ذات يوم، وفي مطلع العقد الأخير من القرن التاسع عشر، اضطر الفتى -حينها- علي خلقي الشرايري (1882- 1960)، ولكي يتمكن من إكمال تعليمه المدرسي، إلى ركوب بغلة تحمل اسم «الزرزورية»، كانت الأسرة تستخدمها في أعمالها الزراعية، متجهًا بها إلى بلدة درعا، التي هي اليوم إحدى أبرز مدن جنوب سوريا، لبيْعها هناك بمبلغ خمسين مجيدي (العملة التركية المستخدمة حينها)، ثم السفر إلى دمشق والالتحاق بمدرستها «الرُشدية»، كخطوة ضرورية قبل إكمال تعليمه العالي في الأستانة في تركيا، ليتخرج عام 1902.[1] لقد قام الفتى الشرايري بذلك خلسة، لأن والده لم يوافق على طلبه إكمال دراسته في الشام بعد أن أنهى بضع سنوات في الكُتّاب والمدرسة الصغيرة الوحيدة الموجودة في إربد آنذاك.
الشرايري، بعد ذلك بعشرين سنة، سيكون أول ناظر معارف (وزير تربية وتعليم) «متخصص»[2] في الأردن، في حكومة حسن خالد أبو الهدى، التي تشكلت في أيلول 1923. ووفق مذكرات الشرايري المكتوبة بخط يده، فإنه طلب بنفسه هذا المنصب، لكي يتمكن من تقديم خطته وبرنامجه لتطوير الحالة التعليمية والثقافية في بلده الناشئ حديثًا.[3]
إن من يطالع سيرة كثيرين ممن نالوا فرص التعليم في تلك الآونة وما بعدها بقليل، سيتعرّف على كثير من الصُّدف التي تتشابه حينًا وتختلف أحيانًا مع الصدفة التي أتاحها أمام علي خلقي الشرايري التصرفُ بالبغلة «الزرزورية».
في هذا المقال، أتتبّع جزءًا من مسيرة حضور التعليم في المجتمع الأردني في السنوات التي سبقت استقلال المملكة عام 1946، معتمدًا على بعض ما هو متوفر من أرشيف وسير ذاتية ومذكرات.
بدايات القصة
تُرجّح المصادرُ المتاحة، أن حالة التعليم في شرق الأردن في نهاية فترة السيطرة العثمانية، كانت متدنية للغاية، حتى مقارنة بباقي مناطق بلاد الشام القريبة، وخصوصًا في فلسطين وسوريا الداخلية. فباستثناء ما وفّرته مدارس الطوائف المسيحية، فإن شرق الأردن، في نهاية العهد العثماني، ضمّ وفق معلومات رسمية، 21 مدرسة أولية، مدة الدراسة فيها أقل من ست سنوات، يعمل فيها 29 معلمًا، أي بمعدل أقل من 1.4 معلم لكل مدرسة، يلتحق فيها 1039 طالبًا من الذكور، ومدرستين للإناث في كل منهما معلمة واحدة وعدد الطالبات فيهما 59 طالبة.[4] ومن الضروري هنا ملاحظة أن عدد سكان شرق الأردن عام 1922 كان بحدود 225 ألف نسمة، منهم 103 آلاف نسمة من غير المستقرين كليًا أو نسبيًا.[5]
كانت الدولة الناشئة تُقِيم ولأول مرة مؤسساتها الجديدة في مختلف الميادين، وأخذت تُدخِل إلى الحياة العامة مفاهيمَ جديدة في الإدارة وفي تفاصيل الحياة اليومية للناس. واستعانت الإدارة الرسمية بخبرات من المحيط؛ وخاصة من سوريا وفلسطين، ومن الأخيرة كانت الاستعارة تتم بشكل رسمي، نظرًا لخضوع شرق الأردن وفلسطين وقتها لإدارة انتدابية بريطانية مشتركة، كانت تتمكن من تحريك موظفيها حيثما تشاء في البلدين.
في عام 1925، نشرت الجريدة الرسمية في شرق الأردن، والتي حملت اسم «الشرق العربي»، أول تعليمات رسمية تخص التعليم، أطلقت عليها اسم «نظام المدارس»، منقولة كما يبدو، قياسًا إلى مجمل الخطاب الإداري والتنظيمي العام كما عكسته الجريدة الرسمية ذاتها حينذاك. ويتضح من خلال تلك التعليمات أن التعامل كان يجري مع المدارس منفردة، ذلك أن أغلب نصوص تلك التعليمات كانت موجهة إلى مدير المدرسة أو المعلم الأول فيها، لأن كثيرًا من المدارس كانت تضم معلمًا واحدًا. وحسب تلك التعليمات كان على المدير أن يقوم بكامل العملية من تسجيل وتقييم ودراسة بل وكتابة تقرير عن مدى شعوره بالراحة تجاه حالة التعليم في منطقته.[6]
تُرجّح المصادرُ المتاحة، أن حالة التعليم في شرق الأردن في نهاية فترة السيطرة العثمانية، كانت متدنية للغاية، حتى مقارنة بباقي مناطق بلاد الشام القريبة، وخصوصًا في فلسطين وسوريا الداخلية.
والمفارقة أن نظام المدارس ذاك، اشتمل على نظام عقوبات رفيع المستوى، مقارنة بوقته، في تدرّجه ومراعاته للحالة النفسية للطالب الفرد ولمجموع الطلاب، وانتقل بعناية بين عقوبة فردية وعقوبة أمام الزملاء، وبين عقوبة تتضمن عملًا أو مجرد ضغط على المستوى الشخصي للطالب المخطئ. كان هذا يحصل بينما كانت قاعدة «اللحم لك والعظم لنا» هي السائدة فعليًا، وكانت العصا حاضرة بحيث أصبحت أقرب إلى الفولكلور التربوي، حتى إن صياح الروسان، كبير مفتشي المعارف، يكتب عن مدرسته الأولى قائلًا إن والده اصطحبه للكُتّاب وقال لصاحبه: «اسمع يا خطيب. هذا ولدي، أقرئه القرآن وعلمه الخط والهندي [يعني الحساب] واجعله يفك المكتوب. وإن عصا فالعصا. ولا تسل فلي العظم ولك اللحم».[7]
وكباقي مؤسسات الدولة، «نَزَلت» المؤسسة التعليمية الحديثة على المجتمع الأردني، أو المجتمعات المحلية، فالتقت معها حينًا وتناقضت معها حينًا آخر. ما يعني أن «الإحساس بالدولة» عند الأهالي نما بشكل تدريجي وبطيء، وأن ما صارت تسمى لاحقًا بالخدمات العامة، كالتعليم والصحة والأمن، احتاجت إلى زمن لكي تصبح واجبًا على الدولة أو حقًا للمواطنين عند الدولة.
مجموعة من الكتب المدرسية من مرحلة الثلاثينيات. المصدر: متحف الكتاب المدرسي. تصوير مؤمن ملكاوي
كانت الأعمال التي تتطلب الحصول على تعليم من نصيب أبناء الذوات والشيوخ، وكان هذا في الأساس جزءًا من سياسة العثمانيين، واستمرّ ضمنيًا بعد ذلك. ثم، ومع تواصل عملية تشكيل المؤسسات، أخذت خدمة التعليم تخضع للعرض والطلب، ففي بعض الحالات لم يكن بمقدور الأهالي الفلاحين الاستغناء عن أولادهم وإرسالهم إلى المدارس، وفي حالات مقابلة لم تكن مدارس المدن تستوعب كافة التلاميذ الراغبين بالالتحاق فيها، وكان ذلك بالإجمال يعتمد على الظروف التي تعيشها القرية أو التجمع السكاني.
وقد أسهم تتالي سنوات القحط، لا سيما في الفترة منذ نهايات العشرينات وحتى منتصف الثلاثينات، في البحث عن بدائل، كما وفّر العملُ في الوظيفة المدنية أو العسكرية أو في ميدان أعمال الخدمات والإنشاءات الجديدة، ضمن ما كان يسمى «النافعة» أي الأشغال العامة، فرصًا خارج قطاع الزراعة والرعي. وبالضرورة كان مَن يعرف القراءة والكتابة محظوظًا وينال مرتبة أعلى وأجورًا أعلى في تلك الأعمال، وبالتالي تشجع السكان على إرسال أبنائهم للتعليم في المدارس.
في بعض المواقع، كان على موظفي ومسؤولي المراكز الحكومية المحليين المعنيين بالتعليم، أن يقوموا بزيارات ميدانية للأهالي، وأن يفرضوا على الأسر أن تقدم واحدًا من الأبناء على الأقل للمدرسة، وهو ما كان صعب التحقيق أحيانًا. يروي أحد شهود سنوات الثلاثينيات، أن المعلم الحكومي كان يحظى بتسمية خاصة هي «خُجا»، وكان عادة ما يظهر أمامهم متأنقا في ملابسه، وكان الخجا عند نهاية كل عام يطلب من شيخ الكُتّاب (الخطيب) أن يزوده بأسماء المتفوقين عنده لكي يلحقهم بالمدرسة النظامية، ويتذكر شاهد العيان، أن جده قابل الخُجا محتجًا على ترشيح أحد أبنائه بقوله: إن «خُرْج حشيش أحسن منكم ومن مدارسكم».[8] وفي مواقع أخرى، كانت شروط استكمال الدراسة صعبة، فضلًا عن ظروف المدارس وصعوبة الوصول إليها، وكان التلميذ الذي يرسب سنتين متتاليتين يفصل من المدرسة نهائيًا، وحتى مطلع الخمسينيات، كانت توضع أمام الطالب شروطٌ صعبة للاستمرار في المدارس بعد الابتدائية، تتعلق بالدرجة الأولى بإمكانيات تلك المدارس على الاستيعاب.[9]
كانت الأعمال التي تتطلب الحصول على تعليم من نصيب أبناء الذوات والشيوخ، وكان هذا في الأساس جزءًا من سياسة العثمانيين، واستمرّ ضمنيًا بعد ذلك.
ويتيح تصفح أعداد مجلة «الرائد» التي أصدرها أمين أبو الشعر في العامين 1945 – 1946، واستكتبت أبرز الأسماء الثقافية حينها، بأن قضية التعليم كانت حاضرة بقوة في النقاش العام، فنقرأ على سبيل المثال في تشرين ثاني 1945 خبرًا بارزًا يقول: «مرحبًا بالشباب الجنود» وفيه أن «كتيبة جديدة من جيش الشباب المتعلم الذي تؤمّل فيه البلاد وتستبشر فيه الخير. وصلوا من دمشق عاصمة العرب الأولى وكلهم أمل واستبشار».[10]
ثم نقرأ لحمد الفرحان، الذي برز اسمه في مجال قيادة التنمية، مقالًا ينتصر فيه للمعلمين ويوضح معاناتهم، فكتب في كانون أول 1945. بعنوان «إنهم نبلاء ولكن أوضاعنا لا تسمح!» يشرح فيها وضع المعلمين البائس وما يعانونه من «جوع وذل ويأس» لكنه يصف فئة المعلمين آنذاك بالقول: «هؤلاء المعلمون النبلاء، صناع الشبيبة الموحدة المتجانسة ما طرازهم؟ ويجيب: من كل نوع ولون خليط عجيب. رشدي تركيا، ضابط قديم، كاتب متمرس في التحصيلخانة، سلطاني، دار الفنون العجيبة، مؤذن كفر أسد، مترك أردني، ثاني ثانوي، من جامعة بيروت، من مدارس اللاتين، مزيج متنافي من الثقافة والتفكير».[11]
وحتى إعلان الاستقلال وقيام المملكة عام 1946، لم يكن الوضع قد تبدل كثيرًا أو بشكل جوهري. إذ قبلها بعام كان مدير المعارف الشهير أديب وهبة قد كتب: لدينا الآن 73 مدرسة بين أولية وابتدائية وثانوية، يدرس فيها اليوم ما يقارب عشرة آلاف طالب وطالبة، يعلمهم 200 معلم، بينما إذا قدرنا نفوس الشعب الأردني بـ300 ألف فقط، نجد أن نسبة الطلاب تقل عن 4% بينما يجب ألا تقل عن 10%. وأن 40 مدرسة من الـ73 مؤلفة من أربعة صفوف يعلم في كل منها معلم واحد يقوم بإدارة المدرسة وتعليم التلاميذ الدروس النظرية والعملية، في وقت اتفق فيه علماء التربية على ألا يجوز إدارة المدرسة والتعليم بمعلم واحد مهما كانت المدرسة محدودة الصفوف قليلة الطلاب، ومهما كانت مؤهلات المعلم كافية. وفي العام 1947 ارتفع عدد المعلمين ليصير 223 معلمًا ومعلمة، منهم تسعون ينفق عليهم الأهالي والبلديات، كما تبرع الأهالي بـ500 مقعد للمدارس. وكانت موازنة المعارف في تلك السنة تبلغ 42 ألف جنيه بنسبة 3% من مجمل الموازنة العامة للدولة. مع ملاحظة أن تلك التبرعات كانت تنظم رسميًا بصورة إنفاق ذاتي على المرافق العامة ومن بينها المدارس؛ فقد كانت السلطات الرسمية تعلن للعموم عن تنظيم تمويل إلزامي يتخذ مسمى «إعانات» من قبل الأهالي الراغبين بتوفير خدمة عامة في مناطقهم.
الترقيم والإيقاع، كتاب جرى تدريسه في مدارسة المملكة قديمًا. المصدر: متحف الكتاب المدرسي. تصوير مؤمن ملكاوي
ويكمل وهبه منبهًا: «فإذا لم يعمل على إصلاح التعليم والتربية بالصورة التي تنشدها المصلحة العامة ويتطلبها وضع إمارة شرق الأردن، تبقى هذه البلاد محرومة من النهوض في عصر لا يعيش فيه عيشة هنية إلا المتعلم الأقدر على استغلال موارده استغلالًا علميًا منظمًا». ثم يؤكد: «إن التعليم هو النشاط الأساسي للدولة ولا يجوز أن يحول دون انتشاره وإتقان وسائله أي اعتبار ولا أن يقف دون تقدمه أزمة من أزمات المال أو أزمات السياسة».[12]
خاتمة
تعكس كلمات وهبة أعلاه جانبًا من النقلة في النقاش العام الذي ساد في تلك الفترة، فقد شكلت أجواء نهاية الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) تراجعًا في عزلة المجتمع المحلي النسبية، ومن جهة أخرى كان الفوج الأول من خريجي المدارس الأولى، والذين ابتعثوا أو أرسلوا للدراسة في الجامعات العربية الشهيرة آنذاك في بيروت والقاهرة ودمشق، قد عادوا لبلدهم محملين إلى جانب شهاداتهم بأفكار التحرر والتطوير والتحديث والتنمية.
بعد إعلان الاستقلال، لم يمكن البلد بحاجة إلا لزمن قصير حتى يدخل في خضم الحدث السياسي الكبير، أي الحرب في فلسطين وانتزاعها من شعبها، التي تلتها حركة اللجوء الكبيرة، ثم إعلان وحدة الضفتين، وهو ما كان يعني على صعيد التعليم، أن البلد انفتحت وتداخلت مع تجربة تعليمية أوسع وأكثر تنوعًا، شهدتها الضفة الغربية كجزء من فلسطين. بعد ذلك، كان التعليم في الأردن على موعد من تطورات أعمق وأسرع.
-
الهوامش
[1] مذكرات علي خلقي الشرايري (1882- 1960). بخط اليد، نسخة محفوظة في المكتبة الوطنية.
[2] كانت حكومة حسن خالد أبو الهدى هي الحكومة السادسة في إمارة شرق الأردن، وكانت مهمة المعارف قد أسندت في الحكومة الأولى إلى مظهر رسلان إلى جانب ثلاث مهمات أخرى هي العدلية والصحة وعضوية المستشارين، واستمر ذلك لشهرين ثم اختفى مسمى منصب «وزير» المعارف حتى الحكومة السادسة عام 1923، حيث أسندت المهمة حصريًا لعلي خلقي الشرايري لأقل من أربعة شهور، ثم توقف ذكر هذا المنصب مرة أخرى حتى عام 1929 في حكومة أبو الهدى الثانية، حيث أسند المنصب لأديب وهبة تحت اسم «مدير المعارف». ثم غاب المنصب عن تشكيل الحكومات حتى عام 1939 (المرجع: الوزارات الأردنية 1921- 1984. وزارة الإعلام. دائرة المطبوعات والنشر، 1984. عمان).
[3] جاء التحاق الشرايري بتلك الحكومة عند انطلاق حركة العدوان عام 1923 والتي طالبت ببرامج تضمن قيام مجلس نيابي وتحقيق إصلاحات مالية وإدارية، بينها تمكين أبناء البلد من تولي الوظائف.
[4] صياح الروسان: وزارة المعارف/ الضفة الشرقية. 1950، عمان.
[5] سليمان الموسى: تأسيس الإمارة الأردنية 1921- 1925. عمان، 1971.
[6] «الشرق العربي» عدد 106، 1 حزيران 1925.
[7] مجلة «الرائد العربي» عدد 8، 7 أيلول 1945.
[8] أحمد أبو خليل: يوميات فك الخط وتركيبه. مجلة «المستور» المتخصصة بالفقر. عمان 2007. والخرج هو كيس من القماش أو الخيش يتدلى على جانبي ظهر الدابة.
[9] أسبوعية «الحوادث»، 9 كانون ثاني 1953.
[10] مجلة «الرائد» عدد 14، 15 تشرين ثاني 1945.
[11] مجلة «الرائد» عدد 16، كانون أول 1945.
[12] مجلة «الرائد» عدد 6، آب 1945.