كأنها تحب أن تسخر منّا على العلن، وترد لنا الإهانة حين أطلقنا على العلم المختص بدراستها -وغيرها من الكائنات التي نعتبرها في أعيننا صغيرة للغاية- اسم «الميكروبيولوجي»، تنبري الفيروسات كل بضع سنوات في استهداف البشر ضاربةً إحدى حواضرهم العملاقة، قبل أن تندلع موجات التفشي لتطول مواضع أخرى هنا وهناك، ناشرةً معها رعبًا حقيقيًا من أشياء في غاية الضآلة لا تدركها حواسنا. يحدث هذا الآن مع فيروس كورونا الجديد، وحدث من قبله مع فيروسات سارس وميرس وغيرها، وسيحدث في المستقبل مع فيروسات أخرى تنعس الآن، لكنها تراقبنا من بعيد بنصف عين، وتنتظر. ولنحكيَ الحكاية، لا بد أن ننطلق من البداية.
ما هو الفيروس؟
حتى هذه اللحظة لا توجد إجابة شافية تمامًا لهذا السؤال، أو الأحجية. لم يبتّ العلم إلى اليوم بانتماء الفيروسات إلى الكائنات الحية، ولا يكاد العلم يستقر على تعريف للفيروسات، حتى يظهر فيروس جديد يمزق التعريف السابق. فمثلًا، يصل العلماء إلى اتفاق بشأن أن الفيروسات أصغر كثيرًا من البكتيريا -وأبسط بما لا يُقاس- في التركيب والمادة الوراثية، فيأتي اكتشاف فيروسات بيثوفيروس التي تناهز البكتيريا في الحجم (بطول يصل إلى 1.5 ميكرومتر، بينما تتراوح أطوال البكتيريا في المعتاد بين 0.2 و2 ميكرومتر)، ثم تظهر فيروسات كلوسنيوفيروس المجهزة بعشرات الإنزيمات ومعدات إنتاج البروتينات بصورة لم يشاهدها العلم في أي فيروس معروف قبل ذلك. وهكذا ينتهي العلماء في كل مرة بإخراج تعريف جديد أكثر غموضًا من سابقه، حتى وصلنا إلى التعريف الذي يقول إن الفيروسات هي «كيانات» مجهرية مُعدية من مادة وراثية محاطة بغلاف بروتيني، لا تستطيع ممارسة «الحياة» إلا داخل خلايا الكائنات المضيفة.
ماذا عن كورونا؟
كورونا اسم يعني التاج، أو الإكليل (جاء من الشكل الذي تظهر به فيروسات كورونا تحت المجهر ككرات متوجة مشعة). وهو اسم لا يُطلق على فيروس واحد وإنما على مجموعة من الفيروسات المعدية للطيور والثدييات، والمعروفة منذ ستينيات القرن الماضي. وهناك سبعة أنواع معروفة حتى الآن من فيروسات كورونا التي تمكنت من عدوى خلايا البشر، منها فيروس سارس-كوف (SARS-CoV) الذي تفشى في الصين وبلاد جنوب شرق آسيا بين عامي 2002 و2003 مسببًا ما عُرف بالمتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة، وفيروس ميرس-كوف (MERS-CoV) الذي ظهر عام 2012 في المملكة العربية السعودية وأُطلق على المرض الذي تسبب به متلازمة الشرق الأوسط التنفسية أو «إنفلونزا الإبل»، وأخيرًا فيروس كورونا الجديد الذي اتُّفق مؤخرًا على تسميته سارس-كوف-2 (SARS-CoV-2) والذي انطلق من مدينة ووهان الصينية في كانون الأول/ديسمبر 2019، بينما أطلق على المرض الذي يسببه اسم كوفيد-19 (COVID-19) أو مرض فيروس كورونا لعام 2019.
تضم عائلة كورونا الكثير من أنواع الفيروسات المتخصصة في استهداف الحيوانات. ومن العجيب أن فيروسات سارس وميرس وكورونا الجديد (سارس-كوف-2) كانت ثلاثتها في الأصل من فيروسات الوطاويط، وهي الحيوانات التي يُفترض أن الاختلاط بينها وبين البشر لا يتم إلا في أضيق الحدود. لكن ثمة حيوانات أخرى أكثر قربًا من البشر تعمل كحلقات وسيطة بين الوطاويط وبيننا. في فيروس سارس القديم، كان الحيوان الوسيط هو قطط الزباد البرية التي يربيها بعض التجار في أقفاص ويطعمونها بإفراط ثمار البن من أجل استخراج بذوره من روثها، ليباع فنجان القهوة الواحد من بُنّ الزباد (أو كوبي لواك) بسعر قد يصل إلى 80 دولار أمريكي. أمّا الحلقة الوسيطة في فيروس كورونا الجديد فما زالت لغزًا، رغم أن بعض الدراسات الجادة تشير بأصابع الاتهام إلى حيوانات «أم قرفة»، المعروفة أيضًا بآكلات النمل الحرشفية. يُصاد هذا الحيوان في الصين إلى الحد الذي وضعه على قوائم الأنواع المهددة بالانقراض، ورغم القوانين التي تحظر صيده هناك وتعاقب المتورطين بالسجن لفترات تصل إلى عشرة أعوام، يُصاد لا من أجل القهوة هذه المرة بل من أجل تقديم حسائه الشهير كوجبات فاخرة مرغوبة، ومن أجل حراشفه التي تُسلخ من فوق جسده لاستعمالها في وصفات الطب الشعبي الصيني. تلك الحراشف التي ميَّزته بكونه الكائن الوحيد بين جميع الثدييات الذي يكتسي جسده بالحراشف، وهو ما حماه طويلًا من شتى المفترسات، باستثناء الإنسان بالطبع، الذي يصر على تخطي كل الحدود والتدخل في النظام الدقيق العتيق لحيوات كل جيرانه على هذا الكوكب.
كورونا اليوم وغدًا
في الثلاثين من ديسمبر/كانون الأول عام 2019 أبلغت السلطات الصينية، بعد محاولات من التكتم والاحتواء، منظمة الصحة العالمية بظهور العديد من حالات المرض الجديد الذي أطلق عليه بعد ذلك كوفيد-19. اليوم، يتجاوز عدد المصابين حول العالم 105 آلاف شخص، بينهم أكثر من 80 ألفًا داخل الصين، بينما ينتشر المصابون الآخرون -حوالي ثمانية عشر ألفًا- في 101 دولة/منطقة، حسب منظمة الصحة العالمية. وقد تجاوزت الوفيات عالميًا بسبب الإصابة 3500 إنسان، وكانت أكثر الدول تأثرًا بالإصابة بعد الصين هي كوريا الجنوبية، ثم إيطاليا ثم إيران.
أمّا في الدول العربية، فباستثناء العراق التي شهدت أربعة وفيات، لم تبلغ السلطات حتى الآن بأية وفيات مؤكدة. بينما تقول الأرقام إن هناك عشرات الإصابات في كل من البحرين، والكويت، والعراق، الإمارات وفلسطين ولبنان، بينما توجد إصابات أقل في كل من الجزائر وعُمان وقطر والسعودية والمغرب وتونس والأردن. بينما خرج بيان مشترك من وزارة الصحة المصرية ومنظمة الصحة العالمية يوم 6 مارس يعلن عن اكتشاف 12 حالة إصابة على إحدى البواخر النيلية بين الأقصر وأسوان، قبل أن تصرّح وزيرة الصحة في اليوم التالي بارتفاع عدد المصابين إلى 45. وقد تزامنت هذه التصريحات مع انطلاق موقع إلكتروني مختص بمتابعة الوضع القومي والعالمي لتفشي فيروس كورونا الجديد.
لكن الجدير بالذكر أن الأرقام تقول كذلك إن هناك حتى الآن أكثر من 57 ألف حالة إصابة عالميًا قد تماثلت للشفاء.
نسب الشفاء ليست كافية للإجابة عن السؤال حول مستقبل كورونا، لكن هذا السؤال يقع في صلب علمٍ صعبٍ يضم بدوره مباحث من علوم شتى من الرياضيات إلى الجغرافيا، هو علم الوبائيات (Epidemiology). ومن أجل تقديم تصور لما يمكن أن تصير إليه الأمور في وباءٍ ما، يقدم علم الوبائيات بعض المفاهيم الهامة.
أول هذه المفاهيم المحورية ما يُعرف بعدد التكاثر الأساسي (Basic Reproduction Number) أو اختصارًا R0 (تُنطَق آر نوت). يخبرنا هذا الرقم بمتوسط عدد الأشخاص الذين سيتعرضون للعدوى من شخص واحد مصاب. فإذا كان -على سبيل المثال- عدد التكاثر الأساسي (آر نوت) لفيروس ما = 3، فهذا يعني أن شخصًا واحدًا مصابًا بهذا الفيروس يُحتمَل أن ينقل العدوى إلى ثلاثة أشخاص.
هناك فيروسات تمتلك أرقامًا مخيفة، مثل النُّكاف (4 إلى 7) وشلل الأطفال (5 إلى 7) والجدري (5 إلى 7) والدفتيريا (6-7) والحصبة (12 إلى 18). أمّا فيروس كورونا الجديد فمتوسط رقمه حتى الآن هو 2.2 تقريبًا، وهو ليس رقمًا كبيرًا إذا قورن بالفيروسات السابقة، لكن طالما كان الرقم أكبر من 1، فإن هذا يعني أن الفيروس ما زال قادًرا على الانتشار، فموجات التفشي لا تبدأ في الانحسار حتى تقل قيمة (آر نوت) عن الواحد الصحيح.
أمّا الثاني، فهو معدل إماتة الحالة (Case Fatality Rate) أو اختصارًا CFR. يخبرنا معدل الإماتة بمتوسط النسبة المئوية لمن سيموتون بالمرض مقابل عدد الذين أصيبوا به. يمتلك فيروس داء الكَلَب (Rabies) -على سبيل المثال- معدل إماتة مفزعًا يقترب من 100% (إذا لم يُعالَج). أمّا عند فيروس الإيبولا فمعدل الإماتة يبلغ 50% تقريبًا. بينما فيروس الحصبة الذي يتمتع بعدد تكاثر أساسي استثنائي، لا يمتلك -لحسن الحظ- معدل إماتة مرتفع. لكن معدلات الإماتة المنخفضة لا تعني بالضرورة هوان الخطر، ففيروس الإنفلونزا الموسمية قد تسبب في الولايات المتحدة وحدها (وبين تشرين الأول/أكتوبر 2019 وشباط/فبراير 2020 فقط) في وفاة ما بين 20 ألف إلى 52 ألف إنسان.
هكذا نرى أن معدل الإماتة هو رقم غامض بما يكفي، فكيف إذا كان معدل الإماتة الخاص بفيروس كورونا الجديد غير محسوم إلى الآن؟ وهذا طبيعي تمامًا مع طوفان الأرقام التي تتغير على مدار الساعة. إذا نظرنا للفيروسات الأخرى من نفس عائلة كورونا، سنجد أن فيروس سارس قد أصاب 8437 حالة وأدى إلى وفاة 813، بمعدل إماتة 9.63%، أما فيروس ميرس فقد أصاب 2499 حالة وأدى إلى وفاة 861 بمعدل إماتة بلغ 34.45%. بينما تقول أرقام منظمة الصحة العالمية -التي لا زالت أولية في الوقت الراهن- أن معدل الإماتة الخاص بفيروس كورونا الجديد يتراوح من 3% إلى 4%، ما قد يبدو أقل بشكل ملحوظ من سابقيه. لكننا يجب ألا ننسى كذلك أن إجمالي عدد المصابين بكوفيد-19 يساوي تقريبًا عشرة أضعاف إجمالي المصابين بسارس وميرس معًا، كما لا يجب أن ننسى أن معظم الأسئلة الهامة تبقى إجاباتها غير محسومة حتى الآن، مثل مدى قدرة الفيروس على نشر العدوى، ومدى إمكانية أن ينقل العدوى أشخاصٌ لا تظهر عليهم أية أعراض، وما إذا كانت الحيوانات التي تحمل الفيروس قادرة حقًا على نقله إلى البشر، وما إذا كان ممكنًا أن تنقله الأم الحامل إلى وليدها، وعلامات استفهام أخرى كثيرة تبقى معلقة في الهواء.
سيناريوهات النهاية؟
في بداية انتشار فيروس كورونا الجديد، كانت الآمال منعقدة على أن يتم احتواء المرض في مناطق محدودة، مثلما حدث مع موجة تفشي سارس التي انتهت بهذه الطريقة عام 2003، لكن مع مرور الوقت وقصور تقنيات التشخيص عن مواكبة السرعة التي ينتشر بها الفيروس، ومع ترجيح أن الفيروس له القدرة على الانتشار قبل أن تظهر الأعراض، بعكس سارس القديم، بدأت هذه الآمال في التبخر.
اقرأ/ي أيضا:
وفي تصريحات ثقيلة الوطأة لشبكة CBS الأمريكية، قال الدكتور مارك ليبشيتس أستاذ علم الوبائيات بهارفارد -وواحد من أهم خبراء الفيروسات في العالم- إنه يرجح أن فيروس كورونا الجديد سينتقل إلى نسبة ضخمة من تعداد البالغين في العالم (بين 40% إلى 70%) وأنه سيؤدي إلى وفاة نسبة 1% تقريبًا من جملة المصابين، وهو ما يعني -وفق هذا التصور- أن كورونا الجديد يمكن أن يقتل الملايين. وما قد يزيد الطين بلة ما أعلنته منظمة الصحة العالمية من قلقها بشأن عجز التجهيزات الطبية في العديد من دول العالم عن مواجهة موجات التفشي المحتملة.
لكن هذا السيناريو الكارثي ليس حتميًا. تقول تارا سميث خبيرة علم الوبائيات بجامعة كِنت: «إذا نجحنا في إبطاء معدل انتشار الفيروس بحيث تتوزع أعداد الإصابات المسجلة خلال شهر (بالمعدلات الحالية) على فترات أطول تصل إلى عشرة أشهر مثلًا، سيحد ذلك بالتأكيد من تفاقم الحالات المصابة، وسيقلل من الضغط الشديد على المستشفيات، وسيخفض من أعداد الوفيات المحتملة، وسيعطي فرصًا أفضل في الوصول إلى علاجات أو لقاحات».
لكن هذا بالطبع سيتطلب قدرًا هائلًا من الوعي والانضباط والتعاون بين جموع الناس، وقدرًا أكبر من الصدق والحكمة وإعلاء المصلحة العليا للإنسانية من جميع الحكومات. وربما يحالفنا الحظ ونكتشف، مع زحف الربيع والصيف من بعده، أن ارتفاع الحرارة ربما سيؤثر على حدة تفشي فيروس كورونا الجديد، ويتيح للعلم هدنة تكفي للوصول إلى نتائج مبشرة في هذا السباق المخيف، الذي لن يترك للبشرية -على الأرجح- الكثير من الدروس المستفادة.