بعد 25 عامًا قضاها سعيد* سائقًا في جامعة حكومية، أحيل إلى التقاعد عام 2010، وحصل على راتب تقاعدي من المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي قدره 388 دينارًا شهريًا. بعد تقاعده، استدان سعيد من البنك قرضًا بقيمة 20 ألف دينارٍ لغايات علاجيّة، وبعد اقتطاع قسط البنك وإيجار المنزل يتبقى له من الراتب نحو 80 دينارًا لينفقها في إعالة أسرته المكونة من ثمانية أفراد، بينهم مصابان بأمراض مزمنة.
دفعت هذه الحال سعيد، وهو اليوم في الـ62 من عمره، إلى عرض راتبه التقاعدي للبيع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، متطلعًا للحصول على سيولة مالية ببيع الراتب بـ30 ألف دينار حتى يسدّد ما تبقى عليه من قرض البنك، فيستلم المشتري الراتب كاملًا، كما يأمل أن يبني لأسرته بيتًا متواضعًا في الكرك بدلًا من السكن بالإيجار، ويطمح لبدء مشروع بيعِ حلالٍ لكسب رزقه اليومي. بالمقابل، سيستردّ المشتري المبلغ الذي دفعه بعد حوالي ست سنوات ونصف، وسيحقق في السنوات التالية ربحه.
سعيد واحدٌ من متقاعدين يحاولون بيع رواتبهم التقاعدية، أو باعوها فعلًا، متخلين بذلك عن حماية اجتماعية كان يفترض أن يوفرها لهم الراتب في سن الشيخوخة، لكنهم -مدفوعين بصعوبات اقتصادية- آثروا استبدال الراتب بمبلغ كبير نسبيًا، يُدفع مرة واحدة لعلّه يساعدهم في تجاوز ظروفهم المعيشية الصعبة. فكيف تتم عملية البيع هذه؟ وما موقف مؤسسة الضمان منها؟ ومالذي تفعله لمعالجتها؟
كيف تتم عملية بيع رواتب الضمان؟
في عام 2017 عرَض أسامة* (53 عامًا)، المتقاعد من إحدى الوزارات، راتبه التقاعدي البالغ 570 دينارًا للبيع مقابل 65 ألف دينار. كانت التزاماته الأسرية تزداد مع الوقت، فيما تنخفض -كما يقول- القيمة الشرائية للدينار بينما تظل قيمة الراتب ثابتة، وهو ما دفعه للتفكير ببيع راتبه من أجل الهجرة إلى بلدٍ تكون الأحوال الاقتصادية فيها أفضل. في الوقت نفسه، كان متأنيًا في البيع، فهذا الراتب هو كل ما يملكه، «ما كنت مضطر أبيعه بتراب المصاري».
بعد عامٍ من نشره العرض على فيسبوك، باع أسامة راتبه، وبإجراءات سهلةٍ كما يقول، حيث ذهب برفقة وكيل المشتري إلى مكتب محاماة أوصى به الأخير، وهناك وقّعا وكالةً غير قابلة للعزل؛ أي لا يجوز للموكل أن ينهيها أو يقيدها دون موافقة الوكيل،[1] ويتم بموجبها تحويل راتب أسامة إلى حساب المشتري. «المشتري رجل أعمال، بس ما بعرفه، ولا شفت وجهه» يقول أسامة، إذ قام الوكيل بتقديم وثائقه الشخصية للمحامي والتوقيع نيابة عنه. بعد عرض الوكالة على البنك وتفعيلها، استلم أسامة نصف المبلغ المتفق عليه، ثم استلم النصف الثاني بعد تحويل أول راتبٍ إلى حساب المشتري. سدّد أسامة ديونًا مستحقة عليه، ثم غادر في العام نفسه إلى تركيا، وفتح مطعم وجبات سريعة في منطقة سياحية هناك.
قبل سنواتٍ كانت مؤسسة الضمان نفسها تحوّل الرواتب إلى حسابات وكلاء المتقاعدين، لكن المؤسسة أوقفت ذلك منذ مطلع 2016، وحصرت غايات الوكالات المقدمة بمتابعة طلبات التقاعد فقط، دون تحويل الراتب. كما دعت المؤسسة في آب 2021 المتقاعدين لتزويدها بأرقام حساباتهم البنكية (IBAN) لتحويل الرواتب إليها بعدما أوقفت إصدار الشيكات المختلفة للمتقاعدين، وذلك «لمعالجة الاختلالات وضمان وصول الرواتب التقاعدية والحصص إلى مستحقيها» كما يقول شامان المجالي، الناطق الإعلامي باسم المؤسسة.
المحامي المتخصص في شؤون العمل والعمال، حمادة أبو نجمة، يقول إنه مع توقف المؤسسة عن قبول الوكالات وإصدار الشيكات، صار البائع يحوّل راتبه للمشتري عبر البنوك حصرًا، بحسب ما تسمح بها سياساتها، وذلك من خلال وكالة غير قابلة للعزل أو تفويضٍ -يعدّه محامٍ- للمشتري باعتباره وكيلًا عن البائع. وبحسب أسامة، فإن المشتري يأخذ أحيانًا بطاقة الصراف الآلي ويسحب الراتب بنفسه، وبدون توقيع أية أوراق رسمية، وذلك في الحالات التي يعتبر بها البائع «ثقة».
من جهتهم، يتخوف المشترون من انقطاع أو تخفيض الراتب التقاعدي، وهو ما يمكن أن يحدث في حالتين؛ الأولى أن يعود صاحب التقاعد المبكر إلى سوق العمل قبل مضيّ 24 شهرًا على تقاعده، أو أن يعود إلى منشأة كان يعمل بها خلال السنوات الثلاثة الأخيرة قبل تقاعده المبكر، حيث لا يحق في هذه الحالات للمتقاعد مبكرًا أن يجمع بين راتب التقاعد وأجر العمل الجديد، بحسب قانون الضمان الاجتماعي. وفي حال التزام المتقاعد بهذه الشروط وعودته إلى العمل وفقًا لها، فإنه في كل الأحوال يتم صرف نسبة من التقاعد المستحق له.[2] بحسب سعيد فإن بعض المشترين في مثل هذه الحالة يطلبون تعهدًا من البائع بعدم العمل، أو يبرمون معه -مثلًا- عقد تشغيلٍ يتضمن بندًا يشترط منع البائع من العمل مع طرف ثالثٍ وإلا فإنه يترتب عليه دفع تعويضٍ للمشتري.
أما الحالة الثانية التي يتخوف منها المشترون فهي وفاة المتقاعد وصرف الراتب للمستحقين من ورثته. لذا يفضّل المشترون رواتب المتقاعدين الأصغر سنًا، لضمان استلام الراتب أطول فترة ممكنة. وبحسب المحامي محمد البرغوثي فإن بعض المتعاقدين يوقعون ورقة تنازلٍ عن الميراث أو جزءٍ منه لصالح المشتري، أو يبرمون عقدًا يكون البائع فيه مدينًا للمشتري بمبلغ محدد، ما يرتّب على الورثة سداد هذا الدين للمشتري قبل توزيع التركة.
لا يمانع بعض المتقاعدين -ممن قابلناهم- تقديم أية ضمانات تجعل المشتري حرًا في التصرف برواتبهم، سواء عبر شهادة الشهود، أو وكالةٍ غير قابلة للعزل، أو تعهدٍ بعدم العودة إلى العمل، أو تنازل الورثة عن التّركة، أو تأمينٍ على الأموال، أو إبرام اتفاقية استثمار أو تشغيل، أو تنازل عن بطاقة الصراف الآلي. بالمقابل، يرى المحامي أبو نجمة أن مثل هذه الضمانات قد لا تكون كافية أحيانًا لحماية حقّ الطرفين في حالات الخلاف بعد البيع، إذ لا تتعامل المحكمة مع هذه المسألة باعتبارها قضيةً أو مخالفةً جزائية تستوجب إيقاع العقوبة، إنما تتعامل معها كقضية مدنية على اعتبار أنها مطالبة مالية بين طرفين، ويمكن للبائع من خلالها أن يحاول إثبات تعرضه للغبن أو الخداع -مثلًا- من أجل استرداد حقه، لكن دون إيقاع عقوبة بحق المشتري.
بيع الراتب: مساسٌ بالحماية الاجتماعية أم سبيلٌ إليها؟
بعد 12 عامًا من العمل آذنةً في مدرسة خاصة، تقاعدت تغريد* عام 2014 لتحصل على راتب تقاعدي قدره 215 دينار. هي الآن في الـ44 من عمرها، مطلقة وأم لأربعة أطفال، وتعرض راتبها للبيع مقابل 15 ألف دينار من أجل سداد دينٍ كانت استدانته لإجراء عملية زراعة قرنيةٍ على حسابها الشخصي، إذ لا تملك تأمينًا صحيًا.
ينسحب الحال نفسه تقريبًا على فؤاد* (41 عامًا)، فبعد تقاعده من أحد الأجهزة الأمنية قبل أعوام، تعثّر ماليًا بسبب قروضٍ متراكمة وفوائد مركبةٍ، تتجاوز قيمتها 25 ألف دينارٍ، كان أنفقها على علاج ابنته المصابة بشلل دماغي. الفرق أن فؤاد يملك تأمينًا صحيًا، لكنه «لا يفي بالغرض» كما يقول، إذ لم يشمل التأمين العمليات التي احتاجتها ابنته، كما لم يتمكن من الحصول على إعفاءات لها. لذا يعرض هو الآخر راتبه التقاعدي للبيع.
يرى صالح السعدي، مدير إدارة التقاعد في المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي، أن بيع الراتب التقاعدي يخلّ بالحماية الاجتماعية التي تأسس الضمان من أجلها، معتبرًا أن هذه الممارسة تجعل المتقاعدين ضحية لاستغلال المشترين، أو السماسرة والوسطاء. كما أنها تنتهك حقّ الورثة في الراتب التقاعدي.
أما أسامة -الذي باع راتبه وهاجر- فيرى غير ذلك، إذ يعتبر أن الحماية الاجتماعية تتحقق عندما يتمكن الفرد من تأسيس مشروع يحقق دخلًا كافيًا له ولأسرته، وهو ما لا يحققه برأيه راتب الضمان، حتى مع الزيادات التي تحصل عليه أحيانًا لتعويض الزيادة في التضخم، «لو بدي أتبرّع براتبي لدائرة الأيتام أو مؤسسة خيرية، ساعتها حيكون قانوني»، يقول أسامة.
ماليًا، لا تتضرر مؤسسة الضمان من بيع الراتب، «الضمان هيك هيك صارف الراتب» يقول السعدي، حتى في بعض الحالات التي لا تُبلّغ فيها الأحوال المدنية عن وفاة المتقاعد ويستمر صرف الراتب للمشتري، فإن الضمان يستردّ هذه الأموال. أما قانونيًا، فالمؤسسة بحسب السعدي لا تستطيع تجريم البيع لأنه يتم عبر ممارسة قانونية هي الوكالة، سواء أريد منها تسهيل تقاضي الراتب التقاعدي أو التنازل الكامل عنه. مضيفًا أن المؤسسة لا تملك صلاحية إلغاء الوكالات أو الاستعلام من البنوك عن هوية مستلم الراتب. مشيرًا إلى أن المؤسسة تسعى للحد من هذه الممارسة عبر ما هو متاح لها من إجراءات، والتي كان آخرها في حزيران الماضي عندما أوقفت صرف 1200 راتب تقاعدي قدّم أصحابها -قبل 2016- وكالات لحصول آخرين عليها، طالبين منهم تزويد المؤسسة بحساباتهم البنكية (IBAN) لاستئناف دفع الرواتب.
يتفق المحامي البرغوثي مع صعوبة إثبات وقوع فعل البيع، لكنه يقترح لتحقيق ذلك تعديل قوانين الضمان الاجتماعي والعقوبات لتجريم البيع أو الشراء أو التوسّط، إضافة إلى إنشاء قسم معني بضبط حالات البيع ومتابعة سجلات الموكلين وعلاقتهم بأصحاب الرواتب وملاحقة السماسرة.
منذ عرضهم رواتبهم التقاعدية للبيع، تلقى سعيد وتغريد وفؤاد عروضًا مختلفة من مشترين وسماسرة، لكنهم لم يبيعوها حتى الآن لعدم جدية المشترين أو لتبخيسهم قيمة الراتب. وهم جميعًا لا يفكرون في التراجع عن البيع رغم المحاذير، بل يرون فيه وسيلة قد تحقق لهم حماية اجتماعية لم يوفرها لهم راتب التقاعد. يقول سعيد إنه يعيش في فقر مدقعٍ فيما راتبه مرهون للبنوك: «بدي أبيعه من الهنا؟ عايش من القلة أنا».
تم إنتاج هذا التقرير ضمن زمالة «عيون» للصحافة المحلية.
-
الهوامش
* أسماء مستعارة بناء على طلب أصحابها وحفاظًا على خصوصيتهم.
[1] بحسب المادة 111 من القانون المدني، الوكالة هي «عقد يقيم الموكل بمقتضاه شخصًا آخر مقام نفسه في تصرف جائز معلوم»، ويجوز للموكل فيها أن يعزل وكيله متى ما اتجهت إرادته لذلك. وبحسب المادة 151 من القانون نفسه، لا يجوز عزل الوكيل «إذا تعلق بالوكالة حق للغير أو كانت قد صدرت لصالح الوكيل فإنه لا يجوز للموكل أن ينهيها أو يقيدها دون موافقة من صدرت لصالحه»، وهذا ما يسمى بالوكالة غير القابلة للعزل.
[2] انظر/ي المادة 85 من قانون الضمان الاجتماعي لسنة 2014 وتعديلاته.