قبل سنوات، عندما كان محمد الزيادين (25 سنة)، وابن خالته محمد الحُمْران (27 سنة) يخرجان لرعي ماعز العائلة في وادي الهيدان في محافظة مادبا، ويمرّان بين وقت وآخر، بسيّاح أجانب يمارسون رياضة المشي مارّين بالوادي، لم يكن مفهومًا لهما لماذا يأتي أناس من آخر العالم، ويدفعون مالًا، فقط ليمشوا ويخيّموا في العراء. لقد أمضى الشابان حياتهما يفعلان الأمر ذاته، يقطعان مع حيواناتهما التضاريس الوعرة للوادي، يخيّمان في الخلاء، ويوقدان النار لصنع الشاي وخبز «العربود». لكن هذا كان لهدف، هو تأمين عيش عائلتيهما. في حين لم يكن هناك في المقابل هدف واضح لهؤلاء السياح. لهذا كان هناك دائمًا ذلك التساؤل، كما يقول الزيادين «هذول الناس المهابيل شو بسووا هون؟».
آخر ما تصوره الاثنان أن تأخذ حياتاهما المنحنى الذي أخذته بعدها، عندما حصلا على وظيفةٍ للعمل أدلاء مع هؤلاء السياح. حدث هذا عندما التقيا عرضًا بهواة مشي أردنيين، كانوا وقتها يؤسسون لمسار مشي طويل، مشابه للمسارات العالمية، يبدأ من منطقة أم قيس في أقصى الشمال إلى العقبة في أقصى الجنوب. وعرضوا عليهما أن يساعدا في العمل على الجزء من مادبا إلى الكرك. وافق الاثنان، وأخذا الفكرة إلى مدىً أبعد، عندما قررا قطع المسار قبل اكتمال العمل عليه. تركا الماعز في عهدة أقارب، وخرجا في أيلول 2016، في رحلة مشي استمرت 39 يومًا متواصلة،، قطعا خلالها 650 كم تقريبًا، ليكونا بذلك أوّل من أكمل ما اصطلح بعدها على تسميته بـ«درب الأردن» (Jordan Trail)، وهو مسار مشي (Hiking) أطلقته جمعية درب الأردن رسميًا في آذار 2017. وتبعتها رحلات تنظمها الجمعية سنويًا.
لقد أهّلتهما هذه الرحلة للحصول على وظيفة دليل في الجمعية، لكنها، وهذا هو الأهم بحسبهما، جعلتهما يكتشفان أن وراء «الهيدان» الذي لم يسبق أن غادرا حدوده، عالمًا بأكمله، أصابتهما شهوة التعرف عليه. مدركين وقتها أن هذا بالضبط ما أتى بهؤلاء الرحالة الأجانب إلى واديهم.
ينتمي الزيادين والحمران إلى قبيلة العزازمة التي جاءت «الهيدان» أوائل السبعينات من وادي عربة، هربًا من الجفاف، وأيضًا من صعوبة الأوضاع الأمنية في تلك الفترة، في المنطقة الواقعة على حدود فلسطين المحتلة. جاءت القبيلة إلى الوادي الذي يقطعه السيل الممتد من سدّ الوالة إلى البحر الميت، وتتوزع في أرجائه عيون مياه الريّا، والجِعْدِلّة، والرشّاح، وعين سالم، وعين عروس، وبَرْتا.
آنذاك، لم يكن الذين يجمعون بين الوظيفة والحلال كثرًا بعد، وكان والد الحمران من بينهم. فقد عمل مع وزارة الصحة في رش المسطحات المائية بالمبيدات لمكافحة البعوض الحامل للملاريا، وظل إلى ما قبل تقاعده قبل بضع سنوات يقطع الرحلة من الهيدان إلى مكان عمله في الزارة والبالغة 35 كم تقريبًا، مشيًا على قدميه، بداية الأسبوع، ويعود في نهايته. في العام 2002، عمّر للعائلة منزلًا في قرية مليح، قرب الهيدان. لكنه ظل محتفظًا بقطيع الماعز الذي تولاه أبناؤه، واحدًا بعد الآخر، حتى جاء دور محمد، الذي ترك المدرسة من الصف التاسع، وتولّى الرعي ابتداءً من عمر الخامسة عشرة.
محمد الزيادين يسارًا، ومحمد الحمران يمينًا.
أمّا الزيادين، فقد بنى والده بيتًا في مادبا في الثمانينات أقامت فيه والدته مع أخوته الصغار ليكونوا قريبين من مدارسهم. وبقي الوالد في بيت الشعر مع أبنائه الكبار «أمي ظلت عندنا لحد ما درسنا. اللي بده يدرس ويخلص، يا بشوفله شغلة، يا بروح على الحلال». تزوج أخوة الزيادين وتفرقوا، ولم يبق غيره لرعي الحلال، فخرج من الصف العاشر، واستلم المهمة.
ترافق الاثنان منذ وعيا العالم. ولم يكن يفصل بين بيتي الشعر اللذين يقيمان فيهما أكثر من مئة متر «بالنهار مع الحلال، وبالليل مع بعض»، يقول الزيادين.
الخروج من القفص
احتاج الاثنان إلى قرابة السنة كي يحسما قرار الرحلة. ليس خوفًا من مشقة المشي شهرًا كاملًا، فهذا ما يفعلانه كل يوم؛ المسألة هي أنهما لم يملكا ترف تمضية شهر كامل في نشاط لن يأخذا مقابله أجرًا. وكان هاجسهما مَن سيتولى رعاية الحلال في غيابهما. كان الزيادين هو الأكثر ترددًا لدرجة أنه أغلق هاتفه، حتى لا يسأله أحد عن الرحلة. «بديش أروح أعمل إشي فاضي. بدك تحكي رياضة؟ هينا بنمشي طول النهار رياضة».
الحمران كان أقل ترددًا، فبدأ مباشرة خطة تجميع أجرة شخص يتولى رعي قطيعه في غيابه. ليس للرعاة إجازات، يقول، لكن قد يحصل بين فترة وأخرى على يوم راحة، عندما يكون هناك من «يمشي بالحلال». وهؤلاء غالبًا من أبناء العائلة، ومنهم مثلًا طلبة المدارس أثناء عطلتهم، أو أقرباء عاطلون عن العمل يتطوعون لإراحة قريبهم يومًا أو يومين. في أيام الراحة هذه، يقول الحمران إنه كان يذهب إلى مزارع الخضار المجاورة، ويعمل بالمياومة، ليجمع أجرة الراعي البديل. وتمكن بالفعل، بعد قرابة العام، من ادخار 200 دينار. ليست هذه بالطبع الأجرة المعتمدة للرعاة، والتي لا تقل عن 350 أو 400 دينار. إنه المبلغ الذي يمكن أن «يمون» هو على أحد من أقاربه أن يقبل به لفترة عمل مؤقت.
قررا أخيرًا الخروج. استعان الحمران بالراعي البديل، وتطوع أبناء أخوة الزيادين لتغطية غيابه. أخذ الاثنان باصات النقل العام من مادبا، إلى عمان، فإربد ثم بلدة أم قيس، حيث نقطة بداية المسار عند بوابة المنطقة الأثرية، ومن هناك انطلقا، يقول الحمران «كان في جيبتي خمسين ليرة ويمكن كان معه [الزيادين] 4 ليرات». كان الهدف، بحسبه، هو أن يكون معهما ما يكفي من نقود ليبدآ، آملين أن يتدبرا أمرهما في ما بعد في البرية. «هاي حياتنا، هيك عشنا؛ دايمًا بالبر بندبر حالنا بأي إشي».
لقد احتاجا هذه الخبرة فعلًا عندما نفد مخزونهما من الماء في صحراء وادي قصيب، البعيدة عن البترا مسيرة يومين. وهناك انتبها إلى حفائر في المكان، بعرض متر ونصف لكل واحدة. كانا يعرفان أن البدو يحفرونها في الأماكن المنخفضة ليستخرجوا منها ماء يوجد في هذه الحفائر بكميات قليلة، ويسميه البدو «ثميلة». حفرا، إلى أن وصلا فعلًا إلى ماء خرج إلى السطح بكمية ضئيلة، تركاها إلى الصباح لتصفو من الطين، ثم عبآها في القناني بواسطة كأس.
إلى أن وصلا الكرك بعد عشرة أيام من الانطلاق، كان اعتمادهما الأساسي على العدس والمعكرونة والخبز والشاي، التي كانوا يجهزونها جميعها على نار الحطب، باستثناء الخبز الذي كانوا يشترونه من المخابز في الطريق، ولم يخبزا «العربود»، كما يفعلان في العادة في البر، ليخففا عن نفسيهما حمل الطحين. عندما وصلا الكرك، دعمهما متطوعو جمعية درب الأردن بـ750 دينارًا. وهنا، يقول الحمران «بلشنا نشتري معلبات».
كانت تلك هي المرة الأولى التي يخرجان فيها من حدود مادبا. «كنا مستغربين كل إشي»، يقول الزيادين، وهما يمرّان بمعالم كانا يسمعان عنها في الراديو. قمة الدهشة كانت في مكانين: غابة زوبيا، التي يقول عنها الحمران «أول مرة كانت بنشوف غابات ونشوف شجر أخضر. [منطقتنا] فيها خضار، بس مش كثير، منطقتنا صحراوية». المكان الآخر هو البترا. يقول الزيادين «لما شفناها، إنو شو هاظ؟ شو اللي عندنا؟»
كان حالهما بحسب الزيادين «كيف بتكون محصور بقفص وتطلع. هذا هو الشعور». لقد كانت اللحظة التي يقول إنهما أدركا فيها أنه «رايح علينا إشي كثير».
كان عليهما أن يتعاملا خلال الرحلة مع الكثير من الفضول والأسئلة المستغربة للناس في القرى التي يمرّان وسطها، وعلى ظهريهما حقيبتا الظهر اللتان أعطاهما لهما أحد أعضاء جمعية درب الأردن. فالرحالة القلائل الذين رآهم الناس كانوا أجانب، في حين أن هذين الاثنين، كما يقول الحمران «مبينين هيك سُمُر وبدو». لهذا هناك من اعتقد أنهم رحالة هنود. وهناك أيضًا من سألهم إن كانوا من «اللي ببحشوا عن ذهب». ويقول إن هناك من اعتقد أنهما إرهابيان أو يعملان في التهريب «كل ما نمرق (…) ما بتلاقي إلا عندك سيارة مخابرات». وأسوأ المواقف كان في عجلون، عندما فاجأهما شخص في الصباح الباكر، أثناء نومهما في العراء، إذ لم يكن معهما خيام، واتهمهما بأنهما سرقا بقراته. «وين بدي أروح فيهن؟ بالشنتة ما بيجن البقرات». يقول الحمران ضاحكا.
لكن التعامل العدائي، يقول الزيادين، كان ينقلب مباشرة إلى ودّ بالغ في اللحظة التي يعرف فيها من يلتقيهما من هما وماذا يفعلان «بصير بدّه يروّحنا على البيت، يعمل عشا، يعمل غدا، يشرّبنا شاي». بل إن صاحب دكان في عراق الأمير رفض تقاضي ثمن الأغراض التي اشترياها.
راديو كان الزيادين يحمله أثناء رحلات الرعي قبل شرائه هاتفًا ذكيًا.
بين مرافقة الحلال ومرافقة البشر
بعد هذه الرحلة، لم يتردد الحمران والزيادين في قبول الوظيفة التي عرضتهما عليهما جمعية درب الأردن، فقد كان الراتب الشهري أكبر من الدخل الذي يوفره لهما الحلال. فبدآ المساعدة في التأسيس للمسار، ووضع علامات محطاته، إلى أن أطلق رسميًا العام 2017.
يقول الاثنان إن تجربة العمل مع «درب الأردن» أضافت إليهما الكثير؛ لقد أتاحت لهما الخروج من دائرتهما الجغرافية الضيقة إلى فضاء أوسع داخل الأردن وخارجه. والعام الماضي شاركا في مسار سيناء الذي استمر 15 يومًا، قطعا خلالها 220 كم.
لقد أتاحت لهما التجربة أيضًا الانفتاح على الناس، وتكوين علاقات مع أناس جدد، داخل الأردن وخارجها. بما فيها علاقات مع أجانب رافقوهم في الدرب، وظلت العلاقة متواصلة بعد عودة هؤلاء إلى بلدانهم، عن طريق فيسبوك.
لكن الحياة الجديدة جاءت بضغط نفسي، يقول الاثنان إنهما لم يختبراه من قبل في حياتهما السابقة. يقول الحمران إنه صحيح «هون إنت موظف بتاخذ راتب، بتشوف العالم، بتمشي وبتروح، بس كثير غلبة ووجع راس. في عجقات، تحس الدنيا معجوقة، وفي كثير ضغط».
مصدر الضغط هو أن مسؤوليتهما تحوّلت الآن، كما يقول الزيادين، من الحلال إلى البشر. ففي الرعي، أسوأ كوابيس الراعي لا يتجاوز ضياع رأس غنم، «الحلال بتتصرف معه، بتدور عليها، إجت إجت، ما إجت بعّوض الله. هون إنت ماشي مع بني آدمين».
«بني آدمين» يقول الزيادين إنهم يضعون كامل ثقتهم في الدليل، ويسلمون أنفسهم لإرشاداته «يعني واحد تفركشت إجره مثلًا، إنت المسؤول. يمكن تكون جايبه على طريق زحلق ووقع، بتكون إنت المسؤول عنه». يُضاف إلى ذلك، وفق الحمران، مسؤولية أن يعود المشاركون، بما فيهم النوعيات الصعبة دائمة التذمر والشكوى، إلى بلدانهم، وهم راضين.
بيت شعر الزيادين، الذي يغسل إلى جانبه أكواب الشاي تمهيدًا لصنعه.
ثِقل المسؤولية، وضجيج العالم الجديد يجعل الاثنين في حالة حنين مستمرة لحياتهما القديمة في المرعى. وهو أمر ما زال متاحًا لهما، حتى بعد التحاقهما بالوظيفة. ورغم أن الاثنين ملتزمان بأن يكونا جاهزين للعمل وقت الطلب. لكن هذا لا يحدث يوميًا، إذ يحصلان على الكثير من أيام الفراغ خلال الشهر.
بالنسبة للحمران، فهو يستغل هذه الأيام للعمل بالمياومة في المزارع، بعد أن باعت عائلته بالتدريج كل الحلال الذي تملكه «من أول شهر توظفت فيه، بلشنا نبيع بالحلال، لحد ما بعناه كله». آخر عشر رؤوس ماعز يقول بيعت العام الماضي، مباشرة بعد وفاة والدته التي كانت متمسّكة بالحلال، وظلت إلى وفاتها تحتفظ بالعدد الذي تستطيع النهوض به. وبوفاتها، قطعت عائلة الحمران علاقتها بالحلال.
حنين الحمران للرعي يأخذه في أيام كثيرة إلى الزيادين، الذي ما زال محتفظًا بقطيعه. والد الزيادين متوف، وبقي وحده مع والدته بعد زواج جميع أخوته. وعندما حصل على الوظيفة، تولت والدته بمساعدة من أخيه الأكبر تغطية أيام غيابه. لكن هذا لم يعد عمليًا أبدًا. لهذا يقول إنه ووالدته يفكران جديًا ببيع القطيع. لديه 120 رأس ماعز، لن تدر عليه دخلًا إلّا إذا رعاها، كما يقول، بنفسه. إذ ستلتهم أجرة الراعي معظم العائد. وهذا أمر يسبب له حسرة شديدة. يقول الزيادين إنه أمضى حياته كلها مع الحلال، وهو يشعر بالانتماء الشديد إلى هذه المهنة، وللمفارقة، فإن انتماءه لها زاد بالتحديد في هذه المرحلة من حياته، التي خرج فيها إلى العالم الواسع. عالم، يقول إنه يفتقد فيه إحساسه بالسيطرة، وبأنه يعرف ما ينتظره «قبل إنت ماشي على وتيرة وحدة، بتعرف شو بتعمل. إنت بتمشي مع الحلال بين الجبال، خلص. إنت ودك تعمل شغلة بتعمل شغلة، مثل ما بدك بتعمل، شو ما بدك إنت بتعمل. هسا لا. لما طلعت على الدنيا، ما بتقدر تعمل شو ما بدك».
الحمران والزيادين لحظة بدء الرعي.
أكثر من راعٍ وقطيع
لم يكن لنا أن نفهم ما تعنيه هذه المهنة للشابين، من دون مرافقتهما في رحلة رعي في موطنهما الهيدان، وهذا ما فعلناه. هناك فهمنا أن ما يبدو ظاهريًا مهنة ببعد واحد، لا تتطلّب من صاحبها أكثر من القدرة على تحمّل المشقة الجسدية، هي في الحقيقة مهنة تقوم على منظومة معقدة من القواعد. قطيع الحلال، يقول الحمران، ليس مجموعة من الكائنات التي هي نسخ من بعضها. بل هي مثل البشر، لكل منها مظهرها وشخصيتها الخاصّتان. فمن ناحية المظهر، تمتلك كل واحدة منها صفاتها الجسدية المتفردة الخاصة بها. المرتبطة بألوانها وشكل أعضائها. يقول الزيادين إن هناك، على سبيل المثال، «العَطّرة» التي لونها أسود وأذناها حمراوان. والحَوْيَة أو الحِوّي، التي لونها أسود، لكن لسيقانها الأربعة لون مختلف، مثل الأبيض أو الأحمر. وهناك «الَقطْمَة»، ولها أذنان صغيرتان. و«الصَّبْحَة» التي لونها أسود بالكامل لكن وجهها أبيض، و«القرعة» التي ليس لها قرون.
هذه الصفات يقول الحمران، تُسهّل على الرعاة التواصل بأقل عدد من الكلمات. فللإشارة إلى عنزة ما، يكفي مثلًا القول «العنزة القطمة العطرة»، بدلًا من العنزة ذات اللونين الأحمر والأسود، التي أذناها صغيرتان.
من ناحية أخرى، يشرح الزيادين أن أفراد القطيع كما تختلف في صفاتها الجسدية، تختلف أيضًا في شخصياتها. فهناك العنزة النشيطة التي تكون دائمًا في المقدمة، و«الكسلانة» التي تتأخر دائمًا. هناك المطيعة، وهناك «العنيدة» التي تصرّ على فعل ما تريد، مثل الدخول إلى مزرعة مجاورة، حتى أنها «تتخبى عنك عشان تروح». وهناك التي تلد ولا تهتم بوليدها، وأخرى تلد، وعندما يحمل الراعي وليدها ليضعه مع بقية المواليد، تتبع الراعي، فإذا لم ينزله كل بضعة أمتار على الأرض لتراه، تعود إلى المكان الذي ولدت فيه لتبحث عنه.
يقول الحمران إن هناك أيضًا لغة يستخدمها الرعاة مع أغنامهم، فهناك صوت خاص لردّ الماعز المبتعد عن القطيع، وصوت لجعله يسير، وآخر لجعله يتوقف. وهناك أيضًا صوت خاص بصغار الماعز لجعلها تأتي. بل إن هناك صوتًا معينًا يستخدمه الرعاة عندما يحدث عرضًا أن يتقابل قطيعان ويختلطان، وبمجرد إطلاق هذا الصوت ينفصل القطيعان مباشرة. هذه «اللغة» بحسب الحمران، موحدة بين الرعاة، ولا أحد يعرف من أين جاءت «إحنا طلعنا مع الحلال لقيناهم [الرعاة] بحكوا هيك».
كل هذا يبني بين الراعي وأغنامه علاقة، يكف فيها القطيع بالنسبة إليه عن كونه «قطيعًا»، أي كتلة واحدة. إنه يعرفها واحدة واحدة، كما يقول الزيادين، وعندما يسير بها، فإنها تكون كل يوم بالترتيب ذاته. لهذا فإن الراعي يعرف من مجرد النظر إلى القطيع إن كانت هناك عنزة مفقودة، وليس مضطرًا لعدّ القطيع آخر النهار ليعرف ذلك. وعندما يحدث ذلك، يقول الحمران إن الراعي ينتظر إلى المساء، بعد أن يعيد القطيع ليعود في الليل ويبحث عنها، إما يجدها تائهة في مكان، أو يجد بقاياها، فيعرف أن ذئبًا أكلها.
وليس الراعي وحده من يميز النقص. القطيع أيضًا يدرك ذلك. عندما وصلنا في الصباح الباكر إلى بيت الشعر الذي يقيم فيه الزيادين، كان ما يقارب الثلاثين رأس ماعز محصورة في دائرة صغيرة مُسيّجة، في حين تفرّق بقية الماعز في المكان من دون أن تبتعد أيٌ منها. شرح الحمران أن هذه حيلة يلجأ إليها الرعاة ليضمنوا بقاء الماعز في مكانه، عندما لا يكون الراعي قد استيقظ بعد. فالماعز لا يمكن أن يتحرك مبتعدا ويترك خلفه القسم المحصور في السياج.
إذن، يرتبط الجميع بعلاقات، الماعز مع بعضه، والراعي مع الماعز، ويرتبط الاثنان بالبيئة من حولهما. فالأعشاب المنتشرة في الوادي، ليست مُجرّد طعام للماشية. كان الزيادين أثناء المسير يشرح كيف كان الناس في طفولته ومراهقته القريبة يستخدمونها، وكيف يستخدمها هو نفسه؛ «القِلُو»، عندما تدعك أوراقه مع الماء، يخرج رغوة تستخدم لغسل اليدين والملابس، «البِلّان»، تسكّن المضمضة بمغلي جذوره ألم الأسنان، «الرّطِم»، يدق ويخلط دقيقه بالماء فيصبح بقوة الجبس ويستخدم في تجبير كسور البشر والحلال، و«اللَّصَف»، توضع أوراقه على قطعة قماش ملفوفة على المفاصل الموجوعة، فتسكن ألمها. وهناك «الكداد»، التي استخدم الزيادين شوكها ليدق على معصمه وشمًا هو قلب حبّ يتوسط حرفين؛ الحرف الأول من اسمه، والحرف الأول من اسم الفتاة الوحيد التي أحبها في حياته، وكان رآها لأول مرة عندما كان في الرابعة عشرة على عين الماء. لكنه لم يجرؤ على على مبادرتها بالكلام. وظل سبع سنوات يحبها بصمت. إلى أن دخل الإنترنت عالمه في الهيدان «بس صار عندي فيسبوك، وهي طبعًا صار عندها فيسبوك. بحثت عنها ووجدت صفحتها واعترفت لها هناك». لكن النهاية لم تكن سعيدة، لأنها بعد شهر خُطبت لقريب لها.
لقد دقّ الزيادين الوشم في أوقات خلوته مع الماعز بين الجبال. هذه الأوقات التي يقول إنها ليست مشقة خالصة؛ ففي السير بين الجبال متعة، وخلو بال كان يستغلها في سماع الراديو، وفي قراءة الكتب التي يقول إن الأطفال كانوا يجدونها ويجلبونها إليه. وكان يقضي وقته أيضًا في كتابة يوميات بدأها عندما خرج من المدرسة. وكان يخبئ الدفاتر في كيس، يقول إنه ضاع قبل بضع سنوات، عندما تركته العائلة خلفها أثناء ارتحالها في الشتاء إلى منطقة أخرى، «ما كان في فرصة أرجعلهم أجيبهم، إلا هم خربانين من الشتاء». وكان هذا آخر عهده بالكتابة، وبالقراءة أيضًا. «ظليت أكتب لحد أول ما طلع الإنترنت، وطلعت التلفونات هذي [الذكية] خلص صرت ألتهي بالتلفون».
بعد ثلاث سنوات، ما زال الاثنان يشعران بالارتباك أمام عالمها الجديد، ويتحيّنان، كلما أتيحت لهما الفرصة، العودة إلى حياتهما القديمة. يقول الحمران «الحياة هناك كثير قليلة. ما بدها ترتيبات كثير، مش معقدة لهاي الدرجة. لو كنت بعرف إنها معقدة لهاي الدرجة، أصلًا ما طلعت ولا وصلت هون».
لكن الحمران يستدرك بأن أسلوب حياتهما القديم ليس باقيًا، بل يتغير بإيقاع تسارع خلال العشرين سنة الماضية بعنف. الحلال قلت جدواه الاقتصادية سنة بعد سنة. حتى لم يعد قادرًا على تأمين معيشة أصحابه. لهذا فإن الوادي الذي كان عامرًا ببيوت الشعر قبل عشرين سنة، لم يعد فيه، وفق الحمران، أكثر من ثلاث أو أربع عائلات «كل الناس راحت، طلعت على القرية [مليح] عشان يدرّسوا أولادهم، ويقرّبوا من الحياة أكثر (…) الحلال بطّل يوفي واللي كان عنده حلال باعه وصار يسوّي مزارع. حس إنه ممكن يكون فيها مَربح أكثر، وهي بالعكس نفس الإشي المزارع دايمًا خسران».
وينطبق الأمر ذاته على الوظائف. فيقول إنه يعرف شبابًا كثيرين قدّموا طلبات توظيف عمال نظافة، ولم يحصلوا حتى على هذه الفرصة. لهذا يدرك كلاهما، كما يقول الزيادين، إنه لا خط رجعة، وإن العودة هي فقط لفترات يستريحان فيها، «ما رح نقدر، لازم نطلع من الحياة هذيك».