نشر هذا المقال للمرة الأولى بالإنجليزية في مجلة ذا أتلانتيك، بتاريخ 29 كانون الثاني، 2022.
لكي نفهم كيف يتطور فيروس كورونا باستمرار إلى متحورات جديدة مفاجئة ومصحوبة بطفرات جديدة، من المفيد إلقاء نظرة على بعض المعلومات السياقية؛ إذ يبلغ طول جينوم الفيروس 30 ألف قاعدة جينية، ما يعني أن عدد الطفرات المحتمل حدوثها في الفيروس هائل جدًا. وقد ذكرت جيسي بلوم، عالمة الفيروسات بمركز فريد هاتشينسون لأبحاث السرطان، أن هذا العدد يفوق بكثير عدد الذرات الموجودة في الكون المعروف لدينا.
يحاول العلماء وضع تصور لهذه الاحتمالات فيما يعرف «بمخططات الصلاحية»، وهي مساحة فائقة الأبعاد تتكون من قمم ووديان. بحيث كلما ارتفعت القمم التي يمكن لفيروس كورونا اكتشافها، يصبح «أصلح»، أو أقدر على إصابة الناس. وكلما تكاثر الفيروس، زادت الطفرات التي يحاول أن يشكلها، وزادت المساحة التي يكتشفها، فتزيد معها القمم التي قد يبلغها. ومن أجل التنبؤ بما يمكن لفيروس كورونا فعله في المرحلة المقبلة، سنحتاج ببساطة لأن نعرف طوبوغرافيا (تضاريس) مخططات الصلاحية بأكملها – وهو أمر لم نحققه، لربما خمنت ذلك بنفسك، بل ولسنا حتى قريبين من تحقيقه. تقول سارة أوتو، عالمة الأحياء التطورية بجامعة كولومبيا البريطانية، «نحن لا نعرف في حقيقة الأمر عن القمم الموجودة، كما لم نعرف عن وجود قمة أوميكرون. لا يمكننا حقًا توقع ما قد يحدث بعد ذلك».
الشيء الذي يمكننا قوله هو أن الأغلبية الساحقة من الطفرات ستجعل من الفيروس أقل صلاحية (الوديان) أو غير مؤثر على الإطلاق (المرتفعات)، لكن نسبة صغيرة جدًا تصبح قممًا. كما أننا لا نعلم مدى ارتفاع تلك القمم أو معدل ظهورها على وجه التحديد. عندما اجتاح متحور دلتا العالم، بدا وكأنه سيكتسح جميع السلالات الأخرى. تقول كاتيا كويل، عالمة الأحياء بجامعة إيموري، «لقد ظننت أن المتحور الجديد سينشأ عن المتحور دلتا بلا شك». إلا أن أوميكرون برز على قمة بعيدة، في اتجاه لم يفكر أحد بالنظر نحوه.
ربما يفاجئنا المتحور القادم مرة أخرى. وقد يصبح بالصدفة أكثر فتكًا، كما قد يصبح أكثر قابلية للانتشار والعدوى. وسوف يسعى حتمًا وراء طرق جديدة للهروب من الأجسام المضادة التي كوّناها. أي أن الفيروس سيستمر في إيجاد قمم الصلاحية تلك.
ولكي تصبح مهمة التنبؤ بتطور الفيروس أصعب وأصعب، فإن مخططات الصلاحية يُعاد تشكيلها بصفة مستمرة بسبب تغير تركيبة مناعتنا من جراء التلقيح والإصابة بالمتحورات الجديدة. ويغير ذلك في الواقع معنى أن يكون الفيروس صالحًا. إذ تغرق بعض الجبال، وترتفع بعض التلال. ورغم ذلك، فمن المستبعد جدًا أن يتحور الفيروس بالقدر الذي يجعل مناعتنا تعود إلى نقطة الصفر أمام خطر الإصابة بعدوى حادة. وبينما يكتسب عدد متزايد من الأفراد حول العالم مناعة أولية من اللقاحات أو الإصابة، يخفف ذلك من حدة التبعات الوخيمة. أما عن احتمالية أن تتسبب المتحورات المستقبلية في أعداد كبيرة من الإصابات، فذلك يعتمد على مدى سرعة تطور الفيروس ومدى صمود مناعتنا بعد تكرار التعرض للإصابة. بخلاف مسببات الأمراض الأخرى التي كانت تعبر مخططات الصلاحية عند البشر منذ زمن طويل، فإن فيروس كورونا لا يزال في بداية رحلته.
لا تزال متحورات فيروس كورونا تفاجئنا لأن طفراتها التطورية لا تبدو مثل أي شيء رأيناه من قبل. حيث حقق أوميكرون أكثر من 50 طفرة، من بينها أكثر من 30 طفرة في بروتينه الشوكي وحده. ومن بين فيروسات كورونا الموسمية الأربعة والتي تتسبب في نزلات البرد الشائعة، راكم اثنان منها 0.3 أو 0.5 طفرة تكيفية في العام داخل بروتيناتها الشوكية. بينما لا يبدو أن الثالث قد تغير على الإطلاق. أما الرابع فأمره غامض، وليس لدينا بيانات كافية حوله على المدى الطويل. يمكن للإنفلونزا إحداث قفزات كبيرة، من خلال عملية تدعى إعادة تشكيل الفيروس، والتي قد تنتج عنها الأوبئة (مثلما حدث مع إنفلونزا الخنازير H1N1 في عام 2009)، لكن الإنفلونزا الموسمية تشهد ما معدله تغيرًا واحدًا أو تغيرَيْن فقط في العام في بروتينها الأساسي، كما أخبرتني كويل. لا تزال متحورات فيروس كورونا تفاجئنا لأن طفراتها التطورية لا تبدو مثل أي شيء رأيناه من قبل. حيث حقق أوميكرون أكثر من 50 طفرة، من بينها أكثر من 30 طفرة في بروتينه الشوكي وحده.
هناك ثلاثة تفسيرات محتملة لسبب الاختلاف الشديد لتطور فيروس سارس-كوف-2 عن الفيروسات الأخرى، وهي تفسيرات لا تتعارض ولا يستبعد بعضها بعضًا. بداية يجب القول إننا لم نبحث بدقة فيروسات الجهاز التنفسي الأخرى. فأكثر من 7.5 مليون جينوم (شريط وراثي) لفيروس سارس-كوف-2 جرى توضيح تسلسلها؛ في مقابل بضع مئات أو بضع عشرات من الجينومات لكل واحد من فيروسات كورونا الموسمية الأربعة. عندما يحاول العلماء إعادة بناء العلاقة بين تلك الفيروسات المتسلسلة في الأشجار التطورية، «تبدو الأشجار متفرقة للغاية»، كما تقول سارة كوبي، عالمة الأحياء في جامعة شيكاغو. كما تتسبب مجموعة كبيرة أخرى من الفيروسات في نزلات البرد: مثل الفيروسات الأنفية، والفيروسات الغدانية، والفيروسات نظيرة الإنفلونزا البشرية، والفيروس التنفسي المخلوي البشري، وفيروس الميتانيمو البشري، وغيرها. وهذه المجموعة هي الأخرى يتم أخذ عينات قليلة منها. إذ يصيب أكثر من 100 نوع من الفيروسات الأنفية وحدها البشر، لكننا لا نملك معرفة كبيرة حول كيفية نشأة هذه التشكيلة المتنوعة أو كيفية تطورها على مر الزمن.
ثانيًا، يمكن بالفعل أن يكون فيروس كورونا حالة فردية ويتفوق بطبيعته على الفيروسات الأخرى في اكتشافه لمخطط الصلاحية الخاص به. «من المفيد أن ينتمي الفيروس لفيروسات الحمض النووي الريبوزي (RNA)»، والتي تكتسب الطفرات على نحو أسرع من فيروسات الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (DNA)، «وعندئذ يكون من المفيد أن يتحرك بسرعة كبيرة»، وفقًا لما ذكرته لي كوبي. فعلى سبيل المثال، تحتاج الحصبة في المتوسط إلى فترة 11 أو 12 يومًا بين أن تصيب شخصًا ما وأن ينقل هذا الشخص العدوى إلى شخص آخر؛ بينما يستغرق فيروس كورونا من يوم ونصف إلى ثلاثة أيام فقط لنقل العدوى. وكلما زاد عدد الناس الذين يمكن للفيروس إصابتهم، زادت مساحة مخطط الصلاحية التي يمكنه اكتشافها.
التفسير المحتمل الثالث يرتبط بكون فيروس كورونا مسبب مرض جديد ومبتكر. فبغض النظر عن امتلاكه لخاصية قابلية الانتقال، إلا أن المناعة البشرية لم تقف عائقًا أمامه أيضًا حينما أصاب الجنس البشري لأول مرة. ويعني ذلك أن فيروس سارس-كوف-2 تمكن ببساطة من إصابة نسبة مذهلة من البشر حول العالم خلال عامين، وهي نسبة أكبر بكثير من التي تصيبها الفيروسات الأقدم عادة. وفي كل مرة يصيب شخصًا ما، ينسخ الفيروس نفسه مليارات المرات. وتحوي بعض النسخ الناتجة عن كل إصابة طفرات عشوائية في داخلها؛ بل إن بعضًا من هذه الطفرات يشكل نفعًا للفيروس. لكن هذه الطفرات قد تواجه صعوبة في أن تصبح مهيمنة خلال المدى الزمني القصير لعدوى كوفيد-19 النموذجية. ويقول آدم لورينج، عالم الفيروسات بجامعة ميشيغان، إن «الطفرة تحتاج عادة لبعض الوقت لكي تتحول من نسبة صفر إلى مجرد 5 أو 10%» من الفيروسات داخل الشخص المصاب. بعد ذلك ينقل هذا الشخص عددًا ضئيلًا من جسيمات الفيروس للشخص التالي، وبذلك يضيع معظم هذا التنوع. من بين ملايين الإصابات، تمر بعض من تلك الطفرات، وتتراكم تدريجيًا لتشكل سلالة فيروسية واحدة. ويبدو أن دلتا تطورت بهذه الطريقة. كان يمكن للانتشار الواسع لفيروس كورونا أن ينتج عنه عدد غير طبيعي من العدوى المزمنة دفعة واحدة، والتي يعتقد الخبراء أنها دافع آخر كبير للتطور الفيروسي. أما في العدوى المزمنة، يصبح لدى تلك الطفرات الفيروسية المفيدة الوقت، على مدار الأسابيع والشهور، لتصبح مهيمنة ومن ثم تنتشر. وربما بهذه الطريقة نشأ المتحور ألفا.
لا يزال منشأ المتحور أوميكرون مجهولًا. ربما يكون تطور بطريقة تدريجية مثلما حدث مع دلتا، لكن بعض الخبراء يعتقدون أن أسلافه كان سيتم العثور عليها عن طريق التسلسل إن كان الأمر على ذلك النحو. كما يوجد احتمالان آخران لهذا التحور: إما أن يكون عدوى مزمنة لدى شخص مصاب بنقص المناعة، أو عائلًا حيوانيًا تسرب عائدًا إلى البشر. وفي كلتا الحالتين، تكون الضغوط الانتقائية لدى مريض نقص المناعة أو لدى أحد الحيوانات مختلفة قليلًا عن تلك الموجودة لدى فيروس ينتقل بين البشر. ربما يكون ذلك هو ما سمح للفيروس بعبور فجوة مخطط الصلاحية واكتشاف قمة جديدة في حالة أوميكرون. لذلك، يمكن أن يساعدنا فهم القوى التطورية التي أنتجت أوميكرون على فهم نطاق ما هو ممكن، حتى وإن لم يعرّفنا على وجه التحديد كيف سيبدو المتحور القادم.
«أعتقد أننا كنا محظوظين مع أوميكرون»، هكذا يقول سيرجي بوند، عالم الأحياء التطورية في جامعة تيمبل. إذ إن مجموعة الطفرات التي تجعل المتحور بارعًا في إصابة حتى الأفراد الملقحين، تصادف أنها نفسها جعلته بطبيعته أقل فتكًا. لكن لا يوجد سبب يجعلنا نعتقد أن الأمر سيكون دائمًا كذلك. ويرجع ذلك إلى أن شدة فيروس كورونا تعد نتاج عاملَيْن آخرين تحت ضغط تطوري مباشر وأكبر وهما: مدى قابلية المتحور للانتقال، ومدى براعته في التهرب من المناعة السابقة. أمّا عن شدة فتكه فهو أمر لا يهم كثيرًا، لأن فيروس كورونا عادة ما ينتقل مبكرًا من خلال العدوى، قبل أن يقتل عائله بفترة طويلة. تنتج هذه الموجة من أوميكرون الكثير من المناعة للمتحور بينما ينتشر بين البشر، وهو ما جعل أوميكرون في الواقع أقل صلاحية عما كان عليه في بداية ظهوره.
يوجد لدى فيروس كورونا، على امتداد مخطط الصلاحية الواسع، العديد والعديد من المسارات المختلفة التي تصل به إلى درجة أعلى من القدرة على الانتقال أو الهروب من المناعة. لنأخذ على سبيل المثال خاصية قابلية الانتقال، كما تخبرنا سارة أوتو. يمكن للفيروس أن يتكاثر بسرعة كبيرة جدًا، لدرجة تجعل المرضى ينثرون خارج أجسامهم كميات كبيرة منه. حدث هذا الشيء مع متحور دلتا على ما يبدو، وقد كان أشد فتكًا. أو يمكن للفيروس أن يتحول للتكاثر بشكل أساسي في الأنف والحلق، حيث قد يكون من الأسهل عليه الانتقال، بدل البقاء عميقًا في الرئتين. وهو الأمر الذي يبدو أن المتحور أوميكرون يقوم به، وهو أقل فتكًا. يمكن للمتحور التالي أن يسلك أي المسارين، أو ربما يصنع مسارًا جديدًا تمامًا. فهناك نسخة من أوميكرون تسمى BA.2 تتفوق حاليًا على متحور أوميكرون التقليدي في المملكة المتحدة والدنمارك، لكن يبقى من غير الواضح بعد ما الميزة التي قد تتمتع بها.
لا يملك أوميكرون مجرد طفرات كثيرة فحسب؛ بل لديه بعض الطفرات الاستثنائية حقًا. وتتكتل هذه الطفرات في مواقع لم يرَ العلماء فيها تغيرات كثيرة من قبل. يرجّح أن ذلك يعود إلى أن الطفرات الموجودة هناك تجعل الفيروس بشكل طبيعي أقل صلاحية، ومن ثم يتلاشى. لكن وفقًا لمقال غير منشور (لم يخضع لمراجعة الأقران) أنتجه فريق باحثي سيرجي بوند، عالم الأحياء التطورية، فإن هذه التغيرات سيئة التكيف ربما تصبح قابلة للتكيف عندما تتواجد كلها مع بعض. فكما أخبرني بوند، يمكنك تخيل فيروس تحت ضغط الهروب من الأجسام المضادة الموجودة. عندها يكتسب الفيروس سلسلة من الطفرات التي تجعل مهمة تعرف الأجسام المضادة عليه أصعب، لكن ربما تضعف قدرته على اختراق الخلايا. تحت الظروف المختلفة قليلًا للبيئة الانتقائية داخل مريض نقص المناعة أو عائل حيواني، قد يتمكن الفيروس من أن يتباطئ، حتى يجد تشكيلة الطفرات الصحيحة التي تعوضه عن التغيرات السابقة. في حالة أوميكرون، أعادت هذه العملية تشكيل أجزاء رئيسية من البروتين الشوكي بحيث أصبح من الأصعب على الأجسام المضادة الموجودة التعرف على كلٍ منها، ووجدت بذلك استراتيجية مختلفة لاختراق الخلايا. عادة ما يكون أمام فيروس كورونا طريقتان لإصابة الخلايا، إما الالتحام المباشر معها أو الدخول من خلال فقاعة. وقد أصبح أوميكرون متخصصًا في الطريقة الثانية، والتي تصادف أنها لا تتماشى بشكل جيد مع خلايا الرئة لكنها تعمل جيدًا مع خلايا الأنف والحلق، وهو ما قد يفسر قلة الخطورة المتأصلة في المتحور. ومن أجل تفادي نظام المناعة، انتهى الحال بالفيروس مغيرًا إحدى أهم وظائفه الأساسية.
هل تتفاعل مجموعات الطفرات الأخرى بطرق غير معروفة لكي تغير الوظائف الفيروسية الرئيسية؟ من شبه المؤكد أن ذلك يحدث. لكننا لا نعلم بعد ما هي طبيعتها. وسوف يتعين علينا الانتظار ومراقبة فيروس سارس-كوف-2 في السنوات والعقود القادمة. تقول جيسي بلوم، عالمة الفيروسات، إننا «إذا نظرنا إلى الإنفلونزا البشرية أو فيروس كورونا الموسمي، سنجد أنها تتطور داخل البشر منذ وقتٍ طويل ولم تكف عن التطور».
هناك حدود لقابلية الانتقال التي يمكن أن يمتلكها الفيروس. فالحصبة مثلًا، وهي أكثر الفيروسات المعروفة قدرةً على الانتقال، لديها عدد تكاثر أساسي (R0) بين 12 و18، مقارنة بالمتحور دلتا الذي لديه عدد تكاثر أساسي (R0) يبلغ 5. أما عدد التكاثر الأساسي (R0) لأوميكرون فلا يزال غير واضح، إذ يبدو أن جزءًا كبيرًا من أفضليته على المتحور دلتا مرتبط بقدرته على التهرب من الأجسام المضادة الموجودة، وليس بقابلية الانتقال. وبينما أصبح لدى فيروس كورونا عدد متناقص من الأفراد غير المحصنين ليصيبهم، سيشكل التهرب المناعي صعوبة كبيرة بصورة متزايدة أمام تطوره. وفي هذه الحالة، لن يَعدم الفيروس حيلة للخروج باستراتيجيات جديدة، لأن الشيء المثالي هو التحول الدائم. فعلى سبيل المثال، تنتج هذه الموجة من أوميكرون الكثير من المناعة للمتحور بينما ينتشر بين البشر، وهو ما جعل أوميكرون في الواقع أقل صلاحية عما كان عليه في بداية ظهوره. يقول أريز كاتزوراكيس، عالم الفيروسات بجامعة أكسفورد، إن «المتحور القادم لن يكون على الأرجح أوميكرون، أو شيء متميز عن أوميكرون بأكبر قدر ممكن». لكن كيف يبدو هذا الشيء على وجه التحديد؟ ربما تعلمنا اليوم بما فيه الكفاية أنه لا ينبغي علينا محاولة التنبؤ بذلك.