دخلتُ عالم «شي إن» متأخّرة، إذ لم أعرف عنه إلّا عندما كبرن بناتي وصرن مراهقات يهتممن بالموضة ويتابعن أحدث الصيحات. كان انضمامي لهذا العالم إجباريًّا بحكم مقاطعة شركات الأزياء الكبرى الدّاعمة لـ«اسرائيل»، وفي المقابل كان لـ«شي إن» موقف متميّزعندما قررت الشركة الصينية العملاقة إنهاء شراكاتها مع المؤثرين الإسرائيليين، وألغت جميع عمليّات التوصيل المجّانية داخل الكيان المحتلّ.
حسنًا، ليس سهلًا لسيّدة أن تُقرّ على الملأ بمصدر ملابسها إن كان رخيصًا وشعبيًّا، ولعلّ هذا يفسّر عدم قيام حملة ضخمة تدافع عن «شي إن» بعد الاتهامات الأخيرة للشركة بوجود مواد مسرطنة ذات كثافة عالية بين بعض منتجاتها.
أمّا سبب خصّ «شي إن» بالحديث رغم أن هنالك مواقع بيع أخرى مشهورة على الإنترنت مثل أمازون وعلي إكسبرس وتيمو وغيرها، فمردّه التغيرات التي أحدثتها «شي إن» في ثقافة الاستهلاك من حولي وفي عوالم البيوت الخفيّة، وهي التي تقدّم نفسها متخصّصة في أزياء الموضة النسائية في المقام الأول، وقد تحوّلت مع الوقت لعلامة تجاريّة في سوق الملابس، ولأنها إحدى أكثر مواقع التجارة الإلكترونية للأزياء زيارةً في العالم، وأكثرها انتشارًا في الأردن تحديدًا والعالم العربي بصفة عامة.
مساواة بين الطبقات المُستهلِكة
قبل سنتين، وفي بداية مجيئي للدوحة سألتُ صديقتي عن أفضل المحلّات لشراء ملابس تناسب المحجّبات، فضحكت وقالت: «مين غيره؟ «شي إن»»! وكانت صدمة لي أن أكتشف ارتفاع نسبة الشّراء من «شي إن» داخل قطر التي تشهد أعلى مستويات المعيشة في العالم، ووسط كل هذه الماركات الفخمة والعروض الكثيرة والمولات الراقية جدًّا. ولكن في النّهاية أعتقد أن حافز التوفير يتغلّب. أخبرتني إحدى الزبونات المخضرمات ضاحكة «كنت بفكر إنّي لحالي بجيب من «شي إن» في عمارتي اللي كلها ناس وضعهم منيح كتير. لقيت اليوم طرد «شي إن» كبير محطوط على باب الشّقّة قدّامي، وجارتي الثالثة لقيت سجّاد مدخل بيتها كمان من «شي إن»». كما تشمل قائمة الدّول التي ترتفع شعبيّة «شي إن» دولًا مثل فرنسا وإيرلندا وأيسلندا وجنوب إفريقيا والصين. وفي الولايات المتّحدة صاحبة أكبر اقتصاد في العالم احتلّت «شي إن» المركز الثالث بين أكبر الشركات مبيعًا للملابس عبر الإنترنت.
اقرأ/ي أيضا:
في تقرير للبي بي سي، ورد أن أبرز أسباب الإقبال الهائل على «شي إن» هو انخفاض أسعار البضائع، إذ يصل متوسط سعر القطعة الواحدة حوالي 10.7 دولار. وهنا أشعر بنوع من المساواة يسود من حيث لا نحتسب بين جمهور «شي إن» العريض، الممتد من العائلات المستورة مرورًا بذوي الدخل المحدود ووصولًا إلى الطبقة الوسطى العليا، وربما حتى الأثرياء.
في صباي في مرحلة التسعينيات، عشتُ مرحلة التفرقة الواضحة داخل المدرسة بين ملابس الطبقة «المرتاحة» وبين ملابس فتيات الطبقة الكادحة، بين البنات اللواتي يرتدين أزياء على الموضة واللواتي كنّ مميّزات ويتمتّعن بالشعبيّة وتسهل ملاحظة الجودة فيما يرتدينه وبين طابع التّقليد الرّخيص الذي يسود بين البقيّة.
كانت بضائع سوق الازياء المتاحة للمعظم في الأردن محدودة ومتشابهة، لكن الآن تغيّر الوضع مع تنامي سوق تقليد الماركات ومحلّات التصفية وتطوّر بضاعتها، حتى بات من الصعب التمييز بين التقليد والأصليّ. ومع دخول «شي إن» على الخط اكتسحت الساحة معلنة عن حقبة استهلاكيّة باتت خيارات الاقتناء فيها واسعة جدًّا لمن تملك ميزانيّة محدودة ولم تعد هناك سمات واضحة لستايل الملابس تفصل بين الطّبقات.
ديمقراطيّة تشاركيّة
تكافئ «شي إن» زبوناتها المخلصات والنّشيطات. لا تكتفي بمنح خصومات جيّدة لمن تشتري كميات كبيرة، بل وتمنح نقاطًا تعادل مبالغ مالية لمن تُعلّق على حالة المنتج الذي اشترته وتقدّم نصيحتها وتقييماتها إمّا إيجابًا أو سلبًا. ومع الوقت تنمو علاقة المستهلكة بالشركة لأنها تشعر أن منصة البيع تحترمها وتقدّر توصياتها، وأنها حين تشتري فإنّ البائع لا يفرّ و«يبطّل يتعرّف عليك» بل بالعكس يكافئك حين تعبّرين عن رأيك.
تتحوّل التعليقات داخل الموقع إلى ما يشبه ما يحدث داخل مواقع التواصل الاجتماعي، تقدّم واحدة تعليقها وترفقه بدعاء أو رجاء من الأخريات، فتردّ عليها أخرى بـ«اللايك» أو بتعليق أو برسالة، فتتشابه عمليّة التسوّق عبر الإنترنت مع ما يحدث داخل العالم الحقيقي حين تزدحم النّسوة في المحلّ وتتبادلن المجاملات ثمّ يتحوّلن سريعًا لتبادل الخبرات حول المعروض ومناقشة عدالة السّعر.
ورغم شعور طائفة من مستخدمات «شي إن» بالغبن، بعد أن يستلمن ما طلبنه فيجدنه أقل جودة مما توقعن، إذ تكون مواصفاته الحقيقية مختلفة عما كان في الدعاية المصاحبة للمنتج، وهو ما يمثّل استغلالًا مضاعفًا لذوات الدخل المحدود تحديدًا، إلّا أن عالم الخبيرات من الأجيال الصّغيرة وعوالم الجروبات النّسائية كفيل بالتعليم السريع لمفاتيح التسوّق الناجح والمربح. تنقل كثيرات إحساسهنّ بالفرح الغامر حين تستلم واحدة منهنّ طردًا كبيرًا قادمًا من مكان بعيد، وتبدأ حفلة فتح صندوق المشتريات «الأنبوكسينغ» ورؤية المشتريات على الواقع والاحتفاء بنجاح الحدس الصائب الذي توقّع جودة السّلعة دون أن يعاينها.
بورصة لندن واتّهامات متلاحقة
أُعلن مؤخرًا توجّه «شي إن» لطرح أسهمها للاكتتاب في بورصة لندن، وكانت الشركة تأمل في البداية طرح أسهمها في بورصة نيويورك، وفقًا للعديد من التقارير الإعلامية، لكنها واجهت معارضة سياسية في الولايات المتحدة بشأن «التداعيات المحتملة على الأمن القومي الأمريكي»، بسبب علاقاتها المحتملة مع الحكومة الصّينية. اعتبر البعض طرح أسهم «شي إن» للاكتتاب في بورصة لندن خطوة قد تنقذ البورصة من تعثّرها بسبب القيمة السوقيّة العالية لشركة «شي إن» التي تجاوزت ستين مليار دولار.
ترافقت هذه الأخبار مع أنباء إتلاف كوريا الجنوبية لشحنات واردة إليها من «شي إن» بسبب ارتفاع نسبة المواد المسرطنة، لتضاف هذه التّهمة لتهم عديدة سبق أن وجّهت لـ«شي إن» مثل سرقة الملكيّة الفكريّة وانتهاكات حقوق العمّال والأضرار البيئية.
بالنّسبة لي شخصيًّا، ودون تقديمٍ لأي دعاية مبطّنة، وفي الوقت الذي تدور فيه الحرب في غزة، فإن «شي إن» «فشّت غلّ المقاطعين» من الشّركات الضّخمة الغربية التي لم تحترمنا واستخفّت بمُصابنا.
كانت الشركة العملاقة تردّ على الاتّهامات أولًا بأوّل وتؤكد التزامها بالقواعد، وسط تحليلات لا تستبعد أن تكون الاتّهامات وتوقيتها جزءًا من الدّعاية المضادّة لتزايد هيمنة «شي إن» على سوق الملابس، حيث تجاوزت مبيعاتها علامات تجاريّة ذات مكانة مرموقة وتاريخ طويل مثل زارا ونايكي، حتى عنونت مجلة التّايم تقريرًا عن الشركة بالقول: «شي إن» ماركة الأزياء الأكثر شعبيّة في العالم.
عندما قرأتُ خبر المواد المسرطنة شعرت بالذعر بداية، ولكن لم أفهم تفاصيل التّصنيع التي تجعل من منتجات «شي إن» مسرطنة دونًا عن غيرها. عندما قرأت المزيد عن الموضوع صادفت خبرًا يتعلق باختبار الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس والجودة لنحو 70 عينة عشوائية عبر عدة اختبارات، ومن قبل عدة مختبرات، فوجدتَها خالية من المواد الضارّة. وشملت تلك الاختبارات «قياس مستوى الملوثات الكيميائية، السُميّة، الفثالات، ومعدل تراكيز العناصر الثقيلة مثل الرصاص والزرنيخ وغيرها». كما قرأت تغريدات تتحدث عن أن مستوى المواد الضارة في المنتجات التي يتم الحديث عنها يكون ضارًا في حال الإفراط في استخدامه، لا في الأوضاع الطبيعية.
ما قرأته كان كافيًا بالنّسبة لي ومقنعًا، خصوصًا بعدما قرأت رد الشركة التي قالت إنها أجرت أكثر من 400 ألف اختبار للسلامة الكيميائية مع وكالات اختبار دوليّة خلال العام الفائت، وفي بيانها تقول: «عند علمنا بأي مطالبة ضد منتجاتنا، نقوم على الفور بإزالة المنتج من موقعنا على سبيل الحذر أثناء إجراء تحقيقنا».
هل انعكست الاتّهامات سلبًا على إقبال الناس في العالم وخصوصًا في العالم العربي؟ لا يبدو ذلك، إذ من الملاحظة الشخصية يمكن القول إن الإقبال على منتجات الشركة لا زال مرتفعًا.
بالنّسبة لي شخصيًّا، ودون تقديمٍ لأي دعاية مبطّنة، وفي الوقت الذي تدور فيه الحرب في غزة، فإن «شي إن» «فشّت غلّ المقاطعين» من الشّركات الضّخمة الغربية التي لم تحترمنا واستخفّت بمُصابنا رغم أن سوقنا العربيّة تعتبر من أكبر أسواقها.