في كتابه «الأوبئة والتاريخ: المرض والقوة والإمبريالية»، يقدم المؤرخ الطبي شلدون واتس دراسةً موسعةً للأوبئة في العالم من منظور ما بعد استعماري. يركز واتس اهتمامه على فحص الطرائق التي ساهمت فيها الإمبراطورية، والطب الغربي تحديدًا، في نشر الأوبئة، وتدمير الثقافات المحلية ووسائلها التقليدية في التعامل مع المرض، وكذلك إخضاع المجتمعات المستعمرة لإجراءات مؤسَّسة على نظريات خاطئة في أحيان كثيرة، وذات نتائج كارثية.
في ذلك السياق، يشير واتس، مثلًا، إلى تلك المواجهة الطويلة حول جدوى الحجر الصحي في حصار الأوبئة، بين أنطوان كلوت، المعروف بِكلوت بيك، الطبيب الفرنسي الذي يعتبر مؤسس الطب الحديث في مصر، وبين وليّ نعمته، محمد علي. فإيمان مؤسس الأسرة العلوية بمعايير الحجر الصحي الصارمة (التي لطالما تم تطبيقها في العالم الإسلامي بشكل تقليدي) وهوسه بتطبيقها، عارضها كلوت بيك الذي لم يكن مقتنعًا بالأساس بأن أمراضًا كالكوليرا والطاعون تنتقل بالعدوى. تطبيق إجراءات الحجر أو «الكرنتينا» بحزم لم يكن فقط مخالفًا لقناعات أكبر موظف أوروبي في قطاع الصحة المصري حينها، ولقناعة راسخة لدى فريق كبير من الأكاديمية الطبية الفرنسية في ذلك الوقت، بل أنه جاء أيضًا على الرغم من ضغوط السفير البريطاني في إسطنبول، الذي رأت بلاده أن إجراءات الحجر غير ضرورية، وأن لها تأثيرًا ضارًا على التجارة الخارجية ومصالح الدول الأوروبية.
نجح الكتاب في إثبات أطروحته الرئيسة، أي تفنيد الرواية الإمبريالية التي تدعي إنقاذ الطب الغربي وسلطات الإمبريالية للشعوب المستعمرة من الأوبئة والأمراض المستوطنة. لكن واتس، الذي كتب «الأوبئة والتاريخ» أثناء إقامته في القاهرة، لم يكتفِ بهذا، بل كشف عن العلاقة الوثيقة بين المرض وتراتبية أخلاقية، ذات محددات ثقافية ودينية وإثنية وطبقية. فعبر زياراته لمستعمرة الجذام بمنطقة أبو زعبل القاهرية، يكشف واتس عن استمرار الممارسات الموروثة من الحقبة الإمبريالية، والمؤسَّسة على نصوص العهد القديم للكتاب المقدس والمتعلقة بالبرص، الذي، وبفضل ترجمة خاطئة إلى اليونانية، تم افتراض إنه مرض الجذام، وفي أحيانٍ أخرى البهاق، ومجموعة واسعة من الأمراض الجلدية. وبالرغم من تجاوز الطب لتلك الافتراضات الخاطئة، فإن ممارسات المؤسسة الصحية في نطاقات واسعة من عالم بعد الاستعمار ما زالت كما هي.
تبدو خارطة الأوبئة مرتبة بشكل دقيق على خطوط الطبقية والعنصرية وكافة صور التمييز الأخرى، طبقًا لتراتبيات ثقافية وأخلاقية راسخة.
في الكتاب المقدس، ارتبط الجذام بالخطيئة، كما ارتبط الأغيار بالنجاسة، وفي الحالتين كان العزل الإجباري هو الحل الإلهي. في معظم الثقافات، يرتبط المرض والوباء بالأجنبي والآخر والغريب والمختلف، لأسباب كثيرة بعضها لا يفتقد للمنطق. في أوروبا القرون الوسطى على سبيل المثال، كان اليهود هم مصدر الأوبئة في المخيلة العامة، في نهاية النصف الأول من القرن الرابع عشر، وأثناء جائحة «الموت الأسود»، أبيدت جاليات يهودية بالكامل في العواصم الأوروبية، بسبب لومها على انتشار الطاعون.
في مراحل لاحقة، ارتبط الموت الأسود بفساد أخلاقي آخر، هو الفقر، وهربت الطبقات الأرستقراطية ومعها البرجوازية الصاعدة إلى الريف، لتجنب الاحتكاك بالطبقات العاملة في المدن الصناعية المزدحمة. ومع توسع الهيمنة الغربية على المجتمعات الأخرى، رُسمت صورة قاتمة لأماكن بعينها ولسكانها، كمصدر للمرض. فالهند وأفريقيا السوداء على الأخص تُصوَّران حتى اليوم في المخيلة العامة كمناطق موبوءة بالأمراض المتوطنة والقذارة والعادات الصحية السيئة والحشرات الإيكزوتيكية، وهي كذلك ساحات لأبطال الروايات البيض الذين يعانون من الحمى حتى الموت.
تنسحب تلك التصورات على المهاجرين من مناطق بعينها، حيث ينظر لوصولهم، وكذلك لجالياتهم المستقرة، كمصدر دائم لخطر المرض والروائح القذرة والعادات الضارة والأوبئة «الإيكزوتيكية». في الثمانينيات، ومع اجتياح الإيدز للمدن الأمريكية الكبرى، عُدّ المرض مرتبطًا بفساد أخلاقي آخر، هو المثلية الجنسية. هكذا تبدو خارطة الأوبئة مرتبة بشكل دقيق على خطوط الطبقية والعنصرية وكافة صور التمييز الأخرى، طبقًا لتراتبيات ثقافية وأخلاقية راسخة.
بعد أسبوعين تقريبًا من الإعلان عن اكتشاف فيروس كورونا، في مقاطعة «ووهان» الصينية، سارع عدد من وسائل الإعلام الغربية لنشر تقارير عن أصل المرض وطريقة تطوره، ونسبته إلى أسواق الحيوانات البرية في المدن الصينية (الحيوانات «الإيكزوتيكية» كما أشارت بعض التقارير نصًا)، أو الاحتكاك المباشر بين الحيوانات والبشر في ظروف غير صحية. وأشارت بعض تلك التقارير إلى إجراءات احترازية اتخذتها السلطات الصينية بإغلاق المزارع وأسواق الحيوانات غير المرخصة، كدليل على صحة تلك الفرضية.
تفتقد تلك التقارير لأي دليل علمي، وللحد الأدنى من المعايير المهنية الصحفية. فغير أن إثبات تلك الفرضية بشكل علمي سيتطلب شهورًا، إن لم يكن بضع سنوات، فإن الاحتكاك بين البشر والحيوانات، وأسواق الحيوانات الإيكزوتيكية وغير الإيكزوتيكية ليست حكرًا على الصين. إثناء كتابة هذا المقال، أعلنت السلطات الألمانية اكتشاف حالة من أنفلونزا الطيور في مزرعة بمقاطعة ساكسونيا.
أما سؤال مثل «لماذا كثيرًا ما تكون الصين منشأ أمراض جديدة؟»، فيبدو مضللًا بالأساس، فحتى هذه اللحظة لا يوجد ما يثبت، ولو بشكل مبدئي، تطور المرض في الصين (وهذا سيصعب إثباته بأي حال)، بل كل ما لدينا هو حقيقة أن المرض تم اكتشافه في الصين. لكن صورةً ذهنيةً مسبقة، رسختها تصورات استشراقية عن الصينيين والآسيويين عمومًا في وسائل الإعلام والآداب والسينما الغربية، لمدن مزدحمة وقذرة، ومجتمعات سلطوية مغلقة تفتقد للفردية والحرية، ذات عادات غرائبية وأطعمة مقززة، كان لها أن تحفز ردةَ فعلٍ مشحونة حول العالم.
فبعد انتشار التقارير الأولية عن الكورونا، وربما أيضًا قصة وجبة الخفافيش التي تسببت في انتشاره، توالت أخبار حالات التنمر والعنف اللفظي والبدني الذي تعرض له أشخاص ذوو ملامح آسيوية حول العالم. في أوكرانيا هاجم مواطنون غاضبون بالحجارة مكانًا للحجر الصحي يستضيف أوكرانيين وصينيين عائدين من الصين. من القاهرة إلى لندن وصولًا إلى أستراليا، تعرض عشرات الأشخاص للاعتداء البدني، وحُطمت مطاعم صينية وآسيوية، (حتى حين كان العاملين في بعضها من غير الآسيويين). ومن الصعب عزو الدافع في الكثير من تلك الحالات، التي التحم فيها المهاجمون مع الضحايا جسديًا، إلى الخوف من المرض، بقدر ما يمكن عزوه إلى الكراهية أو الانتقام.
في وقت لاحق، ومع قدرة السلطات الصينية على السيطرة على انتشار المرض محليًا، وانتقال مركز الوباء إلى أوروبا، وتحديدًا إلى إيطاليا، لم تسجّل أي حالات لاعتداءات كان هدفها مواطنون إيطاليون (وإن كان هذا لا يعني عدم تعرض الإيطاليين لحملات من التنمر على وسائل التواصل الاجتماعي وفي أماكن العمل في دول أوروبية، لكن لم يصل الأمر للعنف الجسدي أو الاعتداء على الممتلكات). يبدو ذلك مفهومًا من منظور تراتبية إثنية وثقافية، يحتل فيها الإيطاليون مرتبة أعلى من الآسيويين. وحين نشرت وسائل الإعلام الغربية تقارير عن سبب انتشار المرض في إيطاليا بتلك المعدلات، اكتفت بالإشارة إلى نسب كبار السن العالية في البلاد، وبالتأكيد لم يبدو أن هناك سببًا للإشارة، مثلًا، إلى وجبة لحم الخيول المفروم النيء، الأكثر شعبية في أماكن انتشار الوباء في شمال إيطاليا.
في تلك الأثناء، وعلى المستوى الرسمي، اتخذت الحكومات خطوات أولية تتعلق بتقييد حركة السفر، افتقد معظمها في البداية الكثير من المنطق، معتمدةً في الأغلب على تراتبية إثنية مسبقة وتنميطات عنصرية وطبقية لا علاقة لها بحقائق انتشار المرض على أرض الواقع. على سبيل المثال، أصدرت حكومات عدد من الدول الخليجية، قرارات بحظر دخول مواطني عددًا من الدول. المدهش أن بعض تلك القوائم لم تشمل الصين أو إيطاليا، بل استهدفت العمالة المهاجرة الأفقر، الهندية والسريلانكية والمصرية والبنغالية. ولسبب ما، كانت بنغلاديش هي العامل المشترك بين معظم تلك القوائم، مع إنه وحتى يوم الاثنين الماضي سجلت بنغلاديش ثماني حالات فقط للإصابة بالكورونا، لتكون واحدة من أقل المعدلات حول العالم، وحين صدرت تلك القرارات قبل أسبوعين، لم يكن هناك ولو حالة واحدة مسجلة هناك. إلا الجالية البنغالية هي واحدة من أفقر الجاليات المهاجرة في الوطن العربي، وأكثرها تعرضها للتمييز لعملها في وظائف متدنية. أمس أخبرني صديق ليبي مقيم في بنغازي أنه وجد العاملين البنغاليين في مطعم الوجبات السريعة الذي يتعامل معه مجبرين على ارتداء واقٍ للوجه، في الوقت الذي لم يكن العمال الليبيون أو المصريون هناك في حاجة لارتدائه.
لا تنبني تراتبية المرض على حقائق علمية، بل قد تنافي أبسط أشكال المنطق، لكن هذا لا يجعلها وهمًا ولا أقل قدرة على تحديد من يستحق التعاطف ومن يبقى في دائرة الاتهام.