في اليوم السادس من الحرب، استيقظت مريم (32 عامًا) على صوت انفجار ضخم خلع باب شقتها وكسر شبابيكها. لم يعد لديها حينها خيار إلا الرحيل، مع أنها أصرت بشدة قبل ذلك أن تبقى في المنزل. رغم أن معظم جيرانها غادروا بيت لاهيا شمال قطاع غزة منذ اليوم الأول للحرب، إلا أنها رفضت المغادرة بسبب حاجتها للخصوصية أثناء حملها وهي في نهاية شهرها السادس. قضت مريم خمسة أيام مرعبة منذ بداية الحرب، ثم نزحت تدريجيًا هي وابنها (ثمانية أعوام) وابنتها (ستة أعوام) إلى حي أبعد في بيت لاهيا، ثم إلى خارج بيت لاهيا. أما زوجها فقد بقي في المنطقة متطوعًا كممرض في المستشفى الأندونيسي بنظام 24 ساعة دون راتب.
مع اشتداد القصف في الشمال، اضطرت مريم إلى اللجوء مع أهل زوجها دون علمه –بسبب قطع شبكة الاتصالات– إلى مركز إيواء في خانيونس. «أول ما نزلنا دورت كتير على حمام. أكثر شيء بحتاجه، لقيت وضع الحمامات يرثى له ما قدرت أفوتها». كان عليها أن تقطع مسافةً طويلة للحمامات وأن تقف في صف طويل، وأن تنتظر أحيانًا أكثر من ساعة. وعندما يحين دورها تكون المياه مقطوعة في كثير من الأوقات.
قبل الحرب، عانت مريم من حمل قاسٍ، حتى إن طبيبها صنّف حالتها ضمن حالات الحمل الخطرة، لأنها تعاني من انخفاض ضغط الدم ونقص الفيتامينات، وكانت تعتمد على العلاج لتستطيع تمضية أيام الحمل. وعندما نزحت لم يكن بحوزتها أي ملابس أو أغطية، حالها حال الكثير من النازحين، ما زاد وضعها الصحي سوءًا حتى تضاعفت أعراض الحمل وأصيبتْ بنزيف وألم وعدم قدرة على المشي. ولهذا عادت إلى بيت خالتها في غزة عندما كانت العودة متاحة، رغم القصف والدمار الشديد هناك، لتشعر ببعض الراحة من معاناة مراكز الإيواء «كل شوي أحكي لخواتي كلها موتة». لم تكن مريم تستطيع توفير الطعام بسهولة في غزة «لدرجة طعميت أولادي الخبز المعفن لإنه ما كنا نلاقي الخبز».
بداية تشرين الثاني زاد القصف في المنطقة، حتى إنها شاهدت الجثث في الشارع دون وصول الإسعاف أو الدفاع المدني إليها، فقررت أن تنجو بأطفالها بالعودة للجنوب. دفعتْ أجرة باهظة للحصول على سيارة توصلها إلى الحاجز الذي تمركز فيه جيش الاحتلال، والذي يُمنع المرور من خلاله إلا مشيًا. كانت حالتها الصحية سيئة للغاية وقدرتها على المشي ضعيفة. «مرينا عالحاجز وكأنه الدقيقة ستين ألف عام من كتر الرعب والخوف»، شاهدتْ مريم جثث أطفالٍ وشبابٍ وحيواناتٍ على الحاجز، وكانت الطائرات تحوم من فوقهم والدبابات من حولهم ما دبّ الرعب في قلوب أطفالها. كان الناس بالمئات «لدرجة الأم ما تقدر تلحق ابنها لو بعد عنها. كثير عائلات بعد ما تعدينا الحاجز صاروا بس يدورا عولادهم». قطعوا الحاجز في ساعتين رغم أن المسافة قصيرة جدًا. يصعب على مريم أن تنسى خوفها عند الحاجز «أكتر إشي كنت أخاف منه أموت وأترك أولادي لحالهم».
«خلصنا الحاجز وطلعنا من الموت. عيطنا كتير إنه طلعنا عايشين»، أكملت مريم وأطفالها الطريق باستخدام عربات الحمير والأحصنة وبأسعار مرتفعة. حتى ركبوا شاحنة بأعداد هائلة أوصلتهم إلى نقطة استقلت منها سيارة عائدة إلى مراكز الإيواء التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) ولبعض المنظمات الدولية الأخرى. صار هناك نظامٌ جديدٌ يمكّن الحالات الحرجة من استخدام حمامات الإدارة «بس لازم توقفي تترجي الأمن، وأوقات يفوتوني وأوقات أضطر أمشي المشوار الطويل وأوقف ع الدور».
في أحد الأيام أغرق المطر الخيم التي يسكنونها. «قضينا الليل وإحنا ندير بالنا عصغارنا وننقلهم من خيمة لخيمة» منهم من أصابته الحمى والاسهال والاستفراغ. تذكرُ أنها اضطرت في اليوم نفسه للذهاب إلى حمامات الإدارة، حاولتْ كثيرًا أن تقنع موظف الأمن بالسماح لها بالدخول، إلا أنه رفض تمامًا «يومها انقهرت من كل قلبي وتحسبنت عليه (..) ورحت ع الحمام أنتظر دور وأنا بعيط». بعد يوم وبوساطة ما، استطاعت مريم أن تستبدل مركز الإيواء بآخر أفضل حالًا في مبنى جامعة الأقصى بخانيونس. خلال شهر ونصف فقدت مريم الاتصال بزوجها لأيام وليالٍ. وعندما كانت تسمع أخبارًا عن استهداف المستشفى الذي يعمل به كانت تترقب أي خبر لتعلم أنه بخير. استطاع زوجها أن يخرج من المستشفى وتوجه للجنوب ووصل في منتصف تشرين الثاني. لم تكن تعرف أنه اتجه جنوبًا حتى تمكن من الوصول إلى مركز الإيواء. منذ اللحظة الأولى لوصوله بكى كثيرًا، تقول مريم، وظلّ فترةً طويلة يعاني من الصدمة «ما يحكي أو ياكل أو يتعامل بشكل طبيعي لحتى أخذ على وضع النزوح والمسؤوليات الجديدة» في حرب موازية كما تصفها مريم من أجل البحث عن المأكل والمشرب والنار.
في القطاع بأكمله تعاني نحو 50 ألف سيدة حامل من سوء التغذية والمضاعفات الصحية، وخاصة ذوات الحمل الخطر، نتيجة عدم توفر مياه الشرب والنظافة والطعام والرعاية الصحية في مراكز الإيواء. وتشير التقديرات إلى نحو 180 ولادة يوميًا في ظروف قاسية أثناء الحرب، وأن 15% من النساء الحوامل سيتعرضن لمضاعفات الولادة، أي أن أكثر من 25 امرأة يوميًا تتعرض حياتهن لخطر كبير عند رعاية التوليد وحديثي الولادة في حالات الطوارئ. تقول آمال عوض الله، المديرة التنفيذية للجمعية الفلسطينية لتنظيم وحماية الأسرة، لحبر إن غالبية النساء نزحن من منازلهن على الأقل مرة واحدة، ونسبة كبيرة منهن قد نزحن عدّة مرّات من مكان إلى آخر، خوفًا على حياتهن خلال فترة تزيد عن مائة يوم. وأثناء نزوحهن تحمل النساء الحوامل أوزانا ثقيلة بقدر ما يستطعن ويضطررن إلى المشي أو الركض لمسافات طويلة بحثًا عن مكان «آمن» للإقامة.
في غزة، تعاني نحو 50 ألف سيدة حامل من سوء التغذية والمضاعفات الصحية، وخاصة ذوات الحمل الخطر، نتيجة عدم توفر مياه الشرب والنظافة والطعام والرعاية الصحية في مراكز الإيواء.
وتشير عوض الله، إلى قلق العاملين في الصحة من المضاعفات المتوقعة على النساء اللواتي يعانين من فقر الدم ونقص الفيتامينات. وتوضح أن معدل الإجهاض بين النساء الحوامل في غزة ارتفع خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب بنسبة 300%. مع عدم توفر المياه والطعام في غزة لأكثر من ثلاثة أشهر لغاية اللحظة، أصبحت مشكلة الحصول على التغذية الكافية قلقًا حقيقيًا للنساء الحوامل، وأعلنت اليونيسف في دراسة استقصائية أن التنوع الغذائي للنساء الحوامل والمرضعات بدا متدنيًا منذ الشهر الأول للحرب، حيث أن 25% منهن يستهلكن مجموعة غذائية واحدة فقط في اليوم، ونحو 65% يستهلكن مجموعتين فقط. رغم أن النساء الحوامل والمرضعات لديهن احتياج أعلى من الماء والسعرات الحرارية.
منذ بداية كانون الأول كان الهجوم قد انتقل إلى المناطق الجنوبية، وكان وضع مريم الصحي بغاية السوء. ولأن الأضرار النفسية الناجمة عن العدوان على القطاع تؤدي إلى تبعات مباشرة على الصحة الإنجابية، زادت حالات الإجهاض الناجمة عن الإجهاد النفسي، وحالات ولادة أطفال ميتين، وحالات الولادة قبل الأوان. وخشيت مريم حصول ولادة مبكرة وهي غير مستعدّة بعد، حتى على مستوى ملابس الرضيعة، فبعد محاولات يائسة للبحث في السوق، حصلت على ملابس مستخدمة طلبتها من الناس.
تقول الصحفية الفلسطينية وفاء العاروري التي قابلت عشرات النساء الحوامل منذ بداية الحرب، إن معظمهن كنّ يعانين من نقص الملابس لهن ولأطفالهن، فقد خرجت الكثيرات من منازلهن في جو حار، ولم يكنّ قد حضّرن ملابس أطفالهنّ الرضّع لعدم توافر الموسم الشتوي في السوق بعد. بعد أن حلّ الشتاء، كانت الأسواق أيضًا فارغة من الملابس الشتوية وإن وُجدت تكون أسعارها باهظة جدًا. ولم يكن بحوزتهم في الخيم أي ملابس دافئة أو أغطية. تقول مريم إن مراكز الإيواء لا توفر أيًّا من هذه الاحتياجات. «ربنا بعلم كيف دبرنا الصغار، كل صغير بغيارين» وكل أسبوع تبدّل الأمهات ملابس أبنائها مرة، ويستحمون بمياه باردة بسبب عدم وجود الكهرباء والغاز، ونقص المياه وازدحام الحمامات. تقول مريم إنها تتألم على أطفالها وهم يصرخون من برودة مياه الاستحمام في الشتاء. وكذلك الأمر بالنسبة لها، إذ ليس لديها سوى غيارين طيلة أشهر الحرب، وفي الليل فإن أغلبهم لا يتمكنون من النوم من شدّة البرد وعدم توفر الأغطية.
منذ بداية الحرب تتالت استهدافات مستشفيات التوليد، ما عرّض حياة السيدات في أقسام الولادة والطواقم الطبية للخطر. وأصبحت حظوظ النساء في الولادة في المستشفيات منخفضة جدًا، فأصبحن يلدن في الخيام والسيارات والمنازل، ما يمثل خطرًا عليهن وعلى أطفالهن. إحدى السيدات فقدت جنينها بعد أن أنجبته في حمام مراكز الإيواء عقب عودتها من إحدى المستشفيات القليلة المتاحة للولادة في رفح، حيث كانت غرف المستشفى ممتلئة ولم يتسع لها أثناء المخاض.
بسبب نقص الكوادر البشرية في مستشفيات الوسط والشمال تضاءلت أعداد الولادات الطبيعية ونادرًا ما تتوافر الأدوات لإجراء عمليات قيصرية. وتوقفت بعض مستشفيات الصحة التي كانت شريانًا لعمليات الإنجاب عن استقبال حالات الولادة، وحولت حالات الولادة إلى مستشفيات خاصة، إلا أن سعتها الكلية منخفضة لتقوم بأي دور فارق نسبةً لأعداد النساء الحوامل. وأما في الشمال فهناك عيادة واحدة هي الصحابة تقدم خدمات التوليد ولكنها غير كافية.
ما يزيد الوضع سوءًا بحسب طبيب الطوارئ مراد عابد، هو فقدان خدمات المتابعة أثناء الحمل وعدم قدرة النساء التواصل مع الأطباء الذين يتابعون أحمالهن، وانعدام أغلب الأدوية التي تحتاجها النساء. تقول عوض الله إنه في حال تمكنت النساء من الوصول إلى مركز صحي أو مستشفى، يتم قبولهنّ فقط عندما تسمح الظروف بذلك نظرًا لكثرة الحالات التي تتلقاها المستشفيات. ويتم فصلهنّ في غضون ساعات قليلة بعد الولادة، نظرًا لاكتظاظ المرافق والموارد المحدودة للغاية مما ينعكس سلبًا على تقديم الخدمات الصحية الضرورية بعد الولادة.
في 28 كانون الأول اضطرت مريم لمغادرة الجامعة بسبب قطع الاتصالات وزيادة القصف. فرحلت مع أهلها وابنتها دون زوجها إلى مراكز اللجوء في رفح حتى تستطيع الوصول إلى المستشفى الميداني الإماراتي بشكل أسرع، وبقي ابنها مع والده في خانيونس. وقضت أسبوعين لاحقين في خيمة بانتظار موعد ولادتها. ولأن حملها لم يكن يسيرًا منذ البداية فقد اشتدت عليها الآلام آخر أيامها، وأصابها تصلب في منطقة الحوض وكانت تتألم مع أي حركة.
صباح الإثنين 15 كانون الثاني، في الساعة السادسة صباحًا، استيقظتْ على خروج ماء الرحم، فعرفتْ أنه يوم الولادة. تعرف مريم مسبقًا وضع المستشفيات المكتظة، لذلك انتظرت أن يشتدّ ألم المخاض. بعد حوالي عشر ساعات وصلت حدًا لا يمكنها تحمله. فخرجت مع أختها إلى المستشفى بسيارة أحد موظفي الأونروا. وصَلَتْ وكان عليها أن تنتظر دورًا بسبب الضغط الكبير على كوادر المستشفى، ولم يكن هناك أي سرير متاح لتنتظر عليه. فحصتها الطبيبة وجُهّزت أوراق الدخول الساعة الرابعة. بعدئذٍ تلقت طلقًا صناعيًا لينتظم المخاض لديها. وانتظرت ساعة، حتى استطاع العاملون بالمستشفى توفير سرير. «عيطت كتير من كتر البرد» إذ لم تكن هناك أغطية تكفي الجميع، فبقيت دون غطاء. بدأت آلام المخاض بالانتظام عند الساعة الثامنة والنصف، لم تعد تستطيع التحمل أكثر. «وقتها بس حسيت روحي حتطلع مني وما قدرت أتنفس»، فحصها طبيب آخر وأخبرها أنها تحتاج وقتًا طويلًا لتلد. من شدّة صراخها نقلها الممرضون إلى سرير الولادة، وما إن وصلت حتى شعرت بخروج رأس الجنين. «وفعلًا إجت القابلة ونزلت رزان، وكأنها معجزة إنه ولدت والحمد لله».
كان الوضع الصحي لمريم وطفلتها جيدًا، إلا أنها بقيت دون أغطية فأصابتها الحمى، وبكتْ من شدّة البرد حتى حصلت على مسكنٍ لخفض الحرارة. ولم تستطع أن تحظى بملابس أخرى، فهو غيار ترتديه وآخر جلبته معها لما بعد الولادة. ارتدت ملابسها النظيفة ولكنها اتسخت بفعل النزيف الذي أصابها بعد الولادة. وبقيت بنفس الملابس لليوم التالي حتى جفّت ملابسها الأخرى. كان عليها أن تغادر المستشفى في نفس اليوم، فوجدت والدتها سيارة أجرة تعود بهن إلى مركز الإيواء في منتصف الليل. عندما وصلوا، مُنعت السيارة من الدخول إلى مركز الإيواء. وكان على مريم التي خرجت للتو من ولادتها أن تقطع مسافة طويلة للوصول إلى خيمتها مع البرد الشديد، و«من ستر ربنا أول ما فتت لقيت شب مُقعد، نزل عن كرسيه المتحرك وأعطاني اياه ووصلني شب تاني للخيمة».
تشير عوض الله إلى أن النساء الحوامل حتى لو كان لديهن الحظ الكافي للولادة بشكل آمن، يبقين عرضة في الظروف الحالية لخطر الإصابة بالتهابات خطيرة، حيث لا خيار لديهن سوى البقاء في مأوى مكتظ، دون وجود رعاية بعد الولادة أو إمدادات طبية أو مقدمي رعاية صحية لمتابعة حالاتهن. كما أن الظروف البيئية غير الصحية التي يعاني منها معظم السكان في غزة، تؤدي لانتشار الأمراض والعدوى بشكل واسع. وتوضح أن نقص المياه والطعام لا يسمح للأمهات بإنتاج الحليب لإطعام أطفالهن الرضع. حتى إن الحصول على ملابسٍ وحفاظات لأطفالهن بات أمرًا بغاية الصعوبة. إضافة إلى ذلك، مع البرد والمطر، تكون الظروف أكثر قسوة لضمان بقاء أطفالهن الرضع بصحة جيدة.
وثق مركز الميزان لحقوق الإنسان في غزة تراجع الحالة الغذائية والصحية لنحو 135 ألف طفل رضيع في قطاع غزة دون سن الثانية من عمرهم. كما أن هناك نحو 20 ألف طفل ولدوا في ظروف الحرب القاسية بحسب اليونيسيف.
يعد الاعتناء بطفل رضيع في هذه الظروف تحديًا كبيرًا للأمهات، تقول مريم إن أغلب طعامهم «معلبات ونواشف» ما جعل الاعتماد على الرضاعة الطبيعية غير كافٍ بالنسبة لطفلتها. وقد استطاعت أن تجد هي والأمهات الجدد حليبًا صناعيًا من نوع واحد لا تعرف مكوناته الغذائية، متوافر بالسوق ومع الباعة المتجولين بسعر متوسط، أما بالنسبة للحفاظات، فأسعارها تفوق أسعار الحليب بمراحل، ولا يمكنهن الاستغناء عنها، لذلك فقد أصبحت تنفق ما تبقى لديها هي وزوجها على هذين المنتجين الأساسيين. وتقول إن مراكز الاونروا كانت توفر هذه المنتجات بداية الحرب ولكنهم لم يعودوا يوفرونها مطلقًا. عدا عن ذلك فقد تعرّضت طفلتها الرضيعة لالتهابات جلدية حاولت مريم معالجتها بمرهم كان بحوزتها إلا أنها لم تستفد، راجعت عيادة مركز الإيواء عدّة مرات، إلا أن العلاج اللازم غير متوافر في العيادة، وما تزال الالتهابات منتشرة في كامل جسمها.
وثق مركز الميزان لحقوق الإنسان في غزة تراجع الحالة الغذائية والصحية لنحو 135 ألف طفل رضيع في قطاع غزة دون سن الثانية من عمرهم. كما أن هناك نحو 20 ألف طفل ولدوا في ظروف الحرب القاسية بحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف). تصف مريم أشد لحظاتها صعوبة مع طفلتها الرضيعة باضطرارها للاعتناء بطفلتها وتبديل ملابسها في البرد الشديد بمياه قارصة ومحاولاتها لتدفئتها بنفس الوقت «تخيلي حالك بثلاجة وبدك تغير للطفل بنص الليل». في عتمة الليل تستخدم مريم ضوء الهاتف لتبديل حفاظات ابنتها، لذلك تدفع مبلغًا شبه يومي لتشحن هاتفها بالطاقة الشمسية.
ما تزال حالة مريم الصحية سيئة، ولا تحظى إلا بنوم قليل فالسهر إجباريّ من أجل اعتنائها بالرضيعة، ونهارًا يصعب أن تحصل على قدر من النوم بسبب ظروف المخيم والعدد الكبير الموجود في نفس خيمتها. ولأن معاناة النساء بانتظار دور لاستخدام الحمامات صعبة للغاية فقد عمدت هي والنساء الأخريات لبناء مكان يشبه الحمام قرب خيمتهن لقضاء حاجتهن كي لا يقفن في دور لمدّة ساعات. وبالنسبة للفوط الصحية التي تحتاجها النساء في فترة النفاس فقد زاد سعرها ثلاثة أضعاف، ولكنها كانت قد جلبت حاجتها قبل الولادة بفترة. الاستحمام بمياه قليلة باردة في الشتاء يمثل عقوبة مضاعفة لمريم التي أصبحت تشتهي حمامًا اعتياديًا كالسابق. «أمنيتي آخد شاور طبيعي بحمام نضيف أو ألاقي نوع شامبو كويس متل اللي كنا نستخدمه قبل».
يسيطر التوتر والقلق وكثرة التفكير على مريم، التي يجتاحها إحساس بالعجز تجاه أطفالها. ورغم ذلك فهي تحاول قدر استطاعتها الاهتمام بنظافة أبنائها وتوفير احتياجاتهم واحتياجاتها. في كثير من الأحيان، تتمنى لو أنها لم تنجب أطفالًا ليعيشوا هذه الظروف القاسية، ولكن أكثر ما تحاول فعله هو البقاء بقربهم قدر الإمكان «عشان لو صار إشي كلنا نروح سوا وما يضلوا يواجهوا الحياة لحالهم».