هذا التقرير جزء من ملف خاص أنتجته حبر حول السكري. للاطلاع على الملف اضغط/ي هنا.
حين يكون لديك طفل مصاب بالسكري، فإن فرصته في رعاية طبية تسهل تعايشه مع مرض سيرافقه العمر كله، يحكمها، إلى حدّ كبير، مستواك المادي، وقدرتك على أن تدفع أكثر. يحدث هذا رغم قراراتٍ نصّت على مجانية علاج الأطفال المصابين بالسكري في الأردن، بغض النظر عن كونهم مؤمّنين أم لا. لكن هذا لم يضمن تحقيق العدالة.
أولًا، لأن القرار استثنى الأطفال فوق سن 15 عامًا، وثانيًا، لأن التأمين المجاني شمل توفير الأنسولين، وجهاز قياس سكر لمرة واحدة، وعلبة شرائح قياس شهريًا. وكل ما سبق، كما سنرى من خلال قصص عائلاتهم، هو أقل من الحد الأدنى المطلوب من الرعاية لهذه الفئة من الأطفال، التي لا يعرف إلى الآن حجمها. إذ لا يوجد سجل وطني لمرضى السكري بشكل عام في الأردن. وبالتالي، لا بيانات موثقة عن عدد الأطفال المصابين بالسكري، ولا تصنيفهم من ناحية نوع السكري، إن كان من النوع الأول أو الثاني. وكل ما لدينا هو مشاهدات عاملين في القطاع الطبي يؤكدون انتشار الإصابة بين الأطفال، وأن الغالبية الساحقة منها إصابات بالسكري من النوع الأول.
في السكري من النوع الأول، تهاجم خلايا الجسم المناعية، الخلايا المسؤولة عن إنتاج الأنسولين في البنكرياس وتدمرها. وتظهر الإصابة به عادة بين الأطفال والمراهقين. ومن هنا أخذ اسمه «سكري الأطفال»، وما زالت أسبابه غير معروفة. أما في النوع الثاني، فيفرز البنكرياس كمية أقل مما يجب من الأنسولين. كما أن الجسم يبدأ بمقاومة الأنسولين، ما يعني منع إيصال السكر إلى الخلايا وبقاءه في الدم. ويظهر هذا النوع في العادة بين البالغين. وفي وقت يرتبط النوع الثاني بنمط الحياة، ونوع التغذية، ما يعني إمكانية الوقاية منه، فإنه لا وسيلة لمنع الإصابة بالسكري من النوع الأول.
في هذا التقرير ثلاث أمهات، يروين قصصهن مع أطفالهن المصابين بسكري الأطفال. أمهات اشتركن في مرض أطفالهن، لكن وقوعهن على درجات مختلفة في السلم الاقتصادي، وما ترتب على ذلك من تفاوت في فرص العلاج والدعم، أخذ تجاربهنّ في اتجاهات مختلفة تمامًا.
فاطمة: «كنت أقول إلها قاعدة بتتخوثي»
كانت فاطمة* (14 عامًا) في التاسعة من عمرها عندما أصيبت بحالة إعياء شديد، فحملتها والدتها إلى المستشفى حيث تقيم في الأغوار الجنوبية. وهناك كان مستوى السكر لديها عاليًا لدرجة أن جهاز قياس السكري لم يتمكن من قراءته، وظهرت كلمة High بدلًا من القراءة. وهذا يحدث، كما أخبر الطبيب والدتها، عندما يتجاوز مستوى السكر 600 ملجم/ ديسيلتر، وهو مستوى أعلى من قدرة الجهاز على قياسه. هكذا عرفت أن ابنتها مصابة بالسكري منذ فترة، دون أن تدري عنها. «قالولي السكري هاد حيلها هدّ».
لقد لاحظت بالفعل قبلها ببضعة أشهر أن فاطمة صارت خاملة، وبدأت تفقد وزنها، إضافة إلى شربها الماء بإفراط. كما أنها بدأت تبلل فراشها. فقد صارت تلاحظ أن الطفلة تستيقظ في الصباح الباكر، وتتسلل خلسة إلى الحمام، حاملة فرشتها لتغسلها. تقول إنها كانت تضربها لأنها اعتقدت أن هذا مجرد سوء سلوك من البنت. «كنت أقول إلها قاعدة بتتخوثي». لم يخطر لها أن هذه التغيرات هي مؤشرات على حالة مرضية، كما لم يكن متاحًا لها أن تتوقف كثيرًا أمام ما أصاب ابنتها من تحولات، في غمرة انشغالها بالعمل خارج البيت لتأمين معيشة أطفالها الخمسة. إذ كانت تعمل في الخدمة في البيوت، قبل أن تستقر أخيرًا مع زوجها المتقاعد من الجيش في العمل في الزراعة بالمياومة. لكن شيئًا حدث بعدها دفعها لطلب المساعدة.
كانت الأيام الأخيرة من رمضان، وذهبت فاطمة إلى إفطار نظمته جمعية خيرية لأطفال الأسر الفقيرة، عادت بعده إلى المنزل، وبطنها منفوخة «زي قربة المي». وأخبرت أمها أن الطعام كان سيئًا جدًا، ولم تستطع أكله. لكنها بدلًا من ذلك شربت الكثير من الشراب المحلى. حملتها أمها في باص إلى المستشفى. وهناك تقول إن الطبيب ذهل من الحالة التي كانت عليها الطفلة، وسألها «إنت متأكدة جيتي مواصلات؟».
لا يوجد سجل وطني لمرضى السكري بشكل عام في الأردن. وبالتالي، لا بيانات موثقة عن عدد الأطفال المصابين بالسكري، ولا تصنيفهم من ناحية نوع السكري.
بقيت فاطمة في المستشفى عشرة أيام، أربعة منها في العناية المركزة. وهناك علموها كيف تقيس السكر، وتحقن ابنتها بالأنسولين. ووقت الخروج، تقول «أعطوني ورق كيف أتعامل معها، وكيف أعطيها العلاج». لكن المشكلة، أنها لم تكن تستطيع قراءة الأوراق التي دونت عليها المعلومات الإرشادية، لأنها أمية، فقد تركت المدرسة في الصف الخامس، من دون أن تتعلم القراءة والكتابة. ولأن زوجها رفض نهائيًا المشاركة في تقديم أي رعاية للطفلة. كان الحل أن تتولى فاطمة نفسها قراءة الأوراق وإخبار والدتها بمضمونها.
صار عليها أن تعطي الطفلة ثلاث جرعات من الأنسولين يوميًا قبل كل وجبة. وكان فعل ذلك أثناء دوام المدارس مشكلة، لأن لا أحد في مدرستها كان يعرف أي شيء عن سكري الأطفال، أو كان بإمكانه أن يعطيها الجرعة. لهذا نظمت الأمر بأن صارت تعطيها الجرعة الأولى قبل خروجها إلى المدرسة. ولأن موعد الجرعة الثانية كان يحلّ ظهرًا، قبل انتهاء اليوم الدراسي، اتفقت مع المدرسة، التي تبعد عن المنزل مسير ساعة تقريبًا، على أن يسمحوا لها بالخروج قبل انتهاء الدوام كي تصل المنزل وقت الجرعة. وكل هذا تقول أثر بشدّة على أدائها في المدرسة. أضف إلى ذلك الأذى النفسي، بسبب التمييز الذي بدأت فاطمة تتعرض له، عندما منعتها المعلمات من المشاركة في حصص الرياضة. تقول أمها إنها حاولت معهن كثيرًا السماح لها بالمشاركة، لكنهنّ رفضن بشدة، وقلن إنهنّ لسن مستعدات لتحمل مسؤولية أي ضرر قد يقع لها.
جاء السكري عبئًا ماديًا جديدًا على العائلة. تحصل فاطمة على الأنسولين مجانًا، لكن كان على الأم شراء جهاز لقياس السكر، لأن أحدًا لم يخبرها أن بإمكانها الحصول على جهاز مجانًا، كما تقول. كما أنها لا تعرف أن بإمكانها الحصول على علبة شرائح مجانية شهريًا. آنذاك اشترت جهازًا مع علبة فيها 50 شريحة بـ25 دينارًا، وهو سعر مخفض كان ضمن عرض للشركة المنتجة. وبعد أن انتهت الشرائح، اكتشفت أن سعر علبة الشرائح وحدها 25 دينار. تقيس أم فاطمة السكري لابنتها ثلاث مرات في اليوم، وهذا يعني 50 دينار، فقط لشرائح القياس. فاضطرت لشراء جهاز آخر، تباع شرائحه بسبعة دنانير.
ورغم أن المبلغ الشهري أخف بكثير، لكنه ما يزال عبئًا. وتقول إنها كثيرًا ما تستعيض عن القياس بملاحظة أعراض انخفاض وارتفاع السكر على فاطمة؛ عندما يهبط، يبدأ جسدها بالارتجاف، وتصاب بالخمول. وعندما يرتفع، تشرب المياه بشراهة، وتتسع عيونها، وتبدأ بالتعرق.
وحتى لو تمكنت أم فاطمة من الحصول على علبة الشرائح المجانية، فإنها ليست كافية أبدًا. وفق الأستاذة في كلية الطب في الجامعة الأردنية، الطبيبة في المركز الوطني للسكري، رشا عودة، يجب أن يقاس السكر على الأقل مرة قبل كل وجبة، ومرة رابعة قبل النوم مباشرة. في حالة الأطفال، ومن أجل المزيد من الاطمئنان، ينصح بالقياس بين ست إلى 10 مرات. وقد تصل إلى 12 مرة، عندما يكون هناك أعراض مقلقة.
كان من المفترض، مع تقدم فاطمة في العمر، وتمكنها من الاعتماد على نفسها في قياس السكر وحقن الأنسولين، أن يخف العبء على والدتها، لكنها تقول إن هذا لم يحدث، لأن البنت في وضع سيء طوال الوقت. فهي تعاني من انتفاخ دائم في البطن، كما تصاب بحموضة الدم بشكل متكرر. وهي حالة تصبح فيها بين الحياة والموت. فيتسارع تنفسها، وتبدأ بالاستفراغ، وتنبعث من أنفاسها رائحة قوية تشبه التفاح المتعفن. أخبرها الأطباء أن هذه رائحة الأسيتون، وهو عرض مألوف في هذا الوضع. عندما تدخل فاطمة هذه الحالة، تبدأ بالهلوسة «بتصير تهذرم؛ أنا وين؟ إنت مش أمي. وبتنادي على ناس أنا أول مرة بسمع فيهم». يستمر هذا، في العادة، يومين أو ثلاثة، إلى أن يتمكن الأطباء من السيطرة على مستوى السكر في الدم.
لقد تكررت هذه الحالة مع فاطمة لمرات لا يمكنها إحصاؤها، بحسب أمها. وقبل ثلاثة أشهر، أبلغها أحد الأطباء أن هناك اشتباه بإصابة فاطمة بجلطة دماغية، وهددها بأنه سيبلغ عنها إدارة حماية الأسرة، لأن استمرار إصابة الطفلة بحموضة الدم، هو بالتأكيد إهمال منها. قال «إذا بطلع عليها النهار تحمّدي ربك».
تقول إن الجميع يحملها مسؤولية وضع ابنتها، بما فيهم زوجها. فقد ظل يتهمها بأنها ولكونها أمية، ربما تعطي الطفلة الأنسولين بطريقة خاطئة. وهو أمر تنفيه، وتقول إنها إلى ما قبل ثلاث سنوات، عندما علّم الطبيب فاطمة كيف تحقن نفسها، ظلت تعطي الطفلة الأنسولين، ملتزمة بالمواعيد والجرعة.
منذ بدأت فاطمة العلاج، وهي تتلقى جرعة ثابتة من الأنسولين، يسمى «المخلوط»، قبل كل وجبة. وهذه طريقة «كلاسيكية» في العلاج، تحول عنها العالم منذ التسعينيات، كما تقول عودة. وتشرح أن هذه الطريقة تعتمد على خلط نوعي أنسولين بطيء وسريع، وإعطائهما بجرعة ثابتة، مع وجبة تحتوي على كمية متناسبة من النشويات. بعدها، اتجه العالم، إلى طريقة علاج تسمح للمرضى بأن يعيشوا حياتهم براحة أكثر، وهي إعطاء نوع من الأنسولين السريع، بجرعات تحدد، في كل مرة، وفقًا لكمية النشويات في الوجبة التي سيتناولها المريض.
المشكلة في الأردن، تقول عودة، إن الأنسولين الجديد، لم يعمم استخدامه ضمن التأمين إلا من وقت قريب، بسبب كلفته العالية. وحتى هذا لم يحل المشكلة. وظلت هناك حاجة لاستخدام الطريقة القديمة في العلاج، لأن تدريب الأهالي على احتساب النشويات في الطعام، يتطلب كوادر غير متوفرة بما يكفي في القطاع العام.
تقول أم فاطمة إنها تعرف أن سوء وضع فاطمة يتعلق بطبيعة طعام العائلة، الذي لا قدرة لها على تغييره. فهم يعتمدون بشكل أساسي على الرز، وعلى المقليات من بندورة وباذنجان وزهرة وغيرها، والتي لا يمكن أكلها من دون خبز. كما أنها اكتشفت أن ابنتها تأكل الكثير من الشيبس، الذي يباع في مقصف المدرسة. وتقول إنها عاجزة عن السيطرة عليها. لقد طلبت من والدها أن يتدخل، لكنه يرد بأن الضغط على فاطمة قد يدفعها لأن تؤذي نفسها، وأنها في النهاية ستكبر وتعي مصلحتها.
أم فاطمة ليست متأكدة مما سيؤول إليه حال ابنتها عندما تكبر. لأنها مدركة أن وضعها الصحي يقلل فرصها كثيرًا في حياة طبيعية، ومن ذلك أن تتزوج. ذلك أن جميع من حولها يلمّح إلى ذلك من الآن. ففي كل مرة تعلّق فيها واحدة من معارفهم على جمال فاطمة ، تستدرك بأن تقول «بس الله يلعن السكري». لهذا هي متمسكة بأمل أن هناك لا بد علاج لهذا المرض، وأن هذا العلاج لا بد موجود لدى جهة ما، لكن الأمر مرهون بتوفر المال. لهذا فإن هاجسها الدائم هو البحث عمن يمكن أن يساعدها ماديًا لعلاج فاطمة . فتقول إنه عندما يتوفر لديها إنترنت على هاتفها، تنادي جارتها التي تجيد القراءة، لكي تفتح فيسبوك، وتبحث لها عن «فاعلين خير»، يمكن أن يساعدوها.
سماح: رؤوس أصابع سوداء
شخصت سماح* بالسكري قبل سنتين ونصف. وكان هذا قبل أسبوعين بالضبط من التحاقها بالصف الأول. وفق الخطة، تقول والدتها، كان من المفترض أن تلتحق بمدرسة شقيقيها الأكبر منها، والتي يبلغ قسط الصف الأول فيها 700 دينار سنويًا. لكن هذه المدرسة، لم يتوفر فيها الحد الأدنى من الاستعداد للتعامل مع طفلة مصابة بالسكري. فلا أحد يعرف شيئا عن المرض، ولا أحد يمكنه أن يعطي حقن الأنسولين في مواعيدها، أو يقدم المساعدة في حال أصاب الطفلة أي عارض. وبدا أن الحل، تقول أم سماح، التي تعمل محاسبة في شركة خاصة، هو أن تترك وظيفتها وتداوم مع الطفلة في المدرسة. أمر تقول إنه لم يكن منطقيًا بالطبع.
لقد أدركت بعد البحث أنها إذا أرادت مدرسة تستعد لتقديم الرعاية لابنتها أثناء الدوام، فإن على العائلة أن تدفع أكثر. لهذا توجهت إلى مدرسة يبلغ قسطها ألف دينار سنويًا، لكنها رفضت قبول الطفلة، وأخبرتها المديرة أنهم لن يستطيعوا تحمل مسؤوليتها. «حكولي المدرسة فيها سلالم كثير، ويمكن البنت توقع».
المدرسة التي وافقت على تسجيل سماح كانت توظف ممرضة، وفيها بالفعل أكثر من تلميذ مصاب بالسكري، كانت هذه الممرضة تتولى قياس السكر لهم قبل الأكل وبعده، وتعطيهم جرعات الأنسولين المناسبة. لكن قسطها بلغ 2000 دينار. وهو مبلغ تقول أم سماح إن العائلة اضطرت لدفعه، رغم محدودية دخلها، الذي تردى أكثر مؤخرًا بعد أن فقد زوجها، الذي كان موظف علاقات عامة في شركة خاصة، عمله، واضطر للعمل في خدمة النقل على «بكب».
لكن ما خفف الوطأة، تقول أم سماح، هو أنها استطاعت الحصول لسماح على رعاية طبية جيدة، وفّرها التأمين الخاص الذي يقدمه عملها. والذي كان من ضمنه مراجعات لأخصائيين، ولقاءات دورية مع أخصائية تغذية، شرحت لها عن الأغذية، ودرّبتها على كيفية احتساب النشويات في الطعام، وتحديد الجرعات الملائمة. وقد ساعدتهما كثيرًا طريقة العلاج هذه على توفير أسلوب أكل أكثر راحة لسماح. من دون أن يتردى وضعها، أو تصاب بحموضة الدم.
من بين كل جوانب المعاناة مع هذا المرض، تقول أم سماح إن أقساها هو التعايش مع فكرة أن هذا مرض مستمر طوال العمر. لقد كان أول سؤال وجهته للطبيبة إن كان هناك علاج لهذا المرض، فأجابت «لا. خلص تأقلموا».
في البداية، ولأن مستوى السكر التراكمي كان عاليًا جدًا، كان يجب حرمانها من الكثير من الأغذية المفضلة لديها في محاولة للسيطرة على السكر. وهذا تقول أدخل الطفلة في حالة صار فيها الطعام مركز تفكيرها. وصارت تأكل في الخفاء. وهنا، صعّبت المدرسة الوضع كثيرًا. فهي ترسل مع سماح طعامها، ولا ترسل معها مصروفًا حتى لا تشتري من مقصف المدرسة. لكن حدث أكثر من مرة أن كان السكر يرتفع كثيرًا رغم انتظام الجرعات. وهنا اكتشفوا أنها تأخذ من صديقاتها في المدرسة. مشكلة المقاصف المدرسية، بحسبها، هي أن المدارس تتعامل معها بوصفها مشاريع استثمارية. «في المقصف ما هب ودب. المهم إنه يبيع. في مقصف مدرسة بنتي معجنات وشوكولاتة وشيبس وكولا».
حددت الطبيبة سقفًا لكمية الأنسولين الذي يمكن أن تأخذه يوميًا، وهي كمية سمحت لها بأن تخرج من حالة الحرمان التي كانت بداية المرض. لكن حرية الأكل، تقول أم سماح، تظلّ محدودة. ومن أجل توسيع الخيارات قدر الإمكان، تقول إنها تبحث في المولات الكبيرة باستمرار عن بدائل لأطعمة تحبها سماح. «طبعا مكلف جدًا، ومش دايمًا بنقدر».
لم يعن التأمين الخاص الإعفاء من العبء المادي، فنسبة الـ20% التي تدفعها من كلفة الأنسولين والفحوصات الدورية المطلوب إجراؤها كل ثلاثة أشهر، تمثل هي أيضًا عبئًا ماليًا. يضاف إليها كلفة قياس السكر. إذ لا يغطي التأمين جهاز القياس والشرائح، والتي تقول إنها تستخدم أرخصها ثمنًا، أي تلك التي تباع بسبعة دنانير. والتي تكفيها «مع الاختصار» بين خمسة أيام وأسبوع. في المحصلة، فإن كلفة الأنسولين مع الفحوص الدورية وشرائح الفحص، هي على الأقل 50 دينار شهريًا. ولأنها تدفع هذا المبلغ، رغم أنها مؤمنة صحيًا، فإنها قلقة بشدّة من فكرة أن تفقد عملها هي الأخرى، وتفقد معه تأمينها.
قياس السكر للأطفال، تقول أم سماح، ليس عبئًا ماديًا فقط؛ فوخز الإبر لست أو سبع مرات في اليوم في أصابع طفل مؤلم جسديًا ونفسيًا للطفل وعائلته. والآن، بعد سنتين ونصف من الوخز المستمر، تقول إن رؤوس أصابع سماح صارت سوداء. إضافة إلى أن تكرار الحقن بالأنسولين سبب لها «تكتلات» في مواضع عديدة من جسدها.
هناك طريقة للقياس تقول أم سماح، توفر كل هذا العناء على الأهالي والأطفال، وهي جهاز إلكتروني يركب على يد الطفل، ويوفر قراءة لمستوى السكر في الدم من دون الحاجة لوخز الإبر. يعمل هذا الجهاز من خلال تطبيق يحمل على الهاتف، وتظهر القراءة مع تمرير الهاتف على الجهاز. وهو مثالي بالتحديد في الليل أثناء نوم الطفل. وهي الفترة الأخطر، إذ قد يهبط السكر خلالها إلى مستويات خطرة أثناء استغراق الطفل في النوم. في ليال كثيرة، تقول أم سماح إنها أو والد سماح يستيقظان ويفحصان السكر ليتأكدا أن الأمور على ما يرام. بدل إيقاظ الطفل من نومه لتلقي وخزة في الأصبع، فإن هذا الجهاز يوفر القراءة دون الحاجة لذلك. الجهاز أيضًا مريح للأطباء، لأن فيه ذاكرة تخزن كل قراءات السكر طوال الفترة التي ركب فيها. وهذا يساعد الطبيب على متابعة حالة المريض.
المشكلة هي أن ثمن الجهاز 47 دينارًا، ويجب استبداله مرتين في الشهر. تقول أم سماح إنهم يشترونه بين فترة وأخرى لسماح عندما يكون هناك متسع في الميزانية. لكنهم لا يستطيعون الرضوخ لإلحاحها المتواصل للحصول عليه.
في كل الأحوال، بعد سنتين ونصف، تقول إن الأمور أقل وطأة الآن. في البداية، كان هناك حالة من الإنكار. واستغرقها سنة كاملة لتتقبل الواقع. «كنت أحكي مستحيل بنتي هيك». والذي زاد الأمر سوءًا هو المحيط من أقارب ومعارف، والذين بدؤوا بتقديم تحذيرات مرعبة عما يمكن أن يفعله السكري في الجسم، من إتلاف لشبكية العين، وتدمير للكلى، وحموضة في الدم. لكنها وزوجها حصّنا نفسيهما بالكثير من المعلومات التي أخذاها من أخصائية التغذية، والقراءة المستمرة عن المرض وكيفية التعامل معه من خلال الموارد التي يوفرها الإنترنت. لقد قلّ كثيرًا منسوب القلق والخوف عما كان في البداية، لكن ليس إلى درجة أن يعيدا سماح للنوم في غرفتها، كما كان الحال قبل اكتشاف المرض. فقد نقلاها إلى غرفة نومهما بداية مرضها. وما زالت هناك.
من بين كل جوانب المعاناة مع هذا المرض، تقول إن أقساها هو التعايش مع فكرة أن هذا مرض مستمر طوال العمر. لقد كان أول سؤال وجهته للطبيبة إن كان هناك علاج لهذا المرض، فأجابت «لا. خلص تأقلموا». تقول أم سماح إن هذه الإجابة كانت صادمة، وأصابتها بالكآبة. وهي، وإن كانت تعرف أن لا علاج لهذا المرض، لكنها كانت بحاجة لمن يُبقي أمامها باب الأمل مواربًا كي تستطيع الاستمرار. وهذا ما فعلته الطبيبة التي حولت إليها، والتي أوضحت لها أن لا علاج حاليًا، لكن الطب يتطور، ويمكن لشيء أن يحدث في المستقبل. وكان هذا كافيًا كما تقول أم سماح.
عمر: عندما يصاب رضيع بالسكري
كان عمر* قد أكمل لتوه عامه الأول، عندما بدأت والدته تلاحظ أن نشاطه قلّ فجأة، وصار يبلل فوطته أكثر من المعتاد. لم تتوقف أمام هذا كثيرًا، لأنها اعتقدت أن لهذا علاقة بكونه في حالة تسنين. لكن الطفل بعدها بشهر تقريبًا أصيب فجأة بما يشبه الغيبوبة، فحملته ووالده سريعًا إلى طوارئ مستشفى خاص قريب عليهما. وبعد الفحوصات، خرج الطبيب وأبلغهما أن الطفل يعاني من حموضة دم عالية. وقال موجهًا الكلام إليها بجفاء «إنت بتعرفي إنه ابنك عنده سكري؟». تقول إنه مرّ على ذلك اليوم سنتان، وإلى الآن، هي غير قادرة على تفسير الفظاظة التي ألقى بها الطبيب الخبر. وتتذكر أنها اضطرت للدفاع عن نفسها «قلت له لا ما بعرف. أنا مش طبيبة».
وقتها لم تكن تعرف عن سكري الأطفال إلا اسمه. وصدمت إذ لا حالات سكري في عائلتها أو عائلة زوجها. لكنها بعدها عرفت أن السكري من النوع الأول لا يرتبط بالتاريخ العائلي للمريض بقدر النوع الثاني.
عمر هو ابنها الثاني، بعد شقيقته التي تكبره بثلاث سنوات. وأن يكون مصاب السكري رضيعًا غير قادر نهائيًا على التعبير عما يشعر به، فإن هذا، كما تقول، أعلى درجات المعاناة بالنسبة للعائلات التي لديها أطفال مصابون بالسكري. «يعني لو إنه كبير ، بقدر يستوعب، بقدر يفهم عليك، بقدر يحكيلك جوعان، مو جوعان». لهذا، ورغم فجاعة الخبر، تقول إنها عرفت من البداية أن لا وقت لديها لتضيعه في الاستسلام للمشاعر السلبية. «كان واجب عليّ ما أقعد وأندب حظي، لأني عارفة إنه بده رعاية كثير قوية».
منذ البداية، تقول الأم إنها قررت ووالده أن يحصلا له على أفضل رعاية متوفرة بغض النظر عن الكلفة. هي لا تعمل خارج المنزل، لكن والد عمر مصرفي، عمل لسنوات في الخليج، ثم عاد إلى الأردن بعد أن استلم وظيفة في أحد البنوك في المملكة. وقد غطى التأمين الصحي الممتاز الذي يتمتع به قسمًا كبيرًا من التكاليف. بمشورة طبيب من العائلة، نقل الطفل إلى العناية المركزة في مستشفى خاص كبير، مجهز بشكل أفضل للتعامل مع أطفال السكري، حيث بقي فيها أربعة أيام. وهي تتذكر أن اليوم الأول بعد خروجها كان الأكثر مأساوية. في المستشفى كان هناك إحساس بالأمان، توفره حقيقة أن الطفل محاط برعاية طبية متخصصة. لكن هذا تغير عندما نقل إلى المنزل، وانتقلت مسؤولية رعايته إليها. لقد كانت مرعوبة لدرجة أنها كانت تقيس له السكر عدة مرات في الساعة الواحدة. وفي اليوم الذي تلا خروجه تقول «حرفيًا أنا ما نمت. صارت الساعة سبعة الصبح وأنا صاحية معه. هو بصيح ويظل يبكي. وأنا أظل أعطيه إبر».
رغم فجاعة الخبر، تقول أم عمر إنها عرفت من البداية أن لا وقت لديها لتضيعه في الاستسلام للمشاعر السلبية. «كان واجب عليّ ما أقعد وأندب حظي، لأني عارفة إنه بده رعاية كثير قوية».
لقد كان كم وخزات الإبر التي تعرض لها عمر من أجل قياس السكر في الدم، وحقن الأنسولين، هو أصعب جزء من تجربة رعايته. لهذا هي ممتنة لأنها لم تضطر وإياه لخوض هذه المعاناة أكثر من يوم واحد. فقد أخبرها الأطباء في المستشفى عن خيار لحقن الأنسولين بديل عن الإبر هو المضخة. وهو جهاز صغير مزود ببربيش وخزان صغير للأنسولين، يثبت في بطن الطفل، ويتم من خلاله ضخ الأنسولين بالجرعات المطلوبة. وميزته، إضافة إلى أنه يوفر علي الطفل ألم الوخز، أنه يقلل بما لا يقاس التغيرات التي تصيب الجلد في الأماكن التي يتكرر فيها الوخز.
اشترى والد عمر المضخة بأربعة آلاف دينار. وهي تأتي مع بربيش وخزان للأنسولين، تبلغ كلفة تغييرها شهريًا 130 دينار تقريبًا. وهي مبالغ غطى تأمين عمل زوجها ما نسبته 75% منها. كما غطى النسبة ذاتها من فاتورة العناية المركزة التي بلغت أربعة آلاف دينار في المستشفى الخاص. لكن التأمين لم يغط جهاز قياس السكر الآلي، الذي اشترته العائلة، والذي وفر هو أيضًا على عمر عناء الوخز بالإبر. إضافة إلى كل هذا، اشترت جهازًا ثالثًا بـ140 دينارًا، لم يغطه التأمين أيضًا، حسّن من أداء جهاز القياس. فهو يثبت عليه، وبدل تمرير الهاتف على جهاز القياس، فإن الجهاز الجديد يرسل إلى هاتفها وهاتف والد عمر تنبيهات، كل خمس دقائق، بقراءة مستوى السكر في الدم. وتقول إنها لا تتخيل كيف كان سيكون وضعهما من دون هذا الجهاز. ولا كيف كان سيكون الحال، فيما لو ترجمت هذه المتابعة إلى وخزات إبر.
ميزة أخرى يوفرها هذا الجهاز هي أنه في حالتي الارتفاع والانخفاض عن الحد الآمن، يبدأ بإصدار نغمة تحذيرية. وهذا يجعله مصدر طمأنينة بالنسبة لها عندما سيبدأ عمر، بعد أقل من سنة، الروضة. إذ ستكون ووالده على علم طوال اليوم بوضعه داخل المدرسة.
رغم استخدام المضخة، تقول أم عمر إن هذا لم يعن استغناءها عن أقلام حقن الأنسولين، والتي تحملها معها من باب الاحتياط. المسألة أن برابيش المضخة مستهلكة، وبسبب القوام الثقيل للأنسولين، فإنه يمكن لهذه البرابيش أن تنسد، خصوصًا عندما يكون موعد تبديلها قد اقترب. لهذا تحمل معها دائما أقلام أنسولين من باب الاحتياط. أقلام الأنسولين، التي تستخدمها، مصممة بحيث يتاح لها إعطاء جرعات دقيقة تتضمن أجزاء من الوحدة. وهي ضرورية جدًا في حالة مصابي السكري من الأطفال الرضع. هذه الأقلام لا يشملها التأمين الصحي المجاني، المقتصر على أقلام مقسمة إلى وحدات كاملة.
بعد سنتين، تقول إنها الآن باتت أكثر قدرة على إدارة مرضه، بحيث أن وضعه لم يتدهور بعد تلك المرة عند بداية تشخيصه. لكن هذا يأتي مع ثمن، هي معاناة طوال اليوم مع أكله وشربه، وهواجس الارتفاع والانخفاض في مستوى السكر. وفي أحيان كثيرة لا تكون قادرة على السيطرة على طعامه وشرابه، من ناحية النوعية والمواعيد. خصوصًا مع وجود طفل آخر في العائلة، يأكل أمامه أنواع طعام لا يفترض به هو أن يأكلها. لقد جربت أن تعطيه الأطعمة الخاصة بمرضى السكر، لكنه لم يستسغها.
ورغم تقبلها للواقع، هناك هاجس لا يفارقها يتعلق بالتأثير المحتمل لمرض السكري على قدرته على الإنجاب، عندما يكبر ويقرر الزواج. وذلك لأنها تعرف أن مرض السكري بشكل عام يؤثر على هذه الناحية. تقول إنها تنوي مناقشة الأمر مع طبيبته. لكن مبدئيًا، ما يخفف عنها هو أنها تعرف العديد من الحالات لأشخاص عانوا المرض نفسه، وأنجبوا من دون مشاكل.
*هذا التقرير جزء من مشروع «عيون» للصحافة المحلية.