في عام 2009 نُقل محمد إلى المُستشفى لتلقي العلاج بعد أن اكتُشفت إصابته قبلها بعامين بسرطان المعدة، وهو عامل وافد يعمل على نظام المياومة دون تأمين صحي، ولم يكن له إلا زوجته الأردنية عليا وأطفاله الثلاثة. واجهت عليا لحظات صعبة من أجل تسديد كمبيالة وقّعتها للمستشفى بقيمة ألفي دينار لتدخل زوجها إليه، فراتبُها كموظفة أمن وحماية لم يتعد آنذاك 200 دينار. ثم أخبرها أحد المقرّبين بإمكانية سحب اشتراكاتها من الضمان الاجتماعي دفعةً واحدة بعد تقديم استقالتها، وهو ما فعلته لتحصل على 500 دينار فقط، وتتدبّر باقي المبلغ من جمع المساعدات.
لم تفكّر عليا في الأمر كثيرًا قبل سحب اشتراكاتها من الضمان ضمن ما يعرف بـ«تعويض الدفعة الواحدة»، فحاجتها للحصول على المبلغ سريعًا كانت أولويتها الوحيدة: «بعرف إنه هيك ضماني بروح علي، بس ما في حل ثاني». ورغم الحاجة للعودة إلى العمل إلا أنها لم تستطع إيجاد مكان تترك فيه أبناءها، تحديدًا وأن عمر ابنتها الصغرى لم يتعد الأشهر، كما لم يعد بإمكان زوجها العناية بالأطفال خلال ساعات عملها. تذكر عليا أنهم ظلوا لعامين دون مصدر دخل، معتمدين في معيشتهم على المساعدات. وفي عام 2011 توفي محمد، واضطرت للعودة إلى العمل في المجال نفسه، وبراتبٍ يبلغ 280 دينارًا هذه المرة، وظلت في العمل حتى عام 2019.
تراكمت عليها الديون في تلك السنوات، كما احتاجت مبلغًا مستعجلًا لإجراء عملية الزائدة لأحد أبنائها، وعلمت بإمكانية سحب اشتراكاتها مجددًا من الضمان بعد استقالتها لأنها أرملة. فاستقالت مرّة أخرى، وحصلت بعد أيام على تعويض الدفعة الواحدة بقيمة ألف دينار دفعت بها التزاماتها الاضطرارية: «عندي كثير التزامات الراتب ما بغطيها، لما يكون إيجار البيت 150، وابني عمل عملية، وبناتي مدارس ومصاريف، شو همة الـ280 دينار؟».
ثم حصلت على عمل آخر براتب 320 دينار، عملت مدة سنتين ونصف، ولكنها أرادت تجديد جواز سفر ابنتها لتحصل على رقم جلوس لامتحانات التوجيهي، ولم يكن المبلغ بحوزتها، فأشار عليها أحد أقاربها بسحب اشتراكها للمرة الثالثة، فاستقالت مجددًا، لتكتشف بعد مراجعة مؤسسة الضمان الاجتماعي عدم انطباق الشروط عليها. هكذا خسرت عملها دون الحصول على التعويض، ما زاد وضعها سوءًا، وراكم عليها ديون إيجار المنزل. وهي حاليًا لا تمتلك إلا راتبًا تقاعديًا من الضمان ورثته عن والدتها بقيمة 135 دينارًا، عادت لتحصل عليه بعد وفاة زوجها واستقالتها، حيث يوقف نصيب المرأة من راتب الضمان المتوارث عند زواجها أو عملها ويعاد لها في حال طلاقها أو ترملها، وهو ما تعتبره مفارقة في حياتها، صحيح أنها لا تندم على سحب تعويض الدفعة الواحدة الذي اضطرت عليه مرارًا، لكنها تدرك جيدًا أهمية راتب والدتها من الضمان، خصوصًا أنها لم تستطع منذ حوالي تسعة أشهر الحصول على عمل آخر.
يتيح الضمان الاجتماعي للنساء أسبابًا أكثر للحصول على تعويض الدفعة الواحدة مقارنة بالرجال، فإضافة إلى الشروط التي تنطبق على الجنسين كانتهاء خدمة المؤمن عليه الأردني أو حصوله على جنسية أخرى أو التخلي عن الجنسية الأردنية أو فقدانها، يمكن للنساء سحب اشتراكاتهنّ في حال انتهاء خدمتهن والتفرغ لشؤون الأسرة عند الزواج والطلاق والترمّل، وبحالة السيدة العزباء التي تجاوزت الأربعين عامًا، حيث تحصل على مبلغ مقطوع بدلًا من الراتب التقاعدي، إلا إن أعادت المبالغ التي حصلت عليها من التعويض إضافةً إلى أيّة رسوم وفوائد تُفرض على إعادة المبلغ.
عمومًا، تشكّل النساء النسبة الأقل من المؤمن عليهم في الضمان الاجتماعي، إذ بلغ عدد المؤمن عليهم من الأردنيين الفعالين إلزاميًا في 2022 حوالي 1.206 مليون، شكلت نسبة الذكور منهم 70.9% والإناث 29.1%. وفي عام 2021 وصل عدد النساء اللواتي سحبن تعويض الدفعة الواحدة أكثر من عشرة آلاف سيدة بسبب الزواج والطلاق والترمّل، إضافة إلى 578 سيدة عزباء فوق الأربعين. وقد بلغت نسبة صرف تعويض الدفعة الواحدة -خلال العام نفسه- للأسباب السابقة وحدها نحو 58.4% من مجمل المستفيدين من تعويض الدفعة الواحدة.
عمومًا، تشكّل النساء النسبة الأقل من المؤمن عليهم في الضمان الاجتماعي، بحوالي 29.1%. وفي عام 2021 وصل عدد النساء اللواتي سحبن تعويض الدفعة الواحدة أكثر من عشرة آلاف سيدة بسبب الزواج والطلاق والترمّل، إضافة إلى 578 سيدة عزباء فوق الأربعين.
وتشير بيانات مؤسسة الضمان الاجتماعي لعام 2023 إلى تقاعد نحو خمسة آلاف سيدة، فيما حصلت في العام نفسه 22 ألف امرأة على تعويض الدفعة الواحدة؛ أي أكثر من أربعة أضعاف النساء اللاتي حصلن على رواتب تقاعدية. في مقال سابق له، يوضح الباحث في التأمينات الاجتماعية محمد الزعبي، أن معظم النساء المشتركات في الضمان يحصلن على تعويض الدفعة الواحدة، لا على راتب تقاعدي، مرجعًا ارتفاع هذه النسبة لعدة أسباب منها ترك كثير من النساء العمل قبل فترة طويلة من الوصول إلى سن التقاعد، بالإضافة إلى ظروف الزواج وتربية الأطفال، والمرض، والأجور القليلة مقارنة بالرجال، وغيرها من الأسباب. فضلًا عن أن بعضهن يتعرضن أحيانًا لضغوط من أقاربهن تدفعهن لترك العمل مؤقتًا أو في وقت مبكر عن سن التقاعد، والتضحية بالراتب التقاعدي من أجل الحصول على التعويض، مضيفًا أن بعض النساء يعجزن لاحقًا عن تسديد الاشتراكات في حال رغبتهن بالعودة للاشتراك اختياريًا في الضمان.
ويرى الزعبي أن التسهيلات المقدمة للنساء لصرف تعويض الدفعة الواحدة، والتي لا يسمح بمثلها للرجال، تشجع النساء للحصول على مبلغ قد يكنّ في حاجته بدلًا من انتظار فترة طويلة للحصول على راتب تقاعدي. وهنا يشير خبير الضمان الاجتماعي، والناطق الإعلامي باسم المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي سابقًا، موسى الصبيحي إلى أن الأصل في تعويض الدفعة الواحدة أن يكون استثناءً، بحيث يستمر الاشتراك إلى حين استكمال شروط الحصول على راتب التقاعد، ولكن واقع التسهيلات المقدمة للنساء يؤكد أن سحب اشتراك الضمان يمثل قاعدة عامة بينهن، مشيرًا إلى أن عدم ضبط الشروط الخاصة بسحب الاشتراكات أدى إلى توسع خروج النساء من الضمان ما يؤثر على الحماية الاجتماعية لهن مستقبلًا.
يعتقد الصبيحي أنه لا ينبغي لبعض الحالات أن تكون ضمن المسموح لهن بالحصول على تعويض الدفعة الواحدة كإتمام المرأة العزباء أربعين عامًا، إذ يرى أن هذه الحالة هي الأجدر بالحفاظ على راتبها التقاعدي، مع تشديد الضوابط على حالات الزواج والطلاق والترمّل بالنسبة للمرأة، والحصول على جنسية أخرى بالنسبة للجنسين. مشيرًا إلى أن الشروط الحالية تسهل على النساء صرف التعويض من أجل احتياجات آنية، قد تكون غير ضرورية أحيانًا. وينسجم رأي الصبيحي هذا مع توصية أصدرها قبل سنوات[1] المجلس الأعلى للسكان، بإلغاء الاستثناء المطلق للسيدات في حالات الزواج والطلاق والترمّل لسحب اشتراكات الضمان الخاصة بهن، نظرًا لأن تعويض الدفعة الواحدة يمكن أن يكون عائقًا أمام إبقاء النساء في سوق العمل لمدد أطول.
التسهيلات المقدمة للنساء لصرف تعويض الدفعة الواحدة، والتي لا يسمح بمثلها للرجال، تشجع النساء للحصول على مبلغ قد يكنّ في حاجته بدلًا من انتظار فترة طويلة للحصول على راتب تقاعدي.
هكذا، يصير متاحًا للنساء صرف تعويض الدفعة الواحدة من الضمان الاجتماعي، حتى وإن لم يكن في حاجة ماسة إليها. هبة (38 عامًا) واحدة من هؤلاء، تزوجت في 2009 وكانت موظفة خدمة عملاء في أحد المولات بمدينة إربد، وقد عملت لسنوات براتب 200 دينار. بعد عامين من الزواج، ومن أجل التفرغ للعائلة قدّمت هبة استقالتها. ثم التقت بصديقتها نجلاء التي أخبرتها عن سحبها لاشتراكات الضمان دفعة واحدة بعدما تركت العمل عقب الزواج، فقررت هبة فورًا القيام بالمثل، لتحصل بعد أيام قليلة على 800 دينار، لا تذكر حتى أين أنفقتها.
«ما كنت مضطرة عليه (..) زمان ما كنا كتير واعيين عن موضوع إنه الضمان كتير مهم» تقول هبة، الأم لطفلين والتي لم تعد للعمل مطلقًا، وزوجها هو الآخر غير مشترك في الضمان، إذ يعمل بنظام المياومة: «إحنا لو فكرنا كيف بدنا ندبر حالنا بس نوصل سن التقاعد كان ما فكرنا نلغي الضمان من حياتنا»، مشيرة إلى أن زوجها اشترك عدّة مرات عندما عمل موظفًا، وكان يحصل على بدلات من الضمان عند تعطله عن العمل، لكنه لم يشترك اختياريًا عندما بدأ العمل بالمياومة. مضيفة أنها لم تفكر سابقًا بالاشتراك الاختياري وتسديد مبالغ تعويض الدفعة الواحدة لأنها لا تستطيع تسديد المبالغ الشهرية في ظل عدم وجود مصدر ثابت، لكنها وزوجها أعادا التفكير بالأمر مؤخرًا ساعين لإيجاد طريقة تمكنهم من الاشتراك مجددًا.
يقول الصبيحي إن صرف تعويض الدفعة الواحدة هو أوفر للضمان، فدفع نسبة من اشتراكات المؤمن عليه يبدو مربحًا بالنسبة إلى دفع راتب تقاعدي شهري مدى الحياة، مشيرًا إلى أنه لا ينبغي النظر إلى الضمان كمؤسسة استثمارية تهدف للربح، وإنما هو أداة لتحقيق الحماية الاجتماعية. أما الزعبي فيوضح أن سحب الدفعة الواحدة خسارة بالنسبة للمؤمن عليهم، إذ إن الضمان يدفع لمستحق تعويض الدفعة الواحدة أقل مما دُفع من اشتراكات، فنسبة الاقتطاعات التي يتحملها كلّ من صاحب العمل والمؤمن عليها تصل بمجملها إلى 21.5% من الأجر الخاضع للضمان، بينما يُدفع للمؤمن عليها 10% أو 12% أو 15% من مجموع الأجر الخاضع للاقتطاع (تتغير النسبة بحسب عدد سنوات الخدمة)، أي أن الضمان يحتفظ لنفسه من هذه الفئة، ومعظمها من النساء، بما يقارب ثلث إلى نصف الاشتراكات التي تُدفع له في معظم الحالات. ويشير الصبيحي إلى أن معظم الحاصلات على الدفعة الواحدة يكُنّ موظفات في القطاع الخاص، حيث إن العاملات في القطاع العام لا يفرطن بوظائفهن بسهولة بسبب ميزاتها ومنافعها والأمان الوظيفي الذي توفره.
اقرأ/ي أيضا:
يشير الناطق الإعلامي باسم الضمان الاجتماعي محمود المعايطة إلى أن مؤسسة الضمان لا تدفع النساء لسحب تعويض الدفعة الواحدة، بل تشجعهنّ على الانتظار إلى حين الحصول على الرواتب التقاعدية، رغم أن خيار الدفعة الواحدة يعد ماليًا من مصلحة مؤسسة الضمان، قائلًا إن ارتفاع الأعمار المتوقعة للنساء في الأردن إلى ما يقارب 75 عامًا هو حافز لتحافظ النساء على رواتبهن التقاعدية للحصول على بعض الاستقلالية والاستمرارية في سنوات الشيخوخة، وتوريث الرواتب بعد الوفاة.
ويقول المعايطة إن قانون الضمان الاجتماعي يسمح للنساء بسحب تعويض الدفعة الواحدة بحالات محددة، لمراعاة الطبيعة الفسيولوجية والظروف الاجتماعية لها، إذ تُفضل بعض النساء ترك العمل بعد الإنجاب مثلًا، فتترك المؤسسة الخيارات مفتوحة أمامهنّ عند حاجتهن لترك العمل وسحب التعويض، ومع ذلك تشهد المؤسسة بحسب المعايطة أعدادًا كبيرة من النساء اللواتي يعدن المبالغ التي سحبنَها من تعويض الدفعة الواحدة من أجل تجديد اشتراكاتهنّ في الضمان.
مؤخرًا، أخبرت نجلاء (45 عامًا) هبة بأنها أعادت سداد مبلغ الدفعة الواحدة لتضمن مستقبلًا آمنًا لابنتها الوحيدة. وكانت نجلاء قد عملت ثماني سنوات واستقالت قبل زواجها في 2012، عندما كانت وخطيبها يمران بظروف مادية صعبة، فحصلت على تعويض الدفعة الواحدة بقيمة 1100 دينار، قائلة إن المبلغ كان زهيدًا مقارنة بالاقتطاعات من راتبها، ولكن لم يكن لديها آنذاك خيار آخر.
بعد ذلك، عادت نجلاء إلى العمل في العلاقات العامة لعشر سنوات أخرى حتى عام 2022. طيلة العام السابق كانت نجلاء تفكر في طفلتها الوحيدة ذات الثمانية أعوام، خصوصًا أن زوجها يعمل بنظام المياومة منذ زمن طويل، ولم يشترك يومًا في الضمان، وكثيرًا ما تساءلت: «كيف ممكن ندبر حالنا بس نكبر أكثر؟ أنا عمري 45 وزوجي 47».
عرفت نجلاء عن إمكانية حصول ابنتها على راتبها التقاعدي بعد وفاتها، لو أعادت دفع مبلغ تعويض الدفعة الواحدة مع الفوائد المترتبة عليه وانطبقت عليها الشروط عند وصولها سن التقاعد. وفي نهاية 2023 حصلت نجلاء على مبلغ لم تكن بحاجته، فدفعت 1500 دينار للضمان تعويضًا عما سحبته، كما دفعت اشتراكات اختيارية عن عام مقبل، ثم زادت مطلع العام الحالي قيمة الاشتراك الاختياري، كما اشترك زوجها أيضًا في الضمان اختياريًا من أجل تأمين مبلغ أعلى للأسرة عند تقاعدهم. ورغم وصول نجلاء إلى سن التقاعد المبكر (45 عامًا) إلا أنها لم تتم بعد عدد الاشتراكات المطلوبة، لذا عليها اليوم أن تعمل حتى وصول سن التقاعد الطبيعي للمرأة عند الخامسة والخمسين، أو التقاعد مبكرًا في الخمسين بشرط إتمام 19 عامًا من الاشتراك في الضمان.
«أغلب النساء بسحبوا ضمانهم، بكون سببها مادي صراحة (..) غير هيك ما في سبب يخلينا نسحب مبالغ كثير قليلة من الضمان»، تقول نجلاء، معتقدة أنها بالعودة للاشتراك في الضمان اتخذت الخطوة الأصح رغم علمها أن راتب التقاعد لن يكون مرتفعًا، وربما غير كافٍ، ولكنها تريد مصدرًا للدخل يعينها وزوجها في شيخوختهما: «أنا حسيت إني لازم أعمل هاي الخطوة بحياتي عشان أضمن مستقبلي بالكبر، وأضمن مستقبل بنتي».
-
الهوامش[1] دراسة انسحاب المرأة من سوق العمل، المجلس الأعلى للسكان. تنص التوصيات على ضرورة تعديل المادة 26 من قانون الضمان الاجتماعي رقم 1 لسنة 2016 وقانون معدل رقم (24) لسنة 2019