قصة مصورة: العودة إلى الركام في خان يونس

محمد المجايدة يزيح الركام أمام نافذة بيته في خان يونس. تصوير إبراهيم الزعنون.

قصة مصورة: العودة إلى الركام في خان يونس

الأحد 27 تشرين الأول 2024

بعد جولات نزوح كثيرة ومريرة، يعود نازحون من خان يونس جنوب قطاع غزة إلى منازلهم المدمرة، ليزيحوا الركام ويجعلوها بيوتًا من جديد، ولو «على كوم قش». 

بحثًا عن سقف يأويهم، سعى عدد منهم لاستصلاح ما يمكن استصلاحه من البيوت والمحال التي قصفت أو تضررت جراء قصف قريب، خاصة خلال الاجتياح البري للمدينة بين كانون الأول من العام الماضي ونيسان الفائت. فبعد أن شملت «أوامر الإخلاء» الإسرائيلية خان يونس ومحيطها، شُرد آلالاف من سكانها إلى المواصي ورفح ودير البلح وغيرها. لكنهم فضلوا بعد الانسحاب الإسرائيلي من المدينة العودة إلى ما تبقى من منازلهم، لأنها مهما بلغت حالتها من السوء تظل «أحسن من الخيمة».

بأيديهم وأيدي بعض أقربائهم، عملوا على إفراغ المنازل من كتل الإسمنت والأسلاك والزجاج وغير ذلك مما يحتاج إلى معدات وآليات لم تتوفر لديهم. انتقى معظمهم الجزء الأقل تضررًا من المبنى نظرًا لعدم قدرتهم على تنظيفه بالكامل، فيما اقتصرت جهودهم على التنظيف وإغلاق النوافذ ببعض الشباك والشوادر، في ظل انعدام الإسمنت وشح الأخشاب وارتفاع أسعار كل شيء، ما حال دون قيامهم بالترميم الفعلي، ليعودوا ويسكنوا بيوتًا قد تشكل خطرًا عليهم.

آخرون سعوا لإعادة فتح محالهم التجارية بعد قصفها أو تضررها نتيجة قصف مجاور، بحثًا عن مصدر دخل يؤمن الحد الأدنى من المعيشة، رغم أن زبائنهم السابقين باتوا كذلك في الغالب بلا دخل أو قدرة على الشراء. 

«بدنا نحاول نعيش» هي الجملة التي يشتركون فيها جميعًا، دون أن يضفوا على محاولة الحياة هذه أي صبغة وردية. فليس من خيار أمامهم سوى المواصلة والبحث عن أقل الخيارات سوءًا، في انتظار نهاية للإبادة ما زالت غير بادية في الأفق. 

بحثًا عن أمل، من أجل الصغار

نزح سلمان بربخ (48 سنة) وأسرته عن بيته في خان يونس خمس مرات، كان أولها مع اجتياح المدينة. «طلعنا غصب عنا. على أساس إنه نقعد أسبوع ونرجع تاني على بيوتنا. ما خدناش معنا حاجة، حتى هويتي ظلت في البيت. لكن قدر الله وما شاء فعل». 

اتجه سلمان نحو بيت أهله في منطقة قيزان رشوان جنوب غرب خان يونس، لكنه لم يلبث أن ينزح مجددًا هو وأهله إلى رفح بعدها بعشرين يومًا فقط. وهناك، مكث أربعة شهور قبل أن يلحقه الاجتياح إلى رفح، فيعود إلى خان يونس. لكن الاجتياحات لم تتوقف مذ عاد، فنزح بعدها مرتين أخريين إلى المعسكر الغربي (مخيم خان يونس)، ليعود و«يستقر» أخيرًا في بيته.

«رجعنا لقينا بيوتنا مدمرة، والبلد منكوبة، فش فيها لا خدمات ولا حاجة. لكن الحمد لله استصلحنا ما تبقى من بيوتنا، وهينا قاعدين»، يقول سلمان، بعدما تعاون مع زوجته وأطفاله على تنظيف جزء من البيت، رغم أنه بات مكشوفًا يفتقد كثيرًا من جدرانه. 

«مهما كانت الظروف، الواحد برتاحش غير في منطقته وبيته والحي اللي عاش فيه، بين أهله وجيرانه، رغم إنه فقدنا كثير ناس استشهدوا في الحرب». لم يعد شيء كما كان، فالحياة التي سبق أن عرفها في بيته «هي مش جنة، لكن بالنسبة للحرب جنة. كنا عايشين». لكن سلمان يقول رغم ذلك أنه مدفوع بمسؤوليته تجاه أطفاله. «عنا صغار لازم نوفرلهم، نحسسهم إنه لسا في أمل بالحياة. قد ما نقدر بدنا نحاول نعيش».

سلمان بربخ مع زوجته وطفلته في الجزء المستصلح من بيته.

سلمان يزيح الركام في الغرفة التي كانت حمامًا في منزله.

الدمار الواسع في الشارع الذي يسكنه سلمان في خان يونس.

ابن سلمان يطل من واجهة المنزل المدمرة.

عقب استصلاحه، بات الحمام قابلًا للاستخدام بما تسير.

بضعة دمى كانت من بين الأغراض القليلة التي سلمت من الدمار.

سلمان بربخ في منزله.

لم شمل في بيت مدمر

صباح اليوم المائة من الحرب، قُصف منزل محمد المجايدة (39 سنة) في خان يونس، بعدما كان قد نزح عنه مع عائلته عقب أمر «إخلاء». حين وصله خبر قصف البيت، لم يستطع منع نفسه من العودة لرؤيته. «إجينا تهريب نشوف البيت، لقيناه لسا مولع. ما ظلش من خمس طوابق غير الطابق الأرضي». 

نزح محمد ثلاث مرات، أولًا باتجاه البحر عند عائلة زوجته. مع فقدانه لعمله، لم يكن قادرًا على إعالة أسرته. «مش قادر أعيّشهم وأنا لا شغلة ولا عملة. كنت عاجز… اضطريت أسيبهم عشان أقدر أدبر حالي. رحت قعدت عند أهلي». لكن الحال لم يتحسن، وأهله لم يكونوا أفضل حالًا. «كان كل واحد يادوبه حاله». 

عندها نزح مرة ثالثة، ليعود للمنزل المدمر. «صرت آجي أنام في الدار هادي لحالي فوق الردم. نمت في الجامع، نمت في سيارة، حتى في الشارع نمت».

«أكثر فترة تعذبت فيها في النزوح لما بعدت عن بناتي ومرتي. لا أعرف آكل ولا أعرف أشرب ولا أعرف أتحمم». بقي محمد على هذه الحال ثلاثة أشهر، حتى استطاع أن يعيد أسرته الصغيرة إلى المنزل ويتعاونوا في تنظيف جزء منه. «جبتهم عشان أجمعهم، والله برزقنا، الله بنساش حد… والحمد لله، غلبنا الظروف».

ما يزال محمد يستصلح البيت شيئًا فشيئًا، يجمع بعض الطوب لترميم جدران مهدمة، ويثبت النوافذ بالأخشاب وبعض الشباك، ويجمع أغراض المنزل المحروقة في غرفة واحدة. «صح الإشي كان معدوم بس بدنا نعيش. يعني بكفينا [غرفة] مترين ومطبخ وحمام». المهم بالنسبة له أنه استطاع أن يجمع شمل عائلته من جديد. 

محمد المجايدة ينقل الطوب قرب منزله المتضرر.

حين عاد محمد لمنزله، كانت كل نوافذه مدمرة.

محمد يرمم منزله بالطوب المتناثر حوله.

إحدى بنات محمد ترقبه من داخل المنزل وهو يثبت شبكًا على إحدى النوافذ.

ابنة محمد إلى جانبه فيما زوجته تعد الطعام في مطبخهم المتضرر.

محمد المجايدة في منزله.

«محل أفراح» وسط الإبادة

تشغّل فاطمة الزيان (31 سنة) محلًا لتأجير فساتين الأعراس والمناسبات في خان يونس حيث تعيش. ككثيرين غيرها، اضطرت للنزوح عن المدينة خلال الاجتياح البري لتتجه نحو النصيرات. وهناك عرفت بقصف مبنى ملاصق لمحلها. حين عادت بعد شهور، صدمت من حال المنطقة لدرجة أنها لم تستطع التعرف على المكان. «يعني إنت ماشي في الشارع بتسأل الناس: لو سمحت وين عمارة جاسر؟ وأنا عشت عمري كله فيها».

استعانت فاطمة بعمال لإزالة الردم الذي كان يسد المكان، ثم عملت مع الموظفات في المحل على فرز الفساتين التي كانت تعد أكثر من مئتي فستان، لاستبعاد ما أتلفته الشظايا والركام، وغسيل وترتيب ما تبقى، لتفتتح المحل من جديد. لكن هذه المرة، أصبح «محل الأفراح» الذي تشغله في تباين مع كل ما يحيط بها.

«ممكن تحجز الفرح اليوم، يجيك شهيد من نفس العيلة… لكن خلص الأوضاع بدها تمشي، مش حتقف حياتنا في الحرب»، تقول فاطمة. فبعد أكثر من عام من الإبادة، لم يعد في المنظور موعد يترقبه أهالي القطاع لتأجيل مناسباتهم إليه، وبات «التأقلم» أمرًا لا مفر منه. 

«مهما عملوا، الفرحة ناقصة… كانوا زمان يعملوا ويخططوا وفرح وصالة. هلقيت العروسة بتاخد البدلة من عندي بس لجلسة تصوير، بس حتى تقول إني لبست البدلة زيي زي البنات، أما فش فرح. العريس بياخدها من خيمة لخيمة».

حتى هذه الأعراس الخاطفة، تبقى دومًا تحت تهديد الإلغاء. «بتيجي عروسة بتقول لي لو صار عندي موتة بتأجلوا لي؟ بيجينا عريس خاطب إله اسبوع بقول لي بدي [البدلة] بسرعة قبل ما يصير أي نزوح. فترة الخطوبة صارت أسبوع وأحيانًا يومين تلاتة كمان».

قبل الحرب، كانت الحركة التجارية كافية لخلق دخل جيد، بعد دفع الإيجارات وفواتير الكهرباء والماء ورواتب الموظفات. لكنها لم تعد تمثل جزءًا بسيطًا مما كانت عليه، «ولما تأجر ما بتأجر بنفس السعر، بتخصم النص. بدك تراعي ظروف غيرك. ثلثين الشعب قعد من شغله». 

تتحدث فاطمة عن حالة «التخدير» التي تشعر بها نتيجة ما خلقته الحرب من «روتين» جديد يقضي على معظم الوقت المتاح. «الواحد حاليًا ملهي مع الناس. بده يخلّص الحرب ويفضى لحاله… نبدا نشوف حياتنا إيش بدنا نعمل فيها، نفضى لأوجاعنا». لكنها تلتفت إلى انتظارها تلك النهاية المؤجلة للحرب فتستدرك «إحنا بنواسي حالنا في الكلمة هادي». 

فاطمة الزيان أمام محل تأجير الفساتين الذي تشغله.

فاطمة ترتب الفساتين في المحل ووسط الأضرار البادية في المكان.

حين عادت فاطمة لخانيونس، وجدت الفساتين في محلها وقد تلف كثير منها. 

ما زالت فاطمة توضب محلها شيئًا فشيئًا، إذ لم تستطع انتظار ترتيب المكان كله لتعيد افتتاحه.

فاطمة الزيان في محلها.

أي شيء «أحسن من الخيمة»

كان النزوح قاسيًا بشكل خاص على محمد شراب (54 سنة). فهو أب لولدين وبنتين، اثنان منهما يعانيان من إعاقات عقلية. حين انضم لابنه المتزوج في خيمته نازحًا، خرج ابنه الأصغر الذي يعاني من إعاقة من الخيمة وضلّ طريقه ليومين قبل أن يجده والده. كان ذلك في واحدة من خمس جولات نزوح، من خان يونس إلى مخيمها إلى خيام البحر إلى القرارة إلى دير البلح ثم عودة إلى خان يونس.

كان خوف محمد على طفليه المعاقين سببًا أساسيًا في قراره العودة لمنزله الذي دمر جزئيًا في كانون الثاني الماضي عقب نزوحهم منهم، بعد قصف برج مجاور له. «إيش بدنا نسوي؟ بدنا ننظف المكان عشان الواحد يعرف يقعد.. الواحد يقعد تحت سقف، أي إشي واقف فيه، انشالله عمود، أحسن من الخيمة. الواحد شو ما صار لازم يرجع على بيته يقعد فيه، انشالله على كوم قش».

على مدى شهر، ظل محمد يتردد للبيت لينظفه من الركام. «إجينا لقينا الدبش واصل الباب من فوق. كنت آجي لحالي أنظف شوية شوية، أعمل لي متر، متر ونص وأروح». لم تكن تلك عملية سهلة في ظل وجود البراميل والأبواب وألواح الزينكو المتراكمة في المكان. 

«إمبارح قعدت أربع ساعات وأنا بنظف النتفة هديك»، يقول محمد مشيرًا إلى زاوية صغيرة في واجهة المنزل. إلى جانب البيت، كان محمد قد بنى حضانة آوت طفليه المعاقين وآخرين، «راحت كلها» حين قصف البرج المجاور. 

محمد شراب يطل من سطح المبنى الذي يضم منزله في خان يونس.

ما زال الركام يملأ المبنى بعد أسابيع من التنظيف.

نظف محمد هذه الفسحة أمام منزله التي كان يقضي فيها وقتًا طويلًا قبل النزوح. 

واجهة المبنى الذي يقطنه محمد، وتظهر فيه الشوادر والأغطية المستخدمة مكان الجدران.

ما يزال محمد يعمل شيئًا فشيئًا على نقل الطوب والركام من منزله.

محمد شراب أمام منزله.

صالون على الأنقاض

«أنا المفروض هلحين في بلجيكا عند عمي»، يقول أحمد شراب (19 سنة) الذي كان في انتظار السفر قبل اندلاع الحرب بأيام، ليعمل مع عمه في صالون حلاقة، وهو الذي كان يملك صالونًا في خان يونس. «اللي صار إني عملت الجواز قبل الحرب بـ13 يوم. في 8 أكتوبر كان مفروض الجواز يطلع، ووقف الجواز وضلينا في غزة، وبلشت المعاناة يا حج».

عشية الاجتياح البري للمدينة في كانون الأول الماضي، نزح أحمد باتجاه مواصي خان يونس، «وبعد شهرين أجانا خبر الحارة كلها»، بما فيها منزل عائلته والصالون الذي كان يملكه. «في الشارع هاد يمكن مات 40 حبيب، صحاب وقرايب».

تواصلت رحلة نزوح أحمد بعدها لينزح مع أهله إلى منطقة قيزان النجار، ثم إلى مخيمات البحر، قبل أن يعود وحده إلى خان يونس بحثًا عن «لقمة عيش»، وهو ما دفعه لإقامة كشك لا يحوي سوى بعض الأعمدة الخشبية الموصولة بشوادر بلاستيكية والمثبتة بحبال بالأرض، ويفتتحه صالونًا أمام صالونه المدمر.

يقول أحمد إن عائلته وعائلة عمه تلقتا مساعدات من إحدى الجمعيات لإقامة حمامات ملحقة بالخيم التي يسكنونها. «فكّينا الحمامين أنا وابن عمي، وجبنا الخشب، وجبّصنا واشترينا كذا خشبة وكملنا عليهم»، وذلك بعدما ساعده أبناء عمه في إزالة الركام أمام الصالون. «وهسا جاي الشتا، الله يعلم». 

«ولا قدرت أطلع منه مشط واحد»، يقول أحمد عن حالة الدمار التي عاد ليجد فيها صالونه، لكنه يعمل اليوم بالمعدات القليلة التي استطاع حملها معه في حقيبة «في الوقت بدل الضايع» حين نزح في المرة الأولى. «بدنا نعيش. أظل قاعد؟ والله ما بظل قاعد».

رغم عودته إلى الحلاقة التي يقول إنه «حاببها من قلبي»، إلا أن الأحوال المادية تبقى صعبة. «الحركة ضعيفة. قبل يومين روحت والله العظيم ولا بشيكل، مع إني بفتح من السبعة الصبح بضل لأذان المغرب».

على بساطته، يتحسر أحمد على صالونه القديم. «بعد الحرب، الواحد أدرك إنه كان في نعمة. كان عندك صالونك، مروحتك، بتصحى الصبح تشغل قرآن، تمسح المُري، بتقعد تحكي مع الزبون بأريحية، بنِفِس. هلحين النفسية اتدمرت».

يتحدث أحمد عن أحلامه السابقة في أن يصبح حلاقًا مشهورًا على «إنستغرام»، يفتح صالونًا كبيرًا، ثم أكاديمية للحلاقة. لكن قائمة أحلامه اليوم باتت تقتصر على بند واحد: «بدناش مصاري ولا بدنا أكل ولا بدنا شرب ولا بدنا مساعدات ولا حاجة. بدنا يوقف الموت وشلال الدم، وكتر الله خيركم. بس بدنا الحرب توقف».

أحمد شراب في «الصالون» الذي أقامه أمام صالونه المدمر.

كسرة المرأة الوحيدة التي ظلت قابلة للاستخدام من صالون أحمد.

نظرًا لصعوبة الأوضاع المادية، لم يعد الصالون يستقبل سوى بضعة زبائن يوميًا.

أحمد شراب أمام صالونه.

صالون أحمد قبل القصف.

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية