هذا التقرير هو جزء من ملف مشترك حول الهجرة يأتي في إطار تعاون شبكة من مؤسسات إعلامية مستقلة تعنى بقضايا العالم العربي. شارك في هذا الملف: الجمهورية، السفير العربي، مدى مصر، باب الماد، ماشالله نيوز، نواة، حبر، وأورينت 21.
بعد الشروق بقليل، في الساعة السادسة صباحًا من يوم الجمعة، يبدأ عمّال المياومة المصريون بالتجمّع قرب بلدية إربد الكُبرى، وامتدادًا في شارع الهاشميّ على شكل مجموعاتٍ بين عامِلَيْن إلى خمسة. مع ارتفاع الشمس، تبدأ هذه المجموعات بالتحرّك عبر الشارع، متقدمةً شرقًا إلى منتصفه، وربّما تصل إلى أوّله الذي يشكّل أحد مداخل مدينة إربد، أملًا في الوصول أولًا للسيّارة التي ستطلب عمّالًا.
كانت المجموعة الأولى قد ابتعدت نحو كيلو مترٍ عن مكان التجمع الرئيسيّ أمام البلدية، وجلست قرب متجر مغلقٍ، ومعها عدّة العمل التي تتكوّن من فأس، ومجرفة، وقفّة، وجزمات بلاستيكيّة طويلة. «إحنا هِنا في عمّال وفي معلمين؛ المعلّم مهنته وحدة، أمّا إحنا بنشتغل كل حاجة»، يقول رجب دسوقي، الذي أمضى 12 سنة في الأردنّ، ومثله رفيقه محمّد مختار عبد الباسط سيّد، الذي أتى الأردن كمشغّل وِنش (رافعة مواد البناء للأدوار العلويّة، ويُسمى شعبيًا صرصور)، وكلاهما من الصعيد. «بنشتغل كلَّ حاجة إلّا القصارة والبلاط، اللي بيجي عامل يبقى عامل، واللي بيجي معلّم بيبقى معلّم على طول»، يقول محمد.
رجب ومحمد وغيرهما من عمال المياومة في قطاع الإنشاءات هم الفئة الأشد هشاشة بين العمال الوافدين من مصر ككل، ومن أقلهم أمنًا من حيث الأجر واستقرارًا في عمل. وحتى يتمكنوا من تسيير أمورهم، يضطرون للعمل في كل شيء تقريبًا، وفقًا لاحتياجات أصحاب الورش الذين يمرون صباحًا بأماكن تجمّعهم المعتادة ليُقلّوا من يختارونهم إلى أماكن الورش.
مجموعة من العمال المصريين ينتظرون عملًا في شارع الهاشمي في إربد. تصوير عمار أحمد الشقيري.
ينقسم هؤلاء حسب حرفيتهم بين «عمّال» و«معلمين». يضطلع العامل بأعمال مثل رفع البلاط والإسمنت والأتربة للأدوار العلويّة، أو نقل الطمم وأعمال حفر أساسات البيوت، أو الهدّ وإزالة الواجهات، وقد يقوم بمهام أخرى مثل تنظيف حديقة منزل، زرع شجر في الحديقة، أو نقل الحجارة. «مش بس الطمم والحفر، كمان تنظيف الحدائق، والزراعة حول البيوت. إحنا الصعايدة بنحب الزراعة، ننكش، وحتّى بنزرع شجر»، يقول علي أحمد محمَّد (35 سنة) الذي أتى الأردنّ من أسيوط في صعيد مصر.
أمّا المعلّم فيكون في مرتبةٍ أعلى من حيث الأجر، وهم قلّة، نسبة إلى العمّال، في هذه التجمعات. لا يعرف أحدٌ كيف اتُفق على الأجر المتعارف عليه وهو للعامل 20 دينارًا كأجر يوميّ، و25 دينارًا المعلّم. إلا أن العمال يتقاضون أقل من ذلك في كثير من الأحيان.
80 قرشًا
مع تقدم الساعات نحو الظهيرة، تبدأ احتمالات الحصول على يوم عملٍ أقل شيئًا فشيئًا، وتبدأ الأجور بالانخفاض. قبل يومين، تمكن علي من الحصول على عمل قبل الظهر بقليل مع رفيقٍ له. «رحنا قبل كم يوم تنين، واشتغلنا التنين بـ 20 دينار، بنوفّر من بطننا، عايشين على القدّ». كان ذلك أجرًا مرتفعًا بالنسبة له ولرفيقه، إذ قد ينزل الأجر مع مرور الأيام بلا عمل لحدودٍ أدنى بكثير.
يقف سمير السيّد عطوة بعمره الممتد خمسين عامًا قلقًا من مرور الوقت دون إيجاد عمل. دخل عطوة الأردن العام 1986 بمهنة منجّد لحافات وفرشات صوف، «اخصم منهم ثلاث سنين جيش والباقي بالأردنّ. عمري خمسين سنة وبقالي 20 سنة منزلتش مصر». تزوّج عطوة من أردنيّة قبل سبع سنين، وله أربعة أطفالٍ، وإيجار مُتراكم لبيتٍ صغيرٍ في شارع الرشيد في إربد.
يجوب عطوة المكان كلّ يومٍ باحثًا عن أيّ عمل بعدما ترك مهنته في التنجيد؛ إذ أُخطر بضرورة دفع إيجارٍ مُتراكمٍ لمخزنٍ كان يعمل فيه، ووصل المبلغ إلى 2380 دينارًا، فترك المخزن والعمل بالتنجيد وانتقل للشارع للعمل.
سمير السيّد عطوة في أقصى اليمين. تصوير عمار أحمد الشقيري.
كان لافتًا أنَّ عطوة لا يملك العدّة اللازمة للعمل (فأس، مجرفة، قفّة)، لكنه يملك جسده وجزمة البلاستيك وقلقه من اقتراب الظهيرة. «يا عمّ بـ(15) بطلع، وبـ(10) بطلع». لا يُريد تكرار ما حصل معه قبل أيّام عندما انتصف النهار ولم يطلبه أحدٌ للعمل، وبدلًا من العودة لأطفاله الأربعة مشى إلى سوق الخضار: «شيلت صناديق لواحد بالحسبة بـ(80) قرش»، وكانت تلك أجرة عطوة في ذاك اليوم.
«يومين ثلاثة بنشتغل والباقي قاعدين»
«تعالا واحكيله عن الجاموسة»، يُنادي العامل أسامة السيّد علي، الذي دخل الأردنّ في العام 2004، ضاحكًا على العامل الخمسيني كريم (اسم مستعار). «بِعت الجاموسة يعني تقول 30 ألف [جنيه*] عشان آجي الأردن. ما اشتغلتش غير بـ 200 [دينار]»، يقول كريم الذي جاء للأردن قبل شهرين بعدما كان مزارعًا في مصر.
ويحفظ معظم هؤلاء العمّال، بالتحديد، تواريخ آخر عمل حصلوا عليه. «من 27-1 اشتغلت بأربعين دينار، ومِستلف 250»، يقول حسن محمّد أحمد الذي جاء الأردن قبل ثلاثة أشهر، واشترى عدّةً بـ(50) دينارًا، «والله ما اشتغلت بحقهم».
صورة لمجموعة عمّال
الحال أفضل قليلًا لدى سيّد محمَّد عليّ الذي أمضى في الأردنّ خمس سنواتٍ، وهو متزوّجٌ وله أطفال. يتقاضى سيد أجرًا يوميًا مقداره 20 دينارًا، «بس مش كل يوم الشغل (..) يعني يومين ثلاثة بنشتغل والباقي قاعدين». ويعمل سيّد ورفيقه في الطمم والحفر. «أنا من أربع أشهر كانت آخر مرّة حوّلت فيهم لمصر. بنستلف من معارف، نسدّد بيه الدين ونعيش»، يقول سيد. فعندما يضيق على أحدهم الحال، تبدأ عمليات جمع السُلف، والكل يُشارك. تتراوح التسليفات بينهم بين دينار في الحد الأدنى، وعشرين دينارًا في الأوقات العصيبة والظروف الاستثنائيّة.
في مكان التجمّع، عمّالٌ أردنيّون أيضًا، منهم «أبو الليث». «المصري بيطلب أعلى، يمكن لأنه عنده مصاريف تصريح عمل، وبده يوكل ويشرب، ويصرف، ويحوّل لمصر، عشان هيك هو بيطلب 20. إحنا بنطلب 15، بس السوريين بيشتغلوا بأقل بكثير». سمع معلّم البلوك (الطوب) المصريّ مينا وجدي الحديث، ورفع صوته من بعيد مؤيدًا: «أوّل كنا بنطلع بـ(25) بس اليوم بـ(20) بنطلع».
تحويل «ورقة»
مع سوء الأوضاع المادية، تتردى الظروف القانونية لعمل عمّال المياومة المصريين كذلك. يقول هاني برسوم من المنيا: «في ناس تصريحها خلّص، معهاش. عاوز أدفع الكفالة وأروّح بس معيش، تصريحي من 12 الماضي خلّص (..) أنا لا قادر أطلّع تصريح، ولا قادر أدفع غرامة وأروّح، براءة الذمّة بدها 50 [دينار]». وبحسب التقرير السنوي لوزارة العمل لعام 2017، فقد صدرت قرارات تسفير في تلك السنة بحق 9448 عاملًا من شتى الجنسيات لمخالفتهم شروط التصريح.
«بنحوّل حسب الرزقة، بنشيل مصاريف الأكل والشرب، وأجار البيت، وفيه مصاريف خارجيّة، والباقي بنحوله لمصر»، يقول محمد مختار. لكنه لم يستطع تحويل أي نقود لأهله في الآونة الأخيرة، إذ ينتهي تصريحه منتصف نيسان، لذا فهو يعمل على جمع تكلفة تجديد التصريح.
وحتى من يُحوّلون منهم مبالغ لعوائلهم في مصر، فعادة ما يحولون مبالغ نقديّة قليلة، إذ يستخدمون مصطلح «ورقة» عند الحديث عن هذه التحويلات، أي عملة من فئات الـ(10) أو 20 أو 50 دولارًا. لكن منذ أقلَّ من شهرٍ، رُفعت رسوم التحويل لمصر من دينارين إلى أربعة دنانير. «أي ورقة تحولّها بيوخدوا عليها أربعة. تبعت ورقة 10 حتدفع أربع دنانير»، يقول أسامة. دفع هذا الأمر البعض منهم للإحجام عن التحويل إلى عائلاتهم، وصارت النقود بين أيديهم تطير سدادًا للسُلف. كما تحدّثت تقارير عن انخفاض تحويلات الوافدين المصريين في الأردنّ بنسبة 25% بسبب منع التحويل دون تصريح عملٍ ساري المفعول قبل ثلاثة أعوام.
بسبب تكاليف السفر، صار أسامة يؤخّر عودته لمصر في كلّ مرّة: «الطلعة لمصر بتكلّف من 250-300 دينار (..) تصدّق يوم 30-6 فرح بنتي مقدرش أحضر». يُسافر أغلب هؤلاء العمّال برًا إلى مصر، إذ تبدأ الرحلة بالحافلات من إربد إلى العقبة، ومن ثم بحرًا عبر العبّارة إلى ميناء نويبع، ومن ثم برًا كلٌّ إلى مدينته في مصر. ولم يتحدّث أحدٌ منهم عن السفر جوًا.
«جنازات»
يعيش العاملان سيّد ورجب في بيتٍ مكّون من غرفتين خلف شارع الهاشمي في إربد، مع أربعة عمّال آخرين، «بندفع في الشهر 150 دينار». ليس هناك وقت فراغٍ لهؤلاء العمّال، فحياتهم قائمة على اختصار تكلفة كلّ شيءٍ؛ إذ يسكنون بطريقةٍ لا تضطر الواحد منهم لدفع أكثر من 25 دينارٍ في الشهر، (قد تضاف تكاليف الكهرباء والمياه)، فيستأجرون البيوت سويًا، وفي كل غرفةٍ ينام عددٌ قد يصل لستة أشخاص، ليُوزّع المبلغ على الكلّ. وإذا ارتفعت الأجرة من المالك مثلًا، لا يرفعون على الواحد منهم الأجرة، إنما يُدخلون عاملًا آخر معهم، وهكذا يُحافظون على السعر المتفق عليه ضمنًا.
يعدد أسامة مجموعة من المصاريف الثابتة للعمال في الأردنّ: 520 دينارًا لتجديد تصريح العمل سنويًا، و30 دينارًا لشهادة صحة، و35 دينار للضمان الاجتماعيّ شهريًا، و250 دينار سنويًا للكفيل، فضلّا عن أجرة البيت ومصاريف الكهرباء والماء والأكل.
منذ عيد الأضحى الماضي، وهي الفترة التي يحددها معظم العمّال لشحّ العمل، يقول أسامة: «اكتب عندك من الستّة الصبح بنيجي هنا، للظهر وبعدها بروح أنام، لو تروح السكنات وتفوت على الشباب هناك، جنازات، في ناس بطلّت تطبخ في السكن تصدق بالله».
هناك استنثاء شبه وحيد على قاعدة تجنب أي نشاطات خارج العمل: استقبال العمال الوافدين حديثًا من مصر. يتذكّر العامل محمَّد مختار آخر لمّةٍ جمعتهم ببعض، وكانت قبل أشهر، يوم استقبال «ابن العمدة»، اللقب الذي يحمله الضيف الذي جمعهم يومها في سهرة ستذكر طويلًا.
مجموعة من العمال ينتظرون عملًا، من بينهم «ابن العمدة» (أقصى اليسار). تصوير عمار أحمد الشقيري.
مع انتصاف نهار الجمعة، كانت بعض المجموعات التي توزّعت على الشارع بدأت بالعودة إلى السكنات. خلال هذه الفترة بين الساعة السادسة والحادية عشرة صباحًا، توقفت لعشرات العمّال سيّارةُ «بك أب» واحدة فقط، اجتمعت عليها مجموعة كانت تحرّكت بعيدًا عن تجمّع العمّال لمنتصف الشارع ليكونوا أوّل الواصلين لمن يطلب عمّالًا. دار حوارٌ سريعٌ انتهى بمغادرة السيّارة دون أن تأخذ عمّالًا. في طريق العودة كان عطوة الذي عمل قبل أسبوعٍ بـ(80) قرشًا والذي لا يملك عدّة يُغادر مكان تجمّع العمّال أمام البلديّة متجهًا إلى سوق الخضار، ربّما ليحصل على عملٍ بـ(80) قرشًا أخرى.
* ما يعادل قرابة 1238 دينارًا أردنيًا .