في غرفتها، تحضّر سديل* الطالبة في الصف الثامن، حقيبتها المدرسية وتضع فيها مستلزماتها الدراسية، وتجرّب الزي المدرسي الجديد وتبتسم، فغدًا أول يوم دراسي بعد العطلة الصيفية.
في البيت ذاته، سامي* شقيق سديل، يجلس أمام التلفاز مرتفع الصوت أكثر مما يجب، وفي الخلفية أمّه تجري اتصالًا هاتفيًا، وتظهر على ملامحها علامات الغضب، وفي يدها قائمة بأسماء مدارس قد شَطبت بالقلم فوق بعضها، والبعض الآخر كتبت إلى جواره أرقام من أربع خانات.
تخفّض الأم صوت التلفزيون منفعلة، فيما تُكمل حديثها عبر الهاتف قائلة: «1500 دينار زيادة على الرسوم؟ إللي هو أصلًا 2500 دينار؟ يعني أنا بدي أدفعلك رسوم لطفل صف خامس أربعة آلاف دينار؟ ليش؟».
ذلك الطفل الذي تتحدث عنه الأم هو سامي، وهو طفل من ذوي الإعاقة الذهنية «متلازمة داون» تنقل بين أكثر من أربع مدارس خاصة على مدار السنوات الماضية، إذ طلبت مدارس نقله منها بعد عام دراسي، فيما كانت تجربته في مدارس أخرى سيئة.
بعد أسبوعين على تلك المكالمة، لا تزال العائلة تترقب ردًا من مدرسة تقبل بدمجه بين طلابها. الأم تدور في دوّامة من الاتصالات، وزيارات المدارس، والمقابلات التي تنتهي دائمًا بكلمات تبدو لطيفة لكنها لا تضمن مقعدًا لسامي في المدرسة.
في كلّ مرة تزور فيها عائلة سامي مدرسة خاصة في عمّان تعود بذات الردود التي حفظها أفراد العائلة من قبيل «لا نقبل أشخاصًا ذوي إعاقة»، أو سيتم إضافة المبلغ الفلاني، والذي عادة ما يمثّل حوالي 50% إلى 70% من الرسم الأصلي للمدرسة، أو أحضِروا معه معلم ظل. (معلم الظل هو أخصائي تربية خاصة يرافق الطالب في المدرسة لمساعدته في أداء المهام المطلوبة منه والتحرك داخل المدرسة).
«شهر أيلول أكثر شهر بكرهه. كل يوم بهذا الشهر برجع يذكرني بكل الوجع اللي عشته مع إبني من يوم ولادته»، تقول والدة سامي، واصفة المعارك اليومية التي تخوضها العائلة من أجل ضمان أن يحصل طفلها على حقه بالتعلّم، فيما هي مضطرّة للانصياع لأطماع مدارس خاصة تتحكم بمستقبل طفلها، ما اضطرّ والد سامي للعمل في وظيفتين كي يؤمّن تكاليف المدرسة، فيما تفكر والدة سامي في الحصول على عمل هي الأخرى لتوفير جزء من أقساط المدرسة. هذا في الوقت الذي تضمن فيه المنظومة التشريعية للأطفال ذوي الإعاقة الحق في الحصول على التعليم، مثل باقي الأطفال، لكنّها في الوقت ذاته، لا تزودهم بأدوات تضمن حصولهم عليه.
رحلة لا تنتهي
قصتي مع عائلة سامي بدأت بعد نشري على فيسبوك موقفًا حدث معي أثناء رحلة البحث عن مدرسة لطفلي مالك.
أنهى مالك اليوم ثلاث سنوات من صفوف رياض الأطفال. وأخيرًا تبدأ مرحلة المدرسة الأساسية وتنتهي مرحلة المعجون وبقاياه المزعجة على سجاد غرفته، وبطاقات الحروف والألعاب المتناثرة في كل مكان. سننتقل الآن إلى الصف الأول الأساسي، حيث الكتب والواجبات المدرسية الجادة تنتظرنا.
في رحلة البحث عن مدرسة كنا محظوظين كما أخبرتنا إحدى العاملات في مدرسة خاصة أن أكبر مساهم في تلك المدرسة هو من سيجتمع معنا. استقبلنا الرجل بابتسامة ودية، لكن سرعان ما تحوّل الحديث بشكل غير متوقع بعد أن طرحتُ أسئلة عليه حول قَبول الأطفال من ذوي صعوبات التعلم أو الإعاقة في مدرسته.
أخبرته أن مالك ليست لديه أي إعاقة، وأن سؤالي هو لمعرفة «قِيم المدرسة» ولفهم كيف تنظر المدرسة «للحق بالتعليم» للأشخاص ذوي الإعاقة. وهنا فجأة تحوّل الاجتماع إلى مناظرة حول حق الأشخاص ذوي الإعاقة بالتعليم.
أنهى الرجل الحوار بجملة كان حازمًا وواضحًا بها: «لن أقبل أي طفل لديه أي نوع من أنواع الإعاقة مهما كانت العواقب»، وبعد أن شاركتُ هذا الموقف على صفحتي على فيسبوك، لم يصمت هاتفي، إذ بدأت عائلات أشخاص ذوي إعاقة بالتواصل لتشارك تحدياتها وما تمر به من تمييز على أساس الإعاقة في قطاع التعليم، وفي نهاية كل اتصال يأتي السؤال الصعب: إلى أين نذهب؟
من يحمي حق الأشخاص ذوي الإعاقة بالتعليم؟
أقرّ الأردن قانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في 2017 ووصف حينها بالأول في مناهضة التمييز في المنطقة العربية، حيث تضمن العديد من المواد التي تكافح التمييز على أساس الإعاقة أو بسببها في كافة المجالات وخاصة في التعليم.
نصت الفقرة الأولى من المادة 17 من القانون على أنه «يحظر استبعاد الشخص من أي مؤسسة تعليمية على أساس الإعاقة أو بسببها»، وتستدرك الفقرة الثانية من المادة نفسها بالقول: «إذا تعذر التحاق الشخص ذي الإعاقة بالمؤسسة التعليمية لعدم توافر الترتيبات التيسيرية المعقولة أو الأشكال الميسرة أو إمكانية الوصول، فعلى وزارة التربية والتعليم إيجاد البدائل المناسبة بما في ذلك ضمان التحاق الشخص بمؤسسة تعليمية أخرى».
تُذكّر أسس القبول التي تصدر سنويًا عن وزير التربية والتعليم أنه يحظر استبعاد الأشخاص ذوي الإعاقة من أي مؤسسة تعليمية، وتشمل هذه الأسس المدارس الخاصة والحكومية.
وفقًا لإحصائيات وزارة التربية والتعليم، فإن عدد الأشخاص ذوي الإعاقة المسجلين في المدارس الحكومية يصل إلى ثلاثين ألف طالب وطالبة، أكثر من 90% منهم من ذوي صعوبات التعلم، وأقل من 130 طالب وطالبة من ذوي الإعاقة الذهنية بينما تتوزع النسب المتبقية بين الأشخاص من ذوي الإعاقة البصرية، والسمعية، والحركية والتوحد.
تضمن المنظومة التشريعية للأطفال ذوي الإعاقة الحق في الحصول على التعليم، مثل باقي الأطفال، لكنّها في الوقت ذاته، لا تزودهم بأدوات تضمن حصولهم عليه.
أمّا في مدارس القطاع الخاص، فلم تصدر وزارة التربية والتعليم أي إحصاءات رسمية عن عدد الطلاب ذوي الإعاقة المسجلين، إلا أن هناك تجارب فردية لمدارس خاصة «دامجة» ومنها من تعتبر نموذجًا وقصة نجاح، إلا أن جلّها من مدارس الشرائح العليا ذات الرسوم التي تبدأ بأكثر من 1500 دينارٍ سنويًا ولا تنتهي عند 10 آلاف.
تُقدّم وزارة التربية والتعليم بالتنسيق مع المجلس الأعلى لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة دعمًا ماليًا لأهالي الطلبة ذوي الإعاقة الذين تعذر تسجيل أبنائهم في مدارس حكومية وانتقلوا للقطاع الخاص يتراوح ما بين (300 – 450) دينارًا سنويًا.
يذهب عدد من أهالي الطلاب ذوي الإعاقة إلى المدارس الخاصة الدامجة بحثًا عن خدمات مساندة أفضل تشمل العلاج الوظيفي وعلاج النطق، وتجنبًا لارتفاع أعداد الطلبة في الغرفة الصفية الواحدة في المدارس الحكومية.
تجربة التعليم الدامج في المدارس الحكومية لا تزال في خطواتها الأولى، حيث بدأت وزارة التربية والتعليم تهيئة مدارس حكومية «نموذجية» لإدماج الأشخاص ذوي الإعاقة إلا أن ذلك ليس كافيًا حتى اللحظة نظرًا لمحدودية المدارس التي تمت تهيئتها.
«إذا بدك تسجلي عنا بنسجله، لكن أنا بخاف عليه من تنمر الطلاب وشو ممكن يتعرض خلال تواجده بالمدرسة»، هذا ما قالته إدارة مدرسة حكومية لوالدة الطالب مروان، وهو طفل من ذوي الإعاقة الذهنية، بعد قبوله في المدرسة، مما عزز مخاوفها من دمج طفلها فيها.
الوضع المالي لعائلة مروان حصرَ خيارات العائلة بالمدارس الحكومية، ولذا تزور العائلة في كل يوم مدارس حكومية أخرى في محيط منطقة سكنها بحثًا عن موافقة بدمجه، ومواقف داعمة لا تعزز مخاوفهم «كيف بدي أترك إبني أكثر من ست ساعات بمكان الإدارة بتحكيلي إنه ما رح يكون فيه بأمان؟».
التحدي الأساسي الذي تواجهه وزارة التربية والتعليم في دمج الأشخاص ذوي الإعاقة ليس فقط في التهيئة البيئية للمدارس أو استحداث غرف مصادر التعلم، بل يتمثل بمواقف إدارات مدارس ومعلمين فيها ناتجة عن عدم الوعي بحق الأشخاص ذوي الإعاقة بالتعليم، وهذه مشكلة مستمرّة منذ عقود، إذ قبل 16 عامًا حاولت عائلتي تسجيل أختي إسلام، التي تملك إعاقة ذهنية، في مدرسة حكومية لكن مواقف واتجاهات الكوادر التعليمية كانت هي المُعيق الأول والأخير لحصولها على حقها بالتعليم.
ماذا بعد رفض المدارس للطلبة ذوي الإعاقة؟
في مدخل إحدى المدارس الخاصة، تطغى زينة العام الدراسي الجديد وتكاد تغطي الجدران بشكل كامل، وتحتها عبارات عن التعليم وأهميته مثل عبارة «بالعلم ترتقي الامم»، وأخرى عن المميزات التي تقدمها المدرسة. تقف والدة سامي ممسكة بيد طفلها بقبضة قوية وتُجري مفاوضات حادّة مع موظّفة في المدرسة.
– الأم: هدول أطفال حقهم يتعلموا.
– الموظفة: عندنا مشكلة بتقبل أهالي الأطفال الثانيين. (..) ما حد منهم بقبل إنه إبنه يقعد وجنبه طفل ذو إعاقة.
– الأم: هاي إعاقة مش «كورونا» يعني مش معدية.
– المعلمة: بعرف، لكن ما بقدر أعمل إشي.
– الأم: أنا بنتي مسجلة عندكم، ووجود سامي معها بخليني متطمنة أكثر عليه.
– الموظفة: سديل بعيونا؛ بس سامي مستحيل.
بينما تنهي الموظفة حديثها يتحرر سامي من يد والدته ويذهب إلى قاعة مليئة بالألعاب يقف ببابها وتتبعه والدته، بينما تجد الموظفة خلفها لتخبرها بأنه يمكنه أن يستخدم الغرفة لبعض الوقت قبل أن تأخذه وتغادر المدرسة.
تتساءل أم سامي عن تنظيم عمل المدارس الخاصة، ومن يضبط عملها ويحاسبها على أي تجاوز بحق الطلاب. حاليًا، الطريق المتاحة لتقديم شكوى على مدرسة خاصة رفَضت قبول طفل ذي إعاقة هي الطريقة التقليدية البيروقراطية، وهي عبارة عن منصة الشكاوى عبر موقع «حكومتي». ومن خلال متابعة قضايا رفعت على مدارس لهذا السبب، وبعضها وصل القضاء، يمكن القول إن القضايا لم تتحرّك إلّا عندما تحوّلت إلى قضايا «رأي عام»، أمّا إذا بقيت في صندوق الشكاوى في أو البريد الإلكتروني فإنها غالبًا ما ستُهمل. وهذا استنادًا لتجارب عدد من الأهالي.
تُذكّر أسس القبول التي تصدر سنويًا عن وزير التربية والتعليم أنه يحظر استبعاد الأشخاص ذوي الإعاقة من أي مؤسسة تعليمية، وتشمل هذه الأسس المدارس الخاصة والحكومية.
الإشكالية الأساسية في تنظيم عمل المدارس الخاصة وتنظيم قبول الأشخاص ذوي الإعاقة فيها هي عدم وجود تعليمات واضحة تنصّ على ضرورة إلزام المدارس بتصويب أوضاعها لضمان «إمكانية الوصول وتوفير الترتيبات التيسيرية» لنضمن التحاق الأشخاص ذوي الإعاقة فيها بسلاسة خلال مدة زمنية محددة.
هذه بالإضافة إلى معضلة المباني غير المهيأة، فغالبية المدارس الخاصة إما مبانٍ قديمة أو مبانٍ مستأجرة ولا تضمن إمكانية الوصول مما يحد من التحاق الأشخاص ذوي الإعاقة فيها، بينما لم تصدر حتى الآن أي أنظمة أو تعليمات تنص على ضرورة التزام هذه المدارس بكودة متطلبات البناء للأشخاص ذوي الإعاقة التي أقرت عام 2016.
نلجأ، كأهالٍ ومعنيين بقضية حق الأطفال ذوي الإعاقة بالتعلم، في كل عام إلى المجلس الأعلى لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة لمتابعة انتهاكات مدارس خاصة ترفض «الدمج» إلا أن المشكلة أن عددًا كبيرًا من الأهالي لا يحصلون على مساعدة في دمج أطفالهم، وهذا ما يستدعي ضرورة تبني وزارة التربية والتعليم بالتعاون مع المجلس الأعلى إطلاق «رقم ساخن» خلال فترة تسجيل المدارس الخاصة لتلقي شكاوى أهالي الأشخاص ذوي الإعاقة لضمان وصول شكاويهم ومتابعتها.
رسوم مضاعفة
أثناء حواري مع «المساهم الكبير» في المدرسة الخاصة أخبرني بأن دمج الأشخاص ذوي الإعاقة مكلف، والأهالي يرفضون تحمل أية تكاليف. في ذلك الوقت استدركت رده بسؤال؛ إذا كان طفلي لا يفضل المسبح، ولا يذهب إلى المكتبة، وسأكتب تعهدًا بذلك، هل ستخصم لي نسبة من الرسوم السنوية باعتباره غير منتفع من هذه الخدمات؟ جاء رده بأنه لن يقبل أي طالب من ذوي الإعاقة بمدرسته مهما كانت العواقب. لكن السؤال اليوم هل هناك عواقب؟
عدم قبول الأشخاص ذوي الإعاقة في المدارس الخاصة مخالفة قانونية واضحة، ويصنفها قانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة على أنها «عنف» بنص المادة 30 منه، وتصل عقوبتها بالحبس مدة لا تتجاوز سنة أو بغرامة لا تزيد على ألف دينار أو بكلتا العقوبتين.
لكن على الأرض وبحسب مصدر من وزارة التربية والتعليم، لم يتم توثيق أي مخالفة للمدارس الخاصة استنادًا لقانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة منذ إقراره وحتى اليوم، ولم يتم الإعلان عن جولات تفتيشية سرية أو علنية على المدارس الخاصة للتحقق من تطبيق القانون.
وهذا الفراغ التشريعي نتيجة عدم إقرار تعليمات دمج الأشخاص ذوي الإعاقة في المدارس الخاصة ومراقبتها أنتج صراعًا داخل عائلة سامي، فهي حتى وقت كتابة هذا المقال تعيش بين خيار الالتزام بأربعة آلاف دينار كرسوم لمدرسته الجديدة، وبين أن يبقى بمنزله ويُحرم من حقه بالتعليم.
*الأسماء الواردة في المقال مستعارة، حفاظًا على خصوصيّة أصحابها.