عنصرية التذوق: منتجات «الحلال» وممارسات «بياض الطعام» في فرنسا

الأحد 15 أيلول 2024
المصدر: أ ف ب.

من الشائع أن يجلس المرء في مطعم فرنسي، ويطلب قطعة لحم مشويةٍ، وعندما يأتي بها النادل يكون دمها ما زال يقطر. ومن الشائع أيضًا أن يطلب الزبون طهيها، فيقف النادل عند رأسه ويشرح خصائص شواء اللحم على الطريقة الفرنسية، ويستعرض له تاريخًا طويلًا متشابكًا من الزهو بالأمجاد وصولًا إلى فن التذوق الذي لا يوجد في مكان آخر. وقد شاهدت مرارًا أناسًا يخجلون من أنفسهم ويبتلعون اللحم بدمه بعد سماع ذلك الدرس المعتاد. هناك عُجبٌ فرنسي لا تقاومه الملاحظة بالطريقة التي يطهى بها الطعام. يتجلى أحيانًا في شكل استعلاء، وأحيانًا أخرى في قالب شفقةٍ علينا نحن الذين لا ننتمي لهذا المطبخ العريق.

تشير مسألة المطبخ «الوطني» داخل المجتمع الفرنسي إلى القومية اليومية، أي مجموعة من الممارسات والأفعال والقيم الروتينية التي طورها أفراد المجتمع لإدامة علاقة الهوية مع الأمة بشكل يومي. كما يلعب دورًا مهمًا في تطور العلاقة بين التاريخ والذاكرة والتراث، خاصة بالقصة الوطنية الفرنسية. يصف بيير نورا عملية العبور من «التاريخ إلى الذاكرة» التي خرجت من خلالها الهوية الفرنسية من السجل التاريخي الوحدوي المميز للأمة الذي حدده إرنست رينان، لتصبح جزءًا من منطق التراث والذاكرة، الموسوم بختم الفردية المعاصرة. ففي بداية الثمانينيات «شهدنا تحول الشعور الوطني التاريخي والعسكري إلى شعور وطني جمالي وعاطفي: فرنسا التي نحب أن نعيش فيها وليس الأمة التي يجب أن نكون قادرين على الموت من أجلها».[1] 

أما في الخارج، فيشكل فن الطهو أحد علامات الخصوصية الوطنية في العولمة، خاصة منذ التسعينيات، فهو يسمح لفرنسا، من خلال تعزيز الذوق الفرنسي، باحتلال مكان رمزي مهيمن، ويوضح رد الفعل الفرنسي على العولمة التي تعتبر «ثقافية» أو «متأمركة»، حيث تعتبر أمريكا معادية لفرنسا في مسائل تذوق الطعام بشكل خاص والمسائل الثقافية بشكل عام. وبهذا المعنى تندمج القومية اليومية هنا مع شكل من أشكال «القومية الثقافية» على المستوى الدولي.

لم يتشكل هذا الدور للمطبخ الفرنسي بشكل طوعي من داخل المجتمع فحسب، بل جاء نتيجة مباشرة لدور الدولة القومية منذ عقود، من خلال إنشاء منظمات للدفاع عن فن الطهو الفرنسي أو الترويج له كالمجلس الوطني لفنون الطهي عام 1990، الذي وضع تحت السلطة المباشرة لوزارة الثقافة. ثم استبدل المجلس عام 2008 بالبعثة الفرنسية للتراث والثقافات الغذائية،[2] والتي شرَعت منذ تأسيسها بطلب من نيكولا ساركوزي سبيل وضع فن الطهي الفرنسي ضمن لائحة التراث غير المادي للإنسانية لليونسكو، وهو ما تم فعلًا عام 2010. فضلًا عن دور الرأسمالية الفرنسية التي حوّلت الأساطير المحيطة بهذا المطبخ إلى فائض قيمة عالمي، من خلال سلاسل هائلة من المطابخ الفرنسية في العالم، مدفوعة بقوة من شركات الصناعات الغذائية الفرنسية، لا سيما في قطاعيْ النبيذ والأجبان.

هذه المكانة الأساسية التي يحتلها الطعام في التكوين النفسي والمادي للأمة الفرنسية ليست بدعة فرنسية، فالطعام دائمًا ما شكل جزءًا من هوية الشعوب والأمم. لكنه في فرنسا يتحول أحيانًا إلى ذخيرة حرب ضد الآخرين، أو معول في الصراع السياسي ضد أبناء الجمهورية من غير البيض فيما أصبح يعرف بممارسات «بياض الطعام» في بلدٍ لم يعد أبيض تمامًا، بعد مغامراتٍ استعمارية طويلةٍ جعلت منه مجتمعًا كوزموبوليتيًا متعدد الأعراق والأطياف والثقافات.

«بياض الطعام»: المفهوم والممارسة

منذ سنوات بدأت الدراسات الأنثروبولوجية تهتم بالمنظور ما بعد الاستعماري الهادف إلى فك الارتباط بالتسلسل الهرمي للمعرفة الأوروبية المركزية وطرق الوجود في العالم، من أجل تمكين أشكال أخرى من الظهور، بما في ذلك ممارسات الطعام والغذاء والتغذية والتذوق. مثل دراسات راشيل سلوكوم، عن «البياض والفضاء والممارسات الغذائية البديلة» (2007) و«جغرافيات العرق والغذاء: الحقول والأجساد والأسواق» (2013). وحول المطبخ الفرنسي ظهرت دراسة ماتيلد كوهين الرائدة في عام 2021 «بياض الطعام الفرنسي: القانون والعرق وثقافة الأكل في فرنسا»، والتي أثارت جدلًا واسعًا قبل ظهورها، بعد محاضرة حول الموضوع ألقتها الباحثة في معهد العلوم السياسية بباريس في العام نفسه.

تلقت كوهين وهي أستاذة للقانون في جامعة كونيتيكت، وزميلة سابقة في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي وتعمل في مجالات القانون الدستوري والقانون المقارن وقانون الأغذية والعرق والجنس، هجومًا واسعًا من سدنة معبد الثقافة الوطنية الفرنسية، وأساسًا من اليمين واليمين المتطرف، الذي يلوذ بالرموز في معاركه السياسية. وصفها البعض بــ«المسكينة، التي لا بد وأنها تعاني من ضائقة مالية بسبب عدم قدرتها على إيجاد مواضيع للكتابة عنها». أما إيريك سيوتي، زعيم اليمين الديغولي، فقد غرد قائلًا: «في معهد العلوم السياسية، يقدم المطبخ الفرنسي على أنه عنصري ويهيمن عليه البياض. يؤسفني أن هذه المدرسة التي تخرجتُ منها، أصبحت الآن تدرس نظريات أصلية وعنصرية ومضللة تمامًا». يعبر هذا الهجوم عن توتر واضحٍ لدى النخبة الفرنسية تجاه مسألة المطبخ والطعام وحالة التقديس التي تدور حوله، وحول الشعور تجاهه.

تسعى الباحثة في دراستها إلى إثبات أن استخدام الممارسات الغذائية الفرنسية تعزز البياض باعتباره هوية عرقية سائدة. وتقوم الفكرة الرئيسية التي تسعى لإثباتها على الربط بين الممارسات الغذائية الفرنسية «البيضاء» وطريقة تحديد الجمهورية لنفسها، رغم وجود مكوناتٍ غير بيضاء في نسيجها الاجتماعي، أي كيف يساهم «البياض الغذائي، الذي شكلته أعراف الطبقات المتوسطة العليا البيضاء» في «تعزيز البياض كهوية عنصرية مهيمنة». ذلك أن الممارسات الغذائية الفرنسية تحولت إلى إحدى مكونات هوية كل من يريد أن يكون فرنسيًا أصيلًا حتى وإن كان فرنسيًا غير أبيض. وبالتالي تصبح عادات وتقاليد الطعام التي تنتمي لثقافة المكونات الفرنسية غير البيضاء كالعرب والأفارقة السود والآسيويين، عاداتٍ من درجة ثانية أو في مقامٍ أدنى. وتنسحب هذه الممارسة الاستعلائية على بقية مكونات الهوية كالأدب والموسيقى وعادات اللباس والأعياد وغيرها من الخصائص الثقافية للشعوب.

ترتبط قوانين منح الجنسية الفرنسية على أساس «الأداء الأبيض» الذي يشمل عادات الأكل، أي مدى اندماج طالب الجنسية في الثقافة الفرنسية، إذ يسأل بعض المتقدمين أحيانًا عن معرفتهم بالمطبخ الفرنسي، وعن طبقهم الفرنسي المفضل.

وتضرب ماتيلد كوهين مثالًا هو الكسكس، كنموذجٍ لطعام تم تدجينه ليكون موجودًا بحسب ما يناسب الذوق الأبيض، حيث بات يقدم في المطاعم الفرنسية من خلال تفريق المكونات كالخضر والبقول والمرق في أوانٍ منفصلة، بدل خلطها مع الكسكس في قصعةٍ كبيرةٍ كما جرت العادة. وبدل أكله على نحو جماعي في وعاءٍ واحد أصبح يفرق على صحونٍ فرديةٍ، وهي عادة بات أهل المغرب أنفسهم يقلدونها. في الوقت نفسه أصبح الكسكس أحد أكثر الأطعمة المحبوبة في فرنسا في تجسيدٍ طهوي «نموذجي للنسق متعدد الثقافات في فترة ما بعد الاستعمار في فرنسا».[3]

وتستخدم الباحثة النصوص القانونية لتحديد أشكال تبييض الأغذية، أي استخدام عادات الطعام والأكل لتجسيد وتعزيز البياض باعتباره هوية سائدة. حيث توضح أن القانون يرفع خيال الطعام الفرنسي والأبيض المتجانس إلى مرتبة الطعام المتفوق والمعياري على حساب بقية أطعمة المجموعات العرقية والثقافية المنتمية للجمهورية، ولا يظهر أثر ذلك الرفع في عنصرية مباشرةٍ إلا قليلًا، ولكنه يتجلى واضحًا في مشاعر التفوق ومشاعر كراهية الذات لدى قطاعٍ واسع من هذه المجموعات، التي أصبح بعض أفرادها يعتقدون دونية طعام أسلافهم، ويحاولون اللحاق بركب البياض الغذائي. وتظهر هذه النزعات بشكل ساخر أو جاد على وسائل التواصل الاجتماعي.

وتبني كوهين منطقها على مثالين: من ناحية، المقاصف المدرسية التي أنشئت في القرن التاسع عشر وجرى تبريرها من خلال «الخطاب العنصري وتحسين النسل» ووضعت «المعايير البيضاء» كمعايير ناظمة لعمل المقاصف، فقد «اهتم المسؤولون الاستعماريون بأنماط حياة التلاميذ، بما في ذلك عاداتهم الغذائية: هل أكلوا الأرز أم الخبز؟ هل أكلوا على الأرض أم على الطاولات؟». ورغم أن مسألة المقاصف شهدت تحسنًا كبيرًا خلال السنوات الماضية بعد التوقف عن تقديم لحوم الخنزير، بسبب وجود التلاميذ المسلمين واليهود، لكن ذلك يظل مرتبطًا بالطبيعة السياسية للمجلس البلدي الذي يحكم المنطقة التي تنتمي إليها المدرسة.

وفي مواجهة المطالب الغذائية للطلاب المسلمين، تتفاعل السلطات المحلية بشكل مختلف. يطبق البعض «الحياد الغذائي» التام، رافضين الأخذ بالاعتبار جميع المحظورات الدينية، واللحوم التي يتم تقديمها يوم الجمعة، وعدم تقديم وجبات بديلة للأطفال اليهود والمسلمين في الأيام التي يتم فيها تضمين أطباق تحتوي على لحم الخنزير في القائمة. ويتوافق موقف الأقلية هذا مع التطبيق غير الكامل لتوصيات الدولة بشأن احترام التعاليم الدينية في المقاصف العامة. وفي مناطق أخرى تصدر البلديات تعليماتها لمديري المقاصف المدرسية بعدم تقديم اللحوم أيام الجمعة، وفقًا للتعاليم الدينية المسيحية، ولكن دون تقديم وجبات بدون لحم الخنزير. وفي بعض البلديات تحترم الأقليات من خلال امتياز التفضيلات، حيث يحتاج أولياء الأمور أنواع الطعام في قوائم مسبقة.[4] 

من ناحية أخرى ترتبط قوانين منح الجنسية الفرنسية على أساس «الأداء الأبيض» الذي يشمل عادات الأكل، أي مدى اندماج طالب الجنسية في الثقافة الفرنسية، إذ يُسأَل بعض المتقدمين أحيانًا عن معرفتهم بالمطبخ الفرنسي، وعن طبقهم الفرنسي المفضل. ورغم أن مسألة الطعام والذوق ليست حاسمةً في مسألة الجنسية ولا ضروريةً ولا يمكن قياسها عمليًا، ولكنها يمكن أن تكون مسهلًا أو معرقلًا بحسب الموقف الذي يبديه المتقدم لحظة السؤال. حيث يمكن أن يكون تفضيلك للمطبخ الفرنسي، أو معرفتك به، أو ممارستك له، جسرًا للحصول على الجنسية بوصفك مندمجًا، وعلى العكس من ذلك ربما يكون حائلًا بينك وبين الاندماج المطلوب.

وتنتهي الباحثة إلى أن «القانون يساهم في تهميش الأقليات العرقية والإثنولوجية، من خلال منح الثقافة الغذائية الفرنسية البيضاء وضع نظام غذائي متميز ومحميّ قانونًا». فقوانين المقاصف والجنسية تكشف عن نموذج الدولة الفرنسية في إدارة التنوع العرقي والثقافي، لا على أساس كسب ثراء التنوع، ولكن على قاعدة الصهر القسري للمكونات العرقية والثقافية والدينية في النموذج الفرنسي، وذلك تحت عناوين مضللة أحيانًا مثل «مكافحة الانفصالية» أو «حماية العلمانية».

«الحلال» فوبيا

على أرض الواقع تبدو النظرية التي تدافع عنها ماتيلد كوهين مفيدةً لتحليل السلوك الفرنسي السياسي والنخبوي تجاه منتجات «الحلال» ولا سيما اللحوم. لم تعد منتجات «الحلال» ترتبط في فرنسا بالشكل المجرد للذوق الغذائي أو التفضيلات الثقافية والدينية لمجموعة ما، ولكن بتشكل موقف سياسي وثقافي معادٍ للمسلمين، فشأنها شأن بقية الرموز الإسلامية كالحجاب والمساجد والعربية والملابس، تمثل هاجسًا مخيفًا لقطاع واسع من النخبة السياسية ومادةً إعلامية للتخويف من الإسلام والمسلمين، ودليلًا على هلعٍ زائف يضع المسلمين كتهديد دائم للثقافة والمجتمع. وقد عبرت مارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرف، عن ذلك بوضوح في حملتها الانتخابية للرئاسة عام 2022، من خلال تعهدها بـ«حظر الذبح الحلال [عند المسلمين] والكوشر [عند اليهود]، وحظر استيراد اللحوم الحلال»، بدعوى أن «الذبح الشعائري لا يراعي قواعد الرفق بالحيوان». هذا الرأي ليس مقتصرًا على أقصى اليمين بل حاولت المؤسسة الحاكمة في عام 2020 فرض «حظر غير مباشر على ذبح الدواجن الحلال»، من خلال وضع شروط ذبح جديدة قد تجعل من غير الممكن تلبية المبادئ العقائدية الأساسية للذبح الشعائري للمسلمين واليهود، ثم تراجعت.

بالنسبة للعنصريين المناهضين للمسلمين، فإن الخطوة الأولى لاحتواء «التهديد الإسلامي» هي السيطرة على ما يأكله أتباع هذا «الدين المخيف» ومحاولاتهم بيع الطعام الذي يمول أجندات «مشبوهة». يظهرُ هذا الخطاب المناهض لمنتجات «الحلال» الجذور العنصرية العميقة لهذا النهج السياسي، من خلال تصوير استهلاك الطعام الحلال كتجربة مقززة وبغيضة يجب حماية غير المسلمين منها. ضمن هذا الخطاب، يصبح الطعام الذي يتناوله المسلمون مصدرًا للخوف والاشمئزاز. فإلى جانب استخدام لغة حقوق المستهلك لإقناع المستهلكين بأنهم يدعمون «التطرف» عن غير قصد من خلال الأموال التي ينفقونها على مشترياتهم، فإن هذا الخطاب يحرضهم على المشاركة في المهمة الوطنية المتمثلة في حماية الأمة. لقد أصبح عدم تناول «الطعام الحلال جزءًا من «واجب» المرء تجاه وطنه وأمته، ودرعًا ضد «الغزو الإسلامي»، والطريقة الوحيدة لإنقاذ المجتمع من «براثن الأصولية».[5]

تبدو معادة اللحوم «الحلال» والدعوة إلى حظرها نابعةً من فكرة تسعى إلى جعل كل من هو غير أبيضٍ أبيض؛ في طعامه ولباسه وقيمه «ليلتحق بركب الحضارة»، التي هي بالضرورة «غربية وبيضاء».

من الناحية الاقتصادية، يبدو هذا الهلع مدفوعًا بمصالح هائلة، ذلك أننا نتحدث عن سوق يبلغ حجمه عالميًا أكثر من 200 مليار دولار سنويًا، منها ستة مليارات يورو في فرنسا بالنسبة للحوم فقط. ثم توسعت الظاهرة متجاوزةً اللحوم نحو جميع أنواع الغذاء، حيث تزيد أسعار المواد التي توضع فوقها علامة «حلال» عن المواد العادية بهامش ربحٍ كبير.[6] لذلك فإن جزءًا من الهلع الفرنسي النخبوي من منتجات «الحلال» ينطوي على هلع مادي، يرتبط بصراعٍ داخل الرأسمالية الفرنسية نفسها. في وقت أصبحت فيه بعض شركات صناعة الغذاء الفرنسية العملاقة، وشركات البيع بالتجزئة تدرج منتجات «الحلال» ضمن مبيعاتها، لتضمن عدم إهدار طاقةٍ شرائية قوامها حوالي عشرة ملايين مستهلك، يحاول جناح آخر من الرأسمالية المحلية، محاربة ممارسات الطعام «الحلال»، كنوعٍ من الحمائية الثقافية التي تريد الحفاظ على أذواق وتفضيلات معينة، ذات أصل فرنسي أبيض، بوصفها سلعًا. 

فضلاً عن الجانب المادي، تحضر في مسألة اللحوم الحلال أو حتى الكوشر فكرة «الاشمئزاز» من طريقة الذبح الشعائري للحيوانات -ذات الخيال الاستشراقي والمعادي للسامية في الوقت نفسه- كما تشرح الباحثة الفرنسية حورية بن تهامي، في مقالتها «التحضر من خلال الطعام: خيالات فرنسية حول فن الطهي والنظام الغذائي الإسلامي»، بالإشارة إلى أن هذا التناغم بين معاداة السامية والعنصرية المعادية للمسلمين يسمح لنا برؤية كيف يرسخ الاشمئزاز من الأطعمة الإسلامية واليهودية على وجه الخصوص بشكل دائم في خيالٍ يجعل هذه المأكولات ليست غريبة فحسب، بل وخطيرة بسبب قدرتها المفترضة على تحويل الهوية. ولا يزال هذا القلق الطهوي ملموسًا في المجتمعات الغربية إلى الحد الذي يتم فيه اختصار النظام الغذائي اليهودي أو الإسلامي، الثريين بالنكهات والأنواع، إلى مجرد «الامتناع عن لحم الخنزير» أو «ذبح الحيوانات دون خنقها أو صعقها».[7]

وضمن منظور آخر أكثر عمقًا، تبدو معادة اللحوم «الحلال» والدعوة إلى حظرها نابعةً من فكرة تسعى إلى جعل كل من هو غير أبيضٍ أبيض؛ في طعامه ولباسه وقيمه «ليلتحق بركب الحضارة»، التي هي بالضرورة «غربية وبيضاء». وهذه الرغبة في تعميم الرسالة الحضارية الغربية ليست مقتصرةً على القلق إزاء ما يأكله المسلمون أو ما يأكله اليهود كما كان سائدًا في القرن السابق، بل تتجاوزه نحو القلق إزاء ما لا يأكلونه، كلحم الخنزير وشرب الكحول. كما فعل الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، عندما أعلن أنه «ضد قوائم الطعام الخالية من لحم الخنزير في المدارس»، واضعًا ذلك في نفس السلة لنهجه حول حظر الرموز الدينية ومنها الحجاب، مؤكدًا بأنه «لن يمارس السياسة على حساب أمن الفرنسيين»، وكأن الطفل الذي لن يأكل لحم الخنزير في المدرسة يشكل تهديدًا للأمن العام. 

تعيد حورية بن تهامي في مقالتها هذه النزعة إلى الهوس الفرنسي، الذي يعبر عنه اليمين واليمين المتطرف، بفكرة «إعادة إنتاج الأمة»، التي تتطلب استيعاب كل مكوناتها العرقية في مكون واحدٍ، وبالتالي يتطلب ذلك خصائص متطابقة حتى في تناول الطعام. وذلك بالضد من آراء تطالب بالبدائل في قوائم المقاصف المدرسية. وتشرح بن تهامي أن الغضب من استبدال الأطعمة بالأخرى يعبر عن مخاوف أعمق لدى اليمين المتطرف واليمين الجديد في فرنسا تتطابق مع نظرية «الاستبدال العظيم» للأوروبيين المسيحيين البيض ليحل محلهم المسلمون، حيث يمثل التعلق بالخنزير في عملية إعادة إنتاج الأمة عاملًا أساسيًا في فهم هذا الاستبعاد للمسلمين.

  • الهوامش

    [1] Pierre Nora, conférence « Quelle crise de l’identité nationale ? », 16 février 2008, Institut Catholique, Paris

    [2] Vincent Martigny, conférence «Le goût des nôtres : gastronomie et sentiment national en France», Raisons politiques 2010/1 (n° 37), pages 39 à 52

    [3] Mathilde Cohen, « The Whiteness of French Food. Law, Race, and Eating Culture in France» ,French Politics, Culture, and Society, 2021, Vol.39(2), pp.26-52

    [4] Stéphane Papi, « Islam, laïcité et commensalité dans les cantines scolaires publiques », Hommes & migrations, 1296 | 2012, 126-135

    [5] Shakira Hussein, «Not Eating the Muslim Other: Halal Certification, Scaremongering, and the Racialisation of Muslim Identity» International Journal for Crime, Justice and Social Democracy :Vol. 4 No. 3 (2015) Pages:85 to 96

    [6] لا بد من الإشارة إلى أن اختراع «مسألة الحلال» قد جاء في سياقٍ تاريخيّ ودينيّ معقد. حيث لم توجد خلافات حول اللحوم في فرنسا قبل بداية السبعينيات. فقد تعوّد المسلمون الفرنسيون، أو المهاجرون المسلمون القادمون من المغرب العربي وإفريقيا جنوب الصحراء على تناول اللحوم التي تباع في الأسواق العادية، بسبب وجود شبه إجماعٍ إسلامي حول تناول طعام الديانات الكتابية كما في القرآن «وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم» (المائدة 5)، وقد أصدر الشيخ محمد عبده باكرًا منذ العام 1903، فتواه الشهيرة حول المسألة، والتي عرفت بالـ«الفتوى الترنسفالية». لكن التحول الذي جرى انطلاقًا من بروز تيار الصحوة الإسلامية، أدى إلى ظهور فقه جديد يجمع بين مرجيعاتٍ إخوانية ووهابية سلفية، شرع فيه زعيم الجماعة الإسلامية في باكستان، أبو الأعلى المودودي، ثم تعزز بتطور وجود الجماعات الإسلامية في فرنسا والغرب عمومًا. مدعومًا بفتاوى شيوخ الوهابية مثل صالح الفوزان، في كتابه «الأطعمة وأحكام الصيد والذبائح»، والشيخ عبد الله بن حميد، ثم تبنى الإخوان المسلمون هذا النهج. وصنعوا منه اقتصادًا كاملًا مستفيدين من هذه التحوّلات الثقافية لتنمية ثروة مالية هائلة. من هذا المنظور تبدو منتجات «الحلال»، أداةً بين البرجوازية الإسلاموية الصاعدة والبرجوازية القومية الفرنسية السائدة، ضحيتها المستهلك المسلم.

    [7] Hourya Bentouhami, «Civilising through food: French fantasies about gastronomy and Muslim diet» Radical Philosophy 215 (Autumn 2023).

Leave a Reply

Your email address will not be published.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية