين لم يكمل السادسة بعد.[1] كان وحيد أمه، توفيّت وهو في السادسة، ثم تنقّل مع زوجة أبيه وإخوانه غير الأشقّاء في إربد وجرش. وحين نُقل الأب للخدمة في مدينة طولكرم الواقعة تحت الحكم الأردني آنذاك، استدعى ابنه بعد سنة عنده، حيث درس جاسر في المدرسة الفاضليّة، يمضي الوقت بين طلبة ينتمون إلى عدة اتجاهات سياسية: إسلاميين وشيوعيين وقوميين، وجاسر مع حزب التحرير الإسلامي، لكنه كذلك يقرأ تولستوي وماركس وميشيل عفلق، ويستمع للنقاشات السياسيّة في مضافة أستاذ مدرسة في مخيم طولكرم.
صورة جاسر الشوبكي مع صورة أبيه من غرفته في بيت شقيقته ليلى.
بسبب نشاطه السياسي في المدرسة أُبعد إلى الأردن، وأكمل الدراسة الثانوية في مدرسة السلط في العام الدراسي 1954-1955، ثم ابتعثته الحكومة الأردنية لدراسة الفيزياء في العراق. وهناك جاءت تعليمات حزب التحرير إلى منتسبيه الطلّاب بعدم المشاركة في تظاهرات بغداد التي خرجت بعد أنباءٍ عن نية الحكومة العراقية السماح للبريطانيين باستخدام مطار الحبانيّة لقصف مصر في العدوان الثلاثي عليها عام 1956.
ترك الشوبكي حزب التحرير وشارك مع المتظاهرين الشيوعيين والقوميين، فطردته الحكومة العراقية مع الطلبة الأردنيين إلى الحدود الأردنية العراقية، قبل أن يعودوا لإكمال دراستهم بقرار من الحكومة العراقية. وبعد التخرج، عاد الشوبكي إلى الأردن فاعتقل في مطار القدس لفترة قصيرة قبل أن يُفرج عنه، ومن يومها أُشيع أنه شيوعيّ، ورفيق في أحزاب كثيرة، لكنه لم يكن. كان هذا الانتقال في التوجه السياسيّ للشوبكي جزءًا من التحول العام في المشهد السياسي العربي، وخاصةً العراقي، الذي شهد صعود نجم الشيوعيين والقوميين.
في شخصيّة الشوبكي سمتان رئيسيتان؛ حدّة الطبع، وقدرة عجيبة على إقامة الصداقات، ظهرت الأخيرة في الكويت التي سافر للتدريس في مدارسها بعد سنوات قليلة أمضاها مدرسًا في مدارس إربد. هناك جالس أستاذه في مدرسة السلط عدنان أبو عودة، وتعرّف على صلاح خلف أحد مؤسسي حركة فتح، وشهد فترة تأسيس الحركة وسنواتها الأولى، وظل يزور العراق ويلتقي وكيل جامعة بغداد الفيزيائي العراقي عبد الجبار عبدالله، الذي نصحه بعد النكسة بإكمال دراسته، فتقدم إلى جامعة أوريجون وحصل على منحة لدراسة الدكتوراة في الفيزياء النووية عام 1968، وسافر إلى أمريكا بعد أن أمّن من عمله في الكويت تكاليف بناء بيتٍ لعائلته في الأردن التي صارت أحد عشر أخًا واختًا.
كانت الجامعات الأمريكية تشهد نهاية الستينيات وبداية السبعينيات نشاطًا لما عرف باليسار الجديد، الذي ضمّ المناهضين للحرب على فيتنام والداعمين للحركة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام وجماعة الفهود السوداء والمطالبين بحقوق السود، وكانت جمعية الطلّاب العرب قد كثفت نشاطها هي الأخرى داخل الجامعات بعد نكسة حزيران العام 1967.
في الجمعية نشط الشوبكي في تنظيم مظاهرات ومحاضرات دعمًا للثورات العربية مثل الثورة الفلسطينية، وثورة ظفار في عُمان، ووصل إلى رئاسة الجمعية لمدة عام واحد، أقام خلالها علاقات وطيدة مع نشطاء من تيارات مالكوم إكس ومارتن لوثر كينغ، والتقى بشكل متكرر مع رموز اليسار الجديد ومنهم أنجيلا ديفيس، وأكاديميين يساريين آخرين، واستدعي من قبل رئيس الجامعة مرة واحدة على الأقل للحديث معه حول نشاطه في مناهضة الحرب على فيتنام.
في تلك السنوات، فهم الشوبكي دور الأكاديمي في الجامعة من أمثلة أمامه لأكاديميين يساريين وسود يقودون احتجاجات الطلاب، وينشطون في الحوارات السياسية داخل وخارج محاضرات التخصصات الأكاديمية. «جاسر مختار الطلبة العرب اللي ييجوا على جامعة أوريجن، اللقمة اللي معاه مش إله، اللي ما بيعرف جاسر بالغربة ما يعرفهوش»، يقول الدكتور ماجد الشناق الذي عايش الشوبكي في الجامعة نفسها.
أنهى الشوبكي متطلبات نيل درجة الدكتوراه في الفيزياء النووية العام 1976[2] وتزوج في تلك الفترة من فتاة أمريكية، سينجب منها خلدون وأروى، ثم توفي أبوه وصار الأخوة برقبته: «كنّا صغار، أنا كنت صف خامس بعدي، و[أختنا] صغيرة عمرها أربع سنوات. صارت مسؤولية، وين نروح؟ لا مورد ولا إشي، ترك كل إشي ورجع»، تقول شقيقته ليلى.
جاسر في مصر، من أرشيفه الموجود في بيت شقيقته ليلى في عمان
أول ما فعله الشوبكي حين حطّ في الأردن أن زار قبر أمه، وقف هناك وقال لها: لقد عرفتُ من يعبئ النجوم بالكاز لتضيء في الليل. وبعدها ترك شخصيّة الباحث في الفيزياء النووية، وصار مدرس مساق الفيزياء برسالة سياسيّة واجتماعيّة في جامعة اليرموك التي تأسست سنة عودته العام 1976 وكان ثاني موظف يعيّن فيها.[3]
اعتمدت الجامعة عند تأسيسها على الأستاذة المستقيلين من الجامعة الأمريكية في بيروت بسبب الحرب الأهلية اللبنانية، وخريجي الجامعات الأمريكية ومن بينهم جاسر. كانت دائرة الفيزياء قد بدأت التدريس مع افتتاح الجامعة بأعضاء تدريس ثلاثة وستة مساعدي بحث وتدريس وخمسين طالبًا.
ظهر الشوبكي أمام الطلّاب بسروال الجينز، والقميص الملقى فوق السروال والشعر المصفف إلى الوراء، متخلصًا من تقليد الأكاديميا الصارمة في لبس البدلة وربطة العنق. يترك الطابق المخصص للأكاديميين في الكافتيريا ويتناول وجباته في الطابق المخصص للطلاب. يشارك في الفعاليات الثقافية والسياسيّة التي يقيمها الطلبة الحزبيون في الجامعة، ولا يدع محاضرة له تمرّ دون الدخول في نقاش مع الطلبة حول الأحداث السياسيّة في المنطقة.
كان الكثير من طلبة الجامعة منظمين في أحزاب أو قريبين منها، وكانت المنطقة تمر بأحداث سياسية كبيرة؛ زيارة السادات إلى «إسرائيل» سنة 1977، اجتياح الجيش الإسرائيلي جنوب لبنان حتى نهر الليطاني سنة 1979، اجتياح الجيش الإسرائيلي العاصمة اللبنانية بيروت سنة 1982، ومع كل حدث احتجّ الطلبة، منها مثلًا الاعتصام المطالب بوقف مهرجان جرش عام 1982 بسبب الحرب على لبنان، وكانت الجامعة تدير المهرجان وتحتضنه. وفي كل هذه الأحداث كان الشوبكي حاضرًا مع الطلبة في النقاش والدعم، داخل الجامعة وخارجها، وتتذكر شقيقته ليلى -وكانت طالبةً في الجامعة- مشهد الشوبكي يمشي وحوله الطلبة في شارع الجامعة.
لكن يوم 11 أيار سنة 1986 كان مختلفًا، اعتصم الطلبة داخل الجامعة احتجاجًا على قرارات الإدارة فرض عقوبات على 32 طالبًا شاركوا في احتجاجات سابقة.[4] توتر الموقف بين المعتصمين والإدارة، فطوّق الأمن أبواب الجامعة وجرت مفاوضات لحلّ الاعتصام دون جدوى. عرف الشوبكي أن الموقف يسير نحو الصدام، فاتصل ليلة 14 أيّار مع مريود التل، مستشار رئيس الوزراء زيد الرفاعي، ووزير البلاط عدنان أبو عودة، الذي طلب منه الاجتماع مع مدير الأمن في إربد عبد الهادي المجالي وشرح الموقف له، رفض الشوبكي لأنه لا يمثّل الطلبة، وليس عضوًا في مجلس الجامعة، وأخبره أن كل ما سيفعله بعد إغلاق السماعة هو الانضمام إلى طلّابه المعتصمين.[5]
أنا جاسر الشوبكي، كان الطقس باردًا نوعًا ما ليلتها، خلعت الجينز ولبست الدشداشة وسترة عسكرية فوقها وتلصّمت بالشماغ على طريقة أسلافي، كنت في ساحة الاعتصام ولم يتعرّف علي أحد، انسحبت إلى شارع فرعي عندما دخلت قوات الأمن، وحدث الاشتباك وسقط قتلى وجرحى نقلت بعضهم إلى مستشفى الراهبات الوردية القريب، اقتحمت قوات الأمن مسكني الساعة الثالثة والنصف صباحًا، فصل 15 أستاذًا كنت واحدًا منهم، لقد تشردنا على طول الوطن العربي وعرضه بحثًا عن عمل بعد أن سُدّت الأبواب في وجوهنا.[6]
ترك الشوبكي الجامعة صيف العام 1986 دون أن يثبّت في الوظيفة رغم مرور عشر سنوات على تعيينه.[7] وبعد أيّام من حادثة اليرموك، قدّم الشوبكي شهادته أمام لجنة تقصي الحقائق في أحداث اليرموك قائلًا لهم: «إننا كأساتذة نشعر بالغيرة من الطلاب لأننا مش عارفين نطالب بحقوقنا».[8]
حاول الشوبكي العمل، فكّر في فتح محل حلويات مع زوجته السابقة جوني، ولم يتوفر رأس المال، أو كشكًا لبيع الصحف والسجائر لكن البلدية رفضت منحه الرخصة، ثم عاملًا في محطة محروقات يملكها صديقه لكنه خشي أن الحكومة سوف تغلق المحطة إن وظفّه. وجد عملًا لفترة قصيرة في محطة تكرير مياه في إربد، ثم جاءه الفرج من اليمن: دعوة من الدكتور عبد العزيز المقالح للتدريس في جامعة صنعاء.
عاد من اليمن مع الانفتاح الديمقراطي للتدريس في قسم الفيزياء في جامعة اليرموك 1989، ولم تتغيّر طريقته في التدريس، كما عاينها طلّابه تلك الفترة، محاضرة الفيزياء ومعها حوارات في السياسة والشأن العام، وحدّة أكبر في المواجهة، وسيرة طيبة عند أساتذة الفيزياء ممن رشحهم للحصول على منح دراسة الدكتوراه في الجامعات الأمريكية.
ظل في الجامعة حتى تقاعده منها براتب 328 دينار، وسكن عند شقيقته ليلى في عمّان: «حكى بدي أزتّ حياة الدكتوراه، (..) وما يطمح لإشي غير إنه يكون مرتاح». ثم شارك في احتجاجات مطالبة المعلمين بنقابة لهم، وباحتجاجات الحراك الأردني بين العامين 2011-2012.
وقد عاش الشوبكي سنواته الأخيرة راضيًا عن مسيرتهِ، يحبّ سماع نشرات الأخبار، والجلوس مع ليلى تحت الشمس، يمدّ قدميه ويدمن الشاي بالنعناع والتدخين، ولا يحب الشكوى، ولا استذكار الماضي. يستمتع بالمشي في شوارع الحي مع ابنته أروى في زياراتها المتكررة للأردن والحديث معها عن الوضع السياسي في الولايات المتحدة والعالم، ومع ابنه خلدون وما آلت اليه أحواله في الولايات المتحدة.
تقول ليلى: «كان بموت بالأغاني البدوية»، وتفتح هاتفها على آخر ما كان يسمعه: «جتنا البنيّة تمشي على الريشي، يا صيت أبوها بين العربان»، وهكذا إلى نهاية الأغنية التراثية يظل يلّوح بيده وهو مغمض عينيه منتشٍ. هكذا، بعد الحياة الصاخبة، عاش أواخر عمره مع المقربين منه حتى لحظاته الأخيرة.
في غرفته، في الدرج الأول من خزانته، كانت هناك بعض الوثائق والأوراق، كأنه قبل النوم كان يفكّر فيها حتى أيّامه الأخيرة لكن دون أن يشعر أحدًا بذلك، قرار إنهاء خدماته من جامعة اليرموك، صور عائليّة منها صورة أبيه، بعض الكتب التي ليس لها علاقة بالفيزياء، ونصّ لأحد زعماء السكان الأصليين في أمريكا.
أنا جاسر الشوبكي، طفت العالم وصادقت الكثيرين، وعشت حياتي كما أريد، وأخبرت من حولي أني لا أنتظر تكريمًا من أحد، وعند قرب موتي أوصيت أهلي وأصدقائي أن ينشروا نعيًا قصيرًا في إحدى الصحف اليومية عند وفاتي، وألا يقيموا أي مراسم عزاء على الإطلاق.
-
الهوامش
[1] المعلومات في هذه المادة اعتمدت مقابلة أفراد من عائلة الشوبكي وأصدقائه وطلّابه، وهم إما عايشوا جزءًا من حياة الشوبكي في فترة محدودة، أو سمعوا منه وهو يتحدث عن حياته، وهم، أشقّائه من أبيه: عبد السلام وليلى الشوبكي، وابنته أروى. وزملائه الأكاديميين ومنهم: نهاد اليوسف ونضال ارشيدات، وماجد الشناق. وطلّابه في جامعة اليرموك ومنهم: وائل عطاوي وأكرم سلامة، وإبراهيم عجوة، وآخرون فضلوا عدم الكشف عن أسمائهم.
[2] O.S.U Theses and Dissertations 1970-1977 compiled by Pia Tolio Brown / Angular correlation studies of E2/Ml gamma-ray multipole mixing ratios in odd-mass spherical nuclei.
[3] كامل العجلوني، تاريخ جامعة اليرموك وأحداثها 1976-1986 دار ورد، عمّان، ط1، 2016. ص 176 و299
[4] رمزي الخب، شهادة في كتاب كامل العجلوني، تاريخ جامعة اليرموك وأحداثها 1976-1986 دار ورد، عمّان، ط1، 2016. ص 574
[5] جاسر الشوبكي، شهادة في كتاب كامل العجلوني، تاريخ جامعة اليرموك وأحداثها 1976-1986 دار ورد، عمّان، ط1، 2016. ص 527
[6] بتصرف من شهادة جاسر الشوبكي في كتاب كامل العجلوني، تاريخ جامعة اليرموك وأحداثها 1976-1986 دار ورد، عمّان، ط1، 2016. ص 528 و529
[7] عبد المجيد قاسم النصير، أنا وجامعتي – دار الكتاب الثقافي، 2013، ص 57
[8] شهادة جاسر الشوبكي أمام اللجنة الوزارية لتقصي الحقائق في أحداث اليرموك المنعقدة بتاريخ 24 أيّار 1986، من كتاب كامل العجلوني،تاريخ جامعة اليرموك وأحداثها، 1976-1986، دار ورد للنشر والتوزيع، ط1، 2016، ص 299 و300