يمنحنا كتاب موراي كاربنتر الجديد عن كوكا كولا سببًا إضافيًا لمقاطعة الشركة التي تروي عطش جنود الجيش الإسرائيلي الإبادي. وربما سيوسع مجال تلك المقاطعة إلى شرائح ومناطق غير مهتمةٍ بما يجري في فلسطين، كما لم يهتموا قبل عقودٍ بدعم الشركة لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وقبل ذلك دعمها وتعاونها مع النازيين في ألمانيا. فعملاق صناعات المشروبات الغازية الأمريكي، منذ عقودٍ يمول ضربًا من الإبادة الصحية من خلال شراء ذمة العلم. وهو ما يشرحه كاربنتر في تحقيق استقصائي طويل ومفصل صدر حديثًا عن دار نشر معهدِ ماساتشوستس للتكنولوجيا تحت عنوان: «حلو وقاتل: كيف تنشر كوكا كولا معلومات مضللة وتصيبنا بالمرض».
يشير كاربنتر إلى أن فكرة الكتاب قد تطورت من كتابه السابق عن اقتصاد الكافيين، عندما اكتشف أن المشروب المحتوي على الكافيين الذي يستهلكه الأمريكيون بكثرة هو الصودا. مجادلًا في هذا الكتاب، بأن مجموعةً متزايدة من الأبحاث تُظهر أن المشروبات المُحلاة بالسكر هي العنصر الرئيسي في النظام الغذائي الأمريكي الذي يُساهم بشكلٍ كبير في الإصابة بالسمنة، وداء السكري من النوع الثاني، وأمراض القلب والأوعية الدموية، والتي تُودي جميعها بحياة ملايين الناس سنويًا. ويعود عدم إدراك معظم المستهلكين لهذه الحقيقة، إلى أن شركة كوكا كولا، رسمت منذ سنواتٍ سياسةً لتطوير حملة تضليلٍ شديدة الفعالية مُصممة لتمويل الدراسات الصحية وتحويل وجهة نتائجها، وكذلك بناء عددٍ من الواجهات العلمية والمدنية لإنتاج سرد علمي واجتماعي مخالفٍ للواقع لزيادة مبيعاتها وكسر كل محاولة للطعن في منتجاتها الضارة، فضلًا عن تمويل واسعٍ لعددٍ من المؤسسات الأكاديمية ذات التأثير.
لكن اهتمام الكاتب بنشاط الشركة الأمريكية العملاقة في السوق الأمريكية وتأثيراتها على المستهلك الأمريكي، لا تحجب انسحاب هذه السياسات على بقية فروع الشركة في العالم، حيث ما تزال تحتفظ بشعبية هائلةٍ، بفضل سخائها تجاه وسائل الإعلام السائدة من خلال نظام توزيع الإعلانات، وكذلك مع الهيئات الرياضية مثل الفيفا واللجنة الأولمبية الدولية وغيرها من المؤسسات التي تشرف على تنظيم تظاهرات رياضية دولية. ولكن في بعدٍ أكثر عمقًا، يطرح كتاب موراي كاربنتر على نحو ضمني سؤالًا مهمًا عن استقلالية العلم في ظل الرأسمالية، وهو سؤال ليس بجديد، ولكنه يعود دائمًا إلى النقاش بسبب ضعف الدولة ومؤسساتها الرقابية أمام تمدّد قوة رأس المال. الأمر الذي يهدد، ليس فقط الشفافية والاستقلال في تمويل البحوث الصحية لضمان أن سياسات الصحة العامة تستند إلى أدلة علمية دقيقة وغير متحيزة، كما في مثال كوكا كولا، ولكن مصداقية العلم نفسه في تقديم معرفة مفيدة للبشر.
أَطعِم الفمَ يستحي العلم!
رغم تحوّل العلاقة بين المشروبات الغازية المحلاة وكثيرٍ من الأمراض، ولا سيما السكري، إلى نوعٍ من البداهة، إلا أن لكوكا كولا القدرة المالية على تحويل هذه البداهة إلى خرافة. يثبت موراي كاربنتر، من خلال تقصي عددٍ هائلٍ من الدراسات العلمية والدعاوى القضائية والسجالات التي دارت بين الشركة الأمريكية وخصومها، أنها نجحت دائمًا في التصدي ببراعة لكل طعنة من دعاة الصحة ضدها. فقد أنفقت ملايين الدولارات على تزييف الحقائق العلمية لإخفاء التكاليف الصحية للمشروبات الغازية عن الجمهور والتقليل من مخاطر السكر. ومن بين الأكاذيب الغذائية التي تروجها كوكا كولا فكرة أن السعرات الحرارية هي مجرد سعرات حرارية. ففي العام 2013 قال جيمس كوينسي، الرئيس التنفيذي الحالي للشركة: «عندما نتحدث عن السُمنة، فالسعرة الحرارية هي مجرد سعرة حرارية. نحن بحاجة إلى توازن في السعرات الحرارية. وإذا كنت تتناول الكثير منها، أو تحرقها، فهذه مشكلة؛ بغض النظر عن مصدرها». وقبله قالت كاتي باين، الرئيسة السابقة للتسويق في الشركة، «لا نؤمن بالسعرات الحرارية الفارغة».
لكن ما يقوله قادة كوكا كولا مخالف للعلم، فليست جميع السعرات الحرارية متساوية، حيث أظهرت الأبحاث أن السعرات الحرارية من السكر السائل لا تُستقلب بنفس طريقة استقلاب السعرات الحرارية من الحبوب الكاملة، أو من الفاكهة أو المكسرات. وفي عام 2019، حللت دراسة نُشرت في مجلة «سياسات الصحة العامة»، التابعة للـ«جمعية الوطنية لسياسة الصحة العامة الأمريكية»، أكثر من 87 ألف وثيقة جُمعت بموجب طلبات حرية المعلومات. وكشفت الدراسة أن عقود شركة كوكا كولا مع الجامعات الحكومية في الولايات المتحدة وكندا تضمنت بنودًا تسمح للشركة بإنهاء الدراسات دون إبداء أسباب، مع الاحتفاظ بالسيطرة على البيانات والملكية الفكرية. وقد تُمكّن هذه البنود شركة كوكا كولا من طمس النتائج السلبية، مما يتناقض مع التزاماتها العلنية بالشفافية في تمويل الأبحاث.اقرأ/ي أيضا:
في هذا المجال لا يتعلق الأمر بكوكا كولا فقط، فقد رصدت الكثير من الدراسات التحليلية تحيز التمويل في أبحاث الأغذية المتعلقة بالأطعمة فائقة المعالجة. ولا يتعلق الأمر بالوضع الراهن، فهذه العلاقة الزبائنية تعود إلى الطفرة الاقتصادية الكبرى ما بعد الحرب العالمية الثانية. فقد وجدت دراسة تحليلية نشرتها مجلة «الجمعية الأمريكية للطبّ الباطني» عام 2016، أن صناعات السكّر رعت برنامجًا بحثيًا في الستينيات والسبعينيات نجح في إثارة الشكوك حول مخاطر السكر الصناعي، مع الترويج للدهون كمسبب غذائي لأمراض القلب التاجية. كما وجدت دراسة أخرى، بحثت أثر المموّل، أن الأبحاثَ التي أجريت بين عامي 2008 و2016 وكانت مموّلة من كوكا كولا، قد توصلت لنتيجة أن الخمول البدني، وليس الطعام أو النظام الغذائي، هو الذي يسبب جائحة السمنة.
ورغم وجود أدلة جيدة تُظهر أن النشاط البدني مهم للحفاظ على فقدان الوزن، إلا أن هناك أدلة أقلّ فيما يتعلق بزيادة الوزن. وجدت مراجعة منهجية لـ389 دراسة برعاية كوكا كولا في 169 مجلة، أن معظم تلك الدراسات قد خَلُصت إلى أن أزمة السمنة ناتجة عن الخمول البدني. وعندما نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» مقالًا بعنوان «كوكا كولا تمول العلماء الذين يتجنبون لوم الأنظمة الغذائية السيئة»، أنشأت الشركة مبادرة شفافية، أدرجت خلالها جميع الدراسات التي كانت تمولها على موقعها الإلكتروني. ومع ذلك، وجد تحليل شبكي لتمويل كوكا كولا البحثي بين عامي 2008 و2016 أن الشركة أبلغت فقط عن حوالي 5٪ من الدراسات التي مولتها. ويمتد تأثير تمويل الصناعة إلى المؤسسات الأكاديمية، فبين عامي 2011 و2015، قدمت شركة كوكا كولا مبلغ 1.9 مليون دولار إلى «جامعة ألاباما» لأغراض البحث والشراكات. وفي عام 2017 كشفت دراسة حالة لرسائل البريد الإلكتروني المتبادلة بين شركة كوكا كولا والباحثين الرئيسيين في «الدراسة الدولية لسمنة الأطفال ونمط الحياة والبيئة» عن تبادلات تفصيلية حول تصميم الدراسة، وتقديم النتائج، والاعتراف بالتمويل. ورغم أن الدراسة لم تعلن عن الجهة المُموِّلة، إلا أن المراسلات تُشير إلى عكس ذلك، مُسلِّطةً الضوء على تعقيد تضارب المصالح في مجال البحث العلمي. وتطرح مثل هذه العلاقات المالية بين المؤسسات الأكاديمية والشركة نقاشًا حول موضوعية نتائج الأبحاث واحتمال التحيّز في الدراسات التي تبحث في التأثيرات الصحية للمشروبات الغازية.
وقد أتاحت مهمةُ تغطيةِ الصراع القضائي بين «مؤسسة كروس فيت» للياقة البدنية، وشركات المشروبات الغازية، لموراي كاربنتر التعرف أكثر على الدور الذي لعبته كوكا كولا في رعاية الأبحاث العلمية من خلال اطلاعه على وثائق قضائية. ومن بين 60 دراسة أُجريت حول العلاقة بين المشروبات الغازية وأمراض السمنة وداء السكري من النوع الثاني منذ عام 2001، لم يجد ما يقرب من نصفها أي صلة بين المشروبات الغازية والمشاكل الصحية، وكان للباحثين الذين أجروا الدراسات روابط مالية مع صناعة المشروبات. وقد كشفت شركة كوكا كولا في عام 2015 عن إنفاقها 118.6 مليون دولار أمريكي خلال خمس سنواتٍ على البحث العلمي وشراكات الصحة. وفي قائمة المنظمات التي تمولها الشركة، نجد العديد من المنظمات الطبية المؤثرة التي تلقت تمويلًا، بما في ذلك «الجمعية الأمريكية للسرطان»، التي تلقت حوالي مليوني دولار، و«الجمعية الأمريكية لأمراض القلب»، التي تحصلت على حوالي 3.1 مليون دولار، و«أكاديمية علوم التغذية». وبينما تزعم الشركة أن هذا التمويل يهدف إلى دعم المبادرات الصحية، يبدو واضحًا أن هذا الانخراط المالي يسمح لها بتوجيه نتائج الأبحاث والرأي العام بما يخدم مصالحها. ذلك أن هذه العلاقات المالية تؤثر على أجندات البحوث وسياسات الصحة العامة، وغالبًا بطرق تُرجّح كفة مصالح الصناعة على حساب الصحة.
استراتيجية الواجهات
الجانب الثاني، والأكثر غموضًا، الذي يكشفه كتاب موراي كاربنتر، هو استراتيجية الواجهات، التي تتبعها كوكا كولا. وذلك من خلال بناء عالم موازٍ للتضليل، عبر بناء مؤسسات ومنظمات خيرية ومدنية تبدو مستقلةً لخدمة أجندتها ضد الخصوم وضد محاولات كسر هيمنتها المالية والعلمية. من تلك الواجهات «شبكة توازن الطاقة العالمية»، وهي منظمة غير ربحية تموّل الأبحاث حول أسباب السمنة، تأسست عام 2014، وكانت معروفة بالترويج لفكرة أن قلة التمارين البدنية، وليس النظام الغذائي السيئ، هي المسؤولة بشكل أساسي عن السمنة. لكن تبين فيما بعد أن المنظمة ليست سوى واجهةٍ لشركة كوكا كولا، وقد موّلتها الشركة ووجّهتها منذ إنشائها لكنها أرادت لها أن تبدو مستقلة. ومنذ عام 2008، قدمت الشركة أيضًا ما يقرب من أربعة ملايين دولار لتمويل مشاريع لاثنين من الأعضاء المؤسسين للمنظمة؛ هما الدكتور بلير، الأستاذ في جامعة كارولينا الجنوبية، والذي شكلت أبحاثه على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية الكثير من أسس المبادئ التوجيهية الفيدرالية بشأن النشاط البدني، وقد تلقى أكثر من 3.5 مليون دولار كتمويل من كوكا كولا لمشاريعه بحثية. والباحث الثاني هو غريغوري هاند، عميد كلية الصحة العامة بجامعة غرب فرجينيا، وهو أحد مؤسسي «السجل الوطني للتحكم في الوزن»، وهو دراسة طويلة الأمد للأشخاص الذين فقدوا أوزانهم، وقد خدم في لجان تابعة لمنظمة الصحة العالمية والمعاهد الوطنية للصحة، والذي تلقى أكثر 1.5 مليون دولار. وقد دفع ذلك الرئيس التنفيذي لكوكا كولا آنذاك، مهتار كينت، إلى تقديم اعتذارٍ علنيٍّ للغاية، في مقالٍ نشره في صحيفة وول ستريت جورنال بعنوان «سنُحسّن أداءنا». ويشكل «المعهد الدولي لعلوم الحياة» واجهةً أخرى، فهو منظمة دولية غير ربحية، تنشر دراسات حول التغذية وسلامة الغذاء، تأسس عام 1978 على يد أليكس مالاسبينا، المسؤول التنفيذي السابق في كوكا كولا، وفي عام 2020، بلغت إيراداته أكثر من عشرة ملايين دولار. ويشير الكاتب إلى نماذج من الأوراق العلمية التي ينشرها المعهد للتقليل من مخاطر السكر على الصحة، ولا سيما المشروبات الغازية.
أمّا على مستوى السياسات الضريبية، المرتبطة بمخاطر الصحة، فقد شكلت كوكا كولا في عام 2018 مجموعة ضغط مواطنية كواجهة مُحكمة لمساعدتها في التصدي لضرائب المشروبات الغازية التي فرضتها عدة بلديات في كاليفورنيا. فقامت الشركة وحلفاؤها في صناعة المشروبات الغازية، تحت ستار حملة «كاليفورنيون من أجل المساءلة والشفافية في الإنفاق الحكومي»، بجمع التوقيعات لدعم مبادرة على مستوى الولاية تُلزم البلديات بالحصول على موافقة ثلثي الناخبين قبل تطبيق أي تغيير ضريبي محلي. وقد أكسبها ذلك قوة تفاوضية، لمقايضة سحب المبادرة، مقابل قانون يحظر فرض ضرائب جديدة على المشروبات الغازية، حتى عام 2030. وقد قبل المُشرعون بهذه الصفقة ودفعوا بهذا البند كشرط مُلحق في مشروع قانون الميزانية. كما تبرعت كوكا كولا بأموال لبناء مراكز لياقة بدنية في أكثر من مائة مدرسة في جميع أنحاء الولايات المتحدة. وترعى الشركة برنامجًا يُسمى «الرياضة دواء» لتشجيع الأطباء على وصف النشاط البدني للمرضى. وعندما اقترح مجلس مدينة شيكاغو فرض ضريبة على المشروبات الغازية عام 2012 للمساعدة في معالجة مشكلة السمنة في المدينة، تبرعت الشركة بمبلغ ثلاثة ملايين دولار لإنشاء برامج لياقة بدنية في أكثر من 60 مركزًا مجتمعيًا في المدينة، وقد أدى ذلك إلى اختفاء مبادرة فرض الضرائب على المشروبات الغازية.
يكشف كتاب موراي كاربنتر عن الجانب المظلم لنشاط شركة كوكا كولا في الولايات المتحدة وتأثيراته على الصحة العامة، لكنه لا يغطي إلا جزءًا ضئيلًا من الجانب المظلم للنشاط العالمي للشركة ضد الصحة العامة وفي تدمير البيئة واستغلال العمال في دول الجنوب ودعم الأنظمة الفاشية والإبادية. ففضلًا عن دعم الشركة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، تعتبر كوكا كولا متبرعًا أساسيًا لـ«جماعة إم ترتسو»، الصهيونية اليمينية، والتي تقود منذ سنوات حملات ممنهجة ضد العرب في أراضي 1948. كما شهدت الهند نضالات قام بها «بلاتشيمادا» في ولاية كيرالا، احتجاجًا على شركة كوكا كولا، إذ لاحظ القرويون أنه وبعد افتتاح مصنع كوكا كولا في بلدتهم بفترة وجيزة، بدأت آبارهم تجف وأصبحت المياه المتاحة ملوثة وسامة.